بوذا
كونفوشيوس
أبيقور
تيمور الأعرج
روسكين
نيتشه
تولستوي
غوته
رنان
هربرت سبنسر
ناپیژندل شوی مخ
الأرض المجهولة
جزيرة الأبالسة
الحماقة البشرية
العنصرية الروحية
يوليوس قيصر وشكسبير
بوذا
كونفوشيوس
أبيقور
تيمور الأعرج
روسكين
ناپیژندل شوی مخ
نيتشه
تولستوي
غوته
رنان
هربرت سبنسر
الأرض المجهولة
جزيرة الأبالسة
الحماقة البشرية
العنصرية الروحية
يوليوس قيصر وشكسبير
ناپیژندل شوی مخ
دنيا وأديان
دنيا وأديان
تأليف
نقولا فياض
بوذا
دين الخلاص
بين الرجال العظام الذين قادوا المجتمع البشري وظهروا فيه كالأعلام على مدار الحقب، وتركوا في أديم الحياة الإنسانية آثارا عميقة لا تمحوها رمال الزمن، تتجلى لنا من أعماق الماضي البعيد - على ضفاف الكانج ومن خلف غابات الهند الأزلية - صورة بوذا مؤسس الديانة الهندية.
يقال إنه حتى العشرين أو الثلاثين من عمره لم يكن يعرف شيئا مما يجري حوله من تصاريف الأيام؛ لالتزامه بيته حيث كان يقيم معه أستاذ يسهر على تربيته وثقافته. ولما خرج للمرة الأولى بصحبة أستاذه لاقى في طريقه أول ما لاقى شيخا محدودب الظهر مجعد الجبين يمشي متوكئا على عصاه، فسأل رفيقه: لماذا يمشي الرجل هكذا؟ فأجابه: لأنه عجوز هرم، قال: وما يعني؟ قال: إنه بلغ من العمر عتيا فوهنت قواه وهزل جسده وثقلت خطاه، إلى آخر ما يتبع ذلك من عيوب الشيخوخة.
وما ابتعد غير قليل حتى لفت نظره مريض مطروح على قارعة الطريق كعادة تلك الأجيال في عرض مرضهم على المارة، فسأل عنه، فقال له الرفيق: هذا مريض؛ يعني أنه كان قويا فصار ضعيفا، وكان يمشي أميالا فلا يتعب وهو اليوم لا يستطيع أن يخطو خطوة، وكان يأكل بشهية فانقطعت عنه القابلية، وكان لا يشكو ألما وهو اليوم كثير الأنين إلى آخر ما يرافق الداء من ألم وعذاب. ثم تابع سيره فالتقى بجنازة، فسأل: ما الخبر؟ فقال له معلمه: هذا ميت؛ يعني كانت فيه حياة فذهبت، وكان قلبه خفاقا فسكن، وكانت عيناه تبصران فزال منهما النور، وأذناه تسمعان فأصابهما الصمم، ولسانه يتكلم فنابه الخرس؛ فهو الآن في عالم غير عالمنا هذا.
أثرت هذه المشاهد في الأمير الشاب تأثيرا عميقا فارتد أدراجه إلى القصر، وذهب توا إلى أبيه الملك، وقال: ألا يمكنك يا أبتاه أن تمنع الهرم والمرض والموت؟ فأجابه أبوه: إنك تطلب المستحيل يا بني. وكان هذا الجواب كافيا ليتبين بطلان تعاليم البراهمة؛ فهجر قصر أبيه ولسان حاله يقول: تعسا للشباب الذي يغلبه الهرم! تعسا للصحة التي تهدمها الأمراض، تعسا للحياة التي يفنيها الموت!
ناپیژندل شوی مخ
هجر قصر أبيه الملك، واتخذ عزلته في الغاب بعيدا عن الناس يعيش عيشة التقشف، ذاهبا في تأملاته كل مذهب، باحثا عن دين يكون أقرب للإنسانية، فأطلقوا عليه اسم ساكياموني؛ أي ناسك ساكياس، قبل تلقيبه ببوذا؛ أي الحكيم الأكبر.
ومن هذه العزلة خرجت تلك الديانة القاتلة لإحساس الإنسان وشهواته، ومنها ارتفع ذلك الصوت القائل بغرور الحياة، الداعي إلى الزهد، طالبا وسط مفاسد العهد القديم أن يتجافى الناس مضاجع اللذة والسرور، قاتلين الرغبة بالتأمل، والتأمل بالغيبوبة، والغيبوبة بالفناء، حتى يصلوا إلى الغاية القصوى من الخير، وهي النرفانا؛ أي العدم.
والذي سهل انتشار هذه التعاليم الناتجة عن التشاؤم واليأس تلك العقيدة السائدة في الهند من تناسخ الأرواح؛ أي التقمص، فالحياة الأبدية في الهند أشبه بكابوس؛ يولد المرء ويتألم ويموت، ثم يولد ثانية ليتألم أبدا ويموت كذلك، وهكذا دواليك كأنما هي أشغال شاقة على الإنسان أن يتحملها في طريق الأبد.
وقد أراد بوذا تخليص الإنسانية من هذا الكابوس فلم يجد سوى حل وحيد لذلك، وهو إخماد عطش الأنانية؛ ففي إطفاء «أنا» كل النرفانا، وذلك بمحاربة الشهوات، وتضحية الفرد للمجموع، والرحمة الشاملة، ولو اقتضت أن نضحي بأنفسنا في سبيل سائر الخلائق من إنسان وحيوان. وهذه التعاليم السلبية فيما يتعلق بما وراء المادة نتيجتها العملية أدب كله إنكار ذات وعفة ورفق ومحبة.
ولا يخفى ما في هذه التعاليم من سحر الإغواء، وهذا ما يفسر لك انتشار البوذية الواسع فيما بعد، والذي يخلع عليها جاذبية خاصة هو الروح الشعرية التي تفيض حنانا في تلك الأساطير عن الحياة المتعددة السابقة التي مر بها بوذا في تقمصه إنسانا وحيوانا، فهنا ملك الوعول يضحي نفسه من أجل رفاقه، وهنا أرنب يطرح نفسه في النار ليطعم أحد البراهمة الجائعين، وهنا ملك الفيلة يقدم أنيابه لقاتله، إلى غير ذلك.
وكان أول ما بشر بالبوذية في مناطق الكانج الشرقية، ومنها امتدت إلى سائر الهند، والقائمون على هذه الكنيسة جماعة من الرهبان في الأديرة يحف بهم عدد من العوام المخلصين. ولا ريب أنه في العصور الأولى قد تقلب على البوذية أحوال تبعا للزمان، ولحاجات القلب البشري؛ فإن الوقوف عند بوذا التاريخ أصبح غير كاف؛ لأن انطفاءه بالنرفانا جعل الوصول إليه بالصلاة صعبا، فخلق الإيمان عددا غير قليل من أشباه بوذا، هم بوذوات المستقبل، هؤلاء ينتظرون في جنات تجري من تحتها الأنهار أن تدق ساعة تجسدهم، وفي مدة هذا الانتظار يعنون بخلاص الخلائق. وقد وجد بين هؤلاء من فاق بوذا التاريخ في استمالة الشعب إليه، فلقب بالمسيح أو العناية أو النور غير المتناهي، وكان له شأن لدى انتشار الديانة في أنحاء الشرق الأقصى.
هذه الصور الروحانية التي تقطر شفقة ورحمة كانت تخلق من حولها في عقول الناس وقلوبهم جوا من اليقين والتقوى والحنان لا مثيل له في آسيا الشرقية. وقد أخذت الصين - بوجه خاص - تجد فيها عالما روحانيا جديدا، ولاقت فيها الفكرة الفلسفية غذاء لا ينفد بفضل ما وراء الطبيعة الذي اقتحم البوذية الهندية في المائة الأولى من التاريخ المسيحي. فاتجهت الأفكار إلى مثل عليا مطلقة، قائمة على النظر إلى العالم وإلى «أنا» كأنهما غير موجودين حقيقة، ومن جانب آخر، فإن الجماعات - كما قلنا - كانت تجد نفسها مجذوبة بسحر هذه الأساطير الكثيرة المختصة بكل بوذا من بوذوات المستقبل، وهذه الصور الناعمة اللطيفة، وحياة القديسين، ولمعان الفراديس والجحيم فضلا عما كان يغريها به الفن البوذي نفسه.
كان الفن الهندي حتى بداية التاريخ المسيحي فنا لا يخلو من الجمال؛ لأنه من وحي طبيعة الهند الأزلية، غير أنهم ما كانوا يجرءون في الزمن الأول على تصوير بوذا لتحريمه كما حرم تصوير الله في ديانات أخرى، ولا ريب أن هذا التحريم لم يكن عن احترام فحسب بل فيه دخل كبير للمنطق؛ لأنه ليس من المعقول أن تحيي بالرسم من محته النرفانا؛ أي من ذهبت ذاتيته، فكانوا يعتاضون عن تمثال بوذا حتى في مشاهد الحياة اليومية برموز متفق عليها. ولكن هذه النظرية تغيرت عندما تطرقت اليونانية إلى شمال غربي الهند لعهد ملوك اليونان خلفاء الإسكندر، ثم لمن جاء بعدهم من ملوك الشيت.
لقد شعر اليونان الذين اهتدوا إلى البوذية بالحاجة إلى تمثيل بوذا تمثيلا صحيحا حقا، ولم يجدوا أمامهم سوى إلههم أبولون ليأخذوا عنه فقلدوه. وأول تمثال صنع لبوذا في أوائل العهد المسيحي في غندارة، وهو صورة طبق الأصل لأبولون مع زيادة الطابع العقيدي، كنقطة الحكمة بين العينين وغفرة الرأس، وطول شحمة الأذن؛ لثقل القرط الذي كان يعلقه بها بوذا أيام كان أميرا.
هذا المثال اليوناني لبوذا ذو الملامح الأبولونية والمطارف اليونانية الذي كشف عنه التنقيب في آثار غندارة وكابول سيجوب الزمان والمكان، من خلال آسيا الوسطى حتى الصين واليابان، مكتسبا في سفرته الطويلة بعض التغيرات، والتطبع بطابع صيني، حاملا تذكارات ماضيه اليوناني في الصورة والهندام.
ناپیژندل شوی مخ
وقد جاء انتشار البوذية في الصين متأخرا؛ أي في السنة الستين من التاريخ المسيحي، وبوذا مات حوالي سنة 480ق.م، فكأنها بقيت منحصرة في الهند ستمائة سنة قبل تمشيها إلى الصين، حيث استقبلت بادئ ذي بدء كبدعة من تعاليم ثاو، كما استقبل الرومان المسيحية كبدعة يهودية. وقد حملت البوذية إلى الصين فكر الهند وفن الإغريق وشيئا من حضارة إيران، غير أن نجاحها لم يطل، وبعد أن استفادت من بعض الشبه بينها وبين تعاليم ثاو قام الثاويون عليها، وناهضها كذلك أشياع كونفوشيوس ونعتوها بالغريبة؛ لأنها تقضي على الأسرة؛ إذ إن البوذي لا يهتم إلا بنفسه. ولا تزال الحرب سجالا حتى اليوم، والكونفوشيوسية وحدها دين الدولة ودين الملك. •••
لقد رسم بوذا للعالم القديم طريق الخلاص كما رآها، وقال له: لا تنس في هذه الطريق أن تمد إلى الإنسانية يد المعونة فترحم كل حي، وتعفو عن كل مذنب، وتنسى كل إهانة، وتعامل بالرفق والحق والجود إخوانك في هذا الوجود.
