دراسات فلسفية غربية
دراسات فلسفية (الجزء الثاني): في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة
ژانرونه
ثالثا: الصراع بين كلية الفلسفة
وكلية اللاهوت
يبدأ كانط قبل الدخول في الموضوع الأول مباشرة، وهو الصراع بين كلية الفلسفة وكلية اللاهوت، أو كما يقول بلغتنا كلية الآداب وكلية أصول الدين، أو بين الجامعة الوطنية والجامعة الأزهرية، بإعطاء مقدمة عامة عن الجامعة، طلابا وأساتذة وإدارة، وعن التقسيم العام للكليات الجامعية، ثم عن وضع كل كلية، سواء الكليات العليا (وهي كلية اللاهوت وكلية الحقوق، وكلية الطب)، أم الكلية الدنيا (وهي كلية الفلسفة). وأخيرا يتحدث كانط عن الصفة المميزة لكل كلية، وعن الصراع المشروع والصراع غير المشروع بينها.
إن العلم البشري بالرغم من وحدة المعرفة، ينقسم إلى عدة علوم، ولكل علم أساتذة متخصصون وطلاب وهيئات تسمى جامعة أو مدرسة عليا تتمتع باستقلال ذاتي؛ لأن العلماء وحدهم هم القادرون على الحكم على العلماء، وتقبل الجامعة الطلاب والأساتذة وفقا لقواعد تضعها. وبالإضافة إلى أعضاء هيئة التدريس هناك الأساتذة المستقلون داخل الأكاديميات والجمعيات العلمية الذين يطلبون العلم من أجل العلم. ويطلبونه مخلصين له طيلة حياتهم. وأحيانا يتحول أعضاء هيئة التدريس أو الخريجين إلى مجرد متعلمين، أي أصحاب شهادات موظفين في الحياة العامة نسوا كل شيء تعلموه. يكفيهم أنهم قادرون على أداء وظائفهم بالحد الأدنى مما تبقى في أذهانهم. ومنهم رجال الأعمال أو تكنوقراطيو العلم الذين يصبحون في النهاية مجرد آلات للحكومة، مثل رجال الدين ورجال القضاء والأطباء، ويكون لهم أبلغ الأثر على الجماهير، نظرا لاتصالهم بها. ولا يسمح لهؤلاء بمزاولة علمهم إلا في أداء مهنهم، ولكنهم خارج المهنة ينسون كل شيء.
ويقسم كانط الكليات الجامعية إلى قسمين: كليات عليا ثلاث، وكلية واحدة دنيا. وهو تقسيم نابع من الحكومة، وليس من العلماء. والكليات العليا تخرج موظفين للحكومة، والحكومة قبل أن تستخدمهم تحكم على صلاحية عرض علمهم على الجمهور. أما الكلية التي تسمى الدنيا، فإنها تهتم بالعلم لذاته، وتتمتع بحرية الفكر والاستقلال؛ وبالتالي فإنها تهتم بالكليات العليا، وتهمل الكلية الدنيا، وتتركها لعلمائها. فإذا ما قررت الحكومة استبعاد بعض النظريات، فإنها تطالب الكليات المختصة بالقيام بهذه المهمة، وحذفها وإسقاطها من الحساب؛ لأن عقود الأساتذة مع الجامعة تنص على ذلك. وأي حكومة من هذا النوع تعمل بالنظريات، وتتعهد بتقدم العلوم وازدهارها، ويكون على رأسها الحاكم العالم، أو الملك الفيلسوف - كما يقول أفلاطون - تفقد الاحترام الواجب لها، بسبب هذا التعالم والتدخل فيما لا تعرف. والحكومة في نهاية الأمر أسمى من أن تهبط إلى مستوى العلماء أو العامة، وأن تتناول من معارفهم. وهذا هو السبب في وجود الكلية الدنيا مستقلة عن الحكومة في نظمها ونظرياتها، ولها الحرية التامة في إصدار أحكامها على النظريات، من وجهة النظر العلمية، أي طبقا للحقيقة وحرية التعبير عنها صراحة، فبدون الحرية لا تظهر الحقيقة لأن العقل بطبيعته لا يقبل شيئا على أنه حق، إن لم يثبت له بالدليل القاطع أنه كذلك، وهو الدرس المستفاد في بداية العصور الحديثة، من ديكارت، فإذا كانت هذه الكلية مع ذلك تسمى الكلية الدنيا، فإن السبب يرجع إلى طبيعة الإنسان، لأن من يعطي الأوامر يتصور أنه أعلى. والحقيقة أن القادر على الحكم المستقل هو الجدير بهذه التسمية.
