Duroos by Sheikh Ali Bin Umar Badahdah

Ali bin Omar Badahdah d. Unknown

Duroos by Sheikh Ali Bin Umar Badahdah

دروس للشيخ علي بن عمر بادحدح

ژانرونه

فقه الأزمة والفتنة الحياة مليئة بالفتن والأزمات، والنجاة منها إنما تكون بفقه التعامل معها، وقد ورد في الشرع كثير من الأمور المعينة على ذلك، فأول تلك الأمور: التثبت والتبين من حقيقة ما يقال ويذاع، ثم العدل والإنصاف في الحكم، وعدم الزيادة في العقاب عن مقدار الخطأ، وأن يناصح المخلص ويرشد بالتي هي أحسن مع مراعاة الإخلاص لله تعالى. وفي الجهة الأخرى: لابد من إعلام صادق، وكلمة صائبة، وتربية تقي المخاطر وتحذر من الانزلاق في الهاوية.

1 / 1

موقف المسلم في الأزمات والفتن الحمد لله، الحمد لله خلق الخلق، وبسط الرزق، وشرع الشرائع، وفرض الفرائض، وكتب الآجال، وقدر الأقدار؛ حكمته بالغة، ونعمته سابغة، ورحمته واسعة، ومشيئته نافذة، له الأمر من قبل ومن بعد، وهو على كل شيء قدير، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمدًا نلقى به أجرًا، ويمحو الله به عنا وزرًا، ويجعله لنا عنده ذخرًا، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال، وفي كل آن. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله؛ نبيه المصطفى، ورسوله المجتبى، وعلم التقى، ومنار الهدى، وأشهد أنه ﵊ قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبيًا عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢]. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! في فقه الأزمة والفتنة نصل حديثنا، وأسلفت غير مرة أن منبر الجمعة ينبغي أن يكون له دوره البارز، لكن على منهجية صحيحة، وبلغة واضحة فصيحة، وبأسلوب منهجي حكيم، ليس فيه مزايدات سياسية، ولا مهاترات إعلامية، ولا مغالطات من هنا أو هناك، ومن هنا فإن ما سأذكره أمر يفيدنا في حياتنا العامة كلها، وفيما قد يمر بنا أفرادًا من مشكلات أو معضلات في دوائرنا الضيقة الخاصة، كما أنه ومن باب أولى يفيدنا فيما يحيط بنا كمجتمع وما يحيط بنا كأمة ونحن نرى تكالب الأعداء من كل حدب وصوب، وتوجه سهامهم في كل ميدان ومجال، وحصول كثير من الأمور المؤلمة المحزنة؛ سواء ما كان ذلك ماديًا محسوسًا بانتهاك العرض، أو استلاب الأرض، أو احتلالها أو غير ذلك، أو ما كان معنويًا فيما تعلق باختراق الأفكار، وإثارة الشائعات، وكثرة الشبهات ونحو ذلك، فلعلنا في أضواء كتاب ربنا وفي ظلال سنة نبينا ﷺ، وعلى أرضية تاريخنا المشرق الوضيء، ومن خلال واقعنا الذي نتأمله بكل هذه المعاني والمعالم؛ أن نتلمح طريقًا واضحًا نافعًا مفيدًا بإذن الله ﷿.

1 / 2

التثبت والتبين التثبت والتبين معلم واضح في منهج الإسلام؛ إذ لا ينبغي تعجل لا تستجلى فيه الحقيقة، ولا رد فعل تغيب فيه الإثباتات في أي أمر من الأمور صغيرها وكبيرها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات:٦]، وكم من خبر في أمورنا الخاصة وحياتنا الشخصية تلقيناه دون تمحيص، ورمينا آخرين بالتهم، وجزمنا بوقوعهم في الخطأ، ثم تبين من بعد أننا لم نع ما سمعنا، وأننا تجاوبنا مع عواطفنا ومشاعرنا دون أن نتثبت على وفق المنهج القرآني. قال الله تعالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة:١١١]، وفي حديث المصطفى ﷺ عند البخاري في الأدب المفرد: (بئس مطية الرجل زعموا)، تسأله: ما حجتك في ذلك؟ فيقول: سمعتهم يقولون: إن وكالة (يقولون) وكالة مذمومة في كتاب الله ﷿: ﴿أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ﴾ [الصافات:١٥١ - ١٥٢]، وتلك فرية عظيمة، ومن لم يكن في كل أمره متثبتًا متبينًا فإنه يوشك أن تكون حالته دائمًا أنه صحيفة لكل من شاء أن يكتب فيها خبرًا صادقًا أو كاذبًا، قضية صائبة أو خاطئة؛ فهو حينئذ كما وصف الله ﷿ أهل النفاق، والذين في قلوبهم مرض: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ﴾ [النور:١٥] فهم يتلقون بآذانهم وأسماعهم، لكنهم لما كانوا لا يمررون ذلك على عقولهم، ولا على مناهج التثبت والتمحيص، بل ينطقون به بألسنتهم، كما ذكر الله أن تلقيهم بألسنتهم، ولعل حادثة الإفك وهي شأن لم يكن خاصًا برسول الهدى ﷺ، بل عم مجتمع المسلمين، وكان حدثًا من أشد ما مضى بهم من الفتنة والأزمة، وشيوع الشائعات، وكثرة القالات، فماذا قال النبي ﷺ؟ وأي شيء فعل؟ نأخذ مما روته عائشة -كما في صحيح مسلم - مواقف وومضات، قالت: (جاء إلي رسول الله ﷺ فقال: أما بعد: يا عائشة! فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ﷿، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه). رجع النبي ﷺ إلى عائشة يسألها ويستثبت منها، والأمر كان جد عصيب، ولم يكن في نفسه ﵊ شك وريبة، لكن الأمر -وقد تعلق به- أراد أن يقطعه قطعًا جازمًا، وأن يبينه بيانًا يخرس الألسنة، ثم كان له ﵊ مواقف أخرى، وأسئلة من هنا وهناك، ثم رقى المنبر وقال: (من يعذرني من رجل تكلم في أهلي)؟ حتى اختلف الحيان من الأوس والخزرج؛ فسكنهم وسكتهم رسول الله ﷺ، حتى تنزلت البراءة من فوق سبع سماوات جازمة قاطعة ناصعة شاهدة لبراءة الصديقة بنت الصديق ﵂. وليس المقام مقام إفاضة، وإنما أريد أن نأخذ هذه القضايا في أصولها وفي عناوينها ودلالاتها فحسب.

