انسان دین
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
ژانرونه
لم يبدأ نشاط ماني التبشيري في بابل كما هو متوقع، بل في الهند، حيث مكث فترة ثم عاد إلى طيسفون، ومن هناك بدأ بإرسال حوارييه شرقا وغربا تحت حماية الملك الفارسي «شابور»، الذي سمح له بنشر تعاليمه بحرية في كل مكان من الإمبراطورية الفارسية، وبعث إلى الولاة والحكام لتيسير أمر الدعاة الذين انتشروا من آسيا الوسطى إلى مصر. كما تولى ماني بنفسه القيام برحلات تبشيرية عديدة، مؤسسا جماعات جديدة من الأتباع أنى رحل، تاركا بين أيديهم نسخا من الكتب العديدة التي وضعها بنفسه، والتي كان يتباهى بتأليفها قائلا: إنه يضع أناجيله بنفسه على عكس سابقيه من أمثال عيسى وبوذا وزرادشت، الذين دونت أناجيلهم بعد وفاتهم وبيد خلفائهم. ولقد ساعدت هذه الظروف المواتية، وامتداد العمر بماني الذي عاش حتى سن الستين، على ترسيخ الدعوة المانوية في أرجاء الإمبراطورية الفارسية وفي خارجها، كما أن وفاته لم تؤثر على استمرار النشاط التبشيري؛ فنحو الغرب وصلت المانوية إلى فلسطين، ثم انتشرت على نطاق واسع في مصر، ومن مصر انتشرت إلى أفريقيا وإسبانيا، كما عبرت المانوية من سوريا إلى اليونان وإيطاليا حيث كانت تصطدم بالجماعات المسيحية وبالسلطات الرومانية التي كانت ترى فيها دسيسة فارسية. أما نحو الشرق فقد وصل التبشير المانوي إلى بلاط الإمبراطور الصيني على طول طريق الحرير الذي توضعت عليه جماعات مانوية قوية التأثير. وعن المانوية في بلاد العرب يروي الجغرافي ابن رسته خبرا عن وصول البعثات التبشيرية المانوية إلى بلاد العرب من الحيرة، التي دانت بالمانوية حوالي عام 300 للميلاد، في حين يروي ابن قتيبة أن بعض القرشيين كانوا مسئولين عن إحضار البدعة المانوية من الحيرة.
ولقد سار أتباع ماني على النهج الذي اتبعه في مهاجمة الأديان السابقة عليه، وقالوا ببطلانها جميعا بعد ظهور الرسالة الحقة، ودخلت المانوية في كل مكان في صراع لا هوادة فيه مع العبادات والأديان الشمولية الأخرى؛ فإلى جانب صراعها مع وثنية عصرها المتنورة ربيبة الثقافة الهيلينستية، فقد دخلت في صراع مميت مع ديانتين شموليتين؛ إحداهما شائخة هي الزرادشتية التي كانت تسعى إلى تجديد نفسها من خلال حركة إحياء شاملة، والأخرى فتية هي المسيحية التي كانت تشق لنفسها طريقا صاعدا بإصرار نحو روما والقسطنطينية. ولقد تلقت المانوية من الزرادشتية أولى ضرباتها القاسية، عندما مات مؤسسها شهيد دعوته، وأعدم إثر محاكمة صورية في بلاط الملك «بهرام» خليفة شابور، نتيجة للدسائس التي حاكها له الكهنة المجوس، ثم جاءتها الضربة الثانية باعتناق الإمبراطور الروماني «قسطنطين» المسيحية وإعلانها دينا رسميا للدولة، وما تبع ذلك من ملاحقة واضطهاد للمانويين. أما الضربة الثالثة فجاءت من الديانة الشمولية الجديدة وهي الإسلام، عندما قامت الخلافة العباسية في بغداد باستئصال شأفة المانوية من موطنها الرئيسي في إيران والمشرق العربي. ومع ذلك فقد صارعت المانوية طويلا عقب ذلك من أجل البقاء، واستمرت جيوب لها قائمة هنا وهناك حتى مطلع العصور الحديثة .
