دولت عثماني د سندر زوی او وروسته
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
ژانرونه
إهداء الكتاب
إلى أبناء الوطن العثمانيين
الدستور القديم
الدستور والاستبداد
الدستور والحرية
الحرية الشخصية
حرية الصحافة
حرية التعليم
حرية التأليف والقراءة
حرية الكتابة
ناپیژندل شوی مخ
حرية الجمعيات
الحرية ورجال الدولة
الدستور والخفية
الدستور والتعصب
الدستور ورجال الدين
الدستور والمهاجرة
الدستور ومأمورو الحكومة
الدستور ومالية الحكومة
الدستور وموارد الثروة
كلمة في سائر موارد الثروة
ناپیژندل شوی مخ
السياح والمستوطنون
الخاتمة
إهداء الكتاب
إلى أبناء الوطن العثمانيين
الدستور القديم
الدستور والاستبداد
الدستور والحرية
الحرية الشخصية
حرية الصحافة
حرية التعليم
ناپیژندل شوی مخ
حرية التأليف والقراءة
حرية الكتابة
حرية الجمعيات
الحرية ورجال الدولة
الدستور والخفية
الدستور والتعصب
الدستور ورجال الدين
الدستور والمهاجرة
الدستور ومأمورو الحكومة
الدستور ومالية الحكومة
ناپیژندل شوی مخ
الدستور وموارد الثروة
كلمة في سائر موارد الثروة
السياح والمستوطنون
الخاتمة
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
تأليف
سليمان البستاني
إهداء الكتاب
مدحت باشا.
ناپیژندل شوی مخ
إلى روحك الطاهرة يا رجل الحرية أهدي هذه الصفحات، وإنك ولئن قضيت شهيدا في جهادك، فحسبك أنك افتديت بنفسك أمة تحلك محلا أسمى من منزلة الشهداء. وهذه ذرة حقيرة من مظاهر الولاء والإجلال.
إلى أبناء الوطن العثمانيين
تمهيد
لو تجلى للناس نبي من الأنبياء لأيام خلت، وقال للعثمانيين: بشراكم، فلا يهل الهلال حتى تسطع في أفق جوكم المدلهم أهلة الحرية والإخاء، وتتفكك قيود الاستبداد فتسحق وتذرى هباء منثورا، وتتبدد غياهب الأحقاد والضغائن من بينكم، حتى إذا بتم ليلتكم على غلة التباغض والتنابذ نهضتم وما شعرتم إلا وقد انتزعها الله من أفئدتكم المضطربة، فهاجت صدوركم عواطف التضامن والحنان، وتنهزم من وجهكم جيوش الجواسيس الجرارة فتنفتح لكم أبواب بلادكم الفسيحة فتلجوا أي باب شئتم منها آمنين مطمئنين، وأنتم حيث كنتم في مأمن من واش مكار وآمر غدار. ثم قال لهم: وتستثمرون الأرض فينمو زرعكم ويسرح ضرعكم، وتترقى صناعتكم وتروج تجارتكم، تعلمون وتتعلمون وتكتبون وتتغنون بالشعر على أي وتر شئتم، وتمحى آثار الذلة والمسكنة، فيرمقكم الأجنبي بعين الإعظام بعد أن كان يخالكم طعمة سهلة المساغ. إي نعم لو جاء العثمانيين نبي بمثل هذا النبأ العظيم لهزءوا به وقالوا : إنا - ولئن كنت صادقا - فلسنا لك بمؤمنين، لقد أكثرت علينا من نعم الله، فهات بعض ما تمنينا به وعهد الله إننا به راضون.
ولا يظنن القارئ اللبيب أننا نشير في ما تقدم إلى أن الجزع بلغ من أبناء الوطن العثمانيين مبلغ اليأس؛ فباتوا يخالون الرقي والإصلاح من المستحيلات، أو يحسبون أن للدول أدوارا وقد انقضى من بينهن دور دولتهم الباسلة. وكيف يرمى أبناء الدولة العثمانية بمثل هذا الخمول، وكل مراقب مطلع يعلم أن مبدأ هذه النهضة يرجع إلى عهد السلطان سليم الثالث، ذلك السلطان العظيم الذي لم يقدره التاريخ حق قدره، وأن أربعين سنة خلون والأحرار البواسل يجودون بالمال والأرواح؟
إذا مات منهم سيد قام سيد
قئول لما قال الكرام فعول
وما زالوا يناضلون ويكافحون ويتدبرون الأمور بالعنف واللين حتى انتشر مذهبهم، فوجد مستقرا فسيحا في أعماق الصدور، وأي صدر لا يتلقى بملء البشر مثل هذا الضيف الجليل!
ولسنا بناشرين حقيقة مجهولة إذا قلنا: إنه لم يبق في البلاد العثمانية رجل واحد من أرباب العقول لا يرى وجوب تبدل الحال. ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن معظم المرائين الذين كانوا ينادون بالاستبداد على رءوس الأشهاد كانوا في حظيرة كتمانهم أشد الناس تذمرا من هذا المصير، فلما طفحت الكأس وعم البلاء أصبح معظم أبناء البلاد على رأي واحد، حتى إذا خلوت بوال معتز بإمارته، أو وزير متربع في دست وزارته، وأمن جانبك وكاشفك بما يكنه صدره؛ رأيت أنكما متفقان رأيا ووجدانا. وسترى في ثنايا السطور التالية شواهد وأدلة ساطعة تنبئك أن الأمة العثمانية - ونريد بها لفيف العثمانيين - لم تشرف على الموت في زمن من الأزمان، ولكنه لم يكن يهجس في صدر أحد هاجس هذا الانقلاب السريع؛ فلقد فازت أمم من قبلنا بدستور كدستورنا، ولكنه ليس في تاريخ واحدة منهن بلوغ هذه الأمنية في منتهى أدوارها بمثل هذه السرعة ومثل هذه الحنكة وهذا التدبير، بدون إراقة دم من الدماء الطاهرة والدنسة.
ولا يعترض على هذا القول بما كان من أمر الدستور الياباني ؛ فليست هناك حقوق نهضت الأمة تطالب بها، وإنما هو قبس حكمة وذكاء اتقد في رءوس أولي الأمر منها، وهم أرقى علما وعقلا وأدبا من محكوميهم؛ فجردوا أنفسهم بلا منازع من سلطتهم المطلقة، وحادوا بها على أمتهم المتحدة العنصر فأفلحوا. وهي الحادثة الوحيدة في بابها مما دونه التاريخ منذ قال أبو بكر الصديق والخليفة عمر على منبر الخطابة: «يا أيها الناس من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه.»
ناپیژندل شوی مخ
أما في الممالك العثمانية، فليست الحالة على ما تقدم؛ فإن لدينا سلطتين متنازعتين وعناصر مختلفة وأمما متباعدة بقوة الإغراء، حتى لقد كنت تخال أن جميع العوامل داخل البلاد وخارجها متفقة على ملاشاة هذه الأمة، بل تلك الأمم المتخاذلة. وإذا رجعت إلى تاريخ وضع النظام الدستوري في البلاد الأوروبية منذ قام كرومويل في إنكلترا إلى أيام الثورة الفرنسوية إلى يومنا هذا؛ بدا لك أن سفن الإصلاح سارت على بحار الدماء، حتى في البلاد التي لم يكن فيها من أسباب الشقاق والنفاق بعض ما ابتلانا الله به في الآونة الأخيرة. وهذه روسيا وإيران لا تزال دماء زعماء الحرية فيها تتدفق سيلا طاميا؛ فحيا الله نيازي وحيا الله أنور وحيا الله الجيش العثماني وأنصاره، وحيا الله جمعية الاتحاد والترقي، وحيا الله كل ذي سلطة أو نفوذ جرد نفسه منهما وأولاهما أمته. وهم وإن دون التاريخ معجزتهم هذه أعجوبة القرن العشرين، فسيثبت - بدون ريب - أن الأمة على تمام الأهبة والاستعداد لتلقي هذا الانقلاب.
وليس من غرضنا في هذه العجالة أن ندون، تفصيلا، تاريخ هذه النهضة الأخيرة منذ أذكى شهيد الطائف
1
جذوة نارها، ونقر طريد مدللي
2
على أوتارها، وتولى نزيل باريس
3
حماية أنصارها، إلى أن تفجر بركانها فدهش له العالمون بهمة بطلي مكدونية أنور ونيازي وأنصارهما، فلم يحن للتاريخ أن يستتم أخبار هؤلاء الأعلام، ولا سيما أبناء هذا اليوم، فحسبنا أن نشير إلى نبذ متقطعة من أخبارهم، وأوجب من ذلك الآن أن يشد كل منا أزرهم بما طالته يده من قول وعمل حسا ومعنى؛ ليتسنى لهم إتمام هذا البناء الشاهق. ومستقبل الزمن ضمين بتدوين أسمائهم وأعمالهم بحروف من نور على صفحات الصدور.
ولسوف يضم التاريخ إليهم عشرات، بل مئات وألوفا، من ضحايا الحرية ومنكوبيها وسواء في ذلك من مات شهيدا طريدا كسعاوي قتيل الأستانة، وسليمان سجين بغداد، وغانم منفي باريس، والكواكبي شريد مصر، ومن لا يزال فيه رمق حياة، يرجو العثمانيون أن يفسح الله في أجله ويعليه منارا كفؤاد الشامي، وسعيد اليماني، نسبة إلى منفاهما، ورضا وصباح الدين الباريسيين، نسبة إلى دار اغترابهما.
وإنه ليسوءنا أن يكون بين ظهرانينا، إلى جانب هؤلاء، فئة قليلة ممن تثقفوا على أيديهم؛ فاشرأبت إليهم الأعناق، ثم عبث الطمع بأفئدتهم؛ فخانوا رفاقهم، وكانوا عليهم بلاء ما كان أشده، لو لم يضرب الله على أيديهم هذه الضربة القاضية، وحسبهم عقابا ما يحيق بهم اليوم من الخيبة وضروب المهانة.
