دراسات فلسفية غربية
دراسات فلسفية (الجزء الثاني): في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة
ژانرونه
أما النظام الأرستقراطي فإنه يقوم على أكتاف النبلاء الذين يقسمون بأن يكونوا أعداء أبديين للعامة. ويقوم النظام على الثروة وتركيزها في طبقة النبلاء لأن الثروة تزيد من قوة الطبقة. وتكون النظم الأرستقراطية على حذر دائم من الدخول في حرب خشية أن تتحول العامة إلى محاربين. والحرب في هذه النظم تؤدي إلى البطولة، كما تؤدي في السلم إلى التمسك بالشرف والتنافس عليه ثم يكون الشرف بالتالي باعثا على الشجاعة في السلم والحرب. ثم تنشأ المعارضة شيئا فشيئا في المدن من أجل مساواة الطبقات العامية مع طبقة النبلاء في الحقوق، وتطالب بالقوانين التي لا يريدها النبلاء، وتطمح العامة من أجل أن تحصل على نتاج كسبها، ولكن طبقة النبلاء توقف القوانين حتى لا يتساوى الضعفاء والأقوياء.
وأخيرا تنشأ النظم الشعبية تعبيرا عن رغبات العامة، ولكنها تقود صراعا من أجل السلطة بالسلاح في وقت السلم، وتصدر القوانين باسم السلطة وليس باسم القانون. ومع ذلك تثبت الحرية الطبيعية ضد النظم الملكية والإقطاعية والأرستقراطية، وتمحي مظاهر العبودية الاجتماعية التي تجعل الإنسان ضمن المقتنيات، ولكن هذه النظم الشعبية ذاتها تحف بها المخاطر. فبعد أن يحاول الناس التحرر من العبودية والحصول على أكبر قدر ممكن من المساواة، تحاول العامة تجاوز المتساوين معها فتتحول النظم الشعبية إلى نظم قوية تقوم على السيطرة. ثم تضع العامة نفسها فوق القوانين التي لا تراعيها فتتحول نظم الحكم إلى فوضويات لا يوجد فيها طاغية واحد لأنهم كلهم طغاة. وأخيرا تحاول العامة أن تجد خلاصها من جديد في عودة النظم الملكية. فبعد أن تضطر العامة لقبول سلطة النبلاء، وبعد أن يضطر النبلاء لقبول سلطة العامة ، يضطر الجميع لقبول سلطة الملوك؛ ومن ثم ينتهي جدل السيد والعبد على ما يقول هيجل لصالح الملك. ولا يستمر في دورة أبدية.
ثم يعطي فيكو بعد ذلك عدة مبادئ عامة عن حياة العمران. فبعد الفيضان عاشت الأسر أولا في الكهوف ثم على سفوح الجبال ثم انتقلت إلى السهول ثم إلى شواطئ البحار، كما تنشأ المدن أولا داخل البلاد ثم بعد ذلك تنشأ المدن الساحلية. وقد كانت مدينة صور أولا في الداخل ثم حولها الفينيقيون إلى مدينة ساحلية، فقد كان الفينيقيون أول بحارة في العالم، فالمدن الداخلية أكثر قدرة على الدفاع عن نفسها من المدن الساحلية. وقد بنى اليونان عدة مدن يونانية على ساحل أيونيا تم تدميرها بسهولة بعد ذلك. ونظرا لضرورات الحياة يترك الناس أرضهم طمعا في مزيد من الثروة عن طريق التجارة أو لحمل ثرواتهم معهم حرصا عليها من الضياع ومخاطر الاستقرار، والشعوب الأولى لا يمكن النفاذ إليها إلا من الخارج عن طريق الحرب ومن الداخل عن طريق فتح حدودها للتجارة مع الغرباء.