1 / 3

العدل والإنصاف ما أدراك ما العدل والإنصاف؟! إنه أمر عزيز ثقيل لا تطيقه إلا النفوس المؤمنة الخالصة المخلصة. إن في النفوس من الأهواء، ومن شوائب البغضاء والعداء ما يحملها على ظلم من تخالفه، بل على الظلم أحيانًا بصورة عامة إذا كانت تريد تحصيلًا لمصلحتها، أو تحقيقًا لمنفعتها، والله جل وعلا يقرر العدل تقريرًا عظيمًا في هذا الدين بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ [النحل:٩٠]، ذلك هو أمر الله بالعدل على إطلاقه في كل حال، ومع كل أحد، وتحت كل ظرف، فإن العدل قيمة مطلقة، وهو من أسس هذا الدين، ومن أخلاقه العظيمة، ومبادئه الرائعة البديعة، ومن هنا جاء قول الحق ﷾: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة:٨] أي: لا يحملنكم بغض قوم على أن تظلموا وتحيفوا عليهم، ولو كانوا من الأعداء ومن غير المسلمين، فيكف بغيرهم من المسلمين؟! وذلك أمر مهم، فإن الفتن والأزمات تثير الضغائن، وتشعل نيران الأحقاد، ومن لم يكن له نفس مؤمنة، وعقل راسخ، فإنه يتحرك ويندفع مع أهوائه، ويقع في الظلم الذي حرمه الله ﷿، كما ورد في الحديث القدسي عن أبي ذر عن رسول الهدى ﷺ عن رب العزة والجلال: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا؛ فلا تظالموا)، وكم من قضية تستطيل فيها الألسنة، وتتحرك فيها الأهواء؛ لتكون حينئذ ظلمًا محضًا. ولننظر مرة أخرى إلى مواقف خلص من أصحاب النبي ﷺ في حادثة الإفك، عندما سأل النبي ﷺ المقربين منه قالت عائشة في روايتها: (فأما أسامة فأشار بالذي يعلم من براءة أهله، فقال: يا رسول الله! أهلك ولا نعلم إلا خيرًا، وأما علي ﵁ فقال: لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك، فسأل النبي ﷺ بريرة مولاة عائشة فقالت ﵂: والذي بعثك بالحق! إن رأيت عليها أمرًا أغمصه عليها، إلا أنها كانت جارية حديثة السن تعجن العجين فتنام عنه فتأتي الداجن فتأكله)، أولئك قوم لم يكن لأحد منهم أن يجور في حكمه، بل حموا أنفسهم وتوقفوا عند حدودهم، وأحسنوا ظنونهم. ورحم الله أبا أيوب الأنصاري عندما نقلت له أم أيوب ما يقال ويشاع، فقال: يا أم أيوب! أكنت فاعلة؟ قالت: لا والله، فقال: فلـ عائشة خير منك، ولرسول الله ﷺ خير مني. ذلكم هو الإنصاف والتجرد؛ أن تضع نفسك موضع من أرسلت عليه سهام التهم بغير بينة أو برهان، وأن تتحرى ألا تكون مجرمًا معتديًا؛ حتى وإن كان المخطئ قد وقع في خطئه وثبت خطؤه؛ فإن حكمنا عليه ينبغي ألا يتجاوز حدود الخطأ، وإلا كنا عادلين فيما حكمنا عليه من خطأ، وجائرين فيما زدنا عليه مما لم يثبت له، وذلك هو الأمر الذي لابد منه. ومن روائع العدل والإنصاف الذي لا يكون إلا مع شدة التحري والإيمان والورع، ما كان من أم المؤمنين زينب، وما أدراك من زينب؟ تقول عائشة عنها: هي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله ﷺ. هي المنافسة التي قد يكون بينها وبينها شيء، فسألها النبي ﷺ فقالت: (يا رسول الله! أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرًا)، لم تنتهز فرصة لتشفي غليلًا، ولم تستجب لهوى قد يكون داعيًا في النفس بطبيعتها لمن ينافس أو يكون في ذات المرتبة، قالت عائشة ﵂: (كانت هي التي تساميني من أزواج رسول الله ﷺ فعصمها الله بالورع، وأما أختها -وهي حمنة بنت جحش - فقد خاضت، وكانت تحامي عن أختها، فهلكت فيمن هلك)، فانظروا! صاحب الشأن ترفع واستعلى، وعدل وأنصف، وتورع وأخلص، وغيره فاته ذلك، فوقع وأخطأ وجار في حكمه، وذلك ما ينبغي أن نتنبه له.

1 / 4

الإخلاص والتجرد إن الأزمات يتأكد فيها الإخلاص لله ﷿، والتجرد من المصالح والمنافع الذاتية، والارتباط بمصالح الأمة والمصالح العامة، فإنه من غير المقبول مطلقًا أن يكون هناك اتباع لأهواء النفوس لتحصيل المكاسب، أو لأخذ المنافع الذاتية، وفوق ذلك إغضاء وإعراض عما قد يترتب على ذلك من مضرة في المصالح العامة، فلابد من الترفع عن الأهواء، والبعد عن حب الظهور، والابتعاد عن الانتصار للنفس والتشفي، وكم في مواقف الصحب الكرام رضوان الله عليهم ما يدل على سمو في هذه المعاني، أثر عن علي بن أبي طالب ﵁ أنه في معركة وقتال مع الأعداء -ليس في حال من حالات السلم أو السكون- علا بسيفه على رجل من أهل الشرك، فسبه وبصق في وجهه، فأمسك علي سيفه وتركه، لم؟ قال: خشيت أن أنتصر لنفسي فلا أكون قتلته ابتغاء مرضات الله ﷿! تلك النفوس التي ترتفع عن الانتصار لذاتها، والتشفي لمتطلبات أهواء نفوسها، وذلك ما ينبغي أن يكون، فكم من مخالف تختلف معه في قضية شخصية، ثم تأتي فرصة فإذا بك كأنما تنتقم منه، متخطيًا العدل والإنصاف، متناسيًا التثبت والتبين، مندفعًا مع حب الانتقام، أو مع تصفية الحسابات؛ وحينئذ تختلط الأوراق، وتعظم الفتنة، وتتكاثر أسباب الأزمة؛ لأنه تغيب حينئذ الحقائق مع مثل هذه الأمور. أيها الأحبة! لا عصمة إلا بالإيمان، ولا وقاية إلا بخوف الرحمن، ولا يمكن أن يسير الإنسان في هذا الحقل من الأشواك لما فيه من أهواء النفوس، ووساوس الشياطين، وقرناء السوء، وتسلط الأعداء إلا أن يعصمه الله ﷾ باستمساكه بكتابه، واعتصامه بسنة رسوله ﷺ، ألسنا نعرف من مواقف النبي ﷺ الكثير التي ترك فيها ما هو لنفسه؛ إرادة المصلحة العامة، وإرادة الخير للأمة؟ بل قد فعل ذلك أصحابه رضوان الله عليهم، فترفعوا عن مثل هذا، والأمر يطول فيه الحديث.

1 / 5

المصارحة والمناصحة لابد في أوقات الأزمة والفتنة أن تكون مصارحة مبنية على الحقائق، ومناصحة تترجم الحرص على المصلحة العامة، وقد أخبرنا النبي ﷺ في حديث من جوامع كلمه قدر النصيحة في دين الله ﷿ فقال: (الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم)، وهو حديث عجيب جدير بالتأمل ومعرفة دلالاته النصيحة لله ﷿ ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، فهل بقيت دائرة تخرج عنها هذه النصيحة ولا تشملها، فأين التناصح بالإخلاص، وقول الحق بالأسلوب والمنهج الحكيم الذي يحقق المنافع والمقاصد، ولا يكون مثيرًا لغير ذلك مما يعارضه أو يناقضه؟ نحن نعلم كيف كان النبي ﷺ يطبق ذلك، ويطبقه أصحابه، ويعلنون الحق، ويبرزون الصدق، خاصة في المواقف العصيبة مع كل الأدب والاحترام، ومع كل الحكمة ووضع الأمور في نصابها، أليست غزوة الأحزاب كانت شدة من أعظم الشدائد، ومحنة من أقسى المحن؟ في ذلك الأتون الذي مر بالنبي ﵊ والصحابة مع شدة خوف وجوع وبرد، ثم جاء النبي ﷺ يريد أن يخفف عن أصحابه، فأراد مقترحًا أن يعطي لغطفان ثلث ثمار المدينة حتى ترجع عن الأحزاب، ويتفكك هذا الجمع الغفير من الأعداء. فسأل واستشار ﵊ السعدين؛ سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فماذا قالا؟ بكل الأدب وبكل الفقه قالا: أوحي يا رسول الله أم أمر تراه لنا؟ أي: إن كان وحيًا فهو موضع التسليم لا اعتراض ولا رأي ولا نقاش، فذلك الذي تخضع له الرقاب، وتمتثل له الأمة المسلمة، وأما إن كان رأيًا تراه لنا قلنا الرأي، قال: (بل رأي أراه لكم) فصدقوه القول وصارحوه وقالوا: يا رسول الله! كنا وهؤلاء في جاهلية وكفر وهم لا يطمعون منا بتمرة إلا بشراء أو قرى، أفبعد أن أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم ثمارنا؟ والله! لا نعطيهم إلا السيف، فأخذ النبي ﷺ برأيهم ومشورتهم. ينبغي أن نخلص النصح، والنبي ﷺ قد جعل ذلك في البيعة للإسلام كما ورد في الحديث الصحيح من حديث جرير بن عبد الله البجلي قال: (بايعت النبي ﷺ على الإسلام، فزادني: والنصح لكل مسلم) لماذا إذا رأينا المخطئ لم يكن عندنا إلا سهام الاتهام والإغلاظ والجفاء دون أن نخلو به، أو يكون فيما بيننا وبينه مناصحة؟! إن أقر بخطئه، وإن ثبت جرمه، قلنا له: عد إلى الله، وتذكر الله وارجع؛ فإن أبواب التوبة مفتوحة، وذلك يعين على تلافي كثير من الأخطاء، وعدم التمادي فيها.

