دراسات فلسفية غربية
دراسات فلسفية (الجزء الثاني): في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة
ژانرونه
ويختتم كانط الجزء الأول من كتابه لبيان كيفية حل الصراع بين كلية الفلسفة وكلية اللاهوت حتى يعود السلام والوئام بينهما عن طريق تقسيم العمل. ففيما يتعلق بمسائل العقل العملي النظري تكون مهمة كلية الفلسفة الشكل، ومهمة كلية اللاهوت المضمون أو المادة. ليست مهمة كلية اللاهوت الإيمان العقلي الذي يمكن معرفته قبليا، ولكن الأحكام القانونية المستمدة من كتاب أو طبقا لميثاق قديم أو جديد بين الله والإنسان. وذلك عمل فقهاء القانون، وليس عمل عقل العلمانيين. الإيمان النقلي إيمان مشياني
Messianic (مخلصي) تاريخي، مؤسس في كتاب على الميثاق بين الله وإبراهيم، إيمان بكنيسة ميشيانية، أو موسوية، أو إنجليلية، ابتداء من تاريخ الكون في سفر التكوين حتى نهاية العالم، كما تعرضه رؤيا يوحنا، ولكن نظرا لوجود اضطراب زماني في الكتاب يحدث شك في الصحة التاريخية للنصوص. فالكتاب يعبر عن إرادة إلهية كما تصفها أحكام الشريعة؛ وبالتالي يكون أسرع وسيلة لإعطاء الإنسان السعادة، بشرط صحة النصوص، ولكن أمام ذلك عدة صعوبات، فمثلا: إذا كان الله قد تحدث في الكتاب، كيف يتحقق الإنسان من أن الذي تحدث في الكتاب هو الله، بالرغم من عدم وجود برهان حسي على ذلك؟ إن الإنسان على يقين أنه إذا ما عارضت أحكام الكتاب قوانين الأخلاق فإن ما يقال عنه إنه حديث من عند الله يكون حديثا مزيفا ليس من عند الله. شرعية الكتاب لا تأتي إذن من تعاليم فقهاء الشريعة بل من اتفاقه مع الأخلاق. إن وظيفة دين الكتاب هي السيطرة على الشعب، كما تفعل الحكومة تماما؛ وبالتالي تكون إقامة الأخلاق على الكتاب دافعا على الشك فيها، ولكن الكتاب نفسه يحتوي على برهان الألوهية أي الخلقية، نظرا للأثر الطيب الذي يحدثه في حياة الناس. أما الحقيقة النظرية، فإنها تتأسس على المعرفة التاريخية. وعلى هذا لا بد من أخذ الكتاب، وكأنه وحي من عند الله. ولا بد أن يقول لنا المفسر: هل حكمه على الكتاب حكم صحيح أم حكم عقائدي؟ الحكم الأول لا بد أن يكون متفقا مع النص، أما الحكم الثاني فهدفه التربية الروحية والخلقية لأن الإيمان بمجرد قضية تاريخية إيمان ميت. الحكم الأول هدفه علمي خالص، بينما الحكم الثاني هدفه تربوي شعبي. الأول من حق أساتذة اللاهوت، ولكن الثاني من حق أساتذة الفلسفة وحدهم حين يضعون الحكم الأول تحت مجهر العقل والنقد.
ثم يشفع كانط هذه الخاتمة لتحقيق الوئام والسلام بين الكليتين المتنازعتين بملحقين؛ الأول عن بعض المسائل النقلية التاريخية تتعلق بالاستعمال العملي للكتاب المقدس، ووقت ظهوره في التاريخ، وهي مشكلة الصحة التاريخية التي يحلها كانط بالصحة الخلقية؛ والثاني عن التصوف الخالص في الدين، وفيه يبين كانط وضع الإنسان في العالم وما يتمتع به من عقل وحرية. ويذكر كانط من هذه المسائل النقلية التاريخية: إذا كانت الحكومة هي وسيلة الربط بين الكنيسة والشعب، ماذا يفعل الإيمان الكنسي، إذا لم يجد الحكومة وراءه تدعمه؟ من مؤلف الكتاب؟ وفي أي عصر تم تأليفه؟ هل نعلم قواعد اللغة القديمة لكي نفهم الكتاب ونحسن تفسيره؟ هل لدينا وثائق صحيحة؟ هل نعلم شيئا عن السبعينية (ترجمة التوراة العبرية إلى اللغة اليونانية في الإسكندرية على يد سبعين عالما)؟ ولا يجد كانط أي إجابة على هذه الأسئلة العلمية، كما يجد اسبينوزا، ولكنه يجد إجابات خلقية. فمهمة الكتاب التربية الخلقية والروحية. فإذا ما حدث تعارض بينهما، فلا بد للكتاب من أن يتنحى لصالح الحقائق الخلقية لأن الظن لا يغني من الحق شيئا. فالكتاب ظن والأخلاق يقين، والتفسير بالسياق أفضل من التفسير الحرفي لأنه يعتمد على العقل وعلى حقائق العقل الثابتة، كما يعتمد على قوانين الأخلاق الشاملة. إن الهدف من قراءة النصوص ليس معرفة معانيها الحرفية ولكن تحسين الأخلاق. فالموعظة تخرج المعنى من قلوب المستمعين، وليس من الحروف والألفاظ. إن شهادات الإنجيل ليست وثائق تاريخية صحيحة بل مبادئ عملية للعقل فيما يتعلق بالتاريخ المقدس، وهذا أفيد للشعب وللدولة من التفسير الحرفي للنصوص.