وينهي فيكو بديهياته حول الله والقانون والمساواة. فهناك أقوام كبيرة وأقوام صغيرة. ولكل منها إله. فالآلهة تصنع قدر الأقوام! أما القانون فإنه يكون بمثابة الحكمة لدى الشعوب المحدودة الأفكار التي لم تبلغ بعد شأوا من الحضارة والتطور. وينشأ اليقين في القانون من غموض الحكم وتأييد السلطة. أما الأذكياء فإنهم يأخذون المنفعة قانونا. أما حقيقة القانون فإنه نور يعين، وعظمة تأتي إليه من العقل الطبيعي. أما بالنسبة للمساواة، فالمساواة المدنية حكم محتمل لا يعرفه كل الناس. أما المساواة الطبيعية فإنها تعبير عن العقل الإنساني، ودرجة التطور نحو الكمال.
بعد هذه البديهيات التي يسميها فيكو «العناصر»، يتحدث عن «المبادئ» وهي الحقائق البديهية لدى كل الشعوب دون الاستعانة بالتراث المكتوب بل بناء على تنظير مباشر للواقع وسبر لأغوار الطبيعة البشرية. فالعالم الإنساني من صنع الإنسان؛ وبالتالي توجد مبادئه في الذهن الإنساني. فالواقع والذهن شيء واحد، وكأن فيكو هنا يرصد مسبقا «فينومينولوجيا الروح» عند هيجل.
هناك ثلاثة مبادئ هي في الوقت نفسه، عادات للشعوب ونظم لها؛ الأول: أن كل شعب له دين، ولا يوجد شعب يجهل الدين على خلاف ما يرويه بيل وبعض الرحالة من أنهم رأوا شعوبا بلا دين، يجهلون الله، فهؤلاء الرحالة لا يبغون العلم بل يريدون تسويق مؤلفاتهم فحسب. العبرانيون، والمسيحيون، والوثنيون والمسلمون (المحمديون) كل هؤلاء لهم دين ، وقد آمنت كل الشعوب بإله مجسد أو غير مجسد يعتني بالعالم ويرعاه، وهذا ما أكده الفلاسفة جميعا على اختلاف مذاهبهم؛ والثاني: أن كل الشعوب لديها احتفالات بالزواج؛ فالعلاقات الجنسية الحرة دون رباط رسمي علاقات شريرة، ينتج عنها أطفال بلا أسر، يتركون في الخارج. وظيفة الأسرة إذن رعاية الأطفال الشرعيين وإعطاؤهم التعليم والدين واللغة؛ والثالث: أن كل الشعوب تدفن الموتى؛ فلا يوجد شعب يترك موتاه بلا قبور. فنحن جميعا زملاء في البشرية. وعندما نناقش خلود الروح فنحن نشارك في نفس الإنسانية. وقد ذكرت كل الديانات هذا المبدأ وعرفته الحضارات، وكتبت حوله القصص والمسرحيات (أنتيجون).