ثم يتحدث كانط عن وضع الكليات بادئا بوضع الكليات العليا وأقسامها. فلما كان كل معهد يقوم على فكرة، أو مبدأ عقلي، أو تصور مسبق، بالإضافة إلى مجموعة من التجارب، على ما هو معروف من فلسفة كانط في «نقد العقل الخالص»، وليس مجرد وليد الصدفة، فإن أهداف أي حكومة طبقا للعقل (أي موضوعيا) بالنسبة للجامعات، ثلاثة: الأول تحقيق الخير الأبدي لكل فرد، والثاني تحقيق الخير الاجتماعي لكل فرد باعتباره عضوا في مجتمع، والثالث تحقيق الخير البدني أي حياة أطول وصحة أوفر. ويمكن أن يكون لتوجيه الحكومة وطرقها لتحقيق الهدفين الأولين أبلغ الأثر في تعويد الشعب على طاعة قوانين الدولة والالتزام بنظامها . ويكون أثرها بتحقيق الهدف الثالث في تكوين شعب من الأصحاء تستخدمه الدولة لتحقيق أغراضها الخاصة. وطبقا للعقل هناك إذن ثلاث كليات؛ كلية اللاهوت، وكلية الحقوق، وكلية الطب. ولكن طبقا للغريزة الطبيعية تأتي كلية الطب أولا؛ لأن الطبيب أهم للإنسان من اللاهوتي؛ فهو الذي يحافظ على حياته، ثم يأتي القانوني، ليحافظ على ممتلكاته، وأخيرا يأتي اللاهوتي ليعلمه الحياة الأبدية ويعده بالسعادة في المستقبل، كما خفف آلامه في الدنيا، وكأن كانط يريد أن يقول هنا: إن اللاهوت «أفيون الشعب»، كما قال قبل ذلك في محاضراته في «التربية» عام «1766-1777م»: إن الدين «أفيون الشعور»؛ لأنه يخلق في الإنسان اطمئنانا ورضا ومسرة. وفي كلا النظامين نظام العقل ونظام الغريزة الطبيعية، تبقى كلية الحقوق كما هي في الوسط. ولكن يختلف الأمر بالنسبة لكلية الفلسفة وكلية اللاهوت، حيث يبدو الصراع بينهما وكأنهما طرفان متقابلان تمام التقابل، فيعطي نظام العقل كلية الفلسفة الأولوية، بينما يعطي نظام الغريزة كلية اللاهوت الأولوية. ويبدو أن هذا التقسيم الثلاثي يتفق أيضا مع القسمة الثلاثية للعقل النظري عند كانط؛ فكلية الطب مثل الحساسية الترنسندنتالية، وكلية الحقوق مثل الذهن، وكلية اللاهوت مثل العقل. وقد يتفق أيضا مع قسمة أفلاطون الشهيرة للقوى الإنسانية؛ القوة الشهوية التي تمثل كلية الطب، والقوة الغضبية التي تمثل كلية الحقوق، والقوة العاقلة التي تمثل كلية اللاهوت. وتكون الكليات العليا تحت توجيه الدولة كتابة من خلال التشريعات، في حين أن الكلية الدنيا تخضع لمبادئ علمية عامة وشاملة ودائمة. وقد يكون لهذه الكليات العليا قواعد وقوانين لا تتفق مع العقل، بل تهدف أساسا إلى طاعة الدولة؛ لأن القانون قد يستنبط من العقل، فيتفق معه، وقد يكون في تعارض معه معبرا عن مشرع خارجي وهو الدولة. وتكون القوانين التي تسنها الدولة وتشرعها ملزمة، في حين أن القوانين المستنبطة من العقل، لا تكون ملزمة؛ لأنه ليس وراءها سلطة لتنفيذها. كذلك لا يستمد لاهوتي الكتاب المقدس لاهوته من العقل، بل من الكتاب، كما لا يستمد القانوني قانونه من القانون الطبيعي (وهو ما يعادل العقل النظري)، بل من القانون المدني. كذلك لا يستمد الطبيب علاجه من علم الفيزيولوجيا بل من قواعد الطب المتعارف عليها. فإذا ما قامت إحدى هذه الكليات الثلاث العليا لتعتمد على العقل، فإنها بذلك توجه إهانة بالغة إلى السلطة، وتنتزع منها حق الطاعة؛ ومن ثم فإن واجب الكليات العليا ألا تدخل في حلف مع الكلية الدنيا، بل عليها أن تنظر إليها بحذر؛ لكي تظل لوائحها وقوانينها ودساتيرها قائمة لخدمة الدولة أي لخدمة النظام القائم!
