Duroos by Sheikh Ali Bin Umar Badahdah
دروس للشيخ علي بن عمر بادحدح
ژانرونه
ضرورة القدرة والتأهل وأهميتهما لطالب العلم الشرعي
النقطة الثالثة: القدرة والتأهل، بعض الناس من خلال ما يتأثرون به من الأقوال وشحذ الهمم والعواطف الجياشة والمجامع الحاشدة في المحاضرات أو الدروس يريد أن يكون طالب علم، ويظن أن طلب العلم من أيسر المسائل، وانغرس في أذهان بعض الناس أو كثير منهم أنه إذا لم يحصل الطالب على مجموع عال في الثانوية فعليه أن يذهب إلى كلية الشريعة؛ لأنها الكلية التي يمكن أن يدخل فيها ويدرس فيها ويتخرج منها دون عناء ودون حاجة إلى ذكاء وفطنة أو أي ملكة من الملكات، وهذا لا شك أنه من أقبح الأفكار وأسوأها؛ إذ كان عباقرة الأمة في تاريخها الطويل وأفذاذها من المتميزين بالذكاء الخارق والفطنة العجيبة، كانوا هم علماء الشرع، فمثلًا: تأمل حفظ البخاري واستنباط أبي حنيفة وأدب مالك، وعقولًا أشرقت بأمور ومزايا كثيرة كلها كانت في هذا الجانب.
وقد كان سلف الأمة أصل التوجه عندهم هو أن يدفع بالشباب إلى طلب العلم الشرعي والتفقه في الدين؛ لأنه هو الذي فيه الخيرية، كما قال ﵊: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)، وهو الذي دعا به النبي ﵊ لـ ابن عباس حيث قال: (اللهم علمه الكتاب) فإذا عجز عن ذلك دفعوا به إلى أمور الصناعات فليكن بناءً أو ليكن كذا أو ليكن كذا، لكن انعكست الأمور اليوم وظن كثير من الناس أن أي إنسان ليس عنده أدنى قدرة ولا أية مواصفات تأهيلية يمكن أن يكون طالب علم، بمجرد أن يحمل كتابًا أو يحمل قلمًا أو يكون مالكًا لدفتر جيد عديد الصفحات إلى غير ذلك من الأمور الشكلية.
أقول: لابد أن نعرف أن لطلب العلم تأهلًا وأن له نجابة لازمة وذكاء واستنباطًا وعقلًا مفكرًا مدبرًا يفتقر إليه؛ لأن طلب العلم ليس مثل قضية شرب الماء، أو مثل أن يذهب لأخذ شيء وشرائه، لا، طلب العلم شيء آخر، ولذلك سيأتي في دقيق المواصفات ما يدل على هذا، وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يتلمسون مخايل الذكاء وبوادر الفطنة عند صغار الشباب ويتفرسون فيهم النجابة فيدفعونهم إلى ما يصلح لهم من علوم الشرع فينبغون ويبدعون فيها، أما النظر إلى أن التأهل أمر عادي فهذه قضية خطيرة جدًا، ولذلك لما رخصت هذه القيمة للعلم الشرعي وشاعت هذه النظرة بين الناس رأينا كل الناس طلبة علم، كل من حضر محاضرة أو خطبة أو اقتنى كتابًا واشتراه وحمله في يده أصبح طالب علم، ويمكن أن يكون في يوم من الأيام وربما ليس بعيدًا عالمًا من العلماء، هذا التصور الذهني البارد البليد ليس مقبولًا ولا صحيحًا في الوقت نفسه، ولذلك لا بد أن يعرف أنه ليس كل إنسان يصلح لكل شيء ولا بد أن يكتشف الإنسان أيضًا ميله وقدرته، فإن من الناس من يميل إلى الفقه والاستنباط وإعمال العقل، وعنده بذلك نظر وقاد وفقه عجيب واستنباط دقيق، حسبك في ذلك ما يذكر من فقه الإمام البخاري في تراجمه رحمة الله عليه، حارت العقول فيها، وأجهد العلماء أنفسهم حتى يصلوا إلى بعض ما كان البخاري يهدف إليه وما استنبطه رحمة الله عليه، وصنفت كتب ومؤلفات ليس في شرح أحاديث صحيح البخاري ولا في أسانيدها ولا غير ذلك، بل على التراجم التي هي عناوين أبواب الصحيح فحسب، فليست القضية قضية عارضة سهلة، وليس أمر التأهل عيبًا، كون المرء لا يصلح لعلم الفقه، قد يكون الرجل حافظًا فيصلح أن يكون راويةً، ولا بد أن نفرق، قال الإمام مالك: أدركت سبعين ممن يستسقى بهم كلهم لا يؤخذ منهم الحديث؛ يقال: ليسوا من أهله، وليسوا حفاظًا ما انتدبوا لهذا العلم.
