وكانت قبة جامعة القاهرة تبدو لي من شارع الجامعة وأنا داخل إليها مثل معبد البانثيون وقبة السربون. وكنت أشعر بالفرح داخلي أنني في حضرة العلم والعلماء في الصباح، وأحزن وأنا أغادرها في المساء، ولسان حالي يقول: هذه هي الجامعة التي تعلمت فيها منذ عشر سنوات والآن أنا أدرس فيها «عود على بدء»، أعود إليها منتصرا بعد أن غادرتها مهزوما ومتهما بقلة الأدب في مخاطبة العمداء، أعطي مثلا جديدا للطلاب بدلا من تقليد الجيل القديم، يكفي الارتجال دون كتاب مقرر وإعطاء الأسئلة من أول العام مكتوبة بالطباشير الأبيض على السبورة السوداء، وجامعا بين الفكر والواقع، ومعطيا خطابا من القلب إلى القلب يجمع بين العقل والوجدان. ومن هنا بدأ مشروع «التراث والتجديد»، كنت أشعر بانتمائي المطلق له؛ لذلك جعلت وديعة باسم كلية الآداب للصرف من عائدها على البحث العلمي والمؤتمرات التي تربط بين الأقسام مثل اللغة، «النص والتأويل»، وتشجيع الأقسام على عقد مؤتمراتها السنوية للخروج من العلم إلى الثقافة، وأنا سعيد بذلك، وما زلت حتى الآن أتوحد معها، ولا أدري إذا كانت هي تتوحد معي أم لا.
وكانت هزيمة 1967م طعنة في قلب كل مواطن. وتحولت من باحث فلسفي إلى مفكر وطني كما حدث لفشته بعد احتلال نابليون لألمانيا؛ إذ تحولت محاضراته كلها إلى فلسفة للمقاومة، الأنا في مقابل اللاأنا من أجل الوصول إلى الأنا المطلق، وهو الجدل الهيجلي.
1
وقد كتب هيجل ضمن مؤلفات الشباب مقارنة بين فشته وشلنج. وكان طلاب الكليات الأخرى مثل كلية الحقوق يأتون إلى الآداب لسماعي، ومنهم جابر نصار رئيس جامعة القاهرة السابق.
2
وملأت المجلات الثقافية ضجيجا فلسفيا عن المقاومة لتقوية الروح المعنوية للشباب. وشاركت في مظاهرات مارس 1968م ضد ما يسمى بأحكام الطيران التي كانت مخففة مقارنة بحجم الهزيمة، وقبض على كثير من المتظاهرين. وكنت أدعو للتحقيق في أسباب الهزيمة، والمشاركة في حرب الاستنزاف (1968-1969م) حتى توفي عبد الناصر عام 1970م، وشاركت في عزائه. وحزنت على تصفية الناصريين في 15 مايو 1971م، ثم استدعاني رئيس الجامعة محمد مرسي أحمد معترفا بأن محاضراتي عن المقاومة مسجلة في قسم الدقي، وهناك تحذيرات لي عن طريق رئاسة الجامعة بأنني موضوع تحت المراقبة، والأفضل أن أصمت أو أن أخفض الصوت أو أن أقبل الدعوة التي أتتني من إسماعيل الفاروقي لأزامله في التدريس في الولايات المتحدة، فقبلت الرحيل.
وكان الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم ظاهرة تنتقد الأوضاع السياسية، وتدعو إلى المقاومة لما بعد الهزيمة. استمعت إليه لأول مرة في كلية الحقوق خاصة «جيفارا مات» التي كان ينهي بها الغناء. وكانوا ثلاثة بعد أن انضم إليهم محمد علي الطبال، كانوا فقراء لأنه لا وظيفة لهم، وكانوا يسكنون في حوش آدم بشارع المعز لدين الله حيث نشأ نجيب محفوظ بالجمالية، وحيث نشأت أنا بباب الشعرية بجوار باب الفتوح. كان يحيي الطلبة والعمال مثل لجنة الطلبة والعمال التي تكونت في عام 1946م ضد الإنجليز والقصر، والمناداة بالاستقلال التام أو الموت الزؤام. وكان أمن الجامعة يود القبض على هذا الثلاثي الثائر وعلى حشد الطلاب، ولكن لم يكن قادرا؛ إذ كان يختبئ في عربة دخول الجامعة وفي الخروج منها، فكتبت لأول مرة عن هذه الظاهرة مقالا في «الكواكب»، المجلة الأسبوعية التي كان يرأسها رجاء النقاش، وكان المقال بعنوان «الشيخ إمام إمام المثقفين»، ولكن رئيس التحرير غير العنوان إلى «الشيخ إمام والمثقفون»، وكأنه قد استكثر عليه أن يكون إماما، وكان أول مقال أكتبه، وكان مثل الشيخ سيد درويش في ثورة 1919م. وكلاهما له لقب الشيخ، وكانت ألحانه يغنيها الطلاب معه أو بدونه مثل «يا بهية»، وانضم إليه زين العابدين فؤاد بأشعاره الثورية مثل:
اتجمعوا العشاق في الزنزانة
اتجمعوا العشاق في باب الخلق
والشمس من الزنازين طالعة
ناپیژندل شوی مخ