1 / 6

المرابطة والمواجهة المرابطة والمواجهة، وهي أمر مهم، فإننا اليوم على مستوى الأمة الإسلامية جمعاء، وعلى مستوى هذه البلاد والمملكة خصوصًا مستهدفون بالعداء، ولا يحتاج ذلك إلى برهان وتفصيل وبيان، فنحن نعلم الاستهداف فكريًا ومنهجيًا وتعليميًا واجتماعيًا وسياسيًا، وكل ذلك ظاهر بين معلن، فكيف حينئذ لا نلتفت إلى أننا مرابطون على ثغور الإسلام؛ لأن هذا البلد هو بلد الإسلام، فيه نشأ ومنه انطلق، ولا يزال في أصل بلاد الحرمين هذا الإسلام، وإعلان تطبيق شريعته، وإظهار معالم شعائره وشرائعه، والانتداب لذكره ونشره، والدعوة إليه، ثم بعد ذلك ننشغل عن هذا الهجوم الشرس بما قد يكون أدنى منه، وهذا من فقه الأولويات الذي ذكرته من قبل، لابد أن ننتبه إلى الخطر الأعظم، فلا نغفل عنه، ونعطيه من الالتفات إليه ومن المواجهة له، ومن المرابطة لعدم اختراقه لصفوفنا ما يستحق. ولعلي هنا أنقل نقلًا واحدًا في ومضة سريعة لمسئول من المسئولين في تلك البلاد والدول المواجهة والمعلنة لهذا العداء، يقول: (لدينا استراتيجية غاية في البساطة، فنحن نريد في المنطقة نظمًا موالية لنا، ثم إننا نريد ثرواتها بلا منازع، فنحن نريد ضمانًا نهائيًا لأمن إسرائيل؛ لأنها الصديق الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه)! فنقول: لا ينبغي أن ننسى في أي وقت وتحت أي ظرف ما يحيط بديننا وأمتنا وبلادنا ومجتمعنا من هذا العداء الذي يبرم أمره كل ليل وكل نهار، وتتوالى أحداثه، وتتوالى إعلاناته، وتظهر ملامحه في كل ميدان ومجال، وهي قضية مهمة لابد من الانتباه لها وعدم نسيانها بحال من الأحوال.

1 / 7

الوحدة والاجتماع تجب الوحدة والاجتماع، ومهما كان من أمر فإنه يجب وجود الوحدة الجامعة والولاية الشرعية المجمع عليها والمنعقدة والمنتظمة التي لا يصح الخروج عنها، ولا الانفلات منها، وقد أشرنا إلى الأدلة الشرعية على ذلك، وإلى الأضرار والمفاسد المترتبة عليها، فينبغي حينئذ ألا نتبادل الاتهامات، وألا نسمح للاختراقات أن تشقق أو تفتت وحدتنا، وتزايد على لحمتنا، وتمس أصل اجتماعنا وائتلافنا على أصل ديننا، وعلى أصل ولايتنا، بحيث لا يكون هناك أثر لذلك، والأمر من بعد ومن قبل أوسع وأعظم من أن تحيط به كلماتنا في هذا المقام.

1 / 8

الرجوع إلى الكتاب والسنة لابد لنا في كل أمر من أمورنا الخاصة والعامة، الصغيرة والكبيرة، أن يكون مرجعنا كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وأقوال الأئمة من العلماء قديمهم وحديثهم، والاسترشاد بالآراء والتوجيهات التي ترتبط بذلك وتنطلق منه، ومن قبل ذلك ومعه كذلك: الاستجابة والطاعة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين ولولاتهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال:٢٤]. نسأل الله ﷾ أن يحفظ على أمة الإسلام أمنها وأمانها، وأن يحفظ عليها وحدتها وقوتها، وأن يعيد إليها قوتها وعزتها، نسألك اللهم لهذه البلاد المقدسة الطاهرة أن تحفظ عليها أمنها وأمانها، وإسلامها وسلامها، ورزقها ورغد عيشها، وإلفتها ووحدتها، ونسألك اللهم أن ترد عنا كيد الكائدين، وشرور المعتدين، وفتنة الفاتنين، برحمتك يا أرحم الراحمين! أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

1 / 9

دور الإعلام في الأزمات والفتن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واجتنبوا كل ما شاع وظهر من الفتن، نسأل الله ﷿ أن يسلمنا منها. أيها الإخوة! أمران أختم بهما، وأعرج على صور تناقض كثيرًا مما ذكرناه: الإعلام والإحكام. الإعلام اليوم هو الذي يسمعه الناس من الإذاعات، ويقرءونه مكتوبًا على الصحف، ويشاهدونه على الشاشات، فهو مصدر من المصادر الأساسية، بل يكاد يكون عند كثير من الناس هو المصدر الأول لمعرفة المعلومة وتحليلها ومعرفة ما وراءها، ومن هنا تأتي مسئولية الكلمة، ومسئولية الإحكام في الحديث عن الأمور كلها، وخاصة في الأحوال التي تكون فيها التباسات واشتباهات، ومن هنا ندرك عظمة الكلمة في منهج الإسلام: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء:٣٥ - ٣٦]، وفي حديث المصطفى ﷺ: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا تهوي به في النار سبعين خريفًا)، وفي حديث النبي ﷺ عند البخاري: (الرجل يتكلم بالكذبة تبلغ الآفاق)، وأخبر ﵊ أنه يعذب بكلاليب يؤتى بها إلى فمه ثم تشقه إلى آخر شدقه، ثم يعود كما كان، ومن هنا لابد لكل أحد في كل دائرة من دوائره حتى في أسرته وفي دائرة قرابته من التثبت، فيجب أن نحرص على الانتباه لهذا، والدقة فيه، فإنه قد يكون أمران متناقضان أو متباعدان والوسط بينهما هو الحق، فثمة مبالغة في التهويل، أو مبالغة في التهوين، وليس ذلك مطلوبًا، ولا هذا مرغوبًا، بل ينبغي الحرص على الحقائق، وليس كل ما يعلم يقال، فإن من الأمور ما ينبغي إخفاؤه أو عدم التصريح به؛ لئلا يتسبب في أمور من البلبلة، أو غير ذلك. وهذا رسول الهدى ﷺ بلغه في ذلك الموقف العصيب في يوم الأحزاب نقض بني قريظة للعهد، فلم يقبل الخبر على عواهنه، بل أراد تثبتًا وتبينًا فأرسل السعدين ليستجليا له الخبر، ثم قال: (إن علمتما خيرًا فأذيعا) أي: إن كان الأمر أن القوم على عهدهم فانشروا ذلك وأذيعوه وبثوه في وسائل الإعلام؛ لتثبت القلوب، وترتفع الروح المعنوية، وتزيل البلبلة، قال: (وإن كان غير ذلك؛ فالحنوا لي لحنًا لا يعرفه غيري) أي: قولوا قولًا ليس صريحًا لا يفقهه سواي؛ حتى لا يذاع الخبر فيكون سببًا في شيء من إضعاف المعنويات، أو في شيء من الخوف، فقالوا لرسول الله ﷺ: (عضل وقارة)، ذكروه بأخبار بعض من سلف من الغادرين، فقال النبي ﵊: (أبشروا، الله أكبر! الله أكبر! أبشروا أبشروا) أراد أن يطمئن النفوس والقلوب، وإن كان قد أخذ بالأسباب، ولم يغب عنه ما ينبغي أخذه في مثل هذا الأمر، لكنه كان يدرك ﵊ كيف ينبغي أن تبث الأخبار وأن تنشر الوقائع، كما نرى أحيانًا في وسائل الإعلام بعض ما يحصل من الجرائم والفواحش، ويذكرون قصصها وتفاصليها، فيكون أثر ذلك في بعض الأحيان من الناحية السلبية أكثر من الإيجابية، فتهون المعاصي في نفوس الناس، وتجرئهم عليها، وقد تبين لهم سبلها، وذلك ما يقوله الإعلاميون والتربيون والنفسيون فيما تبثه الوسائل الإعلامية من الأفلام الإجرامية والعنفية وغير ذلك. فينبغي أن نراعي ذلك، وأن نلتفت له، فلابد من الدقة في استخدام المصطلحات، وتحرير محل النزاع، وعدم إطلاق الكلمات التي لها دلالات مختلفة دون تعيينها وتحديدها، حتى لا يحصل من ذلك ما يكون فيه أثر غير محمود.