واليوم، بعد مرور خمسة عشر قرنا على بوذا، وبعد من تبعه من المصلحين والأنبياء والرسل، وهذه الأديان التي تنهى عن المنكر وتأمر بالمعروف، وبعد التقلبات الهائلة التي منيت بها الإنسانية، لا يزال الظمأ شديدا إلى هذه المبادئ والتعاليم كأننا لم نزل في الأعصر الأولى، أعصر الجهل والتباغض والعدوان ...
كونفوشيوس
دين الإصلاح
1
لقد ظهرت على مسرح هذا الوجود دول شتى، بلغت من حضارتها الأوج، ثم توارت تاركة آثارا تدل عليها، وتحدث عن خالي عظمتها كأقواس النصر والأهرام والعمد والهياكل وما شاكل. ولكن أبقى الآثار وأبعدها مدى في تصريف حياة الشعوب هي بدائع العقل البشري، وما كانت تجود به أدمغة العباقرة حينا بعد حين، فتقيمه كمنائر في طريق الحياة هدى للعالمين.
وفي هذه الأيام العصيبة التي تبرز فيها الصين على المسرح العالمي كدولة كبيرة، يجدر بنا أن نعود قليلا إلى ماضيها الحافل بالآثار الأدبية، فنراجع تعاليم أعظم فيلسوف أنجبته هذه البقعة العجيبة التي يتصل نسبها بمهد البشرية كما تتصل هي بمهد الشمس.
لقد تعاقب على الشرق منذ القدم ثورات وانقلابات بدلت معالمه وقوضت عروشه، وأنزلت إلى القبر حضارات أمم عظيمة لمعت في آفاقه منذ أربعة آلاف سنة، ولم يبق منها اليوم سوى أطلال دارسة، وآثار طامسة. هذه مملكة داريوس التي حفظت لنا كتب زرادشت شيئا من شرائعها، نحاول اليوم أن نتبين رسومها من خلال المخطوطات المسمارية لبابل وبرسوبوليس، وهذه دولة الفراعنة التي اضطجعت في أهرامها الخالدة بعد أن خلفت تلك اللغة الصورية المجبولة بالألغاز كأنما أرادت بها إعجاز الذرية، فلم يرتق العلم إلى مفتاحها إلا بعد جهود ألفي سنة.
ولكن الصين لم تقو عليها ثورات الطبيعة والإنسان، فبقيت وحدها واقفة بينما كان كل شيء يتداعى من حولها، كتلك الصخور الوعرة التي لا تزال تلتطم بها أمواج البحار منذ بداية الخلق دون أن تزعزعها. •••
ناپیژندل شوی مخ
لا ريب أن الحضارة الصينية أقدم حضارة على الأرض، يرجع تاريخها إلى ألفين وخمسمائة سنة قبل المسيح. فكان «فو هي» إمبراطورها الحكيم أول فيلسوف في مملكته. ولم تكن الكتابة معروفة لذلك العهد، فرسم حكمته في سطور سرية على ألواح محفوظة حتى اليوم، وعلم شعبه العدد والفلك، وعوده احترام الأجداد، ثم جاء بعده باو، وشون، وبو، فنظم الأول المواقيت، وسن الشرائع، واخترع كثيرا من الفنون المفيدة، وكان دمث الأخلاق، طيب القلب، إلى حد أنه منع العرش على بنيه؛ لأنهم لم يكونوا أهلا للحكم، ورفع إليه مزارعا بسيطا هو «شون» الذي اقتفى أثره، فاختار خليفة له مزارعا هو «بو».
باو، شون، بو، هم الأركان الثلاثة التي قامت عليها الفلسفة الصينية، وضعوا أسسها وقالوا للحكام: الرعية أبناؤكم، وقالوا للرعية: الملك أبوكم.
ومنذ دفع هؤلاء الصين في طريقها إلى الأمام أخذت تتقدم في معارج الارتقاء، يساعدها على ذلك غناها الطبيعي، واتساع ملكها، ومناعة حماها؛ بما حبتها الطبيعة من حدود ترد طرف الغزاة وهو حسير، كجبالها الشماء التي تعد أعلى جبال الكرة الأرضية، ومنافذها الشاسعة التي يعز اجتيازها على بني الإنسان.
وانصرف الشعب الصيني إلى إنماء تجارته وصناعته، وكان له من نجاحه المطرد وثروته الآخذة في الازدياد حافز للاهتمام بالفنون الرفيعة، ولا سيما الموسيقى، حتى إن الإمبراطور شون جعل لها في حكومته وزارة خاصة، وكان هم الصينيين متجها إلى توفير أسباب الراحة وحياة الخفض والدعة والسكون، فاكتشفوا بسهولة ما قضى الغرب زمانا طويلا قبل الوصول إليه. وقبل المسيح بخمسة عشر قرنا كانوا يعرفون الورق والكتابة ويستعملون البيكار، وكانوا يكرهون الحروب، وقد عودتهم أسوار الصين الهائلة أن يناموا في جناح آمن، فكانوا يحتقرون الأشياء العسكرية، ولا يريدون سوى التمتع بنعم السلم؛ ولهذا لم يحفظ التاريخ ذكرا لرجال الحرب منهم.
وكتب الآداب عندهم تلقن مبادئ العدل، وتنص على خلود النفس والثواب والعقاب في عالم آخر، وتأمر كالكتب الهندية بالرحمة والشفقة على الحيوان، واحترام العصافير الصغيرة في أعشاشها، والأشجار التي تعطي الظل، وتعلم أن الإنسان السعيد هو الذي يرى الخير، ويصنع الخير، وما أجمل هذا التعريف للسعادة!
والقضاء قديم في الصين، وهو عادل وصارم معا. وعقاب الصين قائم على العصا يخضع لها العظيم والحقير دون أن يجدوا من ورائها عارا أو تحقيرا. فترى القاضي نفسه إذا استحقها يخلع ثيابه ويحني ظهره ويتلقى الضربات ثم يقوم فيرتدي لباسه، ويعود إلى منصة القضاء دون خجل ولا استحياء، وأما الجرم السياسي فيعاقب بالتعذيب الشديد، والموت بلا شفقة.
وللشعب الصيني شعر وأدب، ولكنه شعر جامد وأدب لا يتغير؛ لأن طاعته العمياء وخضوعه للتقاليد قد وضعا الفكر والخيال في دائرة ضيقة لا يتعديانها، على أنه من العجب العجاب أن يكون لهذا الشعب فلسفة وعلم وأدب، في زمن كان العالم فيه غارقا في ظلمات الجهالة، وأن يتولى العقل زمام الأحكام فيه بينما كانت سائر الشعوب خاضعة للقوة، وربما كان من أهم أسباب ذلك الجمود الكتابة الصينية التي يحمل كل حرف منها صورة مرسومة، فلا يسهل حفظها؛ ولهذا لا يزال الصينيون يتكلمون اليوم كما كانوا يتكلمون منذ طفولة العالم بلغة كلها ألغاز ورموز يقضي الذكي منهم ثلثي عمره في تفهمها، والثلث الباقي في التبحر بها.
وفضلا عن ذلك فالصيني محكوم عليه بشرائعه أن لا يفارق موطنه؛ فحيث ولد يعيش، وحيث عاش يموت. وكما حرم عليه الخروج من أرضه فقد حرم على الغريب الدخول إليها. فإذا بهذه المملكة الكبيرة كالسجن المحكم الأقفال، لا تتسرب إليه أصوات الخارج، ولا يؤثر فيه ما يعصف حوله من الزعازع.
وفي منتصف القرن السادس قبل التاريخ المسيحي كانت الصين - بلا ريب - أعظم بلاد الله حضارة وأرقاها مدنية، مملكة واسعة الأطراف كاملة التنظيم، مقسومة إلى ولايات يديرها حكام باسم الإمبراطور، وفيها نظام للشرطة وللسلطات جميعا، وصناعاتها كثيرة كالحرير والخزف والصباغ والطباعة والحفر، وزراعتها زاهرة، وبساتينها خضراء، وحدائقها كثيرة غناء، ولا يخلو فيها بيت من روضة يقضي الصيني فيها معظم وقته مستسلما إلى الراحة، وأحلام النفس المطمئنة، في تلك الحقبة من الزمن بينما كانت ضفاف الكانج وغابات الهند الأزلية تردد صدى تعاليم بوذا كانت الصين تتلقى الحكمة من فم مرشدها وفيلسوفها الأكبر كونفوشيوس.
2
ناپیژندل شوی مخ
لا ريب أن القرن السادس قبل المسيح كان عصرا خصبا من عصور الفلسفة البشرية؛ ففي الصين كونفوشيوس، وفي الهند بوذا، وفي اليونان كان طاليس لا يزال حيا، وفيثاغور في أوج شهرته، وسولون في إبان شبابه، وسقراط على عتبة الدنيا يتمخض به الغد القريب، وقد مر بنا أن الصين كانت لذلك العهد في الذروة من حضارتها، وكان كونفوشيوس قد بلغ الخامسة والخمسين من عمره، بعد أن أكب منذ الصغر على درس كتب الأجداد، واستخلص منها تلك المبادئ العملية النافعة للحياة، وطبق عليها عاداته، فأصبح السيد المطاع، يشغل أسمى مناصب الدولة، ويتولى إدارة الأشغال العامة والقضاء، فكان في آن واحد المؤرخ والمشترع والوزير الأول.
وقد سبق القول: إن الصين كانت منقسمة إلى دويلات، فكان من نجاح دولة «لو» وازدهارها ما حرك الحسد في قلوب الجيران؛ فحاول ملك «تسي» إفساد ملكها بالهدايا، فأرسل إليه ثمانين فتاة من أجمل حظاياه، وجوقا من المغنين، وجيشا من الطهاة البارعين، ومائة وعشرين جوادا أصيلا، فاستسلم هذا الأخير إلى اللهو والملذات غير عابئ بنصائح وزيره، ضاربا بتعاليمه عرض الحائط، فلم يبق لكونفوشيوس سوى الاعتزال، فانسحب من مملكته مودعا آماله فيها وابتعد عنها وهو يتألم.
وبما أنه لم يكن يفكر بغير سعادة الشعب، فقد كان الفقر أسرع شيء إليه. ورأى الناس حينئذ، ويا له من مشهد محزن، هذا الرجل الحكيم شريدا طريدا، لا مأوى له ولا قوت ولا راحة، معرضا لإهانة الكبراء، واحتقار الشعب الذي قلما يحفظ الجميل، ورفع يوما أحد الأمراء سيفه عليه فلم يطأطئ رأسه بل قال: إذا كانت السماء ترعاني فما يهمني بغض الرجل القوي، فكأنه قضي على كل من يتطوع لخدمة هذه الإنسانية أن يتجرع كأس الآلام حتى الثمالة، كأنما هو يكفر بهذا العذاب عما أوتيه من المواهب السامية لأداء رسالته الإلهية على الأرض.
ومات كونفوشيوس في الثانية والسبعين، فكانت حياته ثلاثة أدوار؛ الدور الأول: درس واستعداد، والثاني: حكم وإرشاد، والثالث: عزلة واستشهاد، على أن الموت كان أعظم منصف له. وكما يقع للرجال العظام الذين تنكر أقدارهم وهم في الحياة فقد عاد نجمه إلى الإشراق بعد أفوله ، فأقيمت له الهياكل، وشيدت باسمه المدارس، فكان الأمير أو الحاكم إذا مر من أمام عتبتها يترجل احتراما، وصار الانتماء إليه أكبر شرف يحمله الحكماء والقضاة، وأرباب القلم والصولجان، وأصبحت أعظم مكافأة يحلم بها المتفوقون هي أن يلقبوا بتلاميذ كونفوشيوس، وعادت الكرامة لذويه، وأصبح الشرف إرثا في ذريته، وكتب الإمبراطور «بون» براءة يقول فيها: «إني أحترم كونفوشيوس، فالملوك هم سادة الشعب، وهو سيد الملوك.»
