نرى أن الشاعر الإيطالي في ذلك المنفى الجهنمي الذي اخترعه خياله قد اختار لقاتل القيصر عقابا لا يختلف في الشدة عن عقاب الذي أسلم المسيح إلى أعدائه؛ فقاتل الملك عنده كقاتل المسيح، ولا فرق في الذنب بين من خان السيد المسيح ومن خان ملكا أو إمبراطورا. ولا عجب؛ فإن دانتي عبر عن فكرة زمانه وجيله، فإن القرون الوسطى في إيمانها الكاثوليكي والإمبراطوري لم تكن تميز بين من يعتدي على مؤسس المملكة، ومن يعتدي على مؤسس الكنيسة، والدم المراق على قدمي تمثال بومباي لا يقل قيمة عن الدم المسفوك على الجلجلة؛ لأن سلطة القيصر على الأرض تمثل عندهم سلطة المسيح في السماء. وكيف لا يخضع العالم المسيحي لذلك العهد لعظمة القيصر وقد اعترف بها المسيح نفسه فقال: أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله؟ ألم يكن هذا القول تأييدا لسلطان القيصر ، ومصداقا لاغتصاب الفاتح، واستحسانا لعبوره نهر الروبيكون الذي حرمته الآلهة، وغفرانا لانتهاكه حرمة الجمهورية، وحرما قاطعا على أعدائه من أنصارها؟
هكذا كانوا يفسرون الإنجيل في القرون الوسطى، فكانت النتيجة تقديس اسم القيصر بقدر ما كان اسم أعدائه ممقوتا. وما برحوا طوال ألف عام وأكثر يجافون ذكر بروتوس، كما يجافون ذكر بوداس.
ثم جاء عصر الانبعاث فقامت الثورة على سلطة الملك كما قامت على سلطة الكنيسة، وأفضى الجدل في الدين إلى الخصام في السياسة، وقدر لشاعر بروتستانتي أن يعلن الثورة في الميدان الاجتماعي، كما أعلنها قس بروتستانتي في الميدان الديني؛ هذا باستناده إلى النصوص المقدسة، وذاك إلى التاريخ؛ فقد قارع لوثر البابا والتوراة على لسانه، وحكم شكسبير على القيصر وبلوتارك في طيلسانه.
ولم يكف المفكر الحر أن يحكم على القيصر، بل أراد الإنصاف لبروتوس، هذا القاتل الذي بهظته لعنة القرون الوسطى، لقد نهض به شكسبير، وانتشله من ذلك الحكم الجائر المشين، واستحضر بسحر قلمه تلك الصورة المنسية التي زجها دانتي في أعماق جحيمه، ورفعها إلى مصاف الأبطال بين هتاف الأجيال الجديدة. فإذا أنت قرأت رواية يوليوس قيصر لشكسبير تشعر بالإعجاب الشديد، لا لانتصارات القوة الوحشية، ولا للبلدان المخربة بالحديد والنار، ولا للأنهر المغطاة بجثث القتلى، بل لذلك الفتح المبين الذي تنتصر به الروح السامية على نفسها فتضحي العاطفة في سبيل المبدأ.
يزعم بلوتارك في كتابه «حياة بروتوس» أن بروتوس ابن القيصر، وهذا سبب عطف القيصر عليه بوجه خاص، غير أن شكسبير لا يذكر ذلك تصريحا أو تلميحا لئلا تضعف حجته؛ فإن السامع إذا عرف ذلك لا يسعه إلا أن يرمي بروتوس بالعقوق، فتضيع الغاية الأدبية من عمل بروتوس، ويساور إعجاب الناس شيء من الأسف والندم.
لقد كتب فولتير في الموضوع وتبسط فيه، فوضع بروتوس بين حبه لأبيه وحبه للحرية، مما يترك أثرا سيئا في نفوس السامعين؛ فلا يدري الناس أكان بروتوس على صواب أم خطأ عندما أنكر صوت الطبيعة ليصغي إلى صوت الاجتماع. ولا تجد شيئا من هذا في شكسبير؛ فهو يحول كل إعجابك نحو بروتوس. وهذا ما تشعر به حالا عند رفع الستار.
ويقول بلوتارك في كتابه «حياة بروتوس»: إن كاسيوس ألهب بروتوس ودفعه إلى التآمر والقتل. وفي كتابه «حياة القيصر» يذكر أن أنطونيوس عرض التاج على القائد في عيد آذار، فجمع شكسبير بين هذين المشهدين على وجه تبدو فيه الأهمية لتلك المأساة، وذلك الحديث السري بين وطنيين يبث كل منهما الآخر أخفى ما في نفسه، تاركا من وراء المسرح تلك المهزلة الفخمة التي يتظاهر فيها الدكتاتور وهو مستو على عرشه الذهبي برفض التاج، فيسمع الحضور عن بعد أنغام الموسيقى، وهتاف الجماهير، بينما هو يشهد عن كثب حركة المؤامرة، ويسمع همس المتآمرين.
وفي هذا الحديث ينتزع كاسيوس من بروتوس هذا الاعتراف: أحب القيصر، ولكن لا أريد أن يختاره الشعب ملكا له. ولا يفتأ كاسيوس يعدد عيوب الطاغية، ويتبسط في ذكر استبداده، ومحاربته حرية الفكر، إلى أن يقتنع بروتوس فيضحي حبه للقيصر في سبيل الخير العام.
وهكذا يتمشى القارئ أو السامع مع المؤلف بالعطف على بروتوس دون القيصر، منذ حديث المشهد الأول إلى المؤامرة، إلى الاغتيال، إلى ختام الرواية.
ناپیژندل شوی مخ