1 / 10

الشرع والردع الشرع والردع هو الأساس الذي ينبغي تحكيمه وإحكامه، فإن إقامة شرع الله ﷿ أمر لابد منه، فكل من وقع في إثم، أو اقترف ذنبًا، أو ارتكب كبيرة، أو اجترأ على جريرة، فإنه إن استوفي حكمه بقضاء، وثبت عليه ما عليه؛ فإن حكم الشرع يأخذ طريقه، وقد قال ﵊: (تدارءوا الحدود فيما بينكم، فأيما حد بلغني فقد وقع)، فإذا بلغ الأمر إلى الوالي والحاكم الشرعي فإنه لا مجال حينئذ إلا تمحيص البينات، وتحقيق القضايا، ثم إقامة الأحكام. والردع في منهج الشرع أوسع من إقامة الأحكام، فالحدود الشرعية في السرقة والقتل والزنا وغيرها هي من العلاجات التي تحسم مادة الفتن والجرائم، لكنها ليست وحدها، فإن الإيمان قبلها، وإن تنمية الرقابة لله ﷿، والخوف والحياء منه، والنظر إلى العواقب في الآخرة، وغير ذلك من الأمور التربوية والاجتماعية هي أيضًا من أساليب الردع.

1 / 11

التربية والتهيئة أختم بقضية مهمة وهي: التربية والتهيئة، فإن التربية في المنزل والمدرسة والشارع إن كانت على المنهج الصحيح؛ وقتنا -بإذن الله- الكثير من الشرور، وكانت على مبدأ: الوقاية خير من العلاج، فلو تركنا أبناءنا: لا نعلمهم، لا نربيهم، لا نلفت نظرهم إلى الأخطاء، لا نحذرهم من المشكلات، ثم ذهبوا إلى دور العلم فلم يجدوا من المعلمين توجيهًا وتنبيهًا وتذكيرًا، ولفت نظر وعلاج أخطاء كما ينبغي، ثم خرجوا إلى المجتمع، فلم يجدوا من وسائل الإعلام أو من الدعاة والعلماء القدر الكافي الذي يوجه ويرشد ويبين الأخطاء ويوضح المعالم؛ فحينئذ يحصل بعض ما يقع من التفريط والغلو والتطرف، وقد أسلفنا القول فيه من قبل. ينبغي لنا أن نتحدث بصوت هادئ، فإن الجعجعة والصراخ لا تنفع في هذه الأحوال، وإننا ينبغي لنا أن نتحدث بمنهج سليم سديد، فإن الهيشات والمهاترات لا تنفع، وينبغي لنا ألا نتعجل وألا نجعل هناك شيئًا من الافتراق والتباعد، فلا ينبغي أن نتكلم عن هذا أو ذاك بأنه مخالف للشرع، وبأنه يريد مصادرة الدين، وبأنه يريد كذا وكذا، ولا ينبغي هذا لمن يعتلي المنبر أو يتكلم في الوعظ والإرشاد، كما لا ينبغي للآخرين أن يقولوا عن كل ملتزم أو متدين: إنه مخطئ في كذا، وإنه يقصد كذا، حتى كأن الناس شقوا عن القلوب والنوايا، بل ينبغي لنا أن ندرك عظمة الخطر، وأهمية الاتحاد، ومرجعية الشرع، وينبغي لنا أن ندرك أن مزية هذه البلاد أولًا وآخرًا هي قيامها على الإسلام، وتحالف الدولة مع الدعوة، وأن أمر الاستهداف أعظمه وأكثره على ديننا، فلا ينبغي أن يكون منا جميعًا بغي، لا من هذا ولا من ذاك، وألا نصنف الناس فريقين، وأن نقول: أهل المنابر وأهل المحابر، ونجعل هناك أمورًا تثار فيها البلابل، ينبغي لكل مسلم -وكلنا مسلمون في أصل إيماننا واعتقادنا- أن يكون مخلصًا لله، وما ذكرته ينطبق على جميع الناس، لا يستثنى منه أحد، ولا يظنن أحد كذلك أن العالم أو الداعي مبرأ من النقص أو منزه عن الخطأ، بل هو إنما يستمد قوة نهجه أو صواب رأيه من أصل كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ، وهما اللذان لا يأتيهما الباطل من بين يديهما ولا من خلفهما، وهما عصمة كل معتصم، ونجاة كل راغب في النجاة بإذن الله. نسأل الله ﷿ أن يردنا إلى دينه ردًا جميلًا، وأن يبصرنا بكتاب ربنا، وأن يعلمنا هدي رسولنا، اللهم اجعلنا بكتابك مستمسكين، ولهدي رسولك ﷺ متبعين، ولآثار السلف الصالح مقتفين، وللحرص على أخوتنا ووحدتنا عاملين. نسألك اللهم أن ترد عنا كيد الكائدين، وأن تدفع شرور المعتدين، وأن تصد فتنة الفاتنين، وأن تعيد وتبقي وتقر في هذه البلاد الأمن والأمان، والسلامة والإسلام، والهدى والتقى، وأن تجعلها أبدًا منارًا للإسلام والمسلمين والدعوة إليه، والتبشير به والدفاع عنه في كل الأحوال والعوارض. ونسألك اللهم أن تجنب الإسلام والمسلمين عداء المعتدين وعدوان الغاصبين. نسألك اللهم أن تبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيها أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك المخلصين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم. اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، وأخرجنا من الظلمات إلى النور يا رب العالمين. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن تهديهم وتوفقهم لما تحب وترضى، وأن تصرف عنا ما لا تحب وترضى. اللهم يا حي يا قيوم يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميرا ًعليه يا سميع الدعاء! اللهم الطف بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين في كل مكان يا رب العالمين، امسح اللهم عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، أفرغ اللهم في قلوبهم الصبر واليقين، وثبتهم في مواجهة المعتدين برحمتك وقوتك وعزتك يا رب العالمين. اللهم اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا رخاءً وسائر بلاد المسلمين، واصرف اللهم عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمرنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، ووفق اللهم ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:٥٦]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي؛ أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ﴿وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت:٤٥].

