إن ذكرياتي في بيت شارع الملك الناصر تنثال على ذهني، فما أدري أيها أترك وأيها أثبت، مع أنني تركت هذا البيت، وأنا أخطو إلى الثانية عشرة من عمري.
لا أستطيع أن أنسى مثلا أن محمد باشا محمود زعيم حزب الأحرار الدستوريين وابن الرجل الذي عرض عليه الملك فأبى كان يزور أبي كثيرا في هذا البيت، وكان أحيانا يأتي وأبي في الدور الأعلى لم يكمل ارتداء ملابسه، فكان يأمرني أن أذهب، فأجالس محمد باشا محمود حتى ينزل هو، ولم أكن أجد في هذا الأمر غرابة، ولم أتبين هول الموقف الذي كنت أتعرض له إلا حين بلغت السن التي تمكنني من معرفة قدر الرجل الذي كنت أرسل لمجالسته.
وأذكر أن محمد باشا جاء يوما يسأل عن أبي، وكنت ألعب في فناء البيت، وحين رأيت سيارته تقف بباب المنزل قصدت إليه، وكأنني أقصد إلى صديق مثلي، وسألني عن أبي، ولم يكن بالمنزل، فجاذبني الحديث فأخبرته أنني طلبت من أبي كرة، فأبى أن يشتريها لي، وقد رويت له ما رويت، وكأنه ترب من أتراب ملعبي أفضي له بمضايقاتي في الحياة.
وفي اليوم التالي كانت سيارة محمد باشا تقف بالباب، ويتدحرج منها كرة من أفخر الأنواع، وأذكر أن ماركتها كانت حرف تي بالإنجليزية، وكنا نحن الأطفال نسمع عن عظمة هذه الماركة كأنها حلم من الأحلام هيهات أن يتحقق لنا رؤيته.
وأذكر أيضا من العظماء محمود باشا عبد الرازق كبير عائلة عبد الرازق، وكان يحبني، وكان إذا جاء إلى البيت يحرص أن يسأل عني قبل أن يسأل عن أبي، فإذا وجدني راح يلاعبني ويداعبني، ولا يعنيه إن كان أبي موجودا أم لا حتى يأتي أبي. أما الرجل الذي اعتبرني ابنه، وكان دائم السؤال عني فهو الشخصية الإسلامية والسياسية الأسطورية عبد الحميد بك سعيد، وكان رجلا ضخما لم أر أحدا في مثل مهابته، وكان ملتحيا، وكان يمسك بعصا غليظة لم أر شبيها لها.
وقد علمت حين كبرت قليلا أنه لم يتزوج، وكان إخوته حين يلحون عليه أن يتزوج يقول: «يكفيني ثروت بن دسوقي فهو ابني.»
ذهبت مرة إلى مجلس النواب، وأنا في العاشرة من عمري، وكان أبي وكيلا لمجلس النواب، ولقيني عبد الحميد بك سعيد وأنا في طريقي إلى حجرة أبي بالمجلس، فإذا هو يقبل علي في تهليل عظيم، وفي ترحيب خجلت له، وراح يقول: «أجيب لك إيه؟ أديك إيه؟ خذ.» وأعطاني سبحته ذات الحبات التسع والتسعين، وصحبني إلى حجرة أبي، وطلب لي كوب خروب، وكان بوفيه المجلس شهيرا بخروبه.
وانتقلنا إلى بيتنا في العباسية رقم 10 شارع الجنزوري، وكان يقع على ميدان كبير. وكان البيت غاية في الفخامة إذا قورن ببيت الملك الناصر، وغاية في الضخامة إذا قورن بغيره من البيوت. ولا يمكن أن نطلق عليه قصرا بأي حال من الأحوال إنما كان بيتا واسع الأبهاء، رحب اللقاء، بعيدا عن الفخامة إذا أنت قارنته بقصور الأثرياء. كان البيت مكونا من طابقين في كل طابق سبع غرف، وكان البدروم أيضا يحتوي على سبع غرف، وكان بالسطح أربع غرف، فالبيت إذن كان مكونا من خمس وعشرين غرفة، وكان له سلاملك يصلح للسكنى، ولكن صاحب البيت الذي باعه لنا المهندس حسين عزي كان قد باع السلاملك قبل أن يبيع لنا البيت، واشترى أبي هذا السلاملك قبيل وفاته بسنوات قليلة، ثم بعنا نحن البيت والسلاملك جميعا بأثمان غاية في الضآلة بعد وفاة أبي، فلم يكن من المعقول أن نحتفظ بهما، وقد أصبح لكل منا نحن الأخوة الأربعة أسرته الخاصة.
مكثت في هذا البيت منذ أول يناير عام 1939م حتى 11 يونيو عام 1950م، وهو اليوم الذي تزوجت فيه، وانتقلت إلى بيتي بالزمالك؛ لأكون أسرتي مع زوجتي ابنة عمي الشاعر الكبير عزيز باشا أباظة، وعزيز باشا ليس في مكان عمي إذا نظرنا إلى الترتيب الأسري، وإنما نشأت أقول له يا عمي لفارق السن. أما هو ففي مكان ابن عمي؛ لأن أباه ابن عم أبي.
حين ذهبنا إلى العباسية كنت أنا متقدما للشهادة الابتدائية، وقد رأى أبي أن ينقلني إلى مدرسة العباسية القريبة من البيت، وقد نلت منها الشهادة الابتدائية، ثم دخلت مدرسة فاروق الأول النموذجية، وظللت بها حتى السنة الرابعة الثانوية. وبالطبع كان الناجح في هذه السنة يمنح شهادة كانت تسمى شهادة الثقافة، وبالطبع كنت مصمما أن أنتسب إلى القسم الأدبي في التوجيهية التي تقابل اليوم الثانوية العامة، ولم يكن بمدرسة فاروق قسم أدبي، فانتقلت إلى مدرسة فؤاد الأول، ونلت منها التوجيهية، وتقدمت إلى كلية الحقوق عام 1946م، وتخرجت فيها عام 1950م، وكنت تزوجت قبل أن تظهر النتيجة، والعجيب أنني نجحت في جميع سنوات الانتقال في الكلية إلا في السنة النهائية التي تزوجت بعد الانتهاء من امتحاناتها. فقد ظهرت النتيجة، واتضح أن عندي ملحقا في علمين؛ فكنت أذاكر وأنا متزوج، والحمد لله نجحت، ولم أضطر إلى إعادة السنة، وهكذا تسلمتني زوجتي أبقاها الله ورعاها، وأنا طالب لا أزال.
ناپیژندل شوی مخ