والحق أنه إذا كانت قيمة الإنسان وقوة تعاليمه على قدر ما يترك من التأثير في الناس، فقد جاز لنا أن نقول مع الصينيين: إن كونفوشيوس أعظم مهذب للجنس البشري أنتجته العصور. أما تعاليمه ففي الغاية من البساطة، وهي عملية مبنية على طبيعة الإنسان، تتناول كل حالات الحياة والصلات الاجتماعية، وتتلخص باستقامة القلب وحب الإنسان قريبه كنفسه. ليس فيها تحليق في الفكر ولا شيء من البطولة ولكن كثير من الحكمة؛ فهي أدب أكثر مما هي فلسفة، أدب يدرب العواطف، جاعلا من البر بالوالدين أساس الطاعة التي تمتد سلطتها إلى أبعد من العائلة، إلى الإمبراطور والحكومة والأمة.
والغاية القصوى التي تهدف إليها تعاليمه هي الكمال، الكمال الفردي أولا، وكمال المجتمع بعد ذلك؛ فيبدأ الإنسان بإصلاح ذاته وتحسين نفسه ثم ينتهي إلى إصلاح الآخرين وتحسينهم. ولا يستطيع الإنسان إصلاح غيره قبل إصلاح نفسه، وكلما تقدم المرء في الوجاهة وعلو الكلمة في قومه كانت واجباته أوسع وأعظم في السعي نحو هذا الكمال. وقد علمه درس التاريخ والقلب البشري أن السلطة تفسد على الإنسان نفسه، فينتفخ كبرا، ويزيد صلفا وعنادا، فكان لا يفتأ يذكر الحكام بواجباتهم، ملقيا عليهم كل تبعة، خيرا كانت أم شرا، غنى أم فقرا.
هذه الصبغة المادية لتعاليمه هي التي جعلتها طويلة العمر؛ لأنها بسيطة خالية من التعقيد، قريبة التناول من الأذهان. لقد فهم كونفوشيوس روح معاصريه حق الفهم؛ فكان ماديا في شعب لا يعرف غير فوائد المادة، شيوعيا بين قوم قوتهم قائمة على الاشتراك، مستبدا في مملكة تتمتع بأحسن نظام للشرطة. وسأجتزئ هنا بإيراد بعض الأمثلة من حكمه ؛ فهي تعطينا صورة جلية عن جمال تعاليمه، قال: ثلاثة على الحكيم احترامها: شرائع الطبيعة، وعظماء الرجال، وأهل الصلاح، وقال: أوصي الشعب باحترام الشرائع قبل درس العلوم، وقال: خمس قواعد لحكم العالم: العدالة التي تربط الحاكم بالمحكوم، والحب الذي يربط الآباء بالبنين، والعلاقة بين الزوجين، وخضوع الصغير للكبير، والصدق في الصداقة. كونوا أيها الحكام مثال الاستقامة والعدل؛ فلا يتجرأ أحد على العصيان أو التذمر. أيها الحاكم، إن أردت أن تدير ملكك فجرب ذلك أولا في داخل بيتك؛ فالعائلة هي المملكة الصغيرة.
وقال أيضا: الفقير الذي لا يتزلف إلى الناس، والغني الذي لا يصعر خديه خيلاء يستحقان الثناء، ولكني أفضل عليهما الفقير الذي يرى نفسه سعيدا في فقره، والغني الذي يعرف أن عليه واجبات نحو غيره. الشجاعة النادرة أن لا يخجل الإنسان من لباسه الزري، وأطماره البالية أمام صديق يلبس الخز والديباج. التقوى الحقيقية أن تحب الناس جميعا، والحكمة أن تفهمهم. تعلم أن تعيش مكرما لتموت مكرما. يمكن التغلب على قائد يحميه جيش كامل، ولا يمكن سلخ الحرية عن أضعف الناس، وقال أيضا: أربعة شروط للرجل الكامل وأراني مقصرا فيها:
أولا:
لا أستطيع أن أطيع أبي كما يطيعني أولادي.
ناپیژندل شوی مخ
ثانيا:
لا أخدم سيدي كما أريد أن يخدمني عبدي.
ثالثا:
لا أحترم من هو أكبر مني سنا كما أريد أن يحترمني من هو أصغر مني.
رابعا:
لا أؤدي لصاحبي الواجب الذي أريد أن يؤديه لي. - إذا عرض لنظرك شيء غير شريف فلا تره، أو لأذنيك فلا تسمعه، أو لفمك فلا تنطق به. - من لي بإنسان يكون الرقيب لنفسه والشاهد عليها، والخصم والحكم معا، فيعترف بخطئه، ويجلس إلى محكمة ضميره، ويرسم لنفسه عقابها. - ليكن سلوكك كما لو كانت عشر من الأعين تحدق فيك، وعشر من الأيدي تشير إليك.
وأخيرا، هذه الحكمة البالغة التي أوصى بها السيد المسيح: قابل الإساءة بالإحسان. لا تفعل بالناس ما لا تريد أن يفعله الناس بك، واعمل للآخرين ما تريد أن يعمله الآخرون لك.
أبيقور
دين اللذة
لم أجد رجلا أثار من الضجة حوله مثل الذي أثاره أبيقور؛ فأحبه فريق وأبغضه فريق، وانهال عليه قوم بالمديح وقوم بالذم، ورأى فيه بعضهم نعمة للبشر وبعضهم الآخر ويلا عليهم، فكان في آن واحد ملكا كريما وشيطانا رجيما.
ناپیژندل شوی مخ
ونحن اليوم إذا أردنا أن نصدق أولئك أو هؤلاء، ونحكم له أو عليه، فليس لنا سوى الرجوع إلى ما كتب أو ما كتب عنه؛ لنتبين الحقيقة من أقواله وأعماله، ويقول بعض مؤرخيه: إنه صنف نحوا من ثلاثمائة كتاب لم يصل إلى أيدينا منها سوى رسائل ثلاث، الواحدة في الأجرام السماوية، والثانية في الطبيعة، والثالثة في سيرة الحياة، مع وصيته الأخيرة ومقتطفات من خطرات أفكاره. ومن الذين كتبوا عنه: سنيك، وبلوتارك، ولكن أهم مؤرخيه: الشاعر لوكرس الذي أفاض في شرح فلسفته، فجاء كتابه من أجمل آثار الأدب اللاتيني، وسيبقى المرجع الوحيد لدراستها. •••
أراد أبيقور الوصول بالإنسان إلى السعادة على الأرض، فلم ير بدا من إزالة الأوهام العالقة به، وخط أدبا جديدا له في الحياة، فجاءت فلسفته مادية بحتة، رأى الشقاء المخيم على البشر وحياتهم الملأى بالأنين والشكوى فعزا ذلك إلى سببين، السبب الأول: الخوف من الآلهة؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن هذه الآلهة تراقبهم من سمائها، وتعد عليهم حركاتهم وخطواتهم، وتحاسبهم على نياتهم وهفواتهم، فشغلوا بها عن العمل لما فيه خيرهم، وتركوا كل شيء إلا التفكير الدائم بالكهان، وما يتنبئون به، وما يأمرون به، وقد يكون الضرر البليغ فيما يأمرون، كما جرى لأغاممنون؛ إذ صدقهم فضحى بابنته أفيجيني.
والسبب الثاني: الخوف من الموت؛ فهو الكأس الدائرة على الورى، وكل واحد يشعر بالموت يدنو منه يوما بعد يوم حتى صار شبحه ملازما للناس يتبعهم في رواحهم وغدوهم وقيامهم وقعودهم، فوجدوا أنفسهم على شفير الهاوية، واستحكم منهم الدوار، وما دام هذان الخوفان مسيطرين على النفوس فالتعاسة لا مناص منها. وهذا ما أراد أبيقور محاربته بتنوير الأذهان بدروس الطبيعة، فأظهر أولا أنه لا داعي للخوف من الآلهة؛ لأنها مشغولة عنا، لا يهمها معاقبة المجرمين أو مكافأة المحسنين، وليست في حاجة لأن نستجلب رضاها أو نثير غضبها، وأن الظواهر الجوية التي تهلع لها قلوبنا، كالصواعق والزلازل والكسوف والخسوف والإنذارات التي تدعي الكهنة أنها تتلقاها فتئولها كما تشاء، لا علاقة لها بالغيب، ويمكن تعليلها بأسباب طبيعية.
وقدم مثلا بسيطا على ذلك؛ وهو أن الصاعقة التي يزعمون أن جوبتر جبار الأولمب يرسلها قصاصا للمجرمين قلما تصيب أحدا من هؤلاء، بل هي لا تقع إلا في القفر، أو على الهياكل والتماثيل ومعابد الآلهة نفسها، أفليس هذا دليلا ناصعا على عدم اهتمام الآلهة بنا؟ وهنا يخوض أبيقور للتعليل عن وجود الكائنات في بحث فلسفي، لا مكان له في هذه الأسطر، راجعا في كل شيء إلى رأي ديمقريطس في الجواهر الفردة، مفسرا تكون العوالم بتصادم هذه الجواهر، تاركا بين هذه العوالم خلاء جعله مقرا للآلهة. ويشرح وجود الإنسان على الأرض بالتولد الذاتي، ثم يبين ارتقاءه من ظلمة الكهوف والعزلة والجهل إلى ذروته الحاضرة ليقول: إن هذه المدنية صنع يديه، فلا شأن للآلهة بها.
نعم، على الإنسان أن يؤمن بالآلهة ويحترمها، ويقتدي بها في حياتها الهادئة السلمية، ولكن من العبث والتضليل أن يصلي ويضحي لها، ويغريها بالهدايا، ويشغل أفكاره بها أبدا كأنها قاعدة له كل مرصد. أما الموت فلا داعي للخوف منه؛ لأن الجسم ينحل به روحا وبدنا، فتذهب التذكارات والهموم والتأسفات، ولا يبقى شيء يهدد به. ولا صحة لما يزعمون من أن الروح موجودة قبل الجسد وباقية بعده؛ فإذا كانت موجودة قبل الجسد فمتى دخلته؟ أقبل الولادة أم قبل التكون في البطن؟ تصوروا إذن هذه الأرواح المزدحمة في الغيب تنتظر كلها ساعة الحب لتهجم على أجسادها وتدخلها، وإذا كانت باقية بعده فأين تذهب؟ إلى إنسان، وما رأينا أحدا يحفظ في حياته تذكار حياة سابقة، أم إلى حيوان، ولا يعقل أن يكون في الخروف روح أسد!
وإذا عرفنا أن الروح فانية مع الجسد بدا لنا الموت كأنه راحة لا عناء، ونسيان لا تذكار؛ فلا سبيل إلى الخوف منه أو القلق بسببه. وهكذا يزيل العلم بالطبيعة الخوف المسيطر على البشر من الآلهة ومن الموت، ومتى تم ذلك وتخلص الإنسان من ربقة هذا الاعتقاد فقد تم نضجه وصار أهلا للحكمة.