ناپیژندل شوی مخ
فإذا جاز اليوم للمؤرخ أن يتأنى في تدوين الوقائع؛ ريثما يستجمع مادته، وتمر فترة تسكن في خلالها ثورات الفكرة المضطربة؛ فإنه يجب على كل ذي بضاعة من العثمانيين أن يزجيها لديهم على عجل، فإنما الفلاح بالتعاون والتضامن، وخير البر عاجله.
وإننا، وإن لم نكن من أبناء السياسات، فإن علينا فرضا يترتب قضاؤه وهذه دلونا بين الدلاء، ولقد رأينا أن نجمع على هذه الصفحات بعض ما وعته الذاكرة فيما مضى بالنظر إلى الدستور العثماني، وما يتراءى لنا من نتائجه المقبلة، وما ينال العثمانيين من رغد العيش بخفوق أعلام الحرية فوق رءوسهم، وفك عقال العقل والفكر واللسان، وإطلاق عنان التجارة والصناعة، وتمهيد سبل الزراعة واستخراج ثروة البلاد الدفينة تحت التراب والمنبوذة على رءوس الجبال، وما ينجم عنه من إصلاح جباية الأموال ومالية البلاد.
هذا ما توخينا بسطه الآن لإخواننا العثمانيين، ولسوف يرى العالم - بعون الله - أنهم إذا صانوا دستورهم - ولا نخالهم إلا صائنيه - سيكون لدولتهم شأن تنقلب بوجهه سياسة العالم.
الدستور القديم
توفي السلطان سليمان الثاني القانوني سنة 1566 عن ملك ضخم لم يكد يجتمع لأحد من قبله ولا من بعده، وغادر الدولة العثمانية في إبان مجدها وأوج عظمتها، فلم يحسن خلفاؤه تعقب خطواته، وتألبت عليها القوى الخارجية، وتناوبت فيها الفتن الداخلية؛ فأصابها ما يصيب كل دولة بلغت هذا الشأو العظيم، فتناثر ما تناثر من لآلئ ذلك العقد النظيم. وتولى السلطان سليم الثالث سنة 1789 والبلاد في اختلال، والأحكام في تراخ، والانكشارية مستبدون بالسلاطين يولون ويخلعون ويقتلون، والبلاد في فوضى كادت تمزق شملها؛ فهاجه حب الإصلاح وصرح بميله إلى ترتيب الجند على النمط الحديث، فبطشوا به، فمات والإصلاح في مهده.
على أن تلك الفكرة لم تمت، فتلقاها السلطان محمود، وعمد إلى الإصلاح من وجهتيه الملكية والعسكرية؛ فبدد جند الانكشارية وأحل محلهم جيشا منظما، وأخذ يبعث بمنشورات الإصلاح إلى الولاة والحكام، ولكنه توفي ولم يستتم من فروع الإصلاح إلا تنظيم الجند تنظيما غير تام.
وكانت روح الإصلاح قد انتشرت بين فئة من رجال الدولة؛ فأقاموا يبثونها على عهد خلفيه السلطان عبد المجيد والسلطان عبد العزيز، وأعظمهم شأنا وأطولهم يدا رشيد وعالي وفؤاد.
وما كاد يجلس السلطان عبد المجيد على سرير السلطنة حتى أذاع خط الكلخانه المشهور سنة 1839/في 26 شعبان سنة 1255ه، فكانت له ضجة اهتزت لها أوروبا.
وأخذ رجال الدولة في ذلك الحين ينظمون القوانين الخاصة لكل فرع من فروع الإدارة والقضاء.
وكان أعظم تلك الأعمال شأنا مجلة الأحكام العدلية؛ لأنه غير خاف أن جميع الأحكام كانت تجري على مقتضى القواعد الشرعية.
ناپیژندل شوی مخ
وإذا كانت كتب الفقه تعد بالألوف، وبين الأئمة خلاف في بعض الأحوال، كان لا بد من توحيد تفسير النصوص ووضع مأخذ سهل يستند إليه في الأحكام؛ فعهد أولا بالنظر في ذلك إلى رهط من صفوة العلماء، ثم ألفت لجنة كان منها جودت باشا ناظر ديوان الأحكام العدلية، وبعض أعضاء ذلك الديوان، وأعضاء شورى الدولة والأوقاف وغيرهم من العلماء، كعلاء الدين ابن عابدين، فنظموا ذلك الكتاب الجليل، وأصدر السلطان عبد العزيز الإرادة السنية بشأنه سنة 1289ه.
ولكنهم كانوا أثناء ذلك العمل وقبله وبعده، يعهدون إلى لجان أخرى بتنظيم القوانين الخاصة، فنشر قانون الأراضي سنة 1274، وقانون الطابو سنة 1275، وقانون الجزا سنة 1274، وقانون التجارة سنة 1288، وكانوا في كل ذلك ينقلون عن القوانين الأوروبية، وخصوصا الفرنسوية ناظرين إلى عدم مخالفة النصوص الشرعية.
ونظروا في سائر ما يقتضيه سير الحضارة، وإلى ما جرت دول أوروبا فيه على قوانين خاصة؛ فوضعوا قانون التابعية العثمانية، وقانون ترتيب المحاكم الشرعية والمحاكم النظامية والمحاكم التجارية، ونظامات الإدارة الملكية ونظام إدارة الولايات ونظام شورى الدولة، ووضعوا نظاما للمعارف ونظاما للمطبوعات ونظامات أخرى للمطابع والطبع وحقوق التأليف والترجمة، ونظاما للرسومات وآخر للمعادن وآخر للطرق والمعابر. والحاصل أنهم لم يكادوا يغادروا شيئا من لوازم إدارة الملك حتى دونوا له قانونا.
فمجموع هذه القوانين والنظامات هو الذي كان معروفا في بلاد الدولة العثمانية باسم الدستور
Code .
ولكن الحكم كان لا يزال مطلقا، وإرادة السلطان فيه فوق كل إرادة؛ ينقض ويثبت ما شاء من الأحكام وليس ثمة قيد.
ففي المدة الوجيزة التي لبث فيها السلطان مراد على سرير الملك، كان مدحت وأنصاره قد انتهوا من إعداد القانون الأساسي وترتيب نظام مجلس «المبعوثان»، فما تولى جلالة السلطان عبد الحميد حتى كانت قوانين الدولة محكمة الوضع والترتيب تضارع، بحسن تنسيقها وإحكام موادها، قوانين أرقى الدول الأوروبية، لا حاجة باقية بها إلا إلى إنفاذ ذلك القانون؛ فبادر جلالته إلى التصديق عليه، فتم للدولة دستور لا يفوقه دستور واستبشر الناس بالإصلاح والفلاح.
على أنه لم يكد ينتظم مجلس «المبعوثان» وينظر في شئون الدولة حتى صدرت الإرادة السنية بفضه؛ فتقوضت كل أركان ذلك البناء، وابتليت الأمة بطور استبداد جديد لم تعهد نظيره حتى في عصور الظلمات.
الدستور والاستبداد
قد كان الدستور - كما تقدم - عبارة عن مجموع القوانين والأحكام التي تعاقب على وضعها رجال الدولة، حتى استجمعت الكلي والجزئي من حقوق الحاكم والمحكوم، ورتبت أصول المحاكمات، وفصلت قواعد القضاء، وعينت جميع ما يضمن إجراء العدل وحفظ الأمن وبسط الحرية واستخراج موارد الثروة، ثم كان من جملة أجزائه القانون الأساسي، الذي ظل دعاة الإصلاح يطالبون بإنفاذه ثلاثين عاما وتزيد.
ناپیژندل شوی مخ
وإن هذا الدستور على حسن وضعه وتنسيقه لو عمل به لما كان بنا الآن حاجة إلى هذا الانقلاب العظيم، بل جل ما كنا نرجوه أن تعدل بعض مواده، وتزاد وتنقص حينا بعد حين على ما يقتضيه الزمن وحالة الترقي العام.
أما الدستور الذي نحن في صدده - وقد ارتج العالم لإعلانه - فهو الحكم النيابي على الطراز الحديث؛ حيث تحكم الأمة نفسها بنفسها مع حفظ حقوق الخليفة الأعظم، وتتضافر على إنفاذ مضمون الدستور النظامي حرفا حرفا.
فدستورنا الجديد ليس، إذا، إلا نفس دستورنا القديم، ولا فرق بينهما، إلا أن الاستبداد حال دون إنفاذه فيما مضى، وأما الآن فهو نافذ بقوة الأمة.
وليس الحكم الدستوري بالبدعة الحديثة في تاريخ الأمم؛ فقد كانت له شئون متقطعة في أحكام كثيرة من دول العصور القديمة، كاليونان والرومان ودولة الخلفاء الراشدين، ولكنه لم يكن - في الغالب - على نظام ثابت، ولم تعمل به في زمن واحد أكثر من دولة أو دولتين، وكان في معظم الأوقات يمنح صاحب السيادة العليا نوعا من السلطة المطلقة على الأفراد، وإن قيده في بعض الشئون العامة، ولهذا لا نظننا مخطئين إذا قلنا: إن الحكم الدستوري لم يستتب أمره على هذا الشكل، ويعم دول الحضارة إلا على إثر الثور الفرنسوية، وإن كانت الثورة الإنكليزية قبل زهاء قرن من أعظم مهيئاته.
أما الحكم الاستبدادي، فإذا أريد به الحكم المطلق؛ حيث يقبض رجل واحد على أزمة الأمور، فهو الحكم الذي ألفه العالم منذ نشأته، وله بلا ريب مزايا باهرة مع جهل الرعية وذكاء الراعي وعدله، وكم لنا في العهد القديم من مثل برجل واحد نهض بأمة كانت قبله خاملة، ولكن كم لنا من جهة أخرى من مثل برجل واحد اضمحلت على يده أمم شتى وأمته منها.
