دولت عثماني د سندر زوی او وروسته
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
ژانرونه
تولى راشد باشا سوريا وهي في حالة تماثل حالة بغداد يوم تولاها مدحت، فمشى مرارا في طليعة الجنود المسيرة لتدويخ عصاة النصيرية في جبالهم، والحوارنة في معاقلهم، ولم يشغله ذلك عن النظر في شئون الولاية الداخلية، فمهد سبل التعليم. وفي زمنه أنشئت المدارس الكثيرة وظهرت في سوريا أول المجلات العربية، ونشط أصحاب الأقلام، فأنشئوا صحف الأخبار، ووسع لهم نطاق الحرية في التحرير، وكافأ المؤلفين بمال بعضه من عنده وبعضه مما كان يرد من الأستانة بناء على إشارة منه. وكانت في زمنه نهضة للعلم والأدب لا يزال كهول السوريين يتغنون بها، فما بال خلفائه - ومدحت منهم - تعذر عليهم أن ينهجوا ذلك النهج القويم؟
فلا يمرن بخاطرك بعد ما تقدم أن رجال الدولة في الحكومة الغابرة لم يكن فيهم من ينزع هذا المنزع؛ فالنفوس باقية على رغائبها ولكن العقبات أرصدت في وجوههم فردتهم على أعقابهم، وما كانوا بمرتدين إلا ليعاودوا الكرة بأيد مطلقات.
وإن شئت زيادة إيضاح فدونك أمثلة غير مأخوذة عن تواتر، بل هي منقولة عن مذكرات مشاهدات ومدخرة لمثل هذا اليوم: كلنا يعلم ما لمنيف باشا ناظر المعارف الأسبق من جلالة القدر، وما له من المكانة بين رجال العلم والأيادي البيضاء في خدمة الدولة، وكل ذلك لم يغنه عن نكبة نكبها لوشاية واش استخرج من كتاباته كلمات أولها على هوى بعض المقريبن؛ فعزل من نظارته وأمر بالإقامة في منزله زمنا إلى أن ظهرت براءته ظهور الشمس؛ فأعيد ناظرا للمعارف. وقد كان ساقني الحظ للاتصال به اتصالا مكينا، فأطلعته يوما على كراريس من كتاب خطي فقال بعد أن نظر فيها طويلا: هذا كتاب جزيل النفع، ولكن واأسفاه لو أتيتني به إلى المقام الرسمي في النظارة لما وسعني إلا أن أردك خائبا؛ إذ ليس في مجلس التفتيش والمعاينة من يجسر أن يرفع إلي تقريرا بجواز طبعه. واستطرد باسما: والسبب في ذلك أنه مفيد. ثم استرسل في الكلام إلا ما ألفنا سماعه منه من وصف اختلال الأحكام وهو يردد الحسرات متتابعة الواحدة تلو الأخرى.
قصدت الأستانة سنة 1886، وسعيد باشا إذا ذاك صدر أعظم وكامل باشا - الصدر الحالي - ناظر الأوقاف. وكان لأسرتنا سابق اتصال به منذ كان متصرفا لبيروت. فقصدته ثاني يوم وصولي فرحب بي وأشار إلي بمواصلة التردد عليه مدة إقامتي في الأستانة، واستبقاني لتناول الطعام على مائدته حتى إذا جلست للغداء سألني عن سبب قدومي الأستانة، وعما إذا كان لي حاجة تستوجب إسعافه إياي بقضائها؟ قلت: نعم، منذ سنتين شرع ابن عمي سليم البستاني في نقل دائرة المعارف إلى اللغة التركية، وألف لذلك لجنة من خيرة كتاب التركية برئاسة خلقي أفندي رئيس المكتب السلطاني فأنجزت منها نحو مجلدين وتوفاه الله قبل أن يباشر الطبع.
فرأيت أنا وإخوته أن نتم العمل، ونستأذن نظارة المعارف بالطبع. فقال: أرني مثالا مما كتب، فأبدي لك رأيي. فرجعت في الغد ومعي مثال في زهاء مائة صفحة كنت أعددته لنظارة المعارف فاستبقاه عنده ريثما تصفحه ثم قال لي - وهو ملم بالعربية: ليست دائرة المعارف بأفصح عبارة وأحكم لحمة وأجزل فائدة من هذا النقل التركي. فلا تتباطأ عن طلب الرخصة، ولك مني كل الموازرة، وهذا ابني صبحي بك صديقك من أعضاء مجلس التفتيش والمعاينة يعضدك بكل قواه. فقدمت الطلب إلى الناظر الذي أقيم خلفا لمنيف باشا أيام نكبته سنة 1886، وما زلت أتردد ثلاثة أشهر على نظارة المعارف، ولم تغنني معاونة المغفور له صبحي بك بكل قواه ولا انضمام بعض رفاقه إليه كالسلاوي، ولا موازرة كبار الكتاب كسعيد بك منفي اليمن وأبي الضيا توفيق بك منفي قونية الحيين، خلا من توفي منهم كجودت باشا وصبحي باشا، فإن الناظر لبث أذنا صماء.
ولما نفدت الوسائل قال لي كامل باشا: لئن ذهبت إلى الصدر الأعظم، فإنك - بلا ريب - تظفر بأربك. فكتبت عريضة وذهبت إليه، فما كان أشد عجبي إذ قال لي: حالا قرأت في الجرائد شيئا وسرني جدا إقدامكم على هذا العمل الخطير ولو خطر لي أنك لقيت هذه المماطلة لأغنيتك من تلقاء نفسي عن هذا العناء؛ فكلنا يطلب المفيد وكلنا في هذه الأمة واحد؛ فاذهب الآن مطمئنا، وعد إلي بعد ثلاثة أيام. وفي اليوم التالي كانت الرخصة بيدي، فعدت إليه في الأجل المضروب الذي ضربه لي، ولكن للتشكر وليس للتشكي.
غير أن المراقبة التي أخذت تشتد من ذلك الحين، وأسبابا أخرى حالت دول القيام بالعمل، ولا شك أن جهابذة كتاب الترك - وقد انطلقت أيديهم الآن - سيبرزون أمثاله على أتقن منوال.
تلك كانت غيرة بعض رجال الدولة على المعارف، ولم يكن دون ذلك تفانيهم في نشر لواء الحرية وإصلاح كل مختل في الإدارة والقضاء والمالية، وكل مواردها.
مضت علي ثلاثة أشهر في الأستانة كنت أجتمع أكثر أيامها بسعيد بك منفي اليمن، وأنا شغف ببلاغة كتابته في اللغة التركية، فألتقط من فوائدها ما تسعه الذاكرة، ومن مزاياه أنه ضليع بالفرنسية والألمانية وواسع الاطلاع بالتاريخ، متقد الذهن، ذو تجرد غريب، وهو - مع تحليه بتلك الصفات - رئيس دائرة في مجلس شورى الدولة.
فقلت له يوما - وهو يكثر الشكوى من اختلال الأحكام: لئن كنت أنت وأمثالك من ذوي العلى والشهرة والنفوذ تجزعون لهذه الحال، فما تقول عامة الناس؟! قال: نحن أولى منهم بالرأفة؛ لأننا نرى ولا جراءة لنا على السعي، ومن سعى منا جوزي جزاء الخائنين، فالنار تلتهم أفئدتنا ولا طاقة لنا على إخمادها. قال ذلك كأنه يتنبأ بما سيناله يوما من البلاء في خدمة الحرية والإصلاح.
ناپیژندل شوی مخ