هذا الإغراق في حب الطبيعة كان يلهيه عن كل ما حوله، وكثيرا ما بقي أياما يجهل الجديد من الأحداث في بلاده، وهكذا سقطت الخرطوم وقتل غوردون باشا، ولم يعرف بهذا ولا ذاك.
وتزوج سنة 1848، ثم طلق زوجته بعد ست سنوات، ولم تخب نار الحماسة فيه يوما، ولا تحول نظره في الآفاق المشعة التي علق بها فؤاده. •••
هذا الرجل السابح في الخيال كان في الوقت عينه رجل عمل، وبذلك يختلف عن غيره من النقاد والشعراء الذين يكتفون بالوصف والغزل دون أن يفكروا بالإصلاح العملي، فكان كلما أرسل فكرة أو أخرج كتابا ينزل بنفسه إلى المعركة؛ ليرى ما صارت إليه فكرته، وليدافع عنها. وقد نادى بتربية الذوق وتنمية روح الفن في الجماعات فلم يسمع نداؤه؛ فقدم نفسه لإعطاء دروس ليلية في الرسم مدة أربع سنوات، وأنشأ بماله متحفا للفن على رابية تطل على المروج الخضراء، ثم عين أستاذا في أوكسفورد، فأراد أن يقرن العلم بالعمل؛ فأقام فيها متحفا ووهب المدرسة مالا، وتطوع طوال ثلاث عشرة سنة لعبادة الجمال، والتبشير به.
ولما أدخلوا في التدريس علم التشريح استقال؛ لأن التشريح في نظره بشاعة، فضلا عن قلة فائدته، بدليل أن كثيرا من العلماء كانوا في غنى عنه، وأن النحاتين اليونان كانوا يجهلون التشريح.
ولكن ما الفائدة من المجامع العلمية وما يقدم فيها من أمثلة للجمال ما دام العالم مملوءا بالبشاعة، وما دام رجال القرى يتركون الأعمال التي تقوي عضلات الجسم، ويتزاحمون في المدن لخدمة الآلة، وقد أصبحوا مثلها في أيدي رؤسائهم؟ ما الفائدة من المتاحف ما دامت أجمل مناظر الطبيعة تتوارى خلف البنايات الحديثة والمصانع التي تخنق خضرة الدمن، وتسود بالدخان وجه السماء؟ إن دخان المعامل كالبرص يأكل المباني ويهين المدن ويفسد المناظر. البلد الغني بلد بشع، والآلة تحط من مقام الإنسان.
هو يريد أن تكون أراضي إنكلترا جميلة هادئة، لا أدوات بخار ولا سكك حديد ولا أناس لا إرادة لهم ولا تفكير. هو لا يطلب الحرية، بل المساواة في الخضوع للشرائع والقوانين، وإذا احتيج إلى التنقل من مكان إلى آخر فليكن ذلك براحة وأمان، دون التعرض لأخطار السرعة وغير ذلك. هو يطلب كثيرا من الأزهار وكثيرا من الشعر والموسيقى.
حلم من الأحلام ساوره أيام قامت ثورة الكومون في فرنسا، وأراد أن يحقق ما بشر به، فجاء باللآلئ للمتاحف، وبالخبز للأكواخ، ودفعه حبه للزراعة إلى منح بعض أراضيه للشيوعيين؛ ليجربوا آراءهم في استثمارها على شرط أن يحتفظوا بآرائه فيما يختص بجمال الأشياء، غير أن التجربة لم تنجح، ولم تسفر إلا عن خلق بعض المقاهي وأندية اللهو.
لقد أراد هذا المجدد الرجعي أن يعود بعصره القهقرى، بترك الآلة والبخار واعتماد اليد والمغزل، ونفس الإنسان الحي؛ فعم هذا العمل بين النساء، وأصبح من العادات السائدة أن يهدى للعروس نسيج روسكين، واستغني عن الآلة أينما أمكن أن يقوم العمل اليدوي مقامها؛ تمرينا وتقوية للعضلات. ولم يكن كبعض القسس الذين يعظون الفقراء ويتنعمون بمآكل الأغنياء، بل أجرى على نفسه ما سنه من الخضوع لشرائع الجمال، وقام بتجفيف الأراضي على ضفاف بحيرة كونيستون، غير آبه بالنفقات ليلهي الفلاحين عن المدينة، وبنى جسرا صغيرا على البحيرة بمعونة بعض تلامذته، وتعلم النجارة والدهان؛ فهو من هذا القبيل يشبه تولستوي الذي قال عنه: إنه من أعظم رجال العصر.
وأنشأ في البرية مكتبة جامعة كان يحمل إليها الكتب على ظهور البغال احتجاجا على المدينة وسكك الحديد. وكانت بعض العائلات تقوم بترتيب هذه الكتب وإرسالها لمن يريد مطالعتها خدمة له، وإعجابا به، فلا ناشر ولا وسيط، بل هي الأيدي نفسها التي كانت تنظم الكتب كانت تنسخها وتكتب المقالات عن مذهب المعلم وتحفر له الرسوم. وكان يقول: في وسعي أن أربح من كتبي ما شئت إذا رشوت النقاد في المجلات والجرائد، ودفعت نصف ما أربح للمكاتب ولمن يلصق الإعلانات، وسايرت أسقف بتربوروف.
وقد أفلح في مشروعه؛ فإن كتابا من كتبه «المصابيح السبعة للبناء» ربح 75 ألف فرنك، وكتابا آخر عنوانه «السمسم والزنابق» يباع منه كل عام 3 آلاف نسخة.
ناپیژندل شوی مخ