أما الآن، وقد انتشر لواء العرفان وتعددت أمم الحضارة وعرف كل حقه، فلم يبق للحكم المطلق من داع، بل لم يبق للملوك من فائدة بتحمل التبعات المتعاقبة عليهم والأمة ناظرة إليهم، بل أصبحوا - وقد انقلبت حالة العالم - أفرغ بالا إذا ألقوا ذلك العبء العظيم على كواهل نواب شعوبهم، وتيسر لهم التفرغ لكل شاغل مفيد لهم ولمن انضم تحت لوائهم. وهؤلاء الملوك المقيدون بالدستور في هذا الزمن ليسوا بأقل شأنا ممن تقدمهم من ذوي السلطة المستبدة.
وليس بخاف أيضا أن الدولة العثمانية منيت، كسائر الدول العظمى، بدور انحطاط كاد يودي بها، لو لم يقم من رجالها وسلاطينها آونة بعد أخرى فحول سياسة ودهاء يرتقون ويدعمون، ولو لم يكن الأس مكينا والقوة راسخة وعروق الحياة لا تزال نابضة لعقب ذلك الانحطاط الانحلال الطبيعي الذي لا حياة بعده. ولكن لكل مصدر من مصادر الحياة والقوة حدا يقف عنده، وقد يكون الداء العضال أشد فتكا بالجسم الصحيح منه بالجسم العليل. ولقد قوي جسم هذه الدولة على تحمل جميع الأدواء التي انتابته من حروب وثورات وعبث حكام واختلال أحكام وتضافر أعداء وتراخي أصدقاء؛ فصدق فيها قول فؤاد باشا لنابليون الثالث يوم كان سفيرا في باريس: «إن دولتنا أقوى دول الأرض؛ إذ تعاقب عليها قرنان ودول أوروبا تهدم من بنائها الشاهق من الخارج، ونحن نهدم من الداخل والبناء لا يزال قائما.» وسواء صحت هذه الرواية أو لم تصح فإنها تشف عن حقيقة لا ريب فيها.
ولكن هذا الجسم على قوته الكامنة، وإن شئت فقل على ضعفه الظاهر، لم يقو على تحمل أذية الحكومة الغابرة بما انتابته من ضروب الظلم في عصر ليس كالعصور السالفة؛ يساق الناس فيه سوقا، ويتخذ فيه من دون الله أرباب ظالمون، فألوية الحكومات الدستورية قد انتشرت من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، وكواكب الحرية قد سطعت حولنا واكتنفتنا من الجهات الأربع، هذا وأرباب الأمر فينا يودون بقاءنا في ظلمة مدلهمة.
فلم يبق بعد هذا المصير إلا أحد أمرين إما الموت العاجل، وهو ما لم نبلغه بعد بانحطاط قوانا، وإما تجديد قوى الحياة، وهو ما يتيسر لنا والحمد لله بهمة دعاة الحرية، وربما صحت الأجسام بالعلل.
فمعظم الشكوى، إذا، ليست من الاستبداد بمعنى الحكم المطلق، وإن كانت دولة هذا الحكم قد دالت، وإنما هي من ذلك الاستبداد بمعنى الحكم الجائر الذي أباح الموبقات واستباح المحرمات. استبداد حكم الأنذال برقاب الرجال فنكس الرءوس وذلل النفوس. استبداد لا مرشد له إلا التعنت عن هوى تميل به النفس إلى حيث لا تدري، ولا شرع له ولا وازع، يحلل اليوم ما يحرمه غدا. استبداد يتمثل لنفسه بنفسه، تصادر به الأموال بغير حساب، ويبطش المجرمون بالأبرياء بغير عقاب، إذا أنس نقمة من الناس عليه عمد إلى التفريق بينهم؛ فأثار فيهم ثائرة التعصب الذميم، فضرب بعضهم ببعض. حتى إذا غفلوا عن مظالمه حينا، ثم استفاقوا من غفلتهم ورجعوا إلى التظلم منه خلق لهم ملهاة أخرى يلتهون بها عنه.
ناپیژندل شوی مخ
استبداد تقتسم فيه فئة ضئيلة أموال الأمة فتتنعم بها وتشقى الأمة. ولا حرج على تلك الفئة ولا جناح، تستولي على موارد ثروة البلاد من حرث وغاب ومنجم، وتستلب الامتيازات كأنما كل ذلك من تراث آبائها وأجدادها، إذا اكتشف مجتهد منجما وقال للحكومة: أنا صاحب الحق باستخراجه، فلكم سهمكم ولي سهمي بمقتضى النظام. قال رجال «المابين»: بل هو هبة استوهبها أحدنا فاذهب خاسرا. وإذا قضى باحث زمنا فدرس مشروعا وقال: هذا نتاج بحث طويل ولدي جميع الوسائل العلمية والمالية للقيام به بهذه الشروط، وذلك السهم منه للحكومة. قالوا: بل هو لنا. فأخذوه بلا شرط ولا بدل.
تلك هي الفئة الظالمة التي كانت تتسبب بالنفي والسجن والقتل، فتفتك بمن شاءت كما شاءت فرادى وعشرات ومئات وألوفا، ولا يشق شغاف قلبها الصلد عويل أيم ولا صراخ يتيم، وتحول بين الراعي ورعيته وبيدها سيف من النقمة مسلول حتى على رءوس أفرادها.
ذلك هو الاستبداد الذي نقصده في بحثنا، وهو الذي أحرج صدور العثمانيين؛ فسهل لهم المنية في سبيل الحرية، حتى إذا نالوها بجهاد جيشهم الباسل ودعاتهم الأماثل تصاعد صدى حماسهم فخرق لب الأثير.
الدستور والحرية
يقول أرباب السياسة: لا يسوغ إطلاق الحرية دفعة واحدة لأمة طال عليها عهد الاستعباد؛ لئلا تستحكم الفوضى وينتهي الأمر باستبداد الجماعات، وهو أشد بلاء من استبداد الرجل الفرد. ولكن هذا القول مع ما فيه من الصواب لا ينطبق على الأمة العثمانية؛ فإنها ليست بالأمة التي رسفت دهرا بقيد الرق، بل كانت منذ تألفت تحت لواء السلطان عثمان الغازي أمما فاتحة تحت زعامة العنصر التركي، وشعوبا مكافحة ذودا عن حياضها؛ وإن جميع العناصر التي انضمت تحت لوائها كانت من ذوات الماضي المجيد، وإن كثيرين من سلاطينها كانوا ذوي بر برعايتهم. وهذا السلطان محمد الفاتح مع ما يعزى إليه من القسوة، قد خول رعاياه المسيحيين والإسرائيليين من حرية الدين والتصرف بالأحوال الشخصية ما يسجل له فخارا مؤبدا، وإن عده كثيرون خرقا في السياسة بالنظر إلى أحوال ذلك الزمان. ثم إن كثيرا من تلك الشعوب والقبائل حفظ استقلاله الإداري الداخلي أزمانا طوالا، أو تمتع بامتيازات ممنوحة أو مسموح بها حتى هذا اليوم، كالكرد والعرب المقيمين في أطراف الولايات واللبنانيين والنساطرة.
ثم إذا نظرت إلى طبيعة البلاد رأيت أن معظمها لا يصلح للاستعباد؛ فسكان الجبال قساة عتاة معتزون بمعتصمهم، فلا يصلحون عبيدا مهما طال بهم أمر الخضوع والخنوع. وقل مثل ذلك في سكان البوادي والقفار؛ فهم أشد الناس تشبثا بالحرية يفتدونها بأموالهم وأرواحهم، وأما سكان الثغور والحواضر فقد فاض على معظمهم نور العلم والتهذيب، وعرفوا، بما شاهدوا وقرءوا وخالطوا من الأجانب، أن ذلك الكنز الثمين، بل تلك الجوهرة الفرد أعلى قيمة من كل ما خلق الله؛ فالرق لا يصلح إلا للخامل الجاهل، وهما تربان لم يجتمعا في عنصر من عناصر العثمانيين. وأضف إلى هذا سياسة التفريق؛ فإنها على شؤمها كانت لها مزية حفظ نشاط هذه الأمم المتباغضة في الأمس المتحابة اليوم. فباد العنصر الذليل أو اندمج في غيره، ولم يبق غير النشيط الصالح للذود عن حوض نفسه ولو إلى حين. فكلهم الآن طالب حرية وعالم بحقه. وكل طالب حرية وعالم بحقه نشط من عقاله فهو أهل لها، حتى ولو طال عليه زمن الجور والتعسف، ومن ذا الذي يزعم اليوم أنه لو أتيح للبولونيين مثلا أن يؤلفوا دولة منهم لا يتسنى لهم ذلك مع ما برح بهم من المحن المتواليات ورزايا التقسيم.
ثم إن هذه الجرثومة الزكية ليست بنت يومها ، ولكنها متأصلة في نفوس جميع شبانهم وكهولهم وكثيرين من شيوخهم، حتى مخدراتهم اللائي كن ينحن أمس سرا وبرزن اليوم جهرا بعد إعلان الدستور يحملن أعلام الفوز المبين.
ولقد طالما حن العثمانيون إلى الدستور وترنموا بذكره قبل الآن، وإن شدة الضغط التي ألجأتهم إلى الصمت في الفترة الغابرة إنما كان زمنها زمن جثوم لوثوب، وليس زمن استكانة لاستماتة. وإذا اجتزأنا من التاريخ ببضعة عقود من السنين اتضح أنه منذ أصدر السلطان عبد الحميد الخط الهمايوني المعروف بخط كلخانه، ما زال الشعب العثماني يتحفز لمثل هذه الوثبة الخطيرة. ولقد خطا في هذا السبيل معظم خطواته حتى كاد يستتب له الأمر بنفوذ مدحت وحسين عوني ورشدي، وإذا بجيش الجواسيس قد دهمه قبل أن تنضج ثمرة غرسه، واقتلع تلك الشجرة فتناول مريدوهم بذورها فغرست ونمت أشجارا.