وفي الملحق الأخير يتحدث كانط عن التصوف الخالص في الدين، وهو في حقيقة الأمر ليس تصوفا، بل فلسفة كانط الخلقية التي هي عرض لمذهب القنوط على مستوى العقل. فالفلسفة عند كانط هي فلسفة تمثل الإنسان؛ تصوراته وعقله وحريته. وهذا هو معنى «نقد العقل الخالص»، عكس الفلسفة القديمة التي جعلت الإنسان سالبا. وكأن كانط هنا يلخص فلسفته كلها في «الثورة الكوبرنيقية» التي يكون فيها الإنسان مركز العالم، ويكون كانط بعد ديكارت في «الأنا أفكر»، مؤسس الأنثروبولوجيا في بداية العصور الحديثة، في مقابل الثيولوجيا التي كانت سائدة في العصر الوسيط. الإنسان عند كانط عنصر إيجابي نشط يخلق العالم بتصوراته. الإنسان هو ما يكون وما ينبغي أن يكون؛ الأول من خلال الحس والذهن، والثاني من خلال العقل. الإنسان بلا عقل أو إرادة يكون كالحيوان، ويعني العقل والإرادة في الإنسان شيئا واحدا؛ الحرية. إن لم يعمل الحس والذهن في الموضوعات الخارجية، يعمل العقل والإرادة الحرة في الأخلاق، الأول مرتبط بالجسد، والثاني بالروح. وينتهي كانط من كل ذلك إلى أن الأخلاق هي البرهان الوحيد على وجود الله. فمن فكرة الله النظرية تنشأ فكرة الله العملية كمشرع للأخلاق شامل لكل واجباتنا. ملكوت الله هو ملكوت الأخلاق، وهذا هو الدين الحق. ولا غرابة أن يقول الصوفية الشيء نفسه، وهم الذين يسمون «المنعزلين»؛ فالدين لديهم إيمان باطني بلا عقائد أو طقوس أو أشكال، بل مجرد إيمان قلبي لا يقوم على كتاب أو كنيسة. وهم الكانطيون حقا؛ منهم التجار، والعلماء، والعمال، والفلاحون، ولكن ليس من بينهم اللاهوتيون. وهم مثل طائفة الكويكرز
Quakers
الذين يؤمنون بالله إيمانا قلبيا خالصا. وهنا يبين كانط بصراحة موقفه الخلقي الصوفي الباطني في مواجهة اللاهوتي الكتابي الكنسي.
1
رابعا: الصراع بين كلية الفلسفة
وكلية الحقوق
وفي القسم الثاني يتناول كانط موضوع الصراع بين كلية الفلسفة وكلية الحقوق. وأول ما يتبادر إلى الذهن، كما هو الحال في الصراع الأول بين كلية الفلسفة وكلية اللاهوت، أنه صراع حول حق الفلسفة في فحص التشريعات والنظم والقوانين، وبيان ما إذا كانت تعبر عن القانون الطبيعي والحق الطبيعي وإرادة الشعب أم أنها تعبر عن إرادة الحاكم وهواه. ولكن كانط يتناول في هذا القسم موضوعا لا يتبادر إلى الأذهان، وهو موضوع «التقدم»، تقدم النوع الإنساني، وكأن الصراع يدور حول فلسفة التاريخ. فكلية الفلسفة تؤيد التقدم الإنساني، وتدفعه خطوات إلى الأمام، في حين أن كلية الحقوق تثبت أوضاع النظام القائم، وتدافع عن النظم والتشريعات والقوانين في الدولة؛ وبالتالي كان هذا الجزء أقرب إلى ما قاله كانط في رسائله عن فلسفة التاريخ، على طريقة هردر ولسنج.
ناپیژندل شوی مخ