ما هي هذه الحكمة؟ هي اجتناب الألم والبحث عن السعادة. تلك هي في نظر أبيقور غاية الإنسان على الأرض، وهو يعتقد أن أكبر عامل في السعادة هو اللذة، لا يعني بذلك الاستسلام بلا حساب إلى الملذات كما يقول الشاعر:
لا تقف في وجه لذاتك مكتوف اليدين
أنت لا تأتي إلى دنياك هذي مرتين
بل اللذة المعتدلة بالحياة المطابقة لمطالب الطبيعة كما يعيش سائر الحيوان والنبات، ويمكن حصرها في قواعد أربع:
ناپیژندل شوی مخ
أولا:
خذ اللذة التي لا يعقبها أدنى تعب.
ثانيا:
اهرب من التعب الذي لا يعقبه أدنى لذة.
ثالثا:
اهرب من اللذة التي تحرمك لذة أخرى أعظم منها.
رابعا:
اقبل بالتعب الذي ينجيك من تعب أكبر، ويعطيك لذة أوفر.
وعليه فهو يميز أولا: بين الملذات الطبيعية والضرورية؛ كالشرب عند الظمأ، والأكل عند الجوع، وهذا ما يجب الأخذ به، وثانيا: الملذات الطبيعية غير الضرورية؛ كالتفنن في الأكل وإرضاء الشهوات، وهذا ما يجب الاعتدال فيه، وثالثا: الملذات التي هي غير طبيعية وغير ضرورية؛ كالسكر والإفراط في أكل اللحوم، وكل ما يدفع إليه الطمع والبخل من رغبات لا حد لها، فلا يخمد الإنسان واحدة منها حتى تستيقظ الثانية، وهكذا يزلق المرء من شهوة إلى شهوة، ومن وهم إلى وهم، ومن خيبة إلى خيبة، ومن اضطراب إلى اضطراب؛ فهذه الملذات غير الطبيعية ولا الضرورية يجب الإقلاع عنها.
تلك هي فلسفة أبيقور. لقد أساء الناس فهمها فرموا صاحبها بكل شائنة، وأنزلوا عليه اللعنات، وجعلوا منه منافقا وفاسقا ونهما، حتى ادعى تمقراط، أحد تلاميذه، أنه كان يتقيأ ما يأكله مرتين في النهار، وإلى يومنا هذا لا يزال اسمه رمزا لحب الذات وحب المتعة، فيقولون «هذا أبيقور» لكل مسترسل في شهواته لا يهتم إلا بذاته، مع أن أتباعه ومريديه يمجدونه كإله، ويمدحون كرم طباعه وبساطة عيشته، ويؤكدون أن غذاءه كان من الخبز المبلول بالماء، وكتابه الأخير إلى تلميذه «أيدومنة» دليل على تعففه وتقشفه؛ فقد مات في السبعين بعد عذاب أيام بداء المثانة، وكتب قبل موته يقول: «أكتب لك هذا في اليوم الأخير والسعيد من حياتي: أن آلامي لا تطاق، ولكن يعزيني فيها الذكريات التي أستمدها مما علمت وصنفت.»
ناپیژندل شوی مخ
لقد كان أبيقور أكبر معلم للبشر بدرسه أوفق الشروط للسعادة؛ فقد رأى أحسن من كل إنسان أن هذه السعادة لا علاقة لها بالمال والشهرة والمركز الاجتماعي. ولا ريب أن سقراط لم يجهل هذه الحقائق، وكذلك الرواقيون أتباع زينون، ولكن أبيقور خلع عليها حلة خضراء من سحر لسانه، وقوة بيانه؛ حتى أصبح المرجع فيها لكل من قال حكمة في العالم، ومن الغريب أنها لم تدرك كما يجب، ولم يكن عدد الذين استفادوا منها أكثر مما هو.
كلا لم يكن أدب أبيقور ليجعل من الناس قطيعا من الخنازير كما ادعى أعداؤه، ولو أن الإنسانية عملت بما علم لحققت المثل الأعلى، وكان لها مجتمع سلمي يبحث فيه كل فرد عن سعادته في الحياة البسيطة، والاعتدال والرضى بملذات الفكر واحترام الآخرين، فلم نصل إلى ما نحن عليه من فتنة مال، وخيبة آمال.
تيمور الأعرج
دين البطش
كان تيمور لنك من أعظم ملوك المغول شأنا، وأوسعهم سلطانا، وأشدهم طغيانا، يمت بنسب بعيد إلى جنكيز خان - على ما يقال - وبينهما مائة وسبعون عاما؛ فقد ظهر جنكيز في منتصف القرن الثاني عشر، وظهر تيمور في أوائل القرن الرابع عشر. وتخلل العهدين ظهور هولاكو الذي اشتهر بتخريب بغداد وقتل المستعصم واضعا السيف في دار السلام أربعين يوما، محرقا دورها، نابشا قبورها، بانيا بكتب العلماء مجبولة بالطين إصطبلات خيوله، وجاعلا منها جسورا على نهر دجلة للعبور عليها.
جاء في دائرة المعارف عن القرماني: كان تيمور رجلا ذا قامة شاهقة، كأنه من بقايا العمالقة، عظيم الجبهة والرأس، شديد القوة والبأس، أبيض اللون إلى احمرار، عظيم الأطراف، عريض الأكتاف، مستكمل البنية، مسترسل اللحية، أعرج اليمينين، وعيناه كشمعتين، جهير الصوت، لا يهاب الموت. وكان من أبهته وعظمته أن ملوك الأطراف وسلاطين الأكناف إذا قدموا عليه وتوجهوا بالهدايا إليه كانوا يجلسون على أعتاب العبودية والخدمة نحوا من ممد البصر من سرادقاته، وإذا أراد منهم واحدا أرسل أحد خدمه ينادي باسمه فينهض في الحال.
وقد اختلفت الأقوال في نشأته، وكثرت حولها الأساطير؛ فقيل: إنه لما ولد كانت كفاه مملوءتين دما، فقال بعضهم: يكون شرطيا، وقال بعضهم: ينشأ لصا، وقال بعضهم: قصابا سفاكا، وقيل مثل ذلك في جنكيز خان. والسبب في تسميته بالأعرج أنه سرق في بعض الليالي غنمة فشعر به الراعي فضربه بسهمين، أصاب بأحدهما فخذه وبالآخر كتفه؛ فأبطل كلتيهما فازداد كبرا على فقره، ولؤما على شره.
وكان جده حاكما على كرش فاغتصبت منه وعمر تيمور ثلاث سنوات، فقضى طفولته في الفاقة والحرمان. ولما بلغ أشده جمع من البادية والصحراء والغاب رجالا أقسموا له اليمين أن يساعدوه على استرجاع ملكه. وكان هو ورفاقه يسرقون ما وراء النهر، فشعر بهم السلطان حسين، صاحب هراة، وظفر بهم فضربهم، وأمر بصلب تيمور. وكان للسلطان ولد يقال له: غياث الدين، فشفع فيه واستوهبه من أبيه، فقال له أبوه: هذا مادة فساد، وإن بقي ليهلكن العباد، فقال غياث الدين: وما عسى أن يصدر من نصف آدمي وقد أصيب بالدواهي؟
فوهبه له، فقربه منه وزوجه شقيقته، ثم إنه غاضبها بعض الأيام فقتلها، فلم يبق له إلا الخروج والتمرد، إلى أن كان من أمره ما كان، حتى استصفى ممالك ما وراء النهر، واسترق العباد، وصافى المغول، وتزوج بنت ملكهم قمر الدين، ثم ظفر بغياث الدين فقتله، ووضع السيف في أهل سجستان، واستخلص ممالك العجم، ثم زحف إلى الهند فاقتحم دلهي، وأسر مائة ألف من السكان، وأحرق البيوت والهياكل ثم انتقل إلى الشام والعراق فاكتسحها، وبلغ بلاد أرمينيا وملك بني عثمان، وكانت له تلك الوقائع المشهورة.
واتخذ سمرقند قاعدة لملكه، وبنى فيها الجوامع وجملها بالحدائق الغناء، وأحاطها بالأسوار، ولقب نفسه الخان الأكبر مرددا قول أحد شعرائه: «يجب أن لا يكون على الأرض سوى سيد واحد، كما أنه لا يوجد في السماء غير إله واحد.»
ناپیژندل شوی مخ
وكان يحسن الفارسية والتركية والمغولية، وله إلمام بالأدب وغيرة على الدين الإسلامي؛ ولهذا كان يعفو في فتوحاته عن رجال القضاء والشرع والعلم، ويهتم ببناء الجوامع، على أن هذا لم يكن يمنعه من التخريب، مضيفا إلى فظائعه بذخا غريبا.
من هذه الفظائع أنه بعد ذبحه سكان أصفهان أمر كل جندي أن يأتيه بعدد من الرءوس المقطوعة، وكان الجنود قد تعبوا من التقتيل فصاروا يشترون الرءوس ويقدمونها له حتى بلغ عددها سبعة آلاف، وفي «الأبخاز» حمل الناس على الإسلام، ومن أبى عذبه، ومن هرب إلى الكهوف أضرم فيها النار وأحرقه، وفي هراة بنى من الجماجم أبراجا، فعدوا منها 70 ألف جمجمة، وفعل مثل ذلك في تكريت وحلب وبغداد، وعندما حاصر سيواس بعث أهلها نحوا من ألف ولد يحملون نسخا من القرآن وهم يضجون «الله! الله!» راجين بعملهم هذا اكتساب عطفه، فقال: ما هذا الثغاء الذي أسمعه؟ وأمر أن تؤخذ الكتب منهم، وأن تدوسهم الخيل، فهلكوا جميعا.
ولما دخل دمشق أظهر التشيع وأوقع على أهلها جريرة كونهم أعانوا بني أمية وهم سنة، وأحرق المدينة عقابا لهم، وفي بغداد أباح النهب ثمانية أيام، ثم قتل أهلها وبنى من رءوسهم 120 برجا، ثم خرب البلد إلا المستشفيات والمدارس والجوامع، وفي إحدى مدن آسيا الصغرى ربط رءوس الفرسان الأرمن بأرجلهم وألقاهم في الحفر ودفنهم أحياء، وتغلب على بايزيد فوضعه في قفص من حديد حتى مات.
وكان يتسلى بمجادلة علماء السنة في حلب وتخويفهم، وقد ألقى عليهم يوما هذا السؤال: من هم الشهداء حقيقة؟ من قتلوا من جنودي أم من أعدائي؟ فقال أحدهم: من قاتل في سبيل الله فهو الشهيد، وقال تيمور: أنا أعرج وضعيف، وقد فتحت إيران وطوران والهند، فأجابه المفتي: احمد الله ولا تقتل أحدا، فقال: والله ما قتلت أحدا بإرادتي، وما كنت أبدا البادئ بالعدوان، وأنتم علة مصائبكم. بهذه الأحاديث كان يتلهى مع العلماء بينما كان رجاله يقيمون من الجماجم أهراما.
أما بذخه الغريب فيمكننا أن نأخذ صورة عنه فيما صنعه في سمرقند ، بعد رجوعه إليها ليستريح من وعثاء السفر والحروب، وهو في الستين من العمر. فقد بنى قطرا من المرمر المزدان بألوان الخزف والفسيفساء، وجعل فيه مستسقيات ينبعث منها الماء عمدا في السماء، ونصب مائتي خيمة من الحرير المقصب والمخمل المذهب لسكناه، وأقام ملاعب للخيل وأمكنة لأجواق الموسيقى، ثم أولم وليمة فخمة حضرها بنوه والملكات والحكام والعظماء، وسفراء الدول كالصين وروسيا واليونان ومصر وإسبانيا.
