وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
نسمع صوتا جديدا يقول: «إن الآداب فكرة حمقاء، وإن الشعب المتعلق بأخلاقه قاصر العقل، قليل الإبداع، عاجز عن الرقي، وإن الشهوات وحب التمتع بالملاذ دون الرجوع إلى نداء الضمير أو الشعور بوخزاته هي التربة الصالحة التي تنمو فيها أنصع زهرات الفكر.» وقد جاءت هذه الفلسفة مطابقة لأميال الكثيرين، فصادفت مرعى خصبا في نفوسهم، وسرت حركة جديدة ضد الدين وضد الآداب وضد الاجتماع. ولكي نفهم حقيقة فلسفة نيتشه علينا أن نتكلم أولا عن سترنر، وسترنر يرجع بنا إلى فيلسوف ألماني آخر سبقه في هذه الطريق هو هجل. كان هجل يقول: لا يوجد دين بل أديان، لا يوجد مبادئ بل وقائع، لا يوجد آداب بل عادات.
فتلقى تلاميذه هذا الكلام كسيف ذي حدين وتمادوا في استعماله، هادمين التقاليد الكنسية والعقائد الدينية. وبعد أن كان الإنسان ظل الله على الأرض صار الله ظل الإنسان في السماء. حينئذ ظهر سترنر فحطم صنم الإنسانية وبدل منه عبادة الأنانية المطلقة في كتابه «الوحيد وملكه»، ثم جاء نيتشه فحصر هذه الأنانية في الإنسان الأسمى؛ أي السوبر مان.
وقد حاول سترنر، بمنطق لا يخلو من الأناقة في التعبير، أن يبرهن أن ما نسميه إنسانية غير موجود، وأنه ليس على المرء أن يخضع لما هو خارج عنه، سواء أكان إلهيا أم بشريا، وأنه لا حقوق إلا حقوق الفرد، وأن ما ألفناه واتخذناه كآيات منزلية، مثل الأدب والفضيلة وعظمة الشعب وما شاكل فكرة فرضت علينا وأشربتها نفوسنا، فصارت شغلنا الشاغل كالفكرة الراسخة في ذهن المجانين. وأي فرق بين مجنون يظن نفسه إمبراطورا أو إلها، ورجل من الناس يتصور أنه وجد على الأرض ليلبي دعوة ربه، فيكون مؤمنا أو وطنيا أو ذا فضيلة.
هذه الفكرة الراسخة التي تحمل الإنسان على احترام الحكومة أو المعبد أو المجتمع هي في نظر سترنر عفريت يمتص دم الحياة، ولا يكون الإنسان حرا إلا إذا أنكرها وطردها من رأسه، وأبى الخضوع لها، وحريته لا تكون حقيقية إلا إذا استخدمها من أجل ذاته، وجعل من «أنا» الألف والياء؛ أي بداية كل شيء ونهايته، حتى إذا ما قطع كل الصلات الاجتماعية أمكنه أن يقول كما قالت إحدى بطلات كورنيل، عندما سئلت بعد قتلها أولادها: ماذا يبقى لك؟ فأجابت: يبقى أنا، أنا وحسبي. «أنا» أي محبة الذات في أقصى حدودها، وأسمى ذرواتها، وكل عوامل الأدب والأخلاق التي شغلت البشرية، وضغطت عليها طوال العصور ليست إلا أوهاما، وباسم هذه الأوهام كان الحكام والزعماء والمربون يسيطرون على العقول، ويصرفون أمور الناس كما يفعل مروضو الدببة، فيرقصونها ويقفزونها على نغم المزمار؛ فإذا تحررت «أنا» فقد تخلصت من القفز والرقص.
إن سترنر لا ينكر الشعائر الإنسانية، ولكنه يجردها من صفة الواجب. اسمعه يقول: «أنا لا أعرف قانونا. أحب الإنسان لأن ذلك يروق لي، أما أن أضحي نفسي له فتلك فكرة لا تخطر في رأسي أبدا. أحبه لأني بالحب أستطيع الوصول إلى ما أريد، والعشق نفسه إذا قبلت بحكمه وتركت لسهام الألحاظ سبيلا إلى قلبي؛ فلأن ذلك ضرب من حب الذات. إني أشفق على كل ذي إحساس فأتألم لألمه وأفرح لسروره؛ فأنا قادر على قتله براحة ضمير، ولكن لا على تعذيبه. أنا لا أتعلق بشيء، وغاية ما أطلب أن أعيش لنفسي وأتمتع بما أريد كما أريد. كل ما يمكنني الاستيلاء عليه هو ملكي، وكل الوسائل حلال في هذه السبيل: الإقناع والرجاء، والإكرام والكذب، والخداع والرياء. القوة وحدها تخلق الحق. ماذا تهمني مصلحة الآخرين؟ فمصلحتي أريد، والحرية لا تكون إلا بمحبة الذات.»
اسمعه يقول أيضا: «إذا رأى الكلب كلبا آخر يتلهى بعظمة ولم يهجم عليه لينتزعها منه؛ فلأنه شاعر بعجزه عن ذلك. أما الإنسان فيحترم حق سواه بعظمة، وهذا ما يقال له: الإنسانية، وإذا اعتدى عليه نسبوه إلى التوحش وحب الذات. دعوني من حديث العدالة والخير العام . إن حب الذات وحده قائدي ودليلي، وهو يقول لي: استول على ما أنت في حاجة إليه.»
هكذا ينكر سترنر الواجبات الاجتماعية ولا يعترف إلا بالمصلحة الذاتية. واليوم ما أكثر الذين ينفرون من هذه التعاليم ويستفظعونها في الظاهر، وإذا خلوا إلى أنفسهم قالوا: إنا معك يا سترنر! وهل كان أكثر المحتكرين والمضاربين الذين يمتصون دماء الفقير إلا من هذه الطبقة؟ لقد أقام سترنر سلطان الأنانية على أنقاض كل سلطة إلهية أو بشرية. وما نيرون عند حرقه روما بتلذذ، وما لويس الرابع عشر عندما صاح: «المملكة أنا» إلا كالبعوض إزاء هذا المعلم في إحدى مدارس برلين، الذي ينادي من كوخه الحقير: الكون أنا.
لا حاجة بي إلى نقد مزاعم هذا الفيلسوف، فإذا كان أساسها حب الذات فلا أحد ينكر أن حب الذات أساس الاجتماع، وما خرج الإنسان من ظلمة الوحشية وارتقى في سلم العمران إلا على ضوء هذه العاطفة. فحب الذات شرعة طبيعية، بل هو الشرعة الأولى: وجودها واجب ونافع، على شرط أن لا تتجاوز حدود الاعتدال والحكمة فتفسد وينقلب نفعها إلى ضرر؛ لأنه - كما يقول برونيتيار - لا حق لأحد أن يدعي السلطة الكاملة على ما يعمله أو يفكر به؛ لأنه لا أحد يختص بنفسه دون المجتمع؛ فهو مدين له في الماضي، ومحتاج إليه في الحاضر. ينسى سترنر أن لحياة البشر شرائع طبيعية، وأن الممالك لم تقم على فكرة راسخة كما يدعي، بل على غريزة البقاء؛ فالإنسان حيوان اجتماعي لا يستطيع أن يعيش وحيدا، بل عليه أن يرضي محبة ذاته، ويرضي محبة ذات الآخرين.
ناپیژندل شوی مخ