انسان دین
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
ژانرونه
5
ومعناه القرين، فقال له: اعتزل هذه الملة؛ فلست من أهلها، وعليك بالنزاهة وترك الشهوات، ولم يئن لك أن تظهر لحداثة سنك. فلما تم له أربع وعشرون سنة أتاه التوم فقال له: عليك السلام يا ماني مني ومن الرب الذي أرسلني إليك واختارك لرسالته، وقد أمرك أن تدعو وتبشر ببشرى الحق، وتحتمل في ذلك كل جهدك.»
6
وقد طور ماني إلهاماته التي تلقاها من الوحي السماوي، في عدد من الكتب التي بقيت لدينا نتف منها بنصوصها الأصلية، أو في اقتباسات المؤلفين المسلمين بشكل خاص، كما تم العثور على عدد لا بأس به من الأدبيات المانوية باللغة السريانية، وهي لغة ماني الأساسية، وباللغة القبطية المصرية. اعترف ماني بقيمة الديانات السابقة عليه، ولكنه اعتبرها مؤقتة وغير كاملة؛ ولذلك أعطى لنفسه لقب «خاتم الأنبياء»، وكان مشروعه الكبير يقوم على صياغة ديانة شمولية تحتوي على الأفكار الدينية القديمة، وتتجاوزها في تركيب جديد قادر على اكتساب الجميع إلى عقيدة موحدة. فلقد تأثر بشكل رئيسي بالأفكار الثنوية الإيرانية، ولكنه أخذ العديد من الأفكار المهمة عن المسيحية والمثروية والهندوسية والرافدية القديمة، إضافة إلى خلفيته الشخصية الغنوصية، فجاءت ديانته بحق مذهبا توفيقيا من الطراز الأول، يهدف في ذلك العصر القلق إلى توحيد العالم بكامله تحت راية دينية واحدة. ويصف ماني بنفسه ذلك الطابع العالمي لتعاليمه فيقول: «كما أن نهرا يرفد آخر لتكوين تيار دافق، كذلك صبت الكتب القديمة في كتاباتي فشكلت حكمة كبرى لا مثيل لها في الأجيال السابقة.» ورغم أن هذه المحاولة الطموحة تذكرنا بمحاولة القيصر السوري الفتى، والتي سبقتها بعقدين من الزمان فقط، إلا أن الفرق شاسع بين هاتين المحاولتين، سواء من حيث البدايات أو المصائر التاريخية. ويأتي الفرق من التباين الجذري بين الداعيتين، فبينما بقي إيلاجابال أسير عبادة محلية لم تستطع تطوير نفسها بما يتناسب وطبيعة العصر؛ فإن ماني قد استوعب في سن مبكرة كل ثقافة عصره، وخاطبه بأدواته، مطورا نظاما دينيا قادرا على مقارعة الأنظمة الدينية والفلسفية المتنافسة على الساحة العالمية.
اتخذ ماني الثنوية الإيرانية منطلقا له، وهذه الثنوية تنتمي إلى زرادشت الذي عاش وبشر بديانته زمنا ما، فيما بين عامي 550-650ق.م. أي خلال الفترة التي شهدت ظهور الفلسفة الإغريقية في الغرب، والبوذا ولاوتسي وكونفوشيوس في الشرق. وللزرادشتية تاريخ طويل تغير عبره معتقدها تغيرا كبيرا؛ فتعاليم زرادشت الأصلية التي نجدها في الكتاب الوحيد المعزو إليه، وهو ال
Gathas
أي الأناشيد، هي تعاليم توحيدية مستقيمة، وزرادشت يعتبر نفسه نبيا تلقى الوحي عن الإله الواحد الخالق المدعو «أهورا مزدا».
وقد جاءت الثنوية في تفكير زرادشت من توكيده على صفة الخير المطلق في شخصية الخالق؛ فإذا كان الله هو الخير، فلا بد من تقديم تفسير لوجود الشر في العالم، والتفسير الذي اقترحه زرادشت يقول بنشوء روحين متعارضتين عن الإله الأزلي الحق خالق السماء والأرض؛ فروح خيرة اختارت الخير منذ البداية وهي «سبينتا ماينيو»، وأخرى شريرة اختارت الشر منذ البداية أيضا وهي «أنجرا ماينيو»، الذي سيدعى «أهريمان» فيما بعد. وهذا الخيار البدئي هو النموذج الذي ستحتذيه خيارات البشر اللاحقة فيما بين الطريقين، وبدافع أخلاقي حر تمام الحرية. إلا أن هذه الثنوية التوحيدية قد خضعت فيما بعد إلى تحوير أساسي، فصار أهورا مزدا إله زرادشت طرفا في الصراع أمام ممثل الشر أنجرا ماينيو، وتراكمت أدبيات ميثولوجية وطقسية كثيرة حول المعتقد الزرادشتي الأصلي.
7
ولكن المانوية ترفض اعتبار الخير والشر قوتين متكافئتين، كما ترفض اعتبار ممثل الشر إلها يقف على قدم المساواة مع الله، وهذه نقطة الخلاف الجذرية والأساسية بين ماني والزرادشتية المتأخرة. يقول ماني بوجود مبدأين رئيسين؛ الأول هو الله، والثاني هو المادة؛ فمن الله يأتي كل خير، ومن المادة يأتي كل شر. وقد أنجبت المادة الشيطان أهريمان، وهذا الشيطان ليس إلها رغم سلطته على النصف المظلم من الكون، وهو يخسر حربه مع الله، كما بينت الأسطورة المانوية التي أوردناها آنفا، ويجري إلقاؤه في القيود وكف أذاه نهائيا في آخر الزمان. أما عن مكان الإنسان في هذا العالم، فإن شرطه المادي يجلب له الألم في الحياة، وهو لا يستطيع تخليص نفسه والالتحاق بالعالم النوراني إلا بالمعرفة التي تكشف له حقيقته وحقيقة العالم وتخلصه من آثار الظلمة. ولمساعدة المؤمنين على اجتياز درب خلاصهم، فقد قدم لهم ماني تصورا للعالم وللإنسان ولجميع الظواهر الكونية والطبيعية والبيولوجية، فيما يمكن تسميته بنظام معرفي شامل. وقد كان هذا النظام المعرفي هو ما جذب شخصية متميزة مثل القديس أوغسطين الذي اعتنق المانوية قبل تحوله إلى المسيحية، وقال في كتابه «الاعترافات» إن ما جذبه إلى المانونية لأول وهلة هو إيحاؤها بالقدرة على تفسير كل ظاهرة من ظواهر الدنيا.
ناپیژندل شوی مخ