وكانت الهنود ترقص على الحبال، وأرباب الفنون والصناعات الذين كان يستقدمهم من جميع البلاد التي غزاها يتبارون في إظهار مهارتهم؛ فالفراءون يلبسون جلود الدببة والنمرة والسباع، والفراشون يعملون من أمراس الكتان جمالا تتحرك، ومن الأقطان عصافير ومنائر، والسراجون يصنعون الهوادج على الجمال، وفي كل هودج فتاة تفتن الأنظار، وصانعو الحصر يرسمون بالخط الكوفي سطورا مؤلفة من القضبان.
وكانت الخمور تسكب في أكواب الذهب، واللحوم تشوى على الأشجار المقطوعة من الغاب، والموائد مبسوطة على مدى النظر وعليها كل ما راق وطاب. في ذلك اليوم زوج ستة من أحفاده، فكانوا يبدلون ثيابهم تسع مرات، وكلما بدلوها تركوا ما عليها من الحلي والجواهر لأتباعهم. وكان رجاله ينثرون على الضيوف بين الحين والحين قطعا من المرجان والياقوت والعقيق والفيروز والذهب والفضة، بينما الشعراء ينشدون قصائد المديح بالعيد.
ولم يكن تيمور ينتهي من بذخه إلا ليعود إلى غزوه وتفظيعه، فلما انقضى هذا المهرجان العظيم التفت إلى من حوله وقال: إن انتصاراتي لم تتم دون إراقة دماء؛ ولهذا عزمت على التكفير عن ذلك بمحاربة عباد الأصنام في الصين؛ فليكن الجيش الذي ساعدني على ارتكاب القتل عوني في التكفير عنه؛ ليقيم الجوامع على أنقاض الهياكل. وخرج من سمرقند في مائتي ألف مقاتل، ولكن البرد والجليد أفنيا الكثير من جنوده، وأصابته الحمى في أترار فقضى نحبه.
هذا هو تيمور الأعرج الذي يعد أكبر الفاتحين منذ الإسكندر إلى اليوم، والفرق بينه وبين جنكيز خان أنه كان ذا علم ومعرفة، وله اطلاع على آداب العرب والفرس، بينما كان جنكيز أميا لا يقرأ ولا يكتب ولا يحسب، ولكن الاثنين أمعنا في التخريب. نعم، إن تيمور كان مسلما فأبقى على الجوامع وشاد كثيرا منها، غير أن جنكيز المجوسي لم يكن يفرق بين الأديان؛ فأدخل في بلاطه الأكفاء بلا نظر إلى المذهب، ووضع لأمته شرائع قيمة. وعلى كل، فقد كان الطاغيتان أكبر نقمة نزلت على البلاد الشرقية، والمدنية الإسلامية.
روسكين
ناپیژندل شوی مخ
دين الجمال
كان والد روسكين تاجر خمور، ولكنه كان يتعشق الطبيعة، ويحب الأدب والتصوير، ويميل إلى الأسفار، وقد ترك لابنه ثروة واسعة، مع هذا الغرام الفطري بالطبيعة والجمال. على أن الجمال لم يكن يتجلى له بادئ ذي بدء إلا من خلال الضباب الضارب قبابه في كل ناحية من لندن. ولما خرج منها إلى الأرباض أخذ يتعرف إلى جمال الأشياء فيما كانت تقع عليه عيناه من المروج الخضراء وبساتين الكرز والتوت، ومناظر تلك الثمار السحرية المتعددة الألوان، وعناقيد اللآلئ المخبأة بين الأوراق، فكان الفتى روسكين يرى فيها فردوسه الأرضي، ويقضي عندها الساعات الطوال سابحا في بحر الخيال بين التأملات والأحلام.
وكانت أمه من المتزمتات لا تني في أداء مهمتها كزوج وكأم، حتى رضيت أن ترافقه إلى أوكسفورد الغريبة عنها؛ لتكون على مقربة منه تسهر عليه وتقصي عنه الألم ما أمكن، والأخطار ما استطاعت، وإن أدى ذلك إلى إضعاف بنيته، أو سد أبواب اللباقة والمهارة في وجهه. وكانت تعنى بتعليمه العهدين القديم والجديد، فترعرع في النعمة والترف، لا يعرف ما هو الهم، ولا يفهم معنى للحسد أو الطمع، ولا تقرع أذنيه كلمة لوم أو جدل، فكان السلام والطاعة والإيمان الإطار الذي يكتنف حياته؛ فنما الذوق فيه بعيدا عن المؤثرات الخارجية.
وكان أبوه يقوده في ساعات الفراغ إلى الأنقاض والمعابد والقصور التي يمر بها في أسفاره العديدة، فيملأ منه السمع والبصر بالأناشيد والأشعار والصور، فزار إسكتلندة في الخامسة من عمره، وباريس في السادسة، وشهد تتويج شارل العاشر، ووقف في ساحة واترلو، وعاد إلى إنكلترا وهو يكتب ذكريات ويخط رسوما، فيصف المدارس والكنائس، وموسيقى أوكسفورد وقبر شكسبير، ومعملا للدبابيس في برمنكهام، وينظم الشعر في العاشرة ، ويجمع الحجارة النادرة في الأودية، ويراقب الأنوار ويقيس الأبعاد. وكل ما كان يستشفه بفكره الثاقب كان يتعشقه بقلب خلي بكر ظمآن. وكان يهتم بالأشياء أكثر من اهتمامه بالأحياء، ولا سيما ما اتصل منها بالجمال، وفيها ما فيها من أسباب اللذة أو الألم، فتراه مثلا مشغولا بالصور المعلقة على جدران البيت الذي يزوره عن أهل البيت أنفسهم.
وأول ما تعرف إلى الجمال كان عندما رأى في الأفق غيوما صافية كالبلور، وقد صبغتها شمس المساء بلونها الوردي، فما كان الفردوس المفقود بأجمل منها في عينيه!
وأصبحت تأملاته في الطبيعة لا للتسلية، بل نوعا من دعوة قدسية نحو المثل الأعلى. فصار تاريخ حياته منذ ذلك الحين تاريخ اجتماعه إلى الطبيعة في سفراته المتعددة كل عام، والتي لم يكن يأتيها حبا بالاستجمام فحسب، بل كان يذهب إليها كما يذهب إلى الله الذي يفتح للشباب أبواب الفرح!
ولم يكن يستطيع وصفها وتعريفها، فكان يقول: «أي نوع من الشعور البشري هذا الإحساس الذي يحب فيه الحجر للحجر والغيم للغيم؟ إن القرد يحب القرد لأنه قرد، وتحب شجرة الجوز لثمرها، ولكن الحجر لا يحب لأنه حجر. أما أنا فقد كانت لي الحجارة خبزا.»
ولكي يرى هذه الحجارة عن كثب كان يصرف الأشهر الطوال في سويسرا وإيطاليا. وأحب أن يقيم في «شافونكين»، إلا أن تزاحم السياح منعه، ففكر في شراء قمة «برازون»، ولكن الفلاحين تعجبوا كيف تشرى مثل هذه الأرض الصخرية القاحلة؛ فظنوا أن هناك كنزا وما زالوا عليه حتى أبعدوه.
وما كاد يرفع عينيه عن كتبه حتى وقعتا على فتاة قلبه وعمره 17 سنة. وكانت إسبانية المولد، باريسية التربية، كاثوليكية المذهب، فلم يرق لأمه البروتستانتية هذا الحب، وما زالت به حتى حملته على نسيانها مستعينة بالأسفار بين فرنسا وروما وجبال الألب.
وكان حبه للطبيعة ككل حب؛ أي مزيجا من الفرح والكآبة، واللذة والألم، فإذا مر يوما بمكان تبدل العهد به فرآه على غير ما عرفه من قبل؛ لوجود ميناء جديدة مثلا، أو سكة حديد، أو أبنية لتنشيط السياحة ، شعر بجرح في فؤاده كأنما هي حبيبته قد أهينت، وصاح بمواطنيه: «إنكم احتقرتم الطبيعة وكل ما تثير فينا مناظرها من نبيل الشعور. إن الثوار في فرنسا جعلوا الكنائس حرائس للخيل، وأنتم حولتم إلى ميادين سباق كل معابد الأرض؛ أي الجبال التي يمكن فيها عبادة الله بأحسن ما يعبد، وأقصى أمانيكم أن تمروا في السكة الحديدية من أمام هذه المعابد، وتأكلوا على مذابحها.»
ناپیژندل شوی مخ
هذا الإغراق في حب الطبيعة كان يلهيه عن كل ما حوله، وكثيرا ما بقي أياما يجهل الجديد من الأحداث في بلاده، وهكذا سقطت الخرطوم وقتل غوردون باشا، ولم يعرف بهذا ولا ذاك.
وتزوج سنة 1848، ثم طلق زوجته بعد ست سنوات، ولم تخب نار الحماسة فيه يوما، ولا تحول نظره في الآفاق المشعة التي علق بها فؤاده. •••
هذا الرجل السابح في الخيال كان في الوقت عينه رجل عمل، وبذلك يختلف عن غيره من النقاد والشعراء الذين يكتفون بالوصف والغزل دون أن يفكروا بالإصلاح العملي، فكان كلما أرسل فكرة أو أخرج كتابا ينزل بنفسه إلى المعركة؛ ليرى ما صارت إليه فكرته، وليدافع عنها. وقد نادى بتربية الذوق وتنمية روح الفن في الجماعات فلم يسمع نداؤه؛ فقدم نفسه لإعطاء دروس ليلية في الرسم مدة أربع سنوات، وأنشأ بماله متحفا للفن على رابية تطل على المروج الخضراء، ثم عين أستاذا في أوكسفورد، فأراد أن يقرن العلم بالعمل؛ فأقام فيها متحفا ووهب المدرسة مالا، وتطوع طوال ثلاث عشرة سنة لعبادة الجمال، والتبشير به.
ولما أدخلوا في التدريس علم التشريح استقال؛ لأن التشريح في نظره بشاعة، فضلا عن قلة فائدته، بدليل أن كثيرا من العلماء كانوا في غنى عنه، وأن النحاتين اليونان كانوا يجهلون التشريح.
ولكن ما الفائدة من المجامع العلمية وما يقدم فيها من أمثلة للجمال ما دام العالم مملوءا بالبشاعة، وما دام رجال القرى يتركون الأعمال التي تقوي عضلات الجسم، ويتزاحمون في المدن لخدمة الآلة، وقد أصبحوا مثلها في أيدي رؤسائهم؟ ما الفائدة من المتاحف ما دامت أجمل مناظر الطبيعة تتوارى خلف البنايات الحديثة والمصانع التي تخنق خضرة الدمن، وتسود بالدخان وجه السماء؟ إن دخان المعامل كالبرص يأكل المباني ويهين المدن ويفسد المناظر. البلد الغني بلد بشع، والآلة تحط من مقام الإنسان.
هو يريد أن تكون أراضي إنكلترا جميلة هادئة، لا أدوات بخار ولا سكك حديد ولا أناس لا إرادة لهم ولا تفكير. هو لا يطلب الحرية، بل المساواة في الخضوع للشرائع والقوانين، وإذا احتيج إلى التنقل من مكان إلى آخر فليكن ذلك براحة وأمان، دون التعرض لأخطار السرعة وغير ذلك. هو يطلب كثيرا من الأزهار وكثيرا من الشعر والموسيقى.
حلم من الأحلام ساوره أيام قامت ثورة الكومون في فرنسا، وأراد أن يحقق ما بشر به، فجاء باللآلئ للمتاحف، وبالخبز للأكواخ، ودفعه حبه للزراعة إلى منح بعض أراضيه للشيوعيين؛ ليجربوا آراءهم في استثمارها على شرط أن يحتفظوا بآرائه فيما يختص بجمال الأشياء، غير أن التجربة لم تنجح، ولم تسفر إلا عن خلق بعض المقاهي وأندية اللهو.