5
وأخيرا يتحدث فيكو عن منهج «العلم الجديد» ويحدده على أنه منهج الاستقراء الذي يبدأ من الطبيعة إلى الفكر. فالمنهج يبدأ حيث يبدأ الموضوع؛ وبالتالي يكون الموضوع هو منهج ذاته. ويكون تطور الموضوع ضمن خطوات المنهج. وهنا يلحق فيكو أيضا بهيجل في توحيده بين الموضوع والمنهج بين الواقع والجدل؛ لذلك يجب البدء باللغويين والفلاسفة والكتاب والأدباء والشعراء والمشرعين وكل من حاولت الإنسانية تدوين نفسها من خلالهم. ويعطي فيكو نموذجا من هذا المنهج التجريبي بنشأة فكرة الله أو الدين الموجودة لدى كل الشعوب المتحضرة والبدائية. فعندما يعيش الإنسان لحظات اليأس من كل عون للطبيعة، ويرغب في شيء أعلى منها لمساعدته يكون هو الله. وإذا ما وصل المنحلون إلى سن متقدمة في العمر يكتشفون الدين. وهذا ما يثبته البدائيون الذين يعيشون حياة الانفعال. أما الميتافيزيقا الشعبية ولاهوت الشعراء فإنه أيضا ينتهي إلى النتيجة نفسها؛ إذ يعيش البشر، نظرا لطبيعتهم الفاسدة، تحت سيطرة حب الذات ويسيرون وراء منفعتهم الخاصة؛ وبالتالي يعجزون عن السيطرة على انفعالاتهم. وبعد الزواج كان لزاما على الإنسان أن يوفق بين منفعته ومنفعة أبنائه. وبعد الحياة الاجتماعية كان لزاما عليه أيضا أن يوفق بين مصلحته ومصلحة الآخرين، وبين مصالح الآخرين ومصالح الشعب ككل، ثم بين مصالح الشعب ومصالح الجنس البشري. ولما كان الإنسان لا يبغي إلا صالحه الخاص كان لا بد من العناية الإلهية كي تضعه دخل نظم تعلمه العدالة وتحدد دوره كعضو في الأسرة وفي المجتمع وفي المدنية والإنسانية. ولما كان غير قادر على الالتزام بهذه النظم فإنه يسمي العادل منها ما يحقق منفعته الخاصة، وما ينظمها يسميه العدالة الإلهية، وما يحكمها يسميه العناية الإلهية. وهنا يبدو فيكو متفقا مع هوبز في أن الدين ضروري لصالح البشر. وأن كليهما ينظر إلى العقيدة المسيحية، على أنها عقيدة الخلاص من الخطيئة عن طريق المسيح.
العلم الجديد إذن هو اللاهوت العقلي المدني للعناية الإلهية التي يؤمن بها الرواقيون عن طريق الصلة بين العلة والمعلول؛ إذ إنهم في نظام الأشياء الطبيعي يسمون اللاهوت الطبيعي ميتافيزيقا صفات الله وأفعاله في الطبيعة، والأبيقوريون عن طريق المنافسة العمياء بين اللذات. العلم الجديد إذن يأخذ موضوع العناية الإلهية في التاريخ حين تكشف عن نفسها في العادات والنظم الطبيعية. وهنا يلحق هردر بفيكو، فقانون تطور البشرية عند هردر هو أيضا العناية الإلهية وتحويلها من صفة لله إلى قانون للتقدم. ويحلل العلم الجديد الأفكار الإنسانية حول الحاجات الإنسانية ومنافع الحياة الاجتماعية وهما المصدران الدائمان للقانون الطبيعي للشعوب، فتاريخ الأفكار هو تاريخ الإنسانية نفسها. موضوع العلم الجديد إذن هو الحس المشترك للجنس البشري أو شعور البشرية جمعاء.
وتأتي براهين العلم من الفلسفة واللغة مثل اتفاق الأساطير والنظم الذي يدل على أنه اتفاق بالطبيعة وليس وليد المصادفة، اتفاق العبادات البطولية مع النظم، اتفاق المعاني الاشتقاقية للغات البدائية مع النظم. وفهم النظم من خلال الكلمات ومعانيها اللغوية الأصلية أو المجازية المتطورة. القاموس الذهني للنظم الإنسانية الاجتماعية هو القاموس نفسه الذي لدى كل الشعوب والذي يتم التعبير عنه بطرق مختلفة وطبقا للغة كل شعوب: التراث الشعبي المحفوظ الذي يصحح أخطاء المؤرخين، الشذرات القديمة التي يمكن بعد التأليف بينها أن تعطي المعنى والدلالة، معرفة آثار هذه النظم بالرجوع إلى عللها الأولى. هذه البراهين كلها تجعلنا قادرين على معرفة «عالم البشر» كما عرف بيكون «عالم الطبيعة» وبنفس المنهج الاستقرائي الذي يمكن تلخيصه في شعار «انظر وفكر».
ناپیژندل شوی مخ