والغنوة طالعة من الحلق
اتجمعوا العشاق في زنزانة
مهما يطول القهر مهما يطول الفقر
مهما يطول القهر بالسجانة
مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر؟
وكنت أشارك في تهريبه وإحضاره إلى كلية الآداب في إحدى المدرجين الكبيرين 74 أو 78. وكان العميد لا يستطيع أن يفعل شيئا أمام حشد الطلاب وشعورهم بالهزيمة والقهر والفقر.
وكان هناك نظام الأسر الطلابية ومنها أسرة مصر التي كان يغلب عليها الطابع الشيوعي. وكان لا بد لكل أسرة من عضو هيئة تدريس يكون مسئولا عن نشاطها، وكان رضوان الكاشف هو رئيس أسرة مصر، ولا تجد رائدا لها حتى تصبح شرعية، فتطوعت لذلك. وكان نشاطها يتعلق بتحرير مصر واستقلالها كما كانت الحركة الوطنية في الأربعينيات. وكان رضوان الكاشف قد اختار عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية موضوعا للماجستير وأنا المشرف عليه. وكانت الخطة في صياغتها وأسلوبها مثل خطب النديم، فطلبت منه أن يحول الخطابة إلى برهان، ويبدو أن الطلب كان صعبا، فتوجه إلى معهد السينما، وتخرج منه، وأصبح مخرجا ناجحا، له عدة أعمال يشار إليها بالبنان مثل «عرق البلح». وأنوي الكتابة عنه إذا أمد الله في العمر، كما فعلت مع المخرج توفيق صالح إعجابا وتقديرا لأفلامه الجادة مثل «درب المهابيل».
واستدعاني صوفي أبو طالب رئيس الجامعة وسألني: هل أنت شيوعي مثل هؤلاء الذين تجلبهم للجامعة؟ فأجبت لا، ولكني مثل جمال الدين الأفغاني، فرد قائلا: الشيوعي! وهو نفس السؤال الذي سألني إياه الرئيس السابق محمد مرسي عندما استدعى بعض المثقفين إلى قصر الاتحادية لمناقشتهم، وسأل: أين د. حسن؟ فقمت، فقال: يقولون عنك شيوعي! وكان يظن أني من الإخوان، وقد سافرنا سويا في مجموعة حوار في ألمانيا قبل أن يصبح رئيسا، فأجبت: لا، بل أبو ذر الغفاري. فأجاب أحد الحاضرين : شيوعي! فقد كانت صورتي في الإخوان أني شيوعي، وصورتي عند الشيوعيين أني إخواني، وصورتي في أجهزة الأمن أني إخواني شيوعي. ولم يكن «اليسار الإسلامي» قد انتشر بعد ليحل التناقض بين الإسلام والشيوعية أو الاشتراكية أو الأيديولوجيات العلمانية كالليبرالية والقومية. وما زالت أغاني الشيخ إمام ترن في أذني كلما اكتأبت أو شعرت بالإحباط.
ولما كنت ما زلت أعزب، وقربت التزاماتي الأسرية على الانتهاء حتى أفكر في نفسي، ومنذ أن عدت من فرنسا وعينت بقسم الفلسفة بآداب القاهرة التقيت بمجموعة من الشباب مثلي وعلى رأسهم عبد المنعم تليمة، ومنهم عبد الغفار مكاوي، وعبد المعطي شعراوي، والنعمان القاضي. كان من ينظم الشعر، ومن يكتب القصص، ومن يترجم عن الآداب الأجنبية، ومنا من ينظر للثورة وهو عبد المنعم تليمة الذي استفدت منه كثيرا في استعمال المصطلحات الثورية ومناهج التحليل الثوري. وكنا نقضي ليلة أسبوعيا في منزل أحدنا، نحاول التعرف على أسباب الهزيمة ومقومات النصر. وفي نفس الوقت كنا نحتاج إلى الحب، ومن أقرب إلى الحب من معيدات الكلية اللاتي ربما يعشن نفس القضية؟ وكن ثلاث معيدات تخرجن من قسم الإعلام عندما كان ما زال جزءا من كلية الآداب. كانت أكثرهن جمالا ونشاطا وحيوية ورياضة وسباحة في حمام نادي التوفيقية متزوجة من ضابط شاب، وتريد الانفصال عنه، وكان أكثر المرتبطين بها زميلا من قسم الفلسفة، وكان يعد رسالة ماجستير في علم الجمال عند كانط في «نقد ملكة الحكم»، كان يسكن في غرفة في شبرا، وليلة لا تنسى قضيناها، وهي ترقص لنا، وأنا أقول في نفسي ما أحلى الحب والزواج! ولكن هاتفا داخليا كان يقول لي دائما احذر من المطلقات وانتظر العذراء، ومن جرب الطلاق أول مرة لا يستبعد أن يمر به مرة ثانية. وكان الارتباط بالعذراء من بقايا الرومانسية القديمة، وقد تزوج الرسول مطلقة، خديجة، وأحب عائشة العذراء؛ فلا تعارض بين الاثنين. ومن منا قادر على أن يكون مثل الرسول؟
وقد بدأت التفكير في الزواج بعد أن بدأت في تسديد آخر قسط في جهاز شقيقتي الصغرى نادية، خمسة عشر جنيها شهريا، ولم يبق إلا خمسة عشر جنيها؛ فقد كان مرتبي ثلاثين جنيها كنت أساعد بها الوالد والوالدة لأن معاش والدي، خمسة جنيهات، لا يكفي. وكان أخي سيد قد تكفل بزواج باقي أخواتي، سعاد وفاطمة وعلية، بعد أن تزوجت أختي الكبرى نبيهة على اسم والدتي قبل أن يتوظف أخي. وكنت أعيش من دخلي من المجلات الثقافية، «الفكر المعاصر» و«الكاتب»، و«تراث الإنسانية»، و«المجلة»، وبعض الأحاديث التلفزيونية أعيش من دخلها وأعول أسرتي منها وما تبقى لشراء الكتب، نصوص الفكر الإسلامي؛ فقد كان لدي من الفكر الغربي الأوروبي ما يكفي. وكان البيت مرة خاويا من أي نقود، ورجعت من التلفزيون بأربعة جنيهات، ومررت على والدتي ووالدي، فقالت الوالدة: «عاوزين نبيض الشقة يا أبو علي.» فأعطيتها ما معي، وعدت إلى المنزل خاوي الوفاض كما نزلت، وكانت زوجتي تفعل نفس الشيء مع أسرتها، ولكن كنا سعداء، ونعيش بأربعة جنيهات في الأسبوع بما فيها المواصلات، وكانت الأشياء رخيصة وليس كما هو الآن. كنت سعيدا بشبابي وبشبابها، وكان الحب بيننا هو المانع من أي شقاق نسمع عنه في الأسر الحديثة التكوين وكما تصور الأفلام المصرية.
ناپیژندل شوی مخ