لقد أراد هذا المجدد الرجعي أن يعود بعصره القهقرى، بترك الآلة والبخار واعتماد اليد والمغزل، ونفس الإنسان الحي؛ فعم هذا العمل بين النساء، وأصبح من العادات السائدة أن يهدى للعروس نسيج روسكين، واستغني عن الآلة أينما أمكن أن يقوم العمل اليدوي مقامها؛ تمرينا وتقوية للعضلات. ولم يكن كبعض القسس الذين يعظون الفقراء ويتنعمون بمآكل الأغنياء، بل أجرى على نفسه ما سنه من الخضوع لشرائع الجمال، وقام بتجفيف الأراضي على ضفاف بحيرة كونيستون، غير آبه بالنفقات ليلهي الفلاحين عن المدينة، وبنى جسرا صغيرا على البحيرة بمعونة بعض تلامذته، وتعلم النجارة والدهان؛ فهو من هذا القبيل يشبه تولستوي الذي قال عنه: إنه من أعظم رجال العصر.
وأنشأ في البرية مكتبة جامعة كان يحمل إليها الكتب على ظهور البغال احتجاجا على المدينة وسكك الحديد. وكانت بعض العائلات تقوم بترتيب هذه الكتب وإرسالها لمن يريد مطالعتها خدمة له، وإعجابا به، فلا ناشر ولا وسيط، بل هي الأيدي نفسها التي كانت تنظم الكتب كانت تنسخها وتكتب المقالات عن مذهب المعلم وتحفر له الرسوم. وكان يقول: في وسعي أن أربح من كتبي ما شئت إذا رشوت النقاد في المجلات والجرائد، ودفعت نصف ما أربح للمكاتب ولمن يلصق الإعلانات، وسايرت أسقف بتربوروف.
وقد أفلح في مشروعه؛ فإن كتابا من كتبه «المصابيح السبعة للبناء» ربح 75 ألف فرنك، وكتابا آخر عنوانه «السمسم والزنابق» يباع منه كل عام 3 آلاف نسخة.
ناپیژندل شوی مخ
وكان المتحف الوطني لسنة 1845 فقيرا خاليا من التحف الثمينة، فرفع صوته مطالبا بالعناية به، فأغناه بألواح من أشهر الفنانين مما لا تجده حتى في اللوفر. ولما ظهر كتابه «حجارة فينيسيا» وكتابه الآخر «المصابيح السبعة» تغير البناء الإنكليزي واكتسب مسحة جديدة جميلة. وفي سنة 1854 شهر الحرب على «سراي البلور» منتقدا هذا البناء القائم على الحديد والزجاج وما يقتضي من النفقات، وطلب تأليف لجنة لحماية البناء الحجري؛ فكان له ما أراد. وأدرك الناس ما في جانب هذا الرجل من الحق، وأن مناظر الطبيعة منبع غنى، فأصبحوا إذا أرادوا مد سكة حديد في مكان ما يستعينون برأي أصحاب الفن، فلا يقدمون على تشويه جمال تلك البقعة. ولم تلق دعايته للألبسة القديمة والأعياد الرمزية آذانا صماء. والغريب أن الذي يمر اليوم بمدرسة البنات في «شلسا» أول أيار يرى المعبد والدار مزدانة بالأزهار مهداة من كل أنحاء إنكلترا. فتنتخب الطالبات ملكة أيار من بينهن فتمر تحت قبة من الأغصان المتعانقة، ووراءها ملكة العام الماضي، ثم تعتلي العرش بين صفين، وتمر الطالبات من أمامها يتقبلن الهدايا من يديها، وكلها مؤلفات روسكين. •••
لم يفهم الناس روسكين فرموه بالتعصب والكبرياء والتناقض، وجعلوا إخلاصه استبدادا، وكرمه الحاتمي محبة ذات؛ ذلك لأنه كان صريحا إلى أبعد حدود الصراحة، لا يبالي برضاء الناس أو غضبهم. قال له أحدهم يوما: إني معجب بما تكتب، فأجابه: وما يهمني إعجابك، أتراك استفدت شيئا مما أكتب؟ وجاءه وفد من طلاب غلاسكو يرشحونه لرئاسة جمعيتهم فسألوه: هل هو مع دزرائيلي أو غلادستون؟ فأجابهم: وماذا يهمكم دزرائيلي أو غلادستون؟ أنتم طلاب علم، وما عليكم أن تهتموا بالسياسة أكثر من اهتمامكم بمطاردة الفئران، ولو أنكم قرأتم عشرة أسطر لي لأدركتم أنني لا أسأل عن غلادستون أو دزرائيلي، ولكني أكره التحزب السياسي كرهي للشيطان. وأنا، مع كارليل، لله وللملك.
ولم يسلم هو نفسه من نقداته اللاذعة، وكم رجع عن خطأ سابق! وكان صارما في انتقاده كتبه. وكان إنسانيا بكل ما في هذه الكلمة من معاني الإنسانية؛ فساعد الفقير والعامل، وبدد ثروته البالغة خمسة ملايين في جواهر للمتاحف وخبز للأكواخ.
وكان إلى ذلك خطيبا ساحرا. انظر إليه وهو يصعد إلى المنبر في أوكسفورد وقد ضاق النادي بالحاضرين وهجر التلامذة صفوفهم ليسمعوا، وامتلأت النوافذ والشرفات، وتعذر إقفال الأبواب لازدحام الناس، والنساء كالرجال عددا، وبينهن أمريكانيات عبرن الأطلسي لسماع ذاك الذي يسميه كارليل «روسكين الأثيري». وما كاد يطل عليهم حتى علا الهتاف من كل جانب، ووقف الناس على رءوس أرجلهم ليروا تلك القامة المديدة، والشعر الطويل، والعينين المتغيرتين كالأمواج، والفم المتحرك كالقوس عندما ينطلق عنه السهم، والسحنة الجامعة في ملامحها بين الحماسة والهزء والتأمل، حتى إذا أنصت القوم حياهم بابتسامة، وأخرج بين يديه أشياء مختلفة من حجارة ومعادن وصور ونقود وما شاكل، يستشهد بها في عرض حديثه، ثم يبدأ بالكلام بهدوء كأنه قس يتلو صفحة من التوراة، ويرتفع صوته شيئا فشيئا فيترك أوراقه جانبا، ويجيل بصره في الجمهور وقد ملك عليهم مشاعرهم.
وكان محاميا فصار نبيا. أغريزة أم علم أم دهاء أم عبقرية؟ لا يعرفون، ولكنهم يصغون إليه وقد طرحوا الورق والقلم، وأعرضوا عن تدوين ما يسمعون، ومشوا وراءه في الطريق الملتوية التي يقودهم فيها، وفي كل منعطف واد جديد وأفق جديد. وما هي إلا لحظات وإذا بهم يرتفعون معه ارتفاعا مستمرا حتى يصلوا إلى القمة التي تشرف على العالم.
هذا الساحر العظيم كانت له أسطورته كالأبطال. يقال: إنه دخل يوما مخزن مجوهرات فعرفه البائع، فأقبل عليه يعرض كل ما عنده من الحجارة الكريمة، طالبا إليه أن يكشف عن أسرارها، وتألبت من حوله فتيات المحل والسيدات الشاريات، فوقف بينهن وتكلم، تكلم بعلم الزعنفة الذي يسلب الأمواج درها، وسحر الجنية التي تحرس الدر: هذا الياقوت الأحمر وردة فارسية، لون الفرح والحب والحياة على الأرض، الزهرة التي استخدم برعمها لإناء العطر الذي سكبت منه المجدلية على قدمي المخلص، وهذا اللازورد مثل الفرح والحب في السماء، لا تفرق عن الياقوت إلا بلونها الأزرق، وهذه اللؤلؤة خضوع الضياء، رمز الصبر، لون الحمامة التي تبشر بتراجع المياه، والمرغريت زهرة اللؤلؤ، والأقحوان رمز التواضع، ولكنها غالية الثمن؛ لأن التواضع يفتح أبواب الفردوس المطعمة جدرانه بالزبرجد.
وقص عليهن ولادة هذه الأحجار في أعماق الأرض والبحار، ثم التفت إليهن يقول ما معناه: «هل من المعقول أن نحب هذه الحجارة ونكرمها؟ نعم، على شرط أن تكون هي التي نحب لا ذواتنا. إن عبادة الحجر الأسود الهابط من السماء لا تبعد كثيرا عن الحكمة التي هي عبادة السماء نفسها. وليس من الجنون أن نفكر في أن الحجارة ترى، بل الجنون إذا فكرنا أن العيون لا ترى. ليس من الجنون أن نفكر أن اليوم الذي تجمع فيه الجواهر تكون حجر الزاوية لجدران الهيكل، ولكن من الجنون أن نظن أن يوم انهيار الهيكل تذهب الأرواح هباء ولا تبقى روحانية ما فوق الأنقاض.» «نعم، أيتها السيدات الجميلات، أحببن الجواهر واعتنين بها، ولكن أحببن نفوسكن أكثر، واعتنين بها ليوم يجمع السيد جواهره.»
وكانت السيدات يصغين بخشوع ووهن إلى هذه الأقوال التي لم يسمعنها من أفواه من يرقص معهن في ساعات اللهو والسرور.
هكذا تريد الأسطورة أن يلقي المعلم تعاليمه لا في المدارس والمعاهد فقط، بل على الطرق أيضا.
إن فضل روسكين أنه أيقظ الأفكار، ولفت نحو الجماعات أنظار الأدباء والفنانين، وساعد بتعاليمه في أوكسفورد على نشر الفلسفة والفن؛ لأنه لا يكفي أن يكون في الناس فنانون، بل يجب أن يوجد من يتذوقهم ويقرأهم ويشجعهم. وكان بعد كارليل أول من نادى بالإخاء ومساعدة العمال بوضع حد أدنى للأجرة، والضمان ضد البطالة. وهو مع ذلك عدو الاشتراكية، ويعتبر المساواة وهما؛ لأن دونها أهوال المطامع التي لا تحد، والكبرياء التي لا ترد.
ناپیژندل شوی مخ
غير أن أتباعه ومريديه توسعوا في تفسير أفكاره، حتى إن بعض النساء نشرن جريدة فوضوية بعنوان «المشعل»، ولكن هذا المشعل ما عتم أن انطفأ في الضباب اللندني؛ لأن الفكرة الواقعية غالبة في الإنكليز. وهذا وليم موريس الشاعر المزوق مات مؤخرا عن نصف مليون من الجنيهات تركها لورثته الأقربين دون أن يستفيد منها أحد من العامة.
لقد نظر روسكين إلى الطبيعة بعاطفة محب للفن مؤمن به، فلم ير منها سوى مظاهرها الغرارة. وإن الإنسان، عندما يفكر بهذه المأساة الأزلية الغامضة الأسرار التي تمر بنا على مسرح الحياة، وهذه الحرب الدائمة التي لا هوادة فيها ونتيجتها أبدا انتصار القوي وانهزام الضعف، وهذه المذبحة التي تولد وتموت فيها مواكب الناس بعد تهاويل الحياة وشقاء التقلبات، لأميل إلى تشاؤم دارون الطبيعي منه إلى تفاؤل روسكين السماوي. إن دارون وروسكين على طرفي نقيض في فهم الإنسان والطبيعة؛ ولهذا كان روسكين يكره دارون.