1 / 12

الغنيمة الباردة الصلاة عماد هذا الدين، وهي آخر عرى الإسلام نقضًا، وتاركها يخشى عليه من الكفر والعياذ بالله! فهو على شفا جرف هار، ويخشى عليه من دخول النار، فإذا كان هذا قدرها وخطرها فجدير بالمسلم أن يحافظ على أدائها بشروطها وأركانها وسننها، وفي أوقاتها؛ ليفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة، ومن أفضل الصلوات وأعظمها أجرًا صلاة الفجر، ففيها من الفضائل والأجور ما يجعلها بحق غنيمة باردة.

2 / 1

تهاون كثير من المسلمين في شأن الصلاة الحمد لله ذي الجود والإكرام، ولي الفضل والإنعام، الذي أكرمنا بنعمة الإسلام، وفضلنا بهذا الدين على سائر الأنام. نحمده ﷾ كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، نحمده جل وعلا حمدًا نلقى به أجرًا، ويمحو الله به عنا وزرًا، ويجعله لنا عنده ذخرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، بعثه للناس أجمعين، وجعله رحمة للعالمين، وختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأشهد أنه ﵊ قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فصل الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١]. أما بعد: فحديثنا عن الغنيمة الباردة الضائعة، ذلك أن الله ﷾ قد ساق لنا كثيرًا من النعم، وأفاض علينا كثيرًا من الخيرات، ويسر لنا أبوابًا لاغتنام الحسنات، وجعل لنا من بين سائر الأمم مزية في تكفير السيئات ومضاعفة الحسنات، ولإن كان ذلك هو السمة الظاهرة في دين الإسلام وفي سنن خير الأنام ﷺ فإنه أظهر وأشد وضوحًا وأكثر عظمة فيما يتصل بالفرائض والأركان التي هي أسس هذا الإسلام، والتي هي الأعمدة والأركان التي يقام عليها البنيان. ونحن في هذا المقام نتكلم عن الغنيمة الضائعة، التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، فريضة الصلاة التي فرط كثير من الناس فيها، وقصروا في أدائها، وتخلفوا عن أوقاتها، وتقاعسوا عن شهودها في مواطنها في بيوت الله ﷿، ولست في هذا الصدد متحدثًا حديث الفقه والأحكام الشرعية، ولا حديث العبر والدروس التربوية، وإنما حديث التشويق والترغيب، الذي يهز القلوب المؤمنة، ويثير كوامن الشوق في النفوس المسلمة، الذي يحدو بالمؤمن إلى أن يرنو ببصره إلى الآخرة، وأن يستحضر فضل الله ﷾، وأن يتأمل عظيم المنة والفضل الذي ساقه الله إليه، كيف غفل عنه! وكيف زهد فيه! وكيف لم يلتفت إليه! ذلك أن الغفلة قد غشيت كثيرًا من القلوب، وحجبت كثيرًا من العقول، وذلك لأن الدنيا فتنت كثيرًا من الناس، وشغلتهم بأحوالها وأوضاعها، فاستكثروا القليل الذي ينبغي أن يبذلوه في طاعة الله، واستقلوا الكثير الذي يبذلونه في أمر حياتهم الدنيا، فانتكست الموازين، وانعكست الأمور، وصار الناس في أمر الطاعات -ليست المندوب إليها وإنما المفروضة عليهم- مقصرين مفرطين، وهم في أمور الدنيا -لا في أساسياتها بل في كمالياتها- متسابقون متنافسون. وهذا لعمري هو عين الخلل حيث اتصل بالفرائض والأركان، فقد جعل الله ﷿ لنا أبوابًا كثيرة من الفضائل، وأساسها الأركان والفرائض، وأمها وأولها وأكثرها تكرارًا بعد التوحيد الصلاة، التي حصل فيها ما حصل في واقع حياة المسلمين اليوم.

