وهكذا الأمر في هذا السوق أيضا (العالم): البعض مثلهم مثل الأنعام لا يكرثون أنفسهم بأي شيء سوى العلف؛ فلكل منكم يا من تشغلون أنفسكم بالأملاك والأراضي والخدم والوظائف العامة، فإن هذه الأشياء لا تعدو أن تكون علفا.
إلا أن هناك طائفة صغيرة من الناس بين الجمع يشغفها النظر والتأمل: ما هو العالم إذن، ومن يحكمه؟ تراه بلا حاكم؟ وكيف يمكن ذلك؟ فإذا كانت المدينة بل الأسرة لا يمكن أن تدوم ولو لوقت قصير من غير شخص يديرها ويرعاها، فكيف يتسنى لمثل هذا النظام العظيم والبديع أن يدار بهذا الانضباط من غير غرض وإنما بالمصادفة والاتفاق؟!
ثمة حاكم إذن، من أي صنف هو؟ وكيف يحكم؟ ومن نحن الذين يحكمنا؟ ولأية غاية؟ هل تربطنا به صلة أو علاقة؟
هذه هي الطريقة التي تولع بها هذه القلة؛ ومن ثم فإنهم يكرسون أنفسهم للنظر في السوق فحسب ثم يرحلون. تضحك عليهم الجموع مثلما يضحك البائعون والمشترون في السوق على المتفرجين. ولو كان للمواشي أي قدر من الفهم لضحكت أيضا على من يعجب بأي شيء غير العلف» (المحادثات، 2-14). (15) لا وحدة مع الفلسفة
لا يملك أن يأنس بغيره من لم يكن له أولا أنس بنفسه.
إنه لا يأنس إلى الغير ولا يعرفه بل «يستعمله» و«يستهلكه» هربا من ذاته الفارغة التي لا ترضيه ولا تشفيه ولا تمنحه أساسا داخليا يقيم عليه، مع الغير، علاقات أصيلة.
يعلمنا إبكتيتوس أن من لا يفهم الخير لا يمكنه أن يعرف كيف يحب وكيف يصادق وكيف يأنس. ويقول في «المحادثات»: «الوحدة هي حالة معينة لإنسان مغلوب على أمره. فليس كل من ينفرد بذاته هو في وحدة، ولا كل من ينخرط بين الناس هو بمنأى عن الوحدة. ليس كل اقتراب ينفي الوحدة، بل اقتراب الإنسان المخلص الودود السند. أما اقتراب اللصوص منا في سفرنا فيزيد شعورنا بالوحشة وقلة الحيلة.
يجب أن يتدرب المرء على أن يكون مكتفيا بذاته ورفيق نفسه، يحاورها ويأتنس بها ولا يشعر بالحاجة إلى الآخرين وبالافتقار إلى وسائل لتزجية الوقت.
وأنتم تدركون أن قيصر قد أمن لنا سلاما عظيما، فلم يعد ثمة أعداء أو معارك أو عصابات من اللصوص أو القراصنة، بل إن بوسعنا أن نسافر في أي وقت ونبحر من الشرق إلى الغرب. ولكن هل بوسع قيصر أيضا أن يحمينا من الحمى، أو من انحطام السفن، أو من الحريق أو من الزلازل أو البرق؟ بل هل يمكنه أن يحصننا من الحب؟ كلا. من الأسى؟ كلا. من الحسد؟ لا يستطيع.
وباختصار إذن: هو لا يستطيع أن يحمينا من أي شيء من هذه الأشياء. ولكن مذهب الفلاسفة يعدنا بتقديم الأمان حتى من هذه الأشياء، ماذا تقول الفلسفة؟ تقول: «أيها الناس إن أصغيتم إلي، أينما كنتم وأيا ما تفعلون فلن تجدوا الحسرة ولا الغضب ولا القهر ولا العجز، بل ستقضون عمركم في صفاء لا يشوبه أي اضطراب.»
ناپیژندل شوی مخ