إن عبادة الجمال طريق لعبادة الله، وهذه النظرة إلى الجمال كانت تلائم - كما يقول تين - إنكليز ذلك العهد المحافظين المتزمتين، فكان روسكين يشعر بالحنين إلى العصور الماضية، عصور الحرارة والإيمان، ويثني على معابد الطراز القوطي في فرنسا وإنكلترا؛ لأنها تمثل تلك العصور، وكان يعجب بالقدامى من أهل الفن؛ لطهارة الشعور فيهم. وفي رأيه أن التقهقر في الفن بدأ من عهد رفائيل؛ فقد كان الفن من قبل وسيلة لإظهار الدين، فصار الدين وسيلة لإظهار الفن. وبلغ به التعصب في هذا الباب أنه لو استطاع لأحرق جميع النساء العاريات لروبنسن وجوردانس؛ ولهذا سماه بعضهم «توركمادا جمال».
ويطول بي الشرح لو أردت تعداد كل ما فكر به روسكين أو قاله أو عمله. ومن عادة الناس أن يستهزئوا بالخارجين على التقاليد والعادات، وينعتوهم بالمتهوسين، غير أن ذلك لا يمنعهم غالبا من أن يتبعوهم مأخوذين بحرارة القلب والإيمان والكلام، وعلى هذا الوجه قاد روسكين الرأي العام. وفي هذيانه الشعري المبعثر في ثمانين مجلدا كان يشعر بأخطار الحالة الاجتماعية، ويرى ما في حرب الطبقات والديمقراطية من الأسباب المؤذنة بانهيار المدنية. وجاءت ثورة الكومون في باريس وحرق باريس بعد الحصار «وقد ساهم بسخاء في إنعاشها» فثبتت روسكين في مخاوفه، على أن تفاؤله السماوي لم يفارقه يوما؛ ولهذا ظل رسول ألفة وسلام بين الطبقات. •••
هكذا كان حب الطبيعة الألف والياء في حياة روسكين، فظهرت آثاره في قسمات وجهه، وتجعدات جبينه، وأملى عليه كل حرف من كلماته، ووجه كل خطوة من خطواته، وأجرى كل معين من أفكاره. وكان له النور الذي يضيء، والنار التي تعطي الحرارة وتطهر؛ فأقصاه عن صغائر البغضاء وعن عذاب الحب، وأطلقه في ميادين الأبحاث العلمية؛ لأن العلم وحده يساعد على الدخول على الطبيعة في هيكل أسرارها.
ولا عجب إذا اعتبره الناس رجل أسطورة وهو الذي حارب وحده عالما بأسره، لا من أجل الحقيقة التي لها أنبياؤها، ولا من أجل العدالة التي لها رسلها، ولا من أجل الدين الذي له شهداؤه، بل من أجل ما هو فوق هذه الأشياء، وربما اجتمعت كلها فيه: الجمال.
نيتشه
دين القوة
لقد شبه بعضهم المذاهب الفلسفية بالأزياء العصرية، وهذا التشبيه على ما فيه من قلة الاحترام إذا قابلنا بين الهدف الأسمى الذي ترمي إليه الفلسفة، وهي الحقائق الخالدة، وما تمثل الأزياء من أباطيل العالم الزائلة، لا يخلو من الحقيقة؛ لأننا نرى الفلسفة تتبدل كالثياب والقبعات وربطات العنق؛ ذلك لأن الإنسان مطبوع على حب الجديد والرغبة في التنقل، فترى كل جيل يسعى إلى معارضة الجيل السابق، وكل فرد يحاول أن يتخذ مكانه تحت الشمس، فينكر أقوال من تقدمه، ويثور على أفكار السلف وعاداته وأذواقه، منزلا عن العروش آلهتها ليقيم بدلا منها هياكل أخرى.
بالأمس جاء شوبنهور فصور الحياة في أسوأ مظاهرها، وأشدها ظلاما، وأبعدها يأسا، وطلع علينا تولستوي يحمل غصن الزيتون، ويبشر بديانة الإنسانية المتألمة، وهي كلمات كانت لها روعتها عندما قيلت للمرة الأولى، صادرة عن ضمير حي واحترام صادق. أما اليوم فقد أصبحت تردد على كل لسان بحكم العادة دون إخلاص أو اقتناع. وبعد شوبنهور وتولستوي لفت أنظار الناس في العالم القديم والجديد تعاليم سترنر ونيتشه ، وهي تناقض كل المناقضة ما ألفوه. ولقد كان المعروف عن الفلسفة أنها محبة الحكمة، فجاء سترنر ونيتشه يجردان الحكمة من الآداب والأخلاق. وبينما الناس تردد مع الشاعر العربي:
ناپیژندل شوی مخ
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
نسمع صوتا جديدا يقول: «إن الآداب فكرة حمقاء، وإن الشعب المتعلق بأخلاقه قاصر العقل، قليل الإبداع، عاجز عن الرقي، وإن الشهوات وحب التمتع بالملاذ دون الرجوع إلى نداء الضمير أو الشعور بوخزاته هي التربة الصالحة التي تنمو فيها أنصع زهرات الفكر.» وقد جاءت هذه الفلسفة مطابقة لأميال الكثيرين، فصادفت مرعى خصبا في نفوسهم، وسرت حركة جديدة ضد الدين وضد الآداب وضد الاجتماع. ولكي نفهم حقيقة فلسفة نيتشه علينا أن نتكلم أولا عن سترنر، وسترنر يرجع بنا إلى فيلسوف ألماني آخر سبقه في هذه الطريق هو هجل. كان هجل يقول: لا يوجد دين بل أديان، لا يوجد مبادئ بل وقائع، لا يوجد آداب بل عادات.
فتلقى تلاميذه هذا الكلام كسيف ذي حدين وتمادوا في استعماله، هادمين التقاليد الكنسية والعقائد الدينية. وبعد أن كان الإنسان ظل الله على الأرض صار الله ظل الإنسان في السماء. حينئذ ظهر سترنر فحطم صنم الإنسانية وبدل منه عبادة الأنانية المطلقة في كتابه «الوحيد وملكه»، ثم جاء نيتشه فحصر هذه الأنانية في الإنسان الأسمى؛ أي السوبر مان.
وقد حاول سترنر، بمنطق لا يخلو من الأناقة في التعبير، أن يبرهن أن ما نسميه إنسانية غير موجود، وأنه ليس على المرء أن يخضع لما هو خارج عنه، سواء أكان إلهيا أم بشريا، وأنه لا حقوق إلا حقوق الفرد، وأن ما ألفناه واتخذناه كآيات منزلية، مثل الأدب والفضيلة وعظمة الشعب وما شاكل فكرة فرضت علينا وأشربتها نفوسنا، فصارت شغلنا الشاغل كالفكرة الراسخة في ذهن المجانين. وأي فرق بين مجنون يظن نفسه إمبراطورا أو إلها، ورجل من الناس يتصور أنه وجد على الأرض ليلبي دعوة ربه، فيكون مؤمنا أو وطنيا أو ذا فضيلة.
هذه الفكرة الراسخة التي تحمل الإنسان على احترام الحكومة أو المعبد أو المجتمع هي في نظر سترنر عفريت يمتص دم الحياة، ولا يكون الإنسان حرا إلا إذا أنكرها وطردها من رأسه، وأبى الخضوع لها، وحريته لا تكون حقيقية إلا إذا استخدمها من أجل ذاته، وجعل من «أنا» الألف والياء؛ أي بداية كل شيء ونهايته، حتى إذا ما قطع كل الصلات الاجتماعية أمكنه أن يقول كما قالت إحدى بطلات كورنيل، عندما سئلت بعد قتلها أولادها: ماذا يبقى لك؟ فأجابت: يبقى أنا، أنا وحسبي. «أنا» أي محبة الذات في أقصى حدودها، وأسمى ذرواتها، وكل عوامل الأدب والأخلاق التي شغلت البشرية، وضغطت عليها طوال العصور ليست إلا أوهاما، وباسم هذه الأوهام كان الحكام والزعماء والمربون يسيطرون على العقول، ويصرفون أمور الناس كما يفعل مروضو الدببة، فيرقصونها ويقفزونها على نغم المزمار؛ فإذا تحررت «أنا» فقد تخلصت من القفز والرقص.
إن سترنر لا ينكر الشعائر الإنسانية، ولكنه يجردها من صفة الواجب. اسمعه يقول: «أنا لا أعرف قانونا. أحب الإنسان لأن ذلك يروق لي، أما أن أضحي نفسي له فتلك فكرة لا تخطر في رأسي أبدا. أحبه لأني بالحب أستطيع الوصول إلى ما أريد، والعشق نفسه إذا قبلت بحكمه وتركت لسهام الألحاظ سبيلا إلى قلبي؛ فلأن ذلك ضرب من حب الذات. إني أشفق على كل ذي إحساس فأتألم لألمه وأفرح لسروره؛ فأنا قادر على قتله براحة ضمير، ولكن لا على تعذيبه. أنا لا أتعلق بشيء، وغاية ما أطلب أن أعيش لنفسي وأتمتع بما أريد كما أريد. كل ما يمكنني الاستيلاء عليه هو ملكي، وكل الوسائل حلال في هذه السبيل: الإقناع والرجاء، والإكرام والكذب، والخداع والرياء. القوة وحدها تخلق الحق. ماذا تهمني مصلحة الآخرين؟ فمصلحتي أريد، والحرية لا تكون إلا بمحبة الذات.»
اسمعه يقول أيضا: «إذا رأى الكلب كلبا آخر يتلهى بعظمة ولم يهجم عليه لينتزعها منه؛ فلأنه شاعر بعجزه عن ذلك. أما الإنسان فيحترم حق سواه بعظمة، وهذا ما يقال له: الإنسانية، وإذا اعتدى عليه نسبوه إلى التوحش وحب الذات. دعوني من حديث العدالة والخير العام . إن حب الذات وحده قائدي ودليلي، وهو يقول لي: استول على ما أنت في حاجة إليه.»
هكذا ينكر سترنر الواجبات الاجتماعية ولا يعترف إلا بالمصلحة الذاتية. واليوم ما أكثر الذين ينفرون من هذه التعاليم ويستفظعونها في الظاهر، وإذا خلوا إلى أنفسهم قالوا: إنا معك يا سترنر! وهل كان أكثر المحتكرين والمضاربين الذين يمتصون دماء الفقير إلا من هذه الطبقة؟ لقد أقام سترنر سلطان الأنانية على أنقاض كل سلطة إلهية أو بشرية. وما نيرون عند حرقه روما بتلذذ، وما لويس الرابع عشر عندما صاح: «المملكة أنا» إلا كالبعوض إزاء هذا المعلم في إحدى مدارس برلين، الذي ينادي من كوخه الحقير: الكون أنا.
لا حاجة بي إلى نقد مزاعم هذا الفيلسوف، فإذا كان أساسها حب الذات فلا أحد ينكر أن حب الذات أساس الاجتماع، وما خرج الإنسان من ظلمة الوحشية وارتقى في سلم العمران إلا على ضوء هذه العاطفة. فحب الذات شرعة طبيعية، بل هو الشرعة الأولى: وجودها واجب ونافع، على شرط أن لا تتجاوز حدود الاعتدال والحكمة فتفسد وينقلب نفعها إلى ضرر؛ لأنه - كما يقول برونيتيار - لا حق لأحد أن يدعي السلطة الكاملة على ما يعمله أو يفكر به؛ لأنه لا أحد يختص بنفسه دون المجتمع؛ فهو مدين له في الماضي، ومحتاج إليه في الحاضر. ينسى سترنر أن لحياة البشر شرائع طبيعية، وأن الممالك لم تقم على فكرة راسخة كما يدعي، بل على غريزة البقاء؛ فالإنسان حيوان اجتماعي لا يستطيع أن يعيش وحيدا، بل عليه أن يرضي محبة ذاته، ويرضي محبة ذات الآخرين.