2 / 2

أهمية أداء الصلاة في جماعة وما فيها من الأجور إن الله جل وعلا قد ساق هذا الفضل بما لا يتصوره العقل، إلا أن يكون مستحضرًا لعظيم جود الله ﷿، وعظيم لطفه بعباده ﷾، فأنت ترى أمر الصلاة يحدوك إلى الإقبال عليها والارتباط بها، والسعي الدءوب الحثيث للغنيمة المتواصلة المتكاثرة منها، بما جعل الله في كل شأن من شئونها وكل أمر من أمورها من أجر وفضيلة. فالنداء إليها -وهو الأذان- هو الذي يعلن التوحيد، ويذكر بأمر الآخرة، وينادي المنشغلين بالدنيا ليأخذوا زادًا من تقوى الله ﷿، ومن مراقبته ﷾ ليواجهوا الباطل من بعد ذلك، وليعرفوا حقيقة الحياة الدنيا، ويجعل الله ﷿ في ذلك فضلًا وأجرًا. ثبت عن سعد بن أبي وقاص في صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: (من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، رضيت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ رسولًا غفر له ذنبه). وفي صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة! آت سيدنا محمدًا الوسيلة والفضيلة، والمقام المحمود الذي وعدته. حلت له شفاعتي يوم القيامة). ويقول النبي ﵊ فيما يرويه أنس في مسند أبي يعلى بسند حسن: (من قال مثل مقالته) أي: مثل مقالة المؤذن. وفي حديث بلال ﵁ قال: (من قال مثل مقالته وشهد مثل شهادته) أي: كرر الشهادتين مع المؤذن (فله الجنة)، فهذا في النداء إليها وفي التذكير بها وفي الدعوة إلى شهودها قبل أن تقبل عليها وتتهيأ لها وتتوجه لها. وفوق ذلك -أيضًا- يهب الله لك مزيدًا من الفضل ترغيبًا وتشويقًا وتحبيبًا، لتأتي إلى بيته ولتناجيه وتدعوه ﷾، فبمجرد سماع هذا الأذان ينسكب في القلوب، فتهتز القلوب شوقًا، وتتعلق بشهود الصلوات في المساجد مع الجماعات، وما يزال المؤمن مرتبطًا بها فيستحق حينئذٍ ذلك الوعد العظيم والأجر الكبير الذي ذكرنا به النبي ﷺ كما في الصحيح من حديث أبي هريرة عن السبعة الذين يظلهم الله ﷿ تحت ظل عرشه في يوم القيامة، وذكر منهم: (رجل قلبه معلق في المساجد)، قال أهل العلم: ومعناه أنه شديد الحب لها والملازمة للجماعة فيها، وليس معناه دوام القعود في المسجد! فهو تعلق قلبك عندما تنتهي من هذه الصلاة، فأنت مستحضر في قلبك أنك ستدعى مرة أخرى إلى لقاء الله، وإذا سمعت النداء تهيأت بقلبك ونفسك للإقبال على الله، فهذا لك به أجر عظيم؛ لأن هذا المعنى الذي استقر في قلبك هو من أعظم المعاني، معنى التعلق الدائم والارتباط التام بالعبودية لله ﷿، فما يزال قلبك مستحضرًا أنك بين الفينة والأخرى، بين الصلاة والصلاة وبين النداء والنداء، تنطرح بين يدي الله ﷿، وتسجد له ﷾، وتخضع له، وتذرف دمع الندامة، وتدعو دعاء المتضرع لله ﷾، كل ذلك ولما تأتي بعد إلى الصلاة. فإذا تحركت إليها، وإذا مشيت إليها جاءك فضل من الله ﷿ يتلقاك مع أول حركة وأول خطوة، كما جاء في صحيح مسلم من حديث جابر: (أن بني سلمة أرادوا أن ينتقلوا -وقد كانوا بعيدين عن مسجد رسول الله ﷺ، فلما خلت البقاع من حوله أرادوا أن ينتقلوا ليكونوا على قرب من مسجد رسول الله ﵊، فقال النبي ﵊: يا بني سلمة! دياركم تكتب آثاركم) أي: الزموا دياركم فإنها تكتب آثاركم وخطاكم إلى المسجد عند الله ﷾. قال النووي: فإنكم إذا لزمتموها كتبت آثاركم وخطاكم إلى المساجد. وهذا من فضل الله ﷾ ترغيبًا وتشويقًا. وفي حديث أبي هريرة عند مسلم عن النبي ﷺ أنه قال لأصحابه متسائلًا يحثهم ويرغبهم ويعلقهم بهذه الصلاة: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله!)! ومن يسأل مثل هذا السؤال اليوم؟! ومن يتعلق به اليوم؟! ومن يبحث عن جوابه؟! ومن يرتبط بمدلوله؟! ومن يلتزم بمقتضاه؟! قلّ هذا في الناس أو شغلوا عنه. أما النبي ﷺ فإنه في مشهد من أصحابه يلفت أنظارهم وينبه قلوبهم: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة)، فهل ترى في هذه الخصال الثلاث شيئًا يخرج عن الصلاة؟! إنه الوضوء وهو شرط الصلاة، إنه السعي والإقبال إلى الصلاة، إنه الرباط في انتظار الصلاة. فالأمور الثلاثة كلها التي يحصل بها هذا المحو للخطايا والرفعة للدرجات والمضاعفة للحسنات ساقها الله ﷿ لنا في هذه الفريضة. وهناك بشارة عظمى يتعلق بها قلب كل مؤمن، ذلك أن المؤمن الحق إنما ينظر إلى الآخرة، وينظر إلى ما بعد هذه الحياة الدنيا إلى الهول الأعظم، وإلى الحساب الدقيق، وإلى العذاب الشديد، كيف يفتدي نفسه منه، كيف يفك رقبته منه، كيف يعمل ما يظن أنه ينال به رحمة الله ﷿ ورضوانه ﷾. جاءت هذه البشارة في حديث سهل بن سعد عند ابن ماجه، وفي سنن أبي داود من حديث بريدة ﵁ عن النبي ﷺ قال: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) يوم يحجب النور عن أهل النفاق والكفر والعصيان، يوم يبحث الناس عما يضيء لهم الطريق ليجوزوا الصراط وينجوا من عذاب الله ﷿ ومن كلاليب النيران، يوم تمشي في الظلمات إلى المساجد في صلاة العشاء أو الفجر تسعى إلى طاعة الله، وتتحرك إلى رضوان الله، يفتح الله ﷿ لك في حياتك الدنيا، وينور لك قلبك، ثم يكون ذلك ضياء بين يديك يوم القيامة ﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا﴾ [التحريم:٨]. هكذا تتميز عندما تقبل على هذا الأمر العظيم، وليس ذلك فضلًا منك، وإنما هو واجب عليك، ولكن فضل الله ﷾ يجعل على الواجب أجرًا أعظم من الأجور التي تكون للمندوبات والمستحبات، وهذا من عظيم فضل الله ﷿ ومنته على الناس. ثم ما الذي يجعلك تتقاعس وأنت في كل حال وفي كل لحظة ووقت وفي كل ما يتصل بشأن هذه الصلاة مأجور عند الله ﷾، لماذا؟ لأن الله جل وعلا جعل هذه الصلاة صلة بينك وبينه ﷾، فجعل في كل أمر من أمورها وفي كل شأن من شئونها أجرًا عظيمًا، حتى يبقى القلب موصولًا بالله، وتبقى الصلة دائمةً بالله ﷾. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ قال: (فإن أحدكم ما قعد ينتظر الصلاة فهو في صلاة ما لم يُحدث، تقول الملائكة: اللهم! اغفر له، اللهم! ارحمه) فهذه ملائكة الرحمن تتنزل من السماء لتشهدك وأنت تنتظر الصلاة في بيت الله ثم تتوجه إلى الله بالدعاء لك بالمغفرة والرحمة والرضوان. فأي وقت يكون طويلًا وأنت في هذه الحالة؟! ما بالك قد ترى أنك بكرت إلى الصلاة، أو جئت بعد الأذان فتنظر إلى ساعتك وتستطيل الوقت إلى الإقامة، وإذا أطال الإمام قليلًا في قراءته تململت ورأيت أن الوقت -كما يقال- قد ضاع؟! وأي وقت يضيع وأنت في بيت الله، وحولك ملائكة الله، والدعاء مرفوع لك إلى الله ﷿، وأنت تسجل لك الحسنات وتمحى عنك السيئات؟ فهل ندرك عظيم ذلك الفضل الذي غفل عنه كثير منا ولم يستحضروا في قلوبهم ونفوسهم ما أخبر به النبي ﷺ عن هذه الصورة العظيمة التي شملت كل فضيلة في هذا الأمر؟ وفي حديث عثمان ﵁ -كما في صحيح مسلم - عن النبي ﷺ أنه قال: (من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء، ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة فصلاها مع الناس في المسجد غفر الله له ذنوبه) مغفرة عند الأذان، ومغفرة عند الوضوء، ومغفرة في السعي والمشي إلى الصلاة، ومغفرة عند أداء الصلاة، أليس هذا فضلًا عظيمًا من الله ﷿؟! ما بال الناس اليوم غفلوا عن هذا الفضل؟! فلا تراهم في المساجد إلا قليلًا، ويقلون بشكل أكبر في بعض الفرائض كصلاة الفجر أو العصر أو غيرها مما قد يكون فيه مشقة يسيرة لا يمكن أن تصد أو أن تحجب عن مثل هذا الأجر الكبير والفضل العظيم. وفي الحديث المشهور -الذي يحفظه كثير من الناس، وهو حديث ابن عمر في الصحيحين- أن النبي ﷺ قال: (صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ -أي: الفرد- بسبعٍ وعشرين درجة) وما أدراك ما هذه الدرجات؟! وما أدراك ما فيها من الفضائل والحسنات؟! وهذا فضل عظيم ساقه الله ﷿، وكلما شهدت الصلاة مع جماعة أكبر كان الفضل والأجر عند الله ﷿ أعظم. كل ذلك لتبقى مشدودًا متعلقًا بهذه الفريضة، وبعض الناس يختار الأدنى ويرضى بالأقل في أمر الدين، بينما هو في أمر الدنيا يسعى للمراتب العالية وللفرص العظيمة، وإن كانت صعبة أو شاقة، ولذا نجد بعض الناس كلما وجد فرصة للترخص أو لترك الصلاة مع الجماعة في المسجد أو لأي شأن من الشئون رأى أن في ذلك عذرًا يكفيه لأن يرضى بالأقل من الأجر، كأنما قد غنمنا أجورًا كثيرة، وأمنا من معاص وسيئات عديدة، نسأل الله ﷿ السلامة. يقول النبي ﵊ -كما في سنن أبي داود من حديث أبي بن كعب -: (إن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده

2 / 3

مكانة صلاتي العشاء والفجر لقد حث النبي ﵊ على أمر كان الصحابة فيه من المتنافسين، وكانوا فيه ممن ضربوا المثل الأعلى في شأن قيام الليل الذي كان يحييه بعضهم من أوله إلى آخره، وبعضهم معظمه، أو من منتصفه إلى آخره، ونحو ذلك، وقد تقاعست الهمم، وضعفت العزائم في عصرنا هذا عن قيام الليل، ولو بركيعات قليلات، ولذا جاء فضل من الله ﷿ عظيم وربطٌ لنا بأداء الصلوات في الجماعات كبير، عندما قال ﵊ فيما صح عنه: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله)، فكثيرون ممن يفرطون في الفجر يفرطون في عظيم الأجر. وكذلك يحذر النبي ﷺ تحذيرًا فيه خصيصة لك أيها العبد المؤمن، يا من شهدت صلاة الفجر في الجماعة؛ لأنها صلاة تأتي والناس غارقون في نومهم، أو سارحون في أحلامهم وقد أنسوا بالراحة بعد التعب، وشق عليهم أن ينهضوا من فرشهم الوثيرة بسبب البرد وغير ذلك من أسباب التثاقل والتكاسل، فإذا نهضت من تلك الراحة إلى طاعة الله فإن لك بشارة، وإن لك شهادة عظيمة من الله ﷿ أخبرنا بها النبي ﷺ في حديثه كما عند الطبراني من حديث أبي بكرة عن النبي ﵊ أنه قال: (من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله، فمن أخفر ذمة الله أكبه الله في النار لوجهه) قال أهل العلم في معنى قوله: (من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله) أي: في أمان الله ﷿، وفي حفظ الله ﷿، وفي رعاية الله ﷿ تحت عين ونظر الله ﷿. فما أعظمها من شهادة! وما أعظمه من حفظ ورعاية! (فمن أخفر ذمة الله أكبه الله في النار لوجهه) قال العلماء: معناه على أحد قولين: الأول: تحذير من ترك صلاة الفجر في جماعة؛ لأن تاركها ينقض ذمة الله عنه فلا يعود محفوظًا، فيصيبه ما يصيبه عندما ينسحب أو ينتقض أمان الله وذمة الله له. المعنى الآخر -وهو جميل جدًا ورائع جدًا يبين لنا عظمة هذه الصلاة-: أن (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله) أي: فلا تتعرضوا له بشيء، لا تؤذوه ولا تتعرضوا له؛ فإنه في ذمة الله وفي حمايته، فإن تعرضتم له فقد تعرضتم لسخط الله ﷿، فما أعظم هذه الحماية التي تؤتاها عندما تشهد صلاة الفجر في جماعة.

2 / 4

تبكير السلف إلى الصلاة وعدم التخلف عنها على المسلم أن يتأمل كم في هذه الصلاة من فضائل عظيمة، حتى إن سلف الأمة رحمة الله عليهم عندما فقهوا هذا فقه الإيمان وعرفوه معرفة العباد الأذلاء لله الراغبين في ثواب الله الخائفين من عقاب الله انعكس ذلك صورة حية في واقع حياتهم، فلم يكن أحد منهم يتخلف عن الصلاة، بل كان الأمر كما ثبت عن بعض الصحابة أنه قال: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، وإن كان الرجل ليؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف. فهذا وصفٌ واضح قاطع معروف عند مجتمع الصحابة أن المتخلف عن أداء الصلوات في الجماعات منافق معلوم النفاق، أي: كأن نفاقه واضح بيّن دليله قاطع ظاهر. ولذا كانوا يحذرون من هذه الوصمة الخطيرة وصمة النفاق، حتى إن الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين، أي: يستند إلى رجل عن يمينه وآخر عن شماله لأنه مريض، لكنه يؤتى به على هذه الصورة حتى يقام في الصف ليشهد الصلاة مع الجماعة، لئلا يكون متخلفًا فيعد من المنافقين. وانظر إلى ما رواه البخاري في الأدب المفرد من حديث ثابت البناني أنه كان مع أنس قال: فمشيت معه إلى الصلاة، فقارب بين الخطا -أي: جعل الخطا متقاربة وأسرع في المشي- ثم التفت أنس إلى ثابت وقال له: كنت مع زيد بن ثابت فمشى مثل هذه المشية -أي: قارب بين الخطا- ثم التفت إلي -أي: التفت زيد إلى أنس - وقال: مشيت مع النبي ﷺ، فمشى وقارب بين الخطا، ثم التفت إلي -أي: التفت الرسول ﷺ إلى ثابت - وقال: (إنما فعلت ذلك ليكثر عدد خطانا في طلب الصلاة) هذا فقه النبي الأعظم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وانعكس ذلك صورة عملية في الصحابة والتابعين وسلف الأمة الصالحين رضوان الله عليهم أجمعين. وهذا عدي بن حاتم -وهو من الصحابة- يقول: ما دخل وقت صلاة قط حتى أشتاق إليها. أي: يكون قد بلغ به الشوق أنه ينتظر دخول وقت الصلاة، فإذا جاء وقتها كان كمن ينتظر شيئًا محبوبًا إليه طال وقت انتظاره إليه واشتياقه إليه. ويقول أيضًا: ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء. أي أن الاستعداد المبكر والتهيؤ قبل دخول الوقت كان من سمة صحابة النبي ﵊ ومن تأثر بهم من التابعين. فهذا إمام التابعين سعيد بن المسيب رحمة الله عليه يقول: ما أذن المؤذن منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد. منذ أربعين عامًا! فلو حسبنا كم في الأعوام من أيام وكم في الأيام من صلوات وما كان يؤذن المؤذن إلا وهو في المسجد طوال هذه المدة! قال عنه بعض أصحابه: صلى أربعين سنة في الصف الأول ما رأى قفا أحد. أي: لا يصلي في الصف الثاني فيرى قفا من في الصف الأول، بل كان على هذه الحال دائمًا. وفي معجم الطبراني الكبير بسند حسن أن عنبسة بن الأزهر قال: تزوج الحارث بن حسان فصلى الفجر في ليلة زواجه. أي: في ليلة زواجه صلى الفجر في المسجد. وهذا أمر مشهور في حياتنا أنه إذا صلى العروس صلاة الفجر في ليلة عرسه فكأنما جاء بأمر غريب. فقيل للحارث: أتخرج وإنما بنيت بأهلك الليلة؟! فقال: والله إن امرأة تمنعني من صلاة الغداة في جماعة لامرأة سوء. أي: إن كان الزواج سيمنعني من صلاة الفجر في الجماعة فهذا لا شك أنه أمر سيئ لا يمكن أن يكون في طاعة الله ﷿. فهذه الملامح تبين لنا كيف فَقِهَ سلفنا هذا الفقه، وكيف حرصوا على الغنيمة ولم يضيعوها. فالله نسأل أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا متعلقين بالفرائض، حريصين على الأجر والثواب، متسابقين في الخيرات ومسارعين إلى الطاعات؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.