ثم يبين كانط الصفة الخاصة المميزة لكل كلية من الكليات العليا الثلاث؛ ففي كلية اللاهوت يبرهن اللاهوتي على وجود الله؛ فقد عبر الله عن نفسه في الكتاب، كما أن الكتاب يتحدث عن طبيعة الله، وبطريقة تصل إلى معارضتها للعقل، كما هو الحال في الحديث عن الثالوث. أما إثبات أن الله قد تكلم من خلال الكتاب، فهذا ما لا يستطيع اللاهوتي برهنته، لأن ذلك مجاله التاريخ، أو تصل إلى إمكانيات العقل الخالصة، وهو ما يخص كلية الفلسفة. وكأن كانط يشير هنا إلى أن اللاهوتي واقع في الدور المنطقي لا محالة، إذ ما أراد البرهنة على وجود الله من خلال الكتاب، والبرهنة على المصدر الإلهي للكتاب الذي يتطلب الإيمان بالله مسبقا، وأنه لا مخلص للاهوتي من هذا الدور إلا الفيلسوف الذي يقطع هذه الدائرة، ويبرهن له إمكانية الوحي. ليس أمام اللاهوتي دون مساعدة الفيلسوف إلا أن يؤسس المصدر الإلهي للكتاب على الإيمان، على أساس من عاطفة الألوهية. ولسوء الحظ لا يستطيع العالم أن يتساءل أمام العامة عن أصل هذه العاطفة، لأن العامة لا تهتم بالعلم، بل تريد الإغراق في الأحلام والتمنيات، ويبدو أن كانط هنا يشارك علماء أصول الدين في تراثنا القديم الذين منعوا العامة من الدخول في علم الكلام، وكما بين الغزالي في كتابه المشهور «إلجام العوام عن علم الكلام». وهو حديث الصوفية والفلاسفة نفسه، في تفرقتهم بين الخاصة والعامة، مما يدل على أن التنوير في ألمانيا كان عمل الخاصة، وليس العامة، كما هو الحال في فرنسا. ولا يستطيع اللاهوتي أيضا أن يفسر الكتاب إلا طبقا للتفسير الحرفي، ولا يستطيع تفسيره بحيث يتفق مع الحقائق الخلقية. وكما أنه لا يوجد مفسر إنساني لديه سلطة إلهية، فإن اللاهوتي يجد نفسه مضطرا للاعتماد على مصدر من فوق الطبيعة يقود الذهن إلى المعنى الصحيح إن لم يطلب مساعدة الفيلسوف القادر على أن يبين له اتفاق المعنى مع العقل. أما فيما يتعلق بتطبيق الأوامر الإلهية، فإن اللاهوتي لا يعتمد في ذلك على الإرادة الإنسانية بل على الفضل الإلهي، عن طريق إيمان قلبي خالص بالتوفيق والهداية والعون والتأييد. وهو ما لا يتفق مع العقل والإرادة الإنسانية الحرة؛ لذلك يجد اللاهوتي نفسه وقد قفز إلى أحضان الكنيسة كي ترعاه وتعطيه سلطاتها، وإلا تحول كل شيء إلى فوضى خارج الكنيسة. وواضح أن كانط هنا ينقد الموقف السلفي التقليدي الذي يمثله المحدثون في تراثنا القديم، والذي يعطي الأولوية للنقل على العقل، والفعل الإلهي على الفعل الإنساني، والتشبيه على التنزيه، وقدم القرآن على خلقه، ويؤسس الموقف الاعتزالي الذي كان وراء ظهور فلسفة التنوير، كما يتضح عند لسنج بوجه خاص.
وتتصف كلية الحقوق بأن القانوني فيها يبحث عن قوانين تضمن حقوق الناس كمواطنين في الدولة. ولا يبحث ذلك طبقا للعقل، بل طبقا للقانون الرسمي الذي تدخل مخالفته تحت طائلة العقاب. ولا يمكننا مطالبته بالبرهنة على صحة هذه القوانين أو الدفاع عنها ضد اعتراضات العقل، فمن السخف عصيان القوانين التي تعبر عن الإرادة الخارجية بدعوى أنها لا تتفق مع العقل لأن احترام الدولة ينتج من أنها لا تترك لكل فرد أن يحكم على هواه بصحة هذه القوانين أو بطلانها، ولكن فقط طبقا لإرادة المشرع، ومع ذلك، فإن وضع كلية الحقوق من الناحية العملية أفضل بكثير من كلية اللاهوت؛ لأن لديها مفسرا مرئيا حاضرا للقانون، وهو الفقيه، أو الأصولي، أو لجنة قضائية، أو المشرع نفسه. وليس الأمر كذلك في تفسير الكتاب المقدس الذي لا يعلم معناه إلا الله، ولكن يعيبها أن القانون الإنساني متغير، في حين أن الكتاب المقدس لا يتغير . كما أن شكوى القانوني من غياب قاعدة عامة للسلوك الموحد للناس لا يشكو منها اللاهوتي الذي لديه مثل هذه القواعد العامة المتمثلة في الأوامر والنواهي. هذا بالإضافة إلى أن المحامي أو القانوني لا يضمن للمواطن تطبيق القانون ومسئوليته عن ذلك، في حين أن اللاهوتي يضمن ذلك للمتدين يوم القيامة، ويعتبر نفسه مسئولا عن ذلك! وهم مطمئنون إلى أن أحدا لن يعارضهم في مثل هذا التأكيد، بالاعتماد على تجارب الدنيا، فشتان بين ما يحدث في الآخرة من يقين، وما يحدث في الدنيا من ظنون. ويبدو أن كانط في تصوره الكليات الثلاث العليا على أنها تهدف إلى طاعة الناس يتفق مع اسبينوزا الذي يجعل ذلك من وظيفة الإيمان. في حين أن العقل عند كانط والفلسفة عند اسبينوزا يدعوان الناس إلى الخروج على الطاعة والرفض والثورة على النظام القائم، بالرغم مما في لغة كانط من حيطة وحذر، ومن استعمال لغة الإثبات، وهو يقصد بها لغة النفي، وهو الدرس الذي تعلمه من ديكارت.
وتتصف كلية الطب بأن الطبيب فيها فنان يعتمد في دراسته على الطبيعة، في حين تعتمد كلية الطب على مجموع القوانين المهنية. كما أن الدولة تقيم «اللجنة العليا للصحة» لممارسة الطب طبقا للقواعد المعروفة، ولكن هذه القواعد لا تأتي من الطبيعة بل من فن الممارسة والعلاج؛ ومن ثم وجب على كلية الطب الاستعانة بكلية الفلسفة لمساعدتها على معرفة قوانين الطب من الطبيعة، وليس من كلية الطب أو اللجان الطبية على الأقل فيما لا ينبغي عمله أو في بعض المبادئ العامة، مثل ضرورة وجود أطباء للعامة (لأن الخاصة لديهم عند كانط نظام للتغذية يعتمد على قوة الإرادة والسيطرة على الانفعالات)، وأنه ليس هناك عنصر تجريبي يتبع المبدأ، ويتفق معه في كثير من الأحيان. فالمثل الأول يهدف إلى رعاية الحكومة الصالح العام، بينما المثل الثاني يهدف إلى رعاية الأمن العام والاستقرار. وكلاهما يعتمد على «البوليس الطبي» أو الرقابة الطبية! ومع ذلك، فكلية الطب أكثر حرية من الكليتين السابقتين وأقربهما إلى كلية الفلسفة. كما أن الأطباء في تكوينهم لا يعتمدون على كتاب مغلق إلى الأبد، كما هو الحال في كلية اللاهوت، بل على كتاب الطبيعة المنشور دائما. ولا يصل الأطباء إلى قانون علمي بالمعنى الدقيق، بل إلى مجرد قواعد وإجراءات، الغرض منها تحقيق النفع العملي، وهو الشفاء. ومعرفتها لا تكون علما؛ لأن العلم مجموعة من النظريات، لا يمكن للدولة أن تعاقبها، فتتركها للأطباء.
أما الكلية الدنيا، وهي كلية الفلسفة، فهي الكلية التي لا تخضع نظرياتها إلى إرادة حاكم. وقد يحدث أن تخضع عمليا لنظرية ما، ولكن يستحيل اعتبارها حقيقة لأنها مفروضة من الحاكم، ليس فقط موضوعيا (أي ما لا ينبغي أن يكون)، بل أيضا ذاتيا (أي ما لا يستطيع أحد إصداره). ومن يعترف مرة بخطئه فإنه لا يخطئ! ويبدو أن كانط هنا يعيش صراع ما ينبغي أن يكون، وما هو كائن، فيما يتعلق بكلية الفلسفة، ومحاولة الدولة السيطرة عليها، وصراع كانط ضد الدولة دفاعا عن استقلالها. فإذا ما أراد أساتذة كلية الفلسفة عرض نظرياتهم على الجمهور، فإنهم لا يعتمدون في ذلك على سلطة خارجية، بل على سلطة العقل وحده. كما أنهم لا يؤمنون بنظرياتهم إلا على نحو عملي من أجل الممارسة، بالرغم من قدرتهم على برهنة صدقها النظري، بينهم وبين أنفسهم؛ فقد وصلوا إلى نظرياتهم بناء على الفحص الحر، والعقل هو القوة القادرة على ممارسة هذا الفحص الحر.
ناپیژندل شوی مخ