فهذا علي بن أبي طالب ﵁ كان عنده فقه ودقة استنباط عجيبة؛ ولذلك انظروا إلى ما نوع به النبي ﵊ أوصاف أصحابه فإذا أبي أقرؤهم، وإذا معاذ أعلمهم بالحلال والحرام، وإذا زيد أفرضهم، وإذا علي أقضاهم إلى آخر ما ذكر في شأن الصحابة رضوان الله عليهم، وإذا ابن عباس أعلمهم بكتاب الله، هذا التميز لا يعني أن حظهم من العلوم الأخرى كان صفرًا، لا، لكن كان هناك تميز وتفرد من زيد في الفرائض؛ لأنه نقل أكثر علم الفرائض ومسائله عنه ﵊، وكان لـ ابن عباس تميز في التفسير وملئت كتب التفسير بمروياته ومقالاته، وكان معاذ ﵁ عالمًا بالحلال والحرام فكان النقل عنه في هذا كثيرًا، وأبي كان قارئًا واتصلت الأسانيد إليه أكثر من غيره.
إذًا: لا بد أن نعرف التأهل والتمكن، وأن يكتشف الشاب ميله ورغبة نفسه وما يرى أنه يصلح له؛ لأن المسألة ليست أمرًا عابرًا، والذي يدل على ذلك اختلاف وصايا النبي ﵊، واختلاف إجاباته للسائلين، واختلاف توجيهه لبعض الصحابة كل بحسب ما يرى له، انظر إلى أبي ذر ﵁ يقول عنه ﵊: (ما أقلّت الغبراء ولا أظلت السماء أصدق لهجة من أبي ذر) ومع ذلك كان الرسول ﵊ يحذره من الإمارة ويقول له: (يا أبا ذر! إنها الإمارة وإنها يوم القيامة خزي وندامة) وأبو ذر الصحابي ﵁ الإيمان في قلبه كأمثال الجبال الشامخة الراسية، فهو عابد زاهد تفرد بين كثير من أصحاب رسول الله ﷺ بهذا الشأن، لكنه مع ذلك ليست له مؤهلات الإمارة والسياسة وتقبل الناس والتعامل معهم؛ لأنه كان صارمًا كالسيف رحمة الله عليه ورضي الله عنه.
إذًا: ليس هذا عيبًا فيه وإنما هذا اكتشاف لما يحسنه، وإبعاد له لما لا يطيقه ولا يتقنه، فلا بد أن نفطن إلى هذا وأن نسلم به، فهذا النبي ﵊ اختلفت وصاياه فجاءه من يستوصيه فيقول له: (لا تغضب) ويأتيه ثان يستوصيه فيقول له: (قل: آمنت بالله ثم استقم) ويأتيه ثالث يستوصيه فيقول له: (أمسك عليك لسانك) فهو ﵊ كان يعلم أن كلًا منهم يحتاج إلى شيء معين، وأن كلًا منهم له قدرته التي يتميز بها، وأن كلًا منهم له حاجة ماسة تخصه، وهكذا كان توجيه النبي ﵊ في كثير مما سئل عنه، ففي حديث: (أي الأعمال أفضل؟) فكان ﵊ يغير الجواب بحسب حال السائل.
وذكر ابن حجر مقالة جميلة فريدة رائعة في قضية طلب العلم، وأنه إذا لم يكن عندك مكنة ولا قدرة ولا تأهل لطلب العلم، فهل يعيبك ألا تكون من طلاب العلم، أعني: فيما وراء فرض العين، وفيما وراء العلم الذي يكون عندك فيه حظ لا بأس به؟ ليس في ذلك عيب.
يقول ابن حجر في مسألة التفاضل بين العلم ونوافل التطوعات: إن وجد في نفسه مكنة لطلب العلم من سعة حفظ وتوقد ذهن ودقة استنباط كان العلم في حقه أفضل من نوافل العبادات، وإن لم يجد ذلك كانت نوافل العبادات أفضل في حقه من العلم.
لماذا؟ لأنه سيمضي إلى طلب العلم ويمضي وقته فيه ولا يفهم ولا يحفظ ولا يتعلم، فلا صار عالمًا ولا صار عابدًا، فلا بد أن يعرف المرء هذه الحقيقة، ولو أن كل الناس كانت لهم مؤهلات ومكنة لكانوا بعد حين من الزمن علماء، لا يوجد فيهم عامي يسأل عالمًا، ولا طالب يتتلمذ على شيخ.
فإذًا: لابد أن نعرف أن القدرة والتأهل أمر مهم جدًا.
5 / 6