انظر الآن إلى ما شئت من أسباب الشكوى، وارجع معي إلى ما قبل أربعين أو ثلاثين، بل خمسة وعشرين أو عشرين عاما، وقابل زمنا بزمن؛ تر أننا جرينا القهقرى جريا حثيثا، وخالفنا بالقسر عنا كل أمم الأرض.
الحرية الشخصية
ناپیژندل شوی مخ
إن أول ما يحرص عليه المرء حرية شخصه؛ فلقد كانت، لعهد مضى، مطلقة يسرح المرء ويمرح أيان شاء، ويخالط من شاء ويقول ويعمل ما شاء مما لا ينال سواه بأذى. وهو في كل ذلك لا يخشى وشي رقيب أو مفاجئ. فإذا بنا والعيون قد بثت والأرصاد قد سدت السبل ويا لشقاء من ألقاه سوء البخت بين براثن تلك الذئاب، يبيت المرء في منزله وعياله إلى جانبه وهو غير آمن من أن يفاجئه طارق في دياجي الظلام فيختطفه من بين ذويه، إذا خطا نظر إلى ما وراءه خشية أن يكون له من ظله رقيب عليه، وإذا تكلم مع صديق أو رفيق على قارعة الطريق تراه يكاد يهمس همسا خوف أن تبدر منه كلمة تحتمل التأويل، كأن القسطنطينية رجعت إلى زمن كاليفولا في رومة، والطير نزلت على رءوس الناس كبيرهم وصغيرهم.
وإنه لا يكثر على كل من أقام زمنا في الأستانة أو بعض مدن الولايات أن يؤلف مجلدا في ما سمع أو رأى من غرائب الوشاة. ودونك مثالا واحدا من أخف ما لقي الأبرياء من شرهم.
عرفت شابا من أبناء التجار قصد الأستانة لعمل مالي، وكان كثير التردد علي. فما مضت بضعة أيام إلا وأتاني يوما ووراءه ذنبان، وإنني مع كل ما خبرت ووعيت من أخبار الجواسيس عجبت أن يكون صاحبي موضع ريبة؛ فيجر وراءه هذين الذيلين. فلما جلس وبقي الرجلان على مقربة من الباب سألته عما بدا منه حتى بات موضع التهمة، فأقسم أنه لا يعلم سببا، وأنه لم يشعر إلا وهذان يتعقبانه ويرافقانه كظله، فإذا مشى مشيا، وإذا دخل بيتا انتظراه لدى الباب، وإذا ركب عربة أو باخرة من بواخر البوسفور ركبا.
فظللنا نسعى أشهرا لنقف على السبب إلى أن أخذت الشفقة يوما ناظر الضابطة؛ فأطلعه على ورقة مرفوعة إلى «المابين» من واش يقول فيها: إن فلانا - أي: صاحبنا - أتى الأستانة قصد استطلاع أحوالها قبل أن يذهب إلى باريس وينشئ جريدة ملؤها الطعن في الدولة، وهو ذو عزوة كبيرة ومقام كبير وله شهرة عظيمة بين كتاب العصر. وإني لو نفع القسم وقتئذ لأقسمت أن فلانا هذا لا يعرف ما الكتابة في الجرائد، ولم يخط بحياته فيها حرفا، ولا أثر لتلك العزوة، وذلك المقام، ولم تخطر له تلك الفعلة ببال ولو في المنام، وإنما هي مكيدة نصبها له رجل طمع في مشاركته في تجارته، فلما أبى أن يشركه معه عمد إلى هذا الانتقام الدنيء. وهكذا بقي صاحبنا سنوات يتظلم وما من سميع، فلا يفرج عنه فيرجع إلى بلده، ولا يؤذن له بعمل يرتزق منه، وأنت تعلم ما تئول إليه حاله بعد سنوات.
وإنها مع هذا مصيبة لا تعد من كبار المصائب؛ إذ لم يؤذ الرجل بجسده ولم يصادر بماله. وهذه القيود والأغلال في أعماق السجون تكاد تشتبك غيظا لكثرة ما أثقلتها المعاصم والأقدام. وهذه بنغازي وبعض المدائن النائية في أطراف السلطنة تضج منتحبة لما ترى من شقاء المبعدين . بل هذا البوسفور يوشك أن يفور تلهفا على تلك الجثث فيقذف بها إلى ثغريه خشية أن تبيت دفينة في بطون الحيتان، فإذا كانت تلك حالتنا بالأمس فمن ذا الذي يعجب لخروج الناس أفواجا من ديار يحسبونها دار شقاء؟ ومن ذا الذي يجهل ما يكون بعد نشر راية الحرية من تهافتهم إليها تهافت الأبناء إلى الأم الرءوم؟ وما يكون من رواج التجارة ونمو الزراعة وارتقاء الصناعة ومن الإقبال على جميع الأعمال بعد ذلك الاعتقال.
بل من ذا الذي لا يرى، مذ الآن، أنه سيقوم منا في الغد جهابذة وفحول في العلم والسياسة والإدارة والقضاء، فيأتون ما يأتيه أندادهم في أعظم الدول شأنا. فالأمة العثمانية لم تعدم في كل عصر من العصور أمثال هؤلاء النوابغ، وإن عدمت بروزهم للعيان في هذه الفترة؛ فلأنه كان من الجناية أن ينبغ في البلاد العثمانية رجل ذو شأن، ويظهر له أثر مذكور على ألسنة الناس، فإذا مست الحاجة إلى إبراز آية من آيات عقله أو بأسه فسح له المجال حتى يستتم عمله، ثم ينبذ نبذ النواة لا يباح لمواطنيه المعجبين به من أبناء أمته أن يوافوه بشيء من مظاهر الإجلال والإكرام، حتى لقد تحرم البلاد من بقية ما فيه من الهمة والذكاء.
وإذا أردت مثالا على ذلك فارجع بفكرك إلى عثمان بطل بلاونا وأدهم بطل لاريسا، بل راجع بنظرك خطاب اللرد سولسبري في مجلس العموم الإنكليزي سنة 1894 يوم وفاة رستم باشا سفيرا في لندن؛ إذ قام اللرد مؤبنا، فقال: «إن الفقيد كان من عظام الرجال ومن أمثال عالي وفؤاد، وإن القوم ليخطئون خطأ مبينا إذا زعموا أن تركيا خالية الآن من الرجال العظام؛ فإنها لم تخل منهم في زمن، فإذا خلتموها خالية منهم منذ سنوات، فإن لذلك أسبابا قاهرة.» ذلك مفاد ما قاله رئيس وزراء الإنكليز، فإن هو لم يصرح سياسة بتلك الأسباب، فكلنا عالم بها متأوه أسيف.
أما الآن وقد قضي الأمر، ونال، بل استعاد العثمانيون حريتهم، فليس بالكثير عليهم أن يبرزوا من ذوي الهمم منهم وينبتوا من ناشئتهم كل قوال فعال.
حرية الصحافة
وإذا كان هذا شأن الحرية الشخصية، فما عسى أن يكون شأن حرية الصحافة؟ تلك الآلة الحية الناطقة بلسان الأمة، المنبهة الأفكار، المرشدة إلى الإصلاح المشيرة إلى مواطن الخلل المنادية بحي على الفلاح، فإنه وإن كان القانون الأساسي قد أطلق سراحها على ما اتسع له وقتئذ، وأنشئ لها نظام مخصوص حوالي سنة 1281ه يوسع لها في حرية البحث والنقد؛ فقد أصبحت بعد ذلك تحت مراقبة حولتها إلى أبواق تمجيد وأغوال تهديد، يضطرب أصحابها خوفا لكلمة تبدر منهم أو من محرريهم يتأولها أولو الأمر على غير ما أرادته الجريدة.
ناپیژندل شوی مخ
وما كانت رقابة المراقبين - وإن اطلعوا على جميع ما يكتب قبل الطبع - لتخفف من أخطار العقاب، فكم من جريدة ألغيت أو أوقفت لزمن محدود أو غير محدود لخبر روته عن جرائد أوروبا ينبئ بمقتل وزير في الصين أو أمير في أفريقيا، أو اختراع ذكرته لآلة تطير في الهواء، أو غواصة تسير تحت الماء، بل كم من مرة فاجأ الجريدة الأمر «بتعطيلها» وظل صاحبها يبحث أشهرا، فلا يعلم لذلك سببا غير «الإيجاب»، بل كم من مرة انقضت الصواعق على رأس الصحافي لجهله أن هذه الكلمة أو تلك قد انتزعت بحكم الاستبداد من معجم الألفاظ الكتابية: كالقانون الأساسي، والخلع وما اشتق منه، والجمهورية، والديناميت، والثورة، والإنصاف، والحرية. أو إن عبارة أو جملة وجب حذفها من أبواب الإنشاء كقولك: العدل أساس الملك، والظلم مرتعه وخيم، والحرية منتهى غايات الأمم. بل الويل كل الويل لمن ذكر حرفا عرف به علم مشهور: كعبد العزيز، ومراد، ورشاد، بل كم لنا بإزاء هذه المبكيات من طوارق المضحكات.
خذ أعلام الأسماء وألقاب الأسر في البلاد تر مثلا: أسرة السلطاني معروفة في سوريا، ومنها رجال من ذوي المكانة بين مأموري الدولة، أفيتصور ذو عقل أن كتابة اللقب على هذا الهجاء تهدم قوام المملكة فيحول - رضي أصحابه أم غضبوا - إلى «سلتاني» مرة، وإلى «سلطا» مرة أخرى. ومن ذا الذي يقول بخراب الملك إذا دعا أحدهم رجلا باسمه ، وقد سمي «خليفة» وهو اسم بات على شيوعه من الأسماء المحظور استعمالها، ومن ذا الذي يصدق لو لم تثبت الحقيقة صدق المقال أن بيت «الشوكتلي» المعروف بحلب لا تجسر جريدة ولا مقام رسمي أن يذكره بهذا اللفظ، حتى اضطر أصحابه إلى اتخاذ لقب النحاس بدلا منه؟!