ناپیژندل شوی مخ
ولو أراد الواحد منا أن يحقق ادعاءات سترنر لعارضته الوقائع، ووقفت الحقائق سدا في وجهه. ولو أراد سترنر نفسه الذي كان رجلا هادئا مسالما أن يجرب بالعمل ما يقول لمنعته شرطة برلين وأعادته إلى الحقيقة والواقع. فتعاليم سترنر ليست شيئا في نظر الفيلسوف، ولكن لها أهميتها في نظر المؤرخ؛ لأنه لم يكن بين الذين حاولوا هدم العرش والهيكل. ومن أتباع هجل من استطاع مثله أن يحتج أبلغ احتجاج على النظام القهري الخانق الذي كانت عليه بروسيا في منتصف القرن الماضي. وما ذكرت هنا آراءه إلا لأنها - كما قلت - تساعدنا على فهم نيتشه وتفسير مذهبه. •••
لم أجد كاتبا حطم بمعول فلسفته أصنام العقائد، وأنزل الآلهة عن عروشها لينتصب مكانها إلها في عقول الناس مثل نيتشه. ولا أدري أكان الجنون الذي انتهى إليه فأوقف حركة عقله قبل أن تقف حركة جسده نتيجة هذا الإجهاد والجهاد، مع ما عرف عنه من إفراطه في استعمال المخدرات، وغرامه الشديد بالموسيقى، أم هي ضربة لازب لما بين العبقرية والجنون من النسب المزعوم؟ على كل حال فإن غرابة أطواره، وميله إلى الوحدة، وغضبه الدائم على معاصريه من حملة الأقلام، وكبرياءه الفائقة أمور تحمل على الشك في أنه كان موفور الصحة خاليا من شائبة المرض.
وفضلا عن ذلك فهناك تناقض تام بين الرجل والمؤلف؛ فإن دعة أخلاقه، ولطف معشره، وتعلق تلاميذه به، وحب النساء له، على الرغم مما كان يكيل لهن من الشتائم في كتاباته، لا يتفق مع ثورة الفكر والقلم التي صفع بها جميع المبادئ القائم عليها نظام الاجتماع. لقد كان نيتشه أعدى عدو لهذا الاجتماع المملوء نفاقا، كما كان جاك روسو من قبله. وكما نادى روسو بالعودة إلى الطبيعة والسليقة نادى بها هو أيضا، مع هذا الفرق بين الاثنين: أن روسو كان من عامة الشعب في عالم أرستقراطي، ونيتشه أرستقراطي الروح إلى أبعد حد في عالم أخذت الديمقراطية التي تنبأ عنها روسو تتحقق فيه.
لقد استولى على عرش كبريائه، ومن ذروة هذا العرش أرسل حكمه على البشر، فقسم الناس إلى فئتين، وجعل بينهما هاوية سحيقة؛ فئة النبلاء، وهم القلة، ولا يعني بالنبلاء تلك الطبقة المعروفة بقدم العهد أو الألقاب أو غير ذلك من الامتيازات، بل أصحاب الإرادة والعمل والأطماع، الذين خلقوا للإمارة والحكم والإبداع، وفئة القطيع البشري الكثير العدد، أسير العبودية، عبودية التقاليد والحقد والحسد والبغضاء لكل سابق أو متفوق. كل ما هو سام وعظيم في العلم لا يصدر في اعتقاده إلا عن هذه الفئة القليلة من الأشراف. وبالعكس، إذا كان السلطان للعبيد فإن أعمالهم لا تأتي بغير السافل والدنيء، كما في الديمقراطيات حيث تغلب الكمية على الكيفية ويتحكم النعاج بالأسود.
فالمذهب الأرستقراطي، مذهب نيتشه، يزعم أن الرقي يقوم على تنازع الطبقات أكثر منه على تنازع البقاء؛ أي بفوز الرجال العظام قادة الشعوب الذين يسكبون في عروق الأمم دما جديدا، وإذن فتكون غاية الإنسانية إنتاج رجال عظام وتضحية الجماهير في سبيلهم. والمذهب الديمقراطي، وهو مذهب تولستوي، أيضا يقول: إن الذي يكتب التاريخ هم الجماعات، وأما تلك القلة التي تدعي الزعامة فضررها أكثر من نفعها؛ وعليه فغاية الإنسانية تضحية الفرد للجماعة لا الجماعة للفرد. ومعنى ذلك سلطة الشعب والتصويت العام فالاشتراكية. وبما أن الرقي عمل اجتماعي؛ فلا يجوز حصر فوائده في الأقلية، بل يجب أن يتمتع بها جميع الناس.
إن نيتشه لا يعترف بشرعة أدبية واحدة للبشر، بل عنده أدبان، أدب للجبابرة وأدب للأقزام، أدب للسادة وأدب للعبيد؛ فالرحمة والإحسان والأمر بالمعروف وحب القريب وسائر الفضائل التي تتغنى بها الجماعات شر في عرفه، ولا صلاح ولا فضيلة إلا في القوة والشدة والتحكم، تلك هي صفات الأشراف أو علية القوم التي لا تعرف من الواجبات إلا إطلاق العنان لغرائزها، فتكون حليتها حب الذات، والتجرد عن كل ما يسميه عامة الناس أدبا.
اسمعه يقول: «محبة الذات لا تختص إلا بمن كان شريف الروح؛ أي ذاك الذي عنده إيمان لا يتزعزع بأنه فوق الناس، وله يجب أن تخضع وتضحي سائر الناس، فهو خارج عن نطاق الخير والشر.»
فالرجل الأسمى أو السوبرمان هو الذي لا دين له ولا وطن ولا أسرة، ولا قيمة للشرائع الأدبية عنده إلا بقدر ما تسمح له أن يكون السيد المطاع.
هذه المبادئ الغريبة التي تمتاز بها تعاليم نيتشه تكاد تكون فطرية فيه، فقد شهد الحرب على العرش والهيكل وهو في الثالثة عشرة من عمره؛ فلم يجد في النصرانية إلا دين رق واستعباد؛ لأنها بتعظيمها الزهد والرحمة والوداعة ونكران الذات قد جزت أشرف غرائز الإنسان ، وبدلت منها فضائل كاذبة، وحولت العالم إلى مستشفى كبير ليس فيه سوى مرضى وممرضين، مع أن الواجب الأول على الإنسان أن يكون صحيح الجسم.
ولم يكن عداؤه للحكم الديمقراطي بأقل من عدائه للكنيسة؛ فهو يرى في الحكومات ويلا على المدنية، إلا إذا استلم مقاليدها رجل ظالم، وبسط دكتاتوريته عليها.
ناپیژندل شوی مخ
ولا يكفي الانعتاق من نير الدين والحكم ليستحق الرجل الأسمى هذا اللقب، بل عليه التخلص من نير المرأة أيضا. إن دليلة المحتالة تقلق بال نيتشه؛ ولهذا فهو يحتقر الزواج ويفضل أن تعامل المرأة على الطريقة الشرقية - كذا يقول - فلا يطلب من هذا الجنس الخائن الذي يخفي براثنه تحت قفاز مخملي سوى اللذة والنسل الجميل. وأبغض النساء إليه المترجلات اللائي يطمعن بالتصدر في المجالس، ويدعين البطولة كمدام تيل، ومدام رولاند، وجورج ساند.
وهو لا يحترم من المفكرين والكتاب إلا من عرف أن يصور حياة عصره، مثل ميكافيلي وستاندال ودستوبوفسكي. أما الفلاسفة وعلماء النظريات فلا مقام لهم عنده؛ فينسب الخمول لدارون والرياء إلى «كانت» والتسميم إلى «سبينوزا».
ويعجب بعصر الوحشية والقوة، ومن هذا الإعجاب يستقي كرهه للعصر الحاضر، عصر الكسل والرفاهة، وعصر التقهقر الأدبي والفسيولوجي الذي يسمح للضعفاء بالحياة والتوالد، مما يؤدي إلى إضعاف النسل.
أما ناموس القوة الذي بشر به فقد قدمه إلى الناس في كتاب جعله إنجيل أو توراة الجبابرة: هكذا تكلم زرادشت.
فهذا الكتاب الغريب الذي هو شبه توراة للجبابرة استعار فيه الإله زرادشت ليلقننا شرعة الأقوياء، ويقربنا من حقيقة الإنسان المتفوق على الإنسانية. ولا أحاول إلا جولة صغيرة في هذا الكتاب الضخم المتشعب المسالك، الغامض الأبحاث، الكثير الرموز؛ لتلخيص ما يرمي إليه من تحقيق هذه الفكرة الهائلة السامية، التي ترفع الأنانية إلى درجة التقديس، فيبز فيها سترنر ومن كتب قبل سترنر هذا في الموضوع هادما من أجلهم المبادئ الأدبية، محطما ألواح الوصايا التي تدير نظام الاجتماع، جاعلا الخير غير الخير، والشر غير الشر، مبيحا السرقة، مشجعا على القسوة، منكرا صحة كل شيء، معترفا بجواز كل شيء ما خلا الضعف ، مهما يكن في هذا الضعف من بوادر الصلاح أو الفساد.
على أنه إذا جردنا زرادشت من حلته الشرقية، وأخرجناه من جمال الإطار الذي يخلعه عليه البحر والجبل، وذاك الخيال الشعري البعيد المدى، لم نجد في هذه التعاليم ما يبدو للوهلة الأولى من جدتها وغرابتها، بل ظهرت لنا في حلة مستعارة، وسمعنا من خلالها صدى أصوات فلاسفة آخرين، من أفلاطون الذي كان يريد في جمهوريته طبقة من الأشراف أبطال الحروب، إلى ميكافيلي الذي يرى في الديانة الوثنية تمجيدا للعظمة والهيبة والقوة، إلى دي ميستر الذي ينادي بالدم وضرورة الحروب للإتيان بعظيم الأعمال. وقديما قال الشاعر العربي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
وهذه القسوة الفائقة التي يبشر بها نيتشه، وهذه الثورة على العادات والتقاليد والآداب الاجتماعية التي ينادي بها نجدها تحت أقلام الكثيرين من الكتاب والشعراء، كشلر، وبيرون، وبلزاك، وستاندال، ولكن أحق الناس بأن يكون مصدر وحيه هو شوبنهور. غير أن شوبنهور يتفوق عليه عند الاستنتاج؛ إذ يلجأ إلى الزهد ملقيا نفسه في أحضان النرفانا نظير بوذا، وما النرفانا سوى الغيبوبة عن هذا العالم في سبيل الخلاص الأبدي؟
إن ما يمتاز به كتاب نيتشه هو جمعه بين النقائض؛ ليجذب إليه الناس ويبعدهم عنه في آن واحد، يجذبهم إليه بما فيه من كراهة الكذب والنفاق، ومحاربة ضعفاء العزيمة والإرادة، والإلحاح في استعمال الشدة والقسوة نحو ذاتنا ونحو سوانا؛ فهو يتطلب جيلا قويا ونسلا جميلا، ولا يرى للحياة معنى إن لم يتفجر من صخرتها العمل العظيم والإبداع، فيخال لنا في حالة الوهن والاضطراب التي تتخبط فيها الإنسانية اليوم أن نيتشه يحمل في نفسه آلام الحاضر كما يحمل آمال المستقبل. وهذا ما حببه إلى الناشئة الطماحة، وجعله عظيما في عيونها. ويدفعنا عنه بما يحاول من فصل الإنسان عن الإنسان، وتقديسه الكبرياء والشر واحتقار الآخرين وحب الذات في أقصى حدوده.
ناپیژندل شوی مخ