بعد هذه الوقفة المطولة عند مفهوم الدين الشمولي، والأمثلة التي اخترتها لأجل توضيحه، وهي وقفة اعتبرتها ضرورية، أريد قول كلمة أخيرة حول موضوع المستويات الشمولية للدين، وهي أن الدين الشمولي ليس بالضرورة مرحلة حتمية في تطور الظاهرة الدينية؛ فقد تراوح الظاهرة الدينية لدى ثقافة ما عند مرحلة «العبادة» التي لا تطمح إلى هداية عبادات الثقافات الأخرى إلى صراطها، أو عند مرحلة «دين القوم» الذي يتكون من عبادات متآلفة لا تتناحر ولا يعدو بعضها على بعض. ولعل أوضح مثال عن «دين القوم» قائم إلى يومنا هذا، ويصر على عدم التحول إلى دين شمولي، هو الديانة الهندوسية، التي بقيت محصورة ضمن القارة الهندية منذ أقدم العصور، بطوائفها المتعددة وعباداتها المتنوعة، التي لم تطمح واحدة منها إلى ابتلاع البقية والتحول إلى دين شمولي، لا نستثني من ذلك البوذية، التي طغت في فترة ما ثم انحسرت راجعة إلى وضعها السابق في الهند كعبادة بين بقية العبادات، واكتفت بممارسة نشاطها الشمولي في أقطار مشرقية أخرى. هذا الوضع الخاص للهندوسية هو الذي جعل أهلها فخورين بخلو دينهم من التعصب والأفكار الدوغمائية، وخلو تاريخهم من حركات الاضطهاد الديني. وقد وصف المؤلف العربي «البيروني» (أبو الريحان المتوفى عام 440 هجرية) في كتابه «تحقيق ما للهند» تسامح الطوائف الهندية تجاه بعضها، فقال بأنهم على قلة تنازعهم في شئون المذهب، فإن نزاعهم لا يتعدى الجدال الكلامي إلى الإضرار بالنفس. كما وصف عزوف الطوائف عن التبشير، والمبالغة في ذلك إلى حد عدم قبول من ليس منهم إذا رغب فيهم أو صبا إلى دينهم.
8
وهناك موقف مشهور للمهاتما غاندي في هذه المسألة، عندما جاءه مسيحي هندي يطلب التحول إلى الهندوسية، فقال له: اذهب وكن مسيحيا صالحا. ويعني بذلك طبعا أن كل الطرق إلى الله صالحة شريطة توفر صدق النية وقوة الإيمان والعزيمة. أما ما نراه اليوم من نزاعات دينية في الهند، فيرجع إلى اصطدام الطوائف الهندوسية بالأديان الشمولية التي تجاهر ببطلان العقائد الهندوسية، وتسعى بشكل دائب إلى اكتساب مزيد من الهندوس إلى صفوفها ، أو إلى تعصب أديان غريبة عن الهندوسية مثل ديانة السيخ، وهي ديانة مستحدثة ابتدرها المعلم «ناناك» أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، بتأثير الأديان الشمولية التي غزت الهند، واتخذت طابعا عسكريا في عهد خلفاء المعلم الأول.
في القسم الآتي من دراستنا، سوف ينصب الجهد على ما ندعوه، وفق المنهج الفينومينولوجي، ببنية الحد الأدنى، وهي البنية الأساسية التي يمكن اختزال الظاهرة إليها لغرض التعرف على ماهية هذه الظاهرة؛ فأنا ما زلت ملتزما بالإجابة عن السؤال الأساسي الذي طرحته في مقدمتي، وهو: ما هو الدين؟
الباب الرابع
المعتقد أو بنية الحد الأدنى للظاهرة الدينية
الفصل الأول
أفكار استهلالية
ناپیژندل شوی مخ