2 / 5

المحافظة على الصلاة فضلها ودلائل التهاون فيها إن من أعظم التقوى وأساسها ولبها المحافظة على الفرائض بشرائطها وسننها التي جاءتنا عن النبي ﷺ، وعندما نتحدث هذا الحديث نعلم جميعًا أن الناس في هذه الحياة الدنيا لا يفرطون في أي غنيمة تتاح لهم وتعرض عليهم، بل يدعون إليها ويرغبون فيها، فإن فرط أحدهم في هذه الغنيمة أو قصر في مكسب كان يمكن أن يحوزه فلا شك أنه يوصف عند الناس بالتفريط، وربما بالحمق، وهو نفسه يعض أصابع الندم على ما فاته من هذا المغنم والمكسب، فكيف بنا مع هذه الغنائم الربانية العظيمة الأجر التي فُرضت علينا ورغبنا الله فيها وأعطانا عليها العطاء الجزيل الذي لا منتهى لحده ولا حد لوصفه؛ لأنه من عند الله ﷾. وفوق ذلك كله عندما تشهد الصلاة في جماعة فهذا هو الفضل والأجر، وهذا هو الأداء للفرض، وهذا هو الاتباع لسنة النبي ﷺ، وهناك معالم أخرى جديرة بالاهتمام، فهذا هو شعار الإسلام الذي نعلنه ونرفعه، فإذا خلت المساجد وقل فيها المصلون كان ذلك دليلًا من أدلة ظهور النفاق وظهور التقصير في طاعة الله وظهور التفريط في جنب الله، واستحقاق السخط والغضب من الله ﷿. أضف إلى ذلك أن كثيرًا من الناس عندهم جهل، فلا يعرفون فقه الصلاة، ولا يحسنون التلاوة، فلو أنهم شهدوا صلاتهم في مساجد المسلمين لسمعوا تلاوة مرتلة وصلاة صحيحة، فيعينهم ذلك على أن يؤدوا صلاتهم على وجه تام؛ لأن بعض من يصلون منفردين هم على جهل، ويصلون صلاة ناقصة، وربما يقع فيها من الخلل ما يحكم به في الفقه بأنها صلاة باطلة. وهناك معانٍ أخرى كثيرة، مثل التعارف والتآلف والوئام، وفوائد أخرى يطول حصرها. وأقول: إننا قد فرطنا في هذا الأمر، وقد أخبر النبي ﷺ أن بداية هذا التفريط هو منتهى التفريط في أمر الإسلام؛ لأن عرى الإسلام تنحل عقدة عقدة في آخر الزمان، كما أخبر النبي ﵊، وآخر ذلك الصلاة، وقد يقول قائل: ولم تنحل الصلاة؟ فأقول: هذا المفرط الذي يترك الصلاة في المسجد، ويقول: ليست الصلاة واجبة علي في الجماعة. ثم بعد ذلك يرى أن الجماعة ولو في غير المسجد ليست لها أهمية، ثم يصلي منفردًا، ثم يتأخر عن أدائها في وقتها، ثم لا تبقى الصلاة كما كانت في حياة الصحابة، وكما أمرنا بها في هذه النصوص على النحو المطلوب، وحينئذٍ لا يكون لها الأثر المطلوب الذي أخبرنا الله ﷿ به في قوله: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت:٤٥] ولا تكون كذلك على نحو ما أمرنا الله ﷿ ووضحه لنا بقوله: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء:١٠٣]، وكل هذه المعاني تغيب وتضيع عندما نفرط في الجماعة على سبيل الترخص والتهاون. فهذه فضائل عظيمة، وهذه أجور كبيرة، وهذه غنيمة باردة، ينبغي أن لا نفرط فيها، وأن لا نضيعها، ومن الفطنة والذكاء، ومن الإيمان واليقين، ومن الحرص والرغبة أن نكون مترسمين خطا سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، فنسابق ونسارع ونرابط، ونسعى ونجتهد ونقوم في الليل، ونسعى إلى الصلوات في الجماعات لاسيما في الفجر، لا أن يكون حالنا أننا حتى في الجمعة التي هي مرة في الأسبوع يأتي كثير من الناس متأخرين، بل يأتون وقد انتهت الخطبة أحيانًا وشرع الإمام في الصلاة، ونحن نعلم أن من طبيعة حياتنا أن صباح الجمعة ليس فيه أعمال، وأن الناس غالبًا يخلدون فيه إلى النوم، فأي شيء يؤخرهم عن هذا الأجر وعن الفضل وعن الفرض قبل ذلك؟! فهذا تفريط وتقصير ينبغي أن نطهر أنفسنا منه، وأن نسعى إلى أن ننبذه في مجتمعنا وفي أنفسنا وفيمن حولنا، وفي أبنائنا وفي جيراننا، عسى الله ﷿ أن يرحمنا وأن يتقبل منا وأن ييسر لنا أمورنا. اللهم! إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا. اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم! أنزل الرحمات، وأفض علينا الخيرات، وامح عنا السيئات، وضاعف لنا الحسنات، وارفع لنا الدرجات، واغفر -اللهم- لنا ما مضى وما هو آت، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك المخلصين، ومن جندك المجاهدين، ومن ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميرًا عليه يا قوي يا عزيز، يا منتقم يا جبار. اللهم! إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم! زلزل الأرض من تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم! أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تغادر منهم أحدًا، يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار. اللهم! رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، خائفون فأمنهم، جائعون فأطعمهم، اللهم! سكن لوعتهم، اللهم! وامسح عبرتهم، اللهم! ارزقهم الصبر واليقين، اللهم! ارزقهم الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، اللهم! واجعل ما قضيته عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! اجعل بلدنا آمنًا مطمئنًا رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم! واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم! اجعل عمل ولاتنا في هداك، ووفقهم لرضاك يا أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

2 / 6

بلايا الخطايا لقد كثر في عصرنا الحاضر تناول الأشياء المضرة بالصحة والبدن كالدخان، وارتكاب بعض الفواحش والمحرمات التي أثرت على الفرد والمجتمع، فحلت بسببها عقوبة الأمراض المستعصية التي لم تكن في أسلافنا الذين مضوا، وهكذا عاقبة المجتمعات حين تتمرد على دين الله، وتتعدى حدوده ولم تتمثل أوامره وتجتنب نواهيه.

3 / 1

حصاد الدخان الحمد لله جعل الإيمان أمنًا وأمانًا، والإسلام صحةً وسلامًا، وجعل السلامة في الطاعات، والبلية في المعاصي والسيئات، نحمده ﷾ على ما أفاض من الخيرات، وما أنزل من البركات، وما أوسع من الرحمات، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء الأرض والسماوات، له الحمد ﷾ كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وله الحمد على كل حال وفي كل آن. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم التقى، ومنار الهدى، شمس الهداية الربانية، ومنار العناية الإلهية، وأشهد أنه ﵊ قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبيًا عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢]. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١]. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١]. أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! بلايا الخطايا أمر ينبغي أن تلتفت له الأذهان، وأن يعطى حقه من العناية والاهتمام، فإن شيوع المعاصي، وذيوع الخطايا، وتوسع دائرتها يؤذن كسنة ماضية من الله جل وعلا بعظيم البلايا، وجليل الرزايا التي لا تقتصر على موات القلوب، وكدر النفوس، وضعف الإيمان، وزيغ الأهواء وغير ذلك، بل تتعداها إلى الأضرار والأخطار المادية الملموسة، ولعلي وأنا أريد أن ألفت الأنظار، وأن أجعل كل أحد ينتبه من غفلته، ويرعي هذا الحديث سمعه، أبدأ بأن أقول: إن خطيئة واحدة قد حصدت في عام واحد -هو العام الذي انصرم- ثلاثة ملايين من البشر، فهل ترون مثل هذا الرقم الخطير المفزع أمرًا هينًا؟ وهل ترونه عقوبة ليست مرئية أو ملحوظة؟ وأزيدكم لأقول: إن جريرة يكاد كثير من المسلمين عمومًا، بل ومن الحاضرين في هذا المسجد وفي غيره خصوصًا يلمون بها ويقترفونها ويمارسونها كل يوم وليلة، ليست مرة واحدة بل مرارًا عدة، هذه الخطيئة حصدت في عام (٢٠٠٠) أي: قبل نحو أربعة أعوام خمسة ملايين من البشر. ولعلكم الآن تتساءلون، وأنا أيضًا أقول: بأيهما أبدأ وهما اثنتان، وغيرهما من الخطايا فيها العظيم والجليل من البلايا والرزايا؟ هل تصدقون -وهذا بموجب إحصائيات علمية معتمدة معتبرة من منظمة الصحة العالمية- أن قتلى التدخين في عام (٢٠٠٠) بلغ خمسة ملايين إنسان، وأنه بموجب معدل الإحصائيات المتزايدة من كل عشر وفيات من الرجال والنساء واحدة سببها المباشر هو التدخين، وأن هذه النسبة ترتفع في الرجال ليكون كل خمسة يموتون منهم واحد يكون سبب موته المباشر هو التدخين؟

3 / 2