أما المقالات السياسية فباتت من أمثال العنقاء، تذكر ولا ترى، وبات العثمانيون وهم يقرءون في جرائدهم القليلة نتفا من أخبار الدول، ويقرءون شيئا عن سياسة بلادهم وإدارتها إلا ما أشير به إلى نعمة سلطانية أو تعيين وال أو مأمور أو أدعية متوالية تشف عن غل شد في أعناق الصحافيين وقادهم - وهم صاغرون - في سبيل لا يتاح لهم أن يفلتوا وهم سائرون فيه يمينا وشمالا. ولهذا لم يكن في البلاد من ينكر عليهم هذا الصغار، بل كان الناس ينظرون إليهم نظر الأسير المشفق على أسير آخر بإزائه. ولقد طالما شاقنا استطلاع الأخبار فتسقطناها من بريد أجنبي أو جريدة في سفارة أو دار قنصلية. وسئم الناس قراءة جرائد بلادهم كما سئم محرروها كتابتها على هذا النهج، وفي ذلك يقول أحد أدباء الأتراك متهكما بتوريد لطيف على كل جرائد الأستانة وقتئذ:
سعادت چون طريق كذب دايم ارتكاب إيلر
أوصاندق ترجمانك شيوه طرز إداسندن
مروت تروت آساهپسي قالقسون أورطه دن ديركن
ينه بر ... ظهور إيتدي صباحك ما وراسندن
وليس هذا كل البلاء إذ لو حرمت علينا الكتابة في جرائدنا، وأبيحت لنا قراءة الصحف المنتشرة في سائر الأقطار لقلنا: شر أهون من شرين، ولكن هيهات ... حظرت المراقبة قراءة كثير من الجرائد المنتشرة في كل بلاد الله، ولا سيما ما صدر في مصر أصدق البلاد ولاء للخلافة الإسلامية والأمة العثمانية. كأن معظم البلاء وقع على رءوس الأصدقاء، دونك أصحاب الجرائد في مصر؛ فاسألهم ينبئوك بما عانوا من المشقة في السعي بالإفراج عن جرائدهم وإباحة قراءتها للعثمانيين في بلادهم. دع المقطم وما جرى على خطته ولنلتمس لرجال «المابين» عذرا في الحقد عليه لقيامه على نقد أعمالهم والتنديد بهم . بل فلنسبل سترا على ما أنزلوا على القلوب من الرهبة منه، وما تفننوا به من ضروب العذاب الأليم عقابا لمن وجد في بيته أو عثر بين ثيابه ولو على قطعة منه اتخذها لفافة لمنديله، وهو على سفر من مصر كما جرى لذلك الشامي الأمي، فسل أهل الشام كافة يخبروك كم لبث في السجن، وكم قاسى من أنواع العذاب لتلك الجريمة وهو لم يقرأ بحياته جريدة ولا كتابا، بل التقط تلك الورقة وهو لا يعلم أهي صحيفة من كتاب أو كشف حساب.
دع، إذا، أشباه المقطم وانظر المؤيد واللواء؛ فهل عرفت قبلهما أو بعدهما صحيفة أشد تمسكا بالعرش العثماني وأعظم تفانيا في خدمته، فهل أتيح لهما إرسال جريدتهما إلى البلاد العثمانية مع ما فيها من كثرة طلابهما؟ وإني لا أزال أذكر حديثا لي مع مؤسس اللواء إذ سألني أحد أصدقائي من باشوات العراق أن أمكنه من الحصول على جريدة اللواء، فقال لي - رحمه الله: يسوءني أن يكون ذلك أمرا محظورا، ولست أعلم له سببا، كل هذا لأن اللواء والمؤيد يرددان على صفحاتهما ذكر الحرية والدستور والاستقلال والمجلس النيابي، وما أشبه من الألفاظ التي تنبه الشعور في عرف الناس، «وتخدش الأذهان» في عرف رجال «المابين.»
ذلك كان جزاء المحبين للحكومة الغابرة، القائمين على ولائها من أرباب الجرائد سواء كانوا في قبضة يدها أو خارج سلطتها.
ناپیژندل شوی مخ
وأما أعداؤها ومبغضوها ممن لا تستطيع أن تتناولهم يد جبروتها، فهم هم الذين كانوا بفضل كرمها الحاتمي في نعيم مقيم تنفحهم بالألوف الصفر المجبوة بالدرهم والفلس من الأرملة والعامل الكداح إلجاما لألسنتهم النمامة. وما كانوا بكافين عنها إلا حتى حين. ولقد أغدقت عليهم من النعم ما لو أحسنت ببعضه على بعض جرائدها في بلادها؛ لكان لها أشباه التيمس والتان.
ولقد طالما ذاعت عنها تلك المكرمة بين الناس حتى كادت تبيد مزايا جرائد الأحرار المطالبين بالدستور والباذلين في سبيله كل ما عز وهان لاختلاط الحابل بالنابل، وبات كل أفاق شريد يطمع في اتخاذ السباب والنميمة مهنة يستهطل بها غيثا من النضار ، ولو لم يقم مختار باشا في مصر وغيره في غيرها يصيحون ويصخبون سنين طوالا في وجه هذا السيل الجارف، لما خف اندفاعه حتى الآن، ولكانت ضاقت موارد الدولة عن إرضاء كل أفاك زنيم.
ولو بقي نصراء الاستبداد على منصات رفعتهم حتى الآن لقالوا بلا ريب مدافعين: إن البلاد لم تألف الحرية، فإطلاق أقلام الصحافيين فيها إثمه أكبر من نفعه. فقل لهم دفعا لهذه الفرية تلك نعمة عم انتشارها فتمتع بها أبناء قلب أفريقيا وأقاصي آسيا، فما بالكم حرمتموها علينا؟ ومع هذا فلسنا على بساطها بالمحدثين، ألفناها منذ ستة وثلاثين عاما ورتعنا في أكناف رياضها، وما من رزية أشد على المرء من سلبه نعمة نال منها لو طرفا يسيرا، أليس منكم من قرأ جرائد الأستانة وسوريا ك «الوقت» و«عبرت» و«الجوائب» و«الجنة» و«الجنان»، فرأى فيها ما أنفذته من سهام للنقد على أولياء الأمر أيام صدارة محمود نديم.
ومن من السوريين أبناء ذلك الزمان لا يذكر ما صوبته «الجنة» من نبال التقريع، وما ألمت به أفئدة الوزراء من كشف النقاب عن بعض أعمالهم، مما لو كتب منها سطرا واحدا في أيامكم لكان أقل جزاء لكاتبه السجن المؤبد. فعلام كان سلفاؤكم يرحبون بتلك الكتابة؟ بل علام كان بعضهم يحرض الجرائد على الانتباه إلى نقد أعمال العمال؟ وكل كهولنا يذكرون أيام تولى مدحت ولاية سوريا، وما كان من عزله متصرفا لتهمة وجهتها إليه «الجنة»، فكتب إليه: «إما العزل وإما قيامك للوقوف أمام المحكمة مع صاحب الجريدة.» ولما لم يقو على تبرئة نفسه اضطر إلى الاستقالة، بل ما بالكم ترتعدون جزعا لذكر «الثورة» و«القتل» و«الخلع» و«الدستور»، وتأمرون أن نشوه وجه الحقائق فتنقل إلينا الأخبار كاذبة، فإذا قتل ملك إيطاليا أمرتم الصحف أن تقول «توفي فجأة»، وإذا طعن كارنو رئيس جمهورية فرنسا على قارعة الطريق، قالت بأمر منكم: «مات بالنزلة الصدرية»! فماذا يقول التاريخ بهذه الألاعيب الصبيانية؟ وأي جريدة من جرائد السلطنة أيام خلع المغفور لهما السلطان عبد العزيز والسلطان مراد لم تصدر أياما، بل شهورا متوالية حافلة بتفصيل أخبار ذلك الانقلاب وما وليه من هجوم حسن الجركسي على الوزراء وقتله الصدر وناظري البحرية والخارجية؟ وإن أكبرتم نقل مثل هذه الأخبار، فما بالكم تحظرون علينا ذكر جهاد الروسيين والإيرانيين في سبيل الحرية ونيل الدستور؟!
أفلا ترون بدليل ما تقدم أن الأمة لا تطالب بنعمة تسبغونها عليها من فضلكم، وإنما هو حق سلبتموه بعد أن كانت متمتعة به بفضل أسلافكم؟ أولا ترون أيضا أن بقاء صحافتنا حية مع شدة هذا الضغط يبشرها بعمر جديد وشأن في المستقبل مجيد؟
وإننا بلا ريب لا نطمع ولا نود أن نتخطى الآن إلى ما وراء المعقول، فنثب وثبة واحدة من وهدة المسكنة الاضطرارية إلى قمة التهور الاختياري، بل جل ما نتمناه أن تباح لنا رواية الأخبار وترديد صدى الأفكار والنظر في شئون أنفسنا من إلقاء درس مفيد وعرض مقترح جديد ونقد عامل وعمل والبحث في كل ما من شأنه أن يلذ ويهذب ويفيد. وعلى الجملة إطلاق الحرية إلى ما لا يفضي بها إلى مثل الفوضى التي استحكمت بين بعض جرائد مصر لسنين مضت، وهو لا شك ما ينظر إليه دعاة الدستور من الآن بعين الروية والتدبير.
حرية التعليم
لئن أطلنا الشكوى من تأخر الصحافة في العهد الماضي، فإذا ذكر العلم والتعليم فلا يسعنا إلا أن نقول الحق فنعترف أنهما رقيا فوق ما كانا عليه درجات، وأن معظم العثمانيين أصبحوا ولهم نصيب من العلم. ولقد أربى عدد القارئين الكاتبين على عدد الأميين في كثير من الولايات، ولكن المراقب الخبير يعلم أن هذا الترقي هو دون ما كان يجب أن يكون؛ لأن تيار العلم سيل جارف يبدد كل ما اعترض سبيله من عقبات الجهل والخمول، ولقد أحاط بنا هذا السيل من كل جوانبنا فما كان في الوسع حده مهما بذل من الجهد، فكيف ومعظمنا مستبشر لوفوده ولو تسهلت له السبل على ما يرام لكفته ثلاثون سنة لإزاحة كل نبت خبيث وجلمود معترض في طريقه ، وجعل البلاد قاصيها ودانيها رياضا للمعارف، نضرة يانعة الفروع دانية القطوف، ولكن الخطة التي جرت عليها الحكومة الغابرة حولت بعض حسناته إلى سيئات وبعض منافعه إلى مضار.
أرادت أن تتخذ للتعليم في البلاد خطة واحدة، ويا حبذا الفكرة لو حسن القصد واستقام الأسلوب، وهي فكرة قديمة يرجع أصلها إلى أيام السلطان سليم، فلم يتسن له إنفاذها، بل كانت من أسباب قيام جهلة الإنكشارية عليه، فتلقاها السلطان محمود، ولم تزل تتراوح في رءوس ذوي الشأن حتى أنشئت المكاتب الإعدادية والرشدية في الولايات وبعض المدارس العالية في الأستانة في زمن السلطان عبد العزيز، وزاد عليها جلالة السلطان الحالي مدارس أخرى. ولكن طرق التعليم اختلت بشدة المراقبة، فأبعد منها كثير من المطالب المفيدة إبعاد المنفيين إلى فزان، حتى لقد حرم على الطلبة درس المهم في التاريخ ولو كان تاريخ بلادهم، وشوهت جغرافية البلاد العثمانية وخرائطها فحذف وبدل منها من الأسماء ما طالما افتخر سلاطين آل عثمان بدخوله في حيازتهم. وحظر تعليم - بل قراءة - العلوم الفلسفية والاجتماعية، ومنع الأساتذة من إلقاء أي شرح مفيد على الطلبة حتى حار المعلمون في أمرهم، وكانوا وهم يلقون حتى ولو مسألة نحوية أو حسابية صرفا يخشون أن توجس منهم إشارة إلى عدد يوافق أعداد سني الظلم أو فتحة أو كسرة تشيران إلى فتح الأعين وكسر القيود.
كل ذلك خشية من أن ينبثق نور العلم في أدمغة التلامذة، فيعلمون أنهم من بني الإنسان، وأن لأمتهم حقوقا تجب المطالبة بها، فإذا نال أولو الأمر هذه البغية بالنظر إلى صغار الطلبة، فما كان يا ترى ظنهم بطلاب مدارس الأستانة العالية كالمكتب الملكي والمكتب السلطاني والمدرسة الحربية والمكتب الطبي - وجميعهم من الشبان الأذكياء؟ أو ما عسى أن يقول طلاب مدرسة الحقوق - وعلم الحقوق من العلوم الفلسفية - إذا اضطر أساتذتهم كل يوم إلى تغيير خطة وتبديل نهج وإلغاء درس الشرائع الرومانية أو غير ذلك مما يزيد المنع عنه رغبة فيه؟ أو ماذا يقول طلبة المدارس الحربية إذا حظر عليهم أن يبحثوا في أنواع الحكومة، وتنصب لهم المكيدة فيجمع بعض نظارهم نجباء أولئك الشبان المتقدين نيرة وذكاء؛ فيسألهم عما يؤثرون من أنواع الحكومات فلا يقول بالحكومة الاستبدادية إلا أشدهم دهاء. وأما الباقون الذين يبوحون بما في ضمائرهم، فيقولون بالحكومة الدستورية، فيطردون ويساقون سوق الأنعام إلى حيث لا يعلم إلا الله. وأما ذلك الظالم الناشر تلك الأحبولة فيتخذها ذريعة للوشاية فتغدق عليه النعم ويصعد في سلم الترقي درجات متواليات بأسرع ما صعد إسرائيل على سلم جبرائيل.
ناپیژندل شوی مخ
وما كل هذا العنف وذلك الضغط إلا ليغشوا على أبصار الشبان، فينشئوهم آلة صماء بين أيديهم، ويحجبوا عن أبصارهم ساطع النور، فلا ينظروا إلى مساوئهم، أفجهلوا أن النور إذا انبثق خرق الظلمات ونفذ إلى ما وراء حجب الغياهب! وأن شدة العنف تجرح حتى الجبان! فما عسى أن يكون فعلها بتلك الفتية الباسلة، وهل فاتهم أن دعاة الثورات والإصلاح في أوروبا كان معظمهم ممن عني في تربيته على خلاف ما نشأ عليه.
بقي لنا كلمة في المدارس الوطنية والمدارس الأجنبية، أما الأولى، ونعني بها: تلك التي شادها أهل البلاد، فهي قليلة لم يكن يرجى منها النفع المقصود مع شدة اعتناء أصحابها بها؛ لأن أكثرها تحت أحكام هذه المراقبة الجائرة. وأما المدارس الأجنبية فهي التي كانت متمتعة بحرية حرمت على ما سواها، ولقد تهافت عليها الطلاب من كل الملل والنحل تهافت الظمآن على الماء الزلال، وبثت نور العرفان بين جمهور عظيم من فتياننا، ولكنا مع اعترافنا بجزيل ما ثقفت وأفادت لا يسعنا إلا القول جهارا: إن فيها ثلمة متسعة لا يمكن سدها إلا بتغيير الأحكام، فمن من أرباب تلك المدارس - على فضله - يهتم ببث روح الوطنية بين تلامذته، بل من منهم وهم منتمون لأمم متناظرة لا يسعى جهد طاقته في استمالة تلامذته إلى أمته ودولته. وهكذا نشأ الطلاب على اختلاف في الأفكار والمذاهب. وهكذا عمل الأجانب بطريق العلم على اقتسام عقولنا كما عملوا بطريق السياسة على اقتسام بلادنا.
ومما زاد في البلوى أنه لم يكن يؤذن لخريجي المدارس المختلفة بإنشاء الأندية وعقد الاجتماعات لتبادل الآراء؛ خوفا من امتزاج المشارب والأخلاق.
على أننا مع شدة هلعنا لعبوس الزمن الماضي لا يسعنا إلا استقبال ابتسام الزمن المقبل بملء البشر والسرور؛ إذ توحد طرق التعليم في مدارس الحكومة، ويوسع المجال للمدارس الوطنية، ويباح تدريس علوم الفلسفة والاجتماع والآداب ويوجب تدريس التاريخ، ولا سيما تاريخ البلاد العثمانية وجغرافيتها، وتسهل الطرق لطلبة جميع المدارس من أميرية ووطنية وأجنبية لفتح الأندية وعقد الاجتماعات؛ ليشبوا جميعا على حب التكاتف متعاضدين على العمل يدا واحدة قياما بخدمة حقة لهذه الأمم التي أصبحت منذ 24 تموز أمة واحدة.
حرية التأليف والقراءة
حبذا لو أتيح لنا أن نذكر للزمن الماضي حسنة بما خص تأليف الكتب المفيدة، كما ذكرنا له حسنة من حسنات ترقي العلم، وإن أتت بالقسر عنه. ولقد يعجب المرء لهذا التناقض بين حالة هذين الألفين المتلازمين، ولكنه لدى إمعان النظر يتضح أنه لم يكن بد من حصول ذلك التباين، فإن العلم مطلب من مطالب كل نفس حية؛ فكان من المستحيل إيقاف تياره كما تقدم. وأما التأليف فهو من خصائص فئة قليلة من الناس، وهم ليسوا في الغالب من ذوي السعة واليسار. وأقل ما كان يشوه سمعتهم في آذان أرباب الاستبداد أنهم من ذوي الأفكار الحرة ليس في آذانهم وقر ولا غشاوة على أبصارهم، وما كان أحوج الظلام إلى كسر تلك الأقلام، ولم يكن في الوسع أن يفعلوا ذلك علنا خوف الفضيحة؛ فأسبلوا ستار الرياء، وهو شفاف.
لم يسنوا نظاما جديدا قاضيا بالتضييق على الكتابة والكتاب، بل لجئوا في هذه الحال كالتجائهم في سائر الأحوال إلى إصدار الإرادات السنية التي كانت تنهزم جنود القوانين من وجهها كانهزام الجيش المدحور أمام الفاتح المنصور. ولم يكتفوا بإنشاء شعب المعارف في الولايات - وما أحلى هذا الاسم وأمر الفعل - بل انتهى بهم الأمر أن باتوا لا يسمحون بنشر كتاب ما لم يعرض على مجلس التفتيش والمعاينة في نفس الأستانة.
ويجدر بنا قبل استتمام هذا البحث أن نقول كلمة في صفة هذا المجلس ومهمته، خليط من كل أصناف الناس رفيعهم ووضيعم عالمهم وجاهلهم، مرتع لبعض صنائع «المابين» ومنفى لأذكياء الشبان اتقاء لبادرة منهم، تدفع إليهم الرواتب وبعضهم في الأستانة والبعض الآخر في أطراف البلاد، وتختلف تلك الرواتب زيادة ونقصانا باختلاف منطوق الإرادة ونفوذ الواسطة. ولقد شاهدت مرة شيخا هما مقبلا إلى نظارة المعارف، يتضح لناظره ومحادثه أنه لا يعرف من المعارف إلا اسمها، عين، بإرادة سنية، عضوا لهذا المجلس براتب باهظ، ولم يكن لناظر المعارف ولا لسواه سابق خبر بتعيينه، فما وسعهم إلا إحلاله على الرحب والسعة، وبعد هنيهة خرج إلي صديق من ذلك المجلس، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله هذا صنيعة فلان.
ولم يكن هذا المجلس خلوا من الأعضاء الذين يرجى نفعهم في غير تلك الحظيرة، ولكن أقل تغاض منهم عن الأوامر المنهالة عليهم الواحد تلو الآخر يشهر على رءوسهم سيف النقمة.
ذلك هو المجلس الذي ألقيت إليه مقاليد المعارف في البلاد العثمانية، لا يباح بنشر كتاب أو تأليف ما لم يعرض عليه ويتصفحه، فيقرأه بعض أعضائه حرفا حرفا بأية لغة كانت فيزيدون وينقصون ويحرفون ويبدلون، وربما حذفوا منه صفحات وفصولا، بل ربما حذفوا كلمات وعبارات، فاختلت بحذفها لحمة الكتاب من أوله إلى آخره، وإذا أسعف الحظ وصدر الإذن بطبع الكتاب خرج إلى صاحبه وعلى كل صفحة منه ختم نظارة المعارف، والويل للمؤلف الذي يوشى عليه بتغيير حرف منه أثناء الطبع. والأدهى من ذلك أنك ربما انتظرت لصدور الرخصة زمنا أطول من الزمن الذي قضيته في التأليف. ومع هذا فلم يكونوا يجرون على قاعدة واحدة، بل كانوا يراعون أحوالا كثيرة تؤثر في حكمهم، ولهذا ربما تجاوزوا لك عن كل ما مر؛ فقد اتفق لي أن طلبت الرخصة بكتيب أشبه برسالة منه بكتاب فانتظرت سبعة أشهر وحذف منه وبدل، وأنا مقيم في الأستانة، ثم اتفق أن حصلت على الرخصة بيوم واحد لكتاب مطبوع يتجاوز عدد صفحاته الألف مائتي صفحة، وأنا مقيم في مصر، ولم يختم ولم يعترض على حرف واحد منه، وأنا على يقين أنه لم يقرأ منه غير عنوانه.
ناپیژندل شوی مخ
فأي مؤلف في الشرق أو في الغرب يقدم على تأليف كتاب، فيبيضه من أوله إلى آخره، ثم يعرضه على نظارة المعارف، فينتظر كل هذا الزمن. وإذا حسن حظه ونال الرخصة يآلي على نفسه أن لا يغير منه حرفا أثناء الطبع، مع أن المراجعة والتصحيح يقتضيان النظر في التنقيح والتعديل والتبديل حتى بعد ترتيب الحروف قبل الطبع، وأي همة لا ترجع مثبطة أمام تلك الحوائل؟!
أما مواضيع المباحث المباح التأليف فيها، فلم تكن تشمل شيئا من المباحث الأخلاقية والاجتماعية والفلسفية، وكل ما من شأنه أن يعلي الهمم ويثقف العقول وينير البصائر، وهل بعد هذا من قتل لهمم الكتاب؟
ولذلك أصبحت التآليف المفيدة في الولايات من أشباه المعجزات، ولم يكن كتاب الأستانة بأنعم بالا؛ لأن المراقبة كانت محدقة بهم من كل جوانبهم، وبات الجم الغفير من أطول الكتاب يدا يتجاهل وهو عالم ويتصاغر وهو كبير.
وأما الذين اشتد بهم اليأس فلم يطيقوا الصبر، وخف حملهم، فلم يكن في البلاد قيود محكمة تربطهم بها؛ فوكلوا أمرهم إلى الله وغادروا بلادهم، وهم يحنون إليها عن بعد ويتربصون إلى حلول مثل هذا اليوم السعيد ليعاودوا البلاد أفواجا ومعهم من لذة الاختيار وفائدة الاغتراب ما جعل منفاهم مورد نفع لهم ولمواطنيهم في مستقبل الأيام.
وحبذا لو وقف المستبدون فيما مضى عند هذا الحد، وغادرونا نتمتع بقراءة الكتب التي ألفت قبل استئثارهم بالأمر؛ فإنهم بعد أن سدوا السبل في وجه الجديد المفيد، وأوصدوا الأبواب في وجه الكثير من مؤلفات الأجانب أخذوا يتعقبون آثار كل قديم فيه نفحة من نفحات الحرية. ولقد طالما كان الوشاة يتخذونها وسيلة لنيل ما لم يستطيعوا إليه سبيلا بطرق البذل والاسترحام، كما فعل ذلك البائس الذي نفدت حيله فعجز عن الحصول على وظيفة؛ فأرسل تلغرافا إلى «المابين» ينبئ أن لديه أمورا ذات شأن يبلغهم إياها، ففتحت له الأبواب فدخل ومعه بعض أجزاء منتخبات الجوائب، فأشار إلى بعض مظان فيها؛ فكوفئ وعين قائمقاما وصدرت الأوامر في الحال بمصادرة جميع أجزاء تلك المنتخبات فهجم الرقباء على المكاتب هجوم الشرطة على اللصوص، فبعثروا كتبهم وجمعوا كل ما لديهم من ذلك الكتاب.
وكم من مؤلف قرئ دهرا بلا حرج، ثم صودر وحظر النظر إليه لكلمة أو عبارة وردت فيه. وكم من مكتبة زج صاحبها في ظلمات السجن لشبهة تلوث بها لبيع كتاب أو لذكر اسم ذلك الكتاب في حديث أو رسالة وجهت إليه من صديق، وهذه سجون الأستانة ودمشق الشام وغيرهما لا تزال تتقطر لهفا على أولئك الأبرياء.
وما عسى أن نقول عن حالة المكاتب الخاصة؛ إذ كانت المنازل تفاجأ على غرة من أصحابها، وتفتح خزائن الكتب، وإن كان بعضها مدخرا من عهد الآباء والأجداد، ويتذرع الوشاة ولو بصفحة من كتاب مؤلف منذ قرون لأخذ صاحبه غيلة. وإن حملة واحدة حملها الوشاة منذ سنتين على بعض وجهاء القوم في طرابلس وبيروت وصيدا؛ أسفرت عن سجن جماعة من خيرة العلماء وطلبة العلم وإحراق الألوف من الكتب النفيسة حتى ساد الرعب بين طلاب الكتب، فكانوا يتلفون بأيديهم تلك النفائس التي جمعت بشق الأنفس حتى قدر ما أتلف بأيدي أصحابه بيوم واحد بما يقرب من خمسين ألف مجلد، وكانت النيران تلتهم الكتب التهامها يوم دخلت جنود هلاكو بغداد.
ومع هذا فإن للمطبوعات قانونا، حبذا لو عمل ببعضه، حتى لقد كان للكتاب مكافآت مرتبة على ثلاث درجات قبل هذه الفترة. وإننا لا نزال نذكر المكافآت التي نالها المؤلفون في تلك الأيام، خلا ما كان يجود به كرام السلاطين على الكتاب والمؤلفين.
وأما الشعر، وهو نشوة الرءوس وصناجة النفوس، فقد قضي عليه القضاء المبرم، إلا ما كان ينفخ منه في نفير التدجيل وبوق التبجيل حتى لقد خيل لجهلة القوم أن تلك الجذوة التي بدأ شبوبها في زمن السلطان عبد المجيد ثم التهبت أيام السلطان عبد العزيز، قد انطفأ نارها وخبأ إوارها، وما علموا أنها لبثت وميضا تحت رماد منتشر على هشيم إذا لعبت به نسمة حرية انكشف الرماد فثارت النيران ثوران البركان.
ومن أراد أن يعلم ما كان من آثار الحرية السابقة؛ فليرجع إلى الروايات التي كانت تمثل بالفرنسية والتركية في دور التمثيل بالأستانة، وقد ضربت فيها للسلطان عبد العزيز قبب خاصة. بل فليرجع إلى حماسيات كمال زعيم النهضة الشعرية، وإذا أردت مثالا أنصع؛ فاقرأ متنا وشرحا وشعرا ونثرا ظفرنامه يوسف ضيا باشا، وقد انتقد فيها بأشد من قذف النبال سياسة الدولة في بعض الشئون، ووصف بعض صدورها ووزرائها تحت ذقونهم بما لو نطق بحرف من مثله في الحكومة الغابرة لزج به إلى أعماق البوسفور.
ناپیژندل شوی مخ
ذلك نزر من بحر من مساوئ حكم مضى، وإني أختم هذا الباب بكلمة لرجل من جهابذة رجال العلم وفحول الشعراء في سوريا. إذ قلت له يوما: ما لكم معشر الكتاب ها هنا قد أقعدكم الخمول، ونحن فئة صغيرة منكم رحلنا عنكم إلى مصر، وكلنا من تلامذتكم؛ فكان منها الكاتب المجيد والمؤلف والشاعر المفيد الضارب في رياض الحقيقة ومسارح الخيال. وأما أنتم فلا تنفحوننا إلا بكل تافه قليل الجدوى. فقال: ابعث لنا بنفحة واحدة من نسمات حريتكم، وناقشنا بعد ذلك الحساب. فأفحمني، وقلت: حسبنا الله، رب عجل بفرج من عندك.
والآن قل لأمثال هذا الجهبذ النحرير في كل أطراف البلاد قد استجيب دعاؤكم، وفكت القيود، فأرونا نفثات يراعكم وأبرزوا لنا مكنونات صدوركم ووافونا بكل جديد مفيد، وسطروا لنا علوم العصر، وسروا عن أنفسكم وأفيدوا أبناء جنسكم وأطلقوا عنان الأقلام، ولكن الأمل وطيد أن نشوة السرور لا تأخذكم، فتتخطوا جادة اليقظة والاعتدال؛ لئلا يختلط النفع بالضر والخير بالشر.
حرية الكتابة
أو البوستة والتلغراف
إن الخلاف الذي قام هذه الأيام بين الحكومة العثمانية وإيطاليا، قد كشف عن حقيقة في غاية الغرابة؛ طلبت الحكومة الإيطالية أن يؤذن لها بفتح مكتب بريد في القدس أسوة لها بسائر الدول الأوروبية الكبرى. ولما لم يجب طلبها أرعدت وأبرقت وحشدت الأساطيل فلم تجد الدولة، وإن شئت فقل رجال «المابين»، سبيلا إلى الرفض؛ فسلموا بمطالب إيطاليا خصوصا بعد أن اتضح لهم انحياز جميع الدول إلى جانب الإيطاليان حتى صديقتنا دولة الألمان. وليس هنا موضع البحث في مبلغ العدل من هذا الطلب، ولكن المرام بيان مبلغ الظلم ووقوعه في نفوس العثمانيين بصرف النظر عن حق مكتسب لأجنبي، أو مطمع يسعى إلى بلوغ غايته منه.
كانت إيطاليا تلح في الطلب، والدولة تعتذر عن الإجابة، ولم يكن أحد من ذوي المصالح في البلاد العثمانية، حتى المخلصين المتفانين في حبها القاطرة قلوبهم دما على كل ذرة حق تسلب منها، لم يكن منهم حتى ولا واحد يدعو لدولته بالفوز خوفا من أن تتذرع بذلك إلى إلغاء مكاتب البريد الأجنبية. أفليس ذلك من غرائب الوطنية، وإن عد في غير زمن الاستبداد خيانة فادحة؟
كان العثمانيون جميعا يعلمون أن مكاتب البرد الأجنبية منتشرة في ثغور البلاد من الأستانة على البوسفور إلى الدردنيل في مرمرا، إلى ثغور البحر المتوسط كأزمير وسلانيك، حتى بيروت ويافا إلى البحر الأحمر، فخليج فارس حتى البصرة. وبعضها في قلب البلاد البعيدة عن الثغور كبغداد والقدس، وأن بعض هذه البرد يخترق الصحراء من بغداد إلى الشام. يعلمون كل ذلك وينظرون مرارا إلى ثائر الخلاف بين دولتهم والدول الأخرى بشأن رقابة تلك المكاتب، وهم يدعون للدول الأجنبية بالفوز من صميم أفئدتهم مع علمهم أنها حقوق يسلبونها. ولم ذلك؟ لأنهم كانوا يعلمون أنه بزوال تلك المكاتب من بلادهم تزول آخر بقية من حرية المكاتبة؛ فيتعطل ما لم يتعطل بعد من مصالحهم.
ولا يسعنا هنا إلا الإقرار أن لتلك المكاتب فضلا عظيما يحفظ علاقة الأحرار بعضهم مع بعض وترويج كثير من الأعمال التجارية والسياسية.
ولقد عرفنا كثيرين من رجال الحكومة الذين كانوا يعملون في الظاهر على إلغاء تلك المكاتب، وهم في الباطن يؤيدون مطالب الأجانب خوفا على مراسلاتهم وتفاديا مما ربما ينال علاقاتهم السرية من الضرر.
وهكذا فقد كان لهذه البرد مؤيد من المخلص والخائن على حد سوى؛ أما المخلص فلما تقدم من الأسباب، وأما الخائن؛ فلأنها كانت الوسيلة الوحيدة لإيداع مصارف أوروبا وأميركا الملايين الصفر المقطرة من دماء الأهالي.
ناپیژندل شوی مخ
ولقد كان رجال «المابين» مع تأييدهم الأجانب سرا بما خص مكاتب البريد يدأبون سرا أيضا على استمالة بعض عمال تلك المكاتب وإغرائهم بالمال؛ ليدفعوا إليهم بعض رسائل الأحرار. وإننا لا نزال نذكر الصيحة الشديدة التي صاحتها إحدى الدول بوجه عمال بريدها سنة 1894، ثم طردها أربعة منهم دفعة واحدة، ثم إصدار أمرها بأن لا يستخدم مكانهم أحد من العثمانيين، وذلك على إثر اكتشافها تواطؤ أولئك مع رجال «المابين» على دفع رسائل بعض الأحرار إليهم لقاء جعل معلوم عن كل رسالة، وإن أردتم مثالا أجلى فاسألوا أبا الضيا توفيق أفندي عما جرى له من مثل ذلك؛ إذ دعي إلى «المابين» في السنة المذكورة، وضيق عليه واستنطق من أجل مراسلة علمية وأدبية محضة جرت بينه وبين سيدة فرنسوية من ذوات الأقلام. ولا أزال أذكر عبارة له وقد اشتد به القنوط؛ إذ همس بأذني قائلا: وددت لو أني مت قبل أن أرى هذا الانحطاط الذي آل إليه أمر هذه الدولة، فالحر مضطر فيها أن يكون قاتلا أو مقتولا، ولقد اشتدت عليه المراقبة من ذلك الحين حتى انتهى أمره كفؤاد باشا بالإهانة والنفي.
ولو كان كل بحث يجلو كل حقيقة لاتضح الآن أنه كان لكل رجل من رجال «المابين» وأكثر رجال الدولة، حتى الوزراء؛ عمال من الأجانب ترد إليهم المراسلات وترسل التحاويل بواسطتهم في البرد الأجنبية، فتأتي الرسالة مثلا من بلجيكا بالبريد الفرنسي باسم الموسيو أدمون على الظرف الخارجي، ومن ضمنه ظرف آخر باسم محمد باشا؛ فيستلم الوكيل الكتاب ويسلمه لصاحبه يدا بيد. وعلى هذا النمط كانت المخابرة تجري بين مختلفي البلاد وعملائهم، وكذلك بين دعاة الحرية في أطراف البلاد الأجنبية.
ولقد كان أمر المراقبة شائعا بين الناس، حتى كان الصديق إذا بعث برسالة سلام وتودد إلى صديقه يحسب أن عينا أثيمة تنظر إلى كتبه وتحلله وتشرحه قبل أن يقع تحت نظر صاحبه، فيودع كتابه من العبارات ما يدرأ شر الوشاة وشبهات المتعنتين. ولو توالت هذه المراقبة لأنتجت فوق مضارها المعروفة لدى كل الناس اختلالا في إنشاء الكتاب وأجرت على أقلامهم عبارات الرياء والمداهنة؛ لأن الرسائل التي كان يخشى أصحابها فض ختمها قبل تسليمها إلى أصحابها كانت تستهل وتختم بالأدعية والثناء على رجال «المابين» وعملهم، وكل من الكاتب والقارئ يخط ويقرأ كذبا وتدليسا.
وكانت لهم مهارة مذكورة بفتح التحارير وفض الأختام ولو كانت بالشمع، حتى يخيل لك أنهم لو استفادوا من البخار والكهرباء وسائر مخترعات العصر ما استفادوه من الإحاطة بجميع وسائل فض الأختام؛ لرقوا بالبلاد درجات. وكانوا بعد فض الرسائل التي يختارونها يحكمون ختمها، وإذا خلت من شبهة دفعت إلى صاحبها وأكثرها غير باد عليه أثر التلاعب، ولم تكن تلك المراقبة خلوا من كل فائدة، وإليك مثالا على سبيل التفكهة: بعث إلي صديق من بغداد كتابا، ونسي أن يضيف اللقب إلى الاسم على الظرف؛ فلم يكن عليه إلا اسم سليمان، وفي الأستانة ألوف سليمانات، ومع ذلك فالكتاب وصلني لوجود الاسم واللقب معا داخل الكتاب؛ فشكرتها لهم منة عظيمة لما كنت أتوقعه بذاهب الصبر من أخبار صاحبي.
ولم يكن ممكنا بوجه من الوجوه أن تحيط المراقبة علما بكل المراسلات المتداولة في البلاد؛ لأن ذلك يستلزم إرصاد ألوف العمال وبذل ملايين النقود؛ ولهذا كانوا يقتصرون على فتح رسائل الذين يوجسون خوفا من مرور نسمات الحرية على أدمغتهم، والذين يودون الغدر بهم على هذا الأسلوب الدنيء. وكم من مرة علمنا أن فلانا سجن وكبل بالحديد لورود رسالة إليه تشير إلى مؤامرة أو مكيدة أو إلى انخراطه بسلك تركيا الفتاة، ولم يكن له سابق علم بتلك الرسالة ولا علاقة له مع صاحبها ولا خطر على باله شيء من محتوياتها، وإنما هو شرك ألقاه له أبناء الشر بإيعاز أو بغير إيعاز، فسطروا تلك النميقة على هواهم، ثم أتبعوها بتلغراف إلى صاحب الشأن ينبئونه أن صاحبهم سيئ النية خبيث الطوية، يثبت ذلك ما بينه وبين أعداء الدولة من التضافر على إثارة الفتن؛ فتضبط الرسائل الذاهبة إليه وتفتح ويحكم بثبوت تلك التهمة الفظيعة بمجرد هذه الوشاية. ومن ذا الذي يجسر أن يشفع بمن سيق مصفدا بالسلاسل من أجل تهمة هذا شأنها .
ومن نتائج تلك المراقبة أيضا تعطيل المصالح في المدن الكبيرة لامتناع الحكومة عن السماح بإنشاء مكاتب البرد الداخلية، وكم من مرة ضجت الأستانة لهذا التضييق حتى كان المضطر إلى إرسال كتاب من محلة إلى أخرى يعمد إلى استئجار السعاة. بل ربما كنت إذا أردت أن ترسل كتابا من بك أوغلي إلى إستانبول تجشمت من الصعوبة فوق ما تتجشم بإرساله إلى باريز، وصرفت من الأجرة عشرة أضعاف. فلما بلغت تشكيات الأهالي عنان السماء أقيمت مكاتب البريد الداخلي في الأستانة خاصة، وما لبثت أياما حتى صدر الأمر بإلغائها؛ خشية أن تسهل على دعاة الإصلاح حرية التخاطب ثم أعيدت بإلحاح من الأجانب وبعض ذوي النفوذ على أن لا تقبل إلا التذاكر المفتوحة.
فمن يعجب بعد هذا لتدني دخل هذه الإدارة المختلة وذهاب معظمه إلى المكاتب الأجنبية؛ فