دراسات فلسفية غربية
دراسات فلسفية (الجزء الثاني): في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة
ژانرونه
الموقف من الواقع الذي تعيشه الأمة، والتحليل المباشر له وإدراك مكوناته والتعرف على علل ظواهره. فهو الغاية والهدف. وهو الميدان الذي تتصارع فيه قوى القديم والجديد. فكل تعامل مع الواقع المباشر هو فلسفة. وكل رصد لحركته ومعرفة لإمكانياته جزء من عملية التفلسف. فالواقع هو التاريخ والفلسفة فعل في التاريخ، هكذا كان الحال أيضا في عصر النهضة عندما تم اكتشاف الطبيعة وقوانين البدن واعتبارها المحك لكل الموروث الحضاري القديم سواء من العصر الوسيط المسيحي أو من المنقول الإسلامي من خلال أنصار ابن رشد. وهكذا كان الحال عندما نشأت الفلسفة الإسلامية أولا بالتعرف على حاجات الأمة ومتطلبات العصر فنشأت العلوم الفلسفية لتلبية هذه الحاجات وتحقيق هذه المتطلبات. ويكون الخطأ خطأنا بتكرار النماذج القديمة بالرغم من تغير الظروف والحاجات.
1
تموت الفلسفة عندما يغيب الوعي بالتاريخ، وتنتهي عندما تخرج عن الموقف الحضاري، وتحيا الفلسفة عندما تنبثق عن الوعي بالتاريخ وتعبر عن الموقف الحضاري؛ ومن ثم كان فجر النهضة الحديثة بداية للتفلسف حتى وإن لم يبلغ القدر الكافي من الطرح النظري ومن الإحكام الفلسفي فتلك مهمة عدة أجيال، ويكون الفيلسوف هو الذي يتصدى لهذه الشعب الثلاث في وعينا القومي. الفيلسوف هو صاحب هذا الموقف الحضاري الذي يعبر عن الوعي بالتاريخ. الأفغاني والطهطاوي وشميل فلاسفة بهذا المعنى كما كان أراسم ومونتي وتوماس مور فلاسفة قبل ظهور الفكر المنهجي وبدايات الفلسفة عند ديكارت وبيكون قبل أن تبنى المذاهب الفلسفية التي نعنيها بقولنا. هل ماتت الفلسفة؟ سؤال قد يكشف عن الإحساس بالدونية أو عن احتقار للذات أمام الغرب أو ينم عن يأس دفين وحسرة بالغة الألم على الواقع، ولكنه سؤال إذا وضع في الزمان وفي التاريخ قد يبعث على الأمل ويدفع إلى الاعتزاز بالنفس والثقة بالروح.
الصراع بين الكليات الجامعية عند كانط1
دراسة في حرية البحث العلمي
أولا: نشأة الجامعات في أوروبا
منذ نشأة الجامعات في أوروبا في القرن الثاني عشر الميلادي، تطرق الفلاسفة إلى موضوع الجامعة، خاصة فيما يتعلق بحرية البحث العلمي، أو بدورها في المجتمع، وتحقيق الأهداف القومية للبلاد، وليس هنالك فيلسوف إلا تطرق للبحث العلمي منهجا وموضوعا، أو معهدا ومؤسسة. لقد أنشأ أفلاطون «الأكاديمية»، وأسس أرسطو «اللقيوم»، بينما آثر سقراط التعليم في الأسواق. كما رفض أوغسطين مناهج التعليم في عصره، وآثر استمداد علمه من تجاربه الذاتية. وقد ظهر فكر «المعلم الملائكي» توما الأكويني من تدريسه في نابلي، مثل فكر أستاذه ألبير الكبير. ومنذ بداية العصور الحديثة وموضوع الجامعات يثار على أوسع نطاق حتى ثورات الشباب عام 1968م، وتحديد ماركيوز لدور الطلبة في قيادة حركة التغير الاجتماعي، بعدما حدده ماركس في العمال، وماو تسي تونج في الفلاحين.
وإذا كان ديكارت هو الذي بدأ العصور الحديثة بنقد عقم التعليم في المدارس القائمة، فإن كانط في القرن الثامن عشر هو الذي حول ذلك إلى موضوع مستقل، وكتب فيه مؤلفه الشهير «الصراع بين الكليات»، بين كلية الفلسفة من ناحية وكليات اللاهوت والقانون والطب من ناحية أخرى، واضعا بذلك مشكلة الحريات الأكاديمية ودور الجامعات في البحث عن الحقيقة، وأزمة هذا البحث بين سلطة الحكومة وتربية الجماهير. ثم جاء أساتذة الجامعات الألمان، الكانطيون في القرن التاسع عشر ، وساهموا في خلق ثقافة وطنية: «الأيديولوجية الألمانية» وحددوا دورهم في تربية الوعي القومي، خاصة فشته، ومقاومة المحتل، بل وتحقيق الأهداف القومية، في الاستقلال والوحدة والاشتراكية خاصة، فكانت الجامعات الألمانية قلب الأمة، وعقلها، ومنطلق قواها. ثم جاء دور الجامعات ومراكز البحث العلمي في القرن العشرين، في إعداد البحوث، وتجهيز المعلومات لمراكز اتخاذ القرارات في الدولة، أو للقيام بالصناعات الحربية أو المدنية، وتمويل الشركات الكبرى، أو مراكز الاستخبارات، لمعظم مشروعات البحوث، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كما هو الحال في أميركا حاليا. ثم ثار الطلاب والمثقفون ورجال البحث العلمي على هذا الدور، وآثروا اتخاذ موقف نقدي من المجتمع الصناعي المتقدم، ووضع الحقيقة والتعبير عنها فيه، مما جعل دور الجامعات في أوروبا أقرب إلى دور الجامعات الجديد الذي كان صدى لتجارب البلاد النامية التي حاربت الاستعمار دفاعا عن استقلالها الوطني، وهذا الدور الجديد هو قيادة العمل الوطني، وقيادة الثورة الوطنية، كما كان الحال في الجامعات المصرية منذ نشأتها، وكما كان الحال إبان قيادة الثورة الإسلامية الكبرى في إيران، وانطلاقها من جامعة طهران.
وقد ارتبطت نشأة الجامعات في أوروبا بالفلسفة الإسلامية وبمناهج التعليم في الشرق الإسلامي، فخرجت العلوم والمعارف من الكنائس والأديرة إلى المدارس والجامعات، وحمل العلم، لا رجال الدين (آباء الكنيسة، والقساوسة، والرهبان) فقط، بل أيضا رجال الثقافة وأساتذة الجامعات. فانتقل العلم من الدين إلى الدنيا، ومن علوم الغايات إلى علوم الوسائل. وبعد الحروب الصليبية، وإثر القوافل التجارية، وعبر إسبانيا وجنوب إيطاليا والقسطنطينية، تعرفت أوروبا على نماذج جديدة للعلم، موضوعا ومنهجا وطرقا للتدريس؛ فقد اعتمدت الفلسفة الإسلامية على منهج الحوار، والجدل، والمناقشة، والإقناع، والبرهان. كما بحثت في كل شيء ولم تعد هناك أسرار إلهية أو محرمات دينية يؤمن بها العقل ويسلم بها الإنسان دون برهان. كان العقل والإيمان شيئا واحدا، والفلسفة والدين حكمة واحدة؛ فلا سلطان إلا للعقل وحده، وهو مقياس الإيمان الصحيح. ولقد انتشر هذا النموذج الإسلامي الجديد في الغرب لدرجة أن الفيلسوف المسلم أصبح النموذج الجديد للفيلسوف، في مقابل اللاهوتي المسيحي واللاهوتي اليهودي، كما عرض ذلك أبيلار في كتابه المشهور «حوار بين يهودي وفيلسوف ومسيحي». وتحول النموذج الإسلامي إلى الحقيقة ذاتها في الوعي الأوروبي، وأصبح مرادفا لها على نحو لا شعوري. ومن ثم تم اتهام الفلاسفة العقليين في أواخر العصر الوسيط وبدايات العصور الحديثة بالإلحاد والخروج عن الدين، وأنهم تلاميذ المسلمين. وبدأت حركة رد فعل لتحويل المسلمين عن دينهم، باستعمال قواعد الجدل والمنطق الجديد، كما كان الحال عند ريمون الليلي. ومع ذلك، بدأ الصراع في الغرب بين العقل والعلم من ناحية، وبين اللاهوت والنظم السياسية من ناحية أخرى، أي بين النموذج الإسلامي والسلطتين الدينية والسياسية في الغرب. وقد انتصر النموذج الإسلامي في النهاية، بالرغم من محاكم التفتيش واضطهاد العلماء، وإحراق جيوردانو برونو، وسجن جاليليو، حتى انتصر العلم في عصر النهضة، والعقل في القرن السابع عشر، والثورة الاشتراكية الإنسانية في القرن الثامن عشر، معلنة المبادئ الثلاثة: الحرية، والإخاء، والمساواة، وأصبحت الحضارة الأوروبية كلها ترتكز على العلم والعقل في القرن التاسع عشر، قبل أن تستغل ذلك كله من أجل الاستعمار، والسيطرة، ونهب ثروات الشعوب غير الأوروبية. وتبدأ أزمة القرن العشرين في الغرب: أزمة القيم، وأزمة الموارد، وأزمة الطاقة، ومن يدري؟ فربما عاد النموذج الإسلامي من جديد فارضا نفسه على الغرب، كما فعل أول الأمر في بدايات العصور الحديثة، فيجد الغرب فيه خلاصه من أزمته، وهو في نهايات دورته الحضارية الأولى.
لم تكن الجامعة تعني في العصر الوسيط في أوروبا كليات عديدة في مكان واحد، بل كانت مجموعة من الكليات في أماكن متفرقة، وهذه الحالة ما زالت سائدة حتى الآن. وكانت تشير إلى الأبنية والطلاب والأساتذة والحياة الجامعية، بما فيها من تقاليد وأعراف. وهذا ما يدل عليه لفظ
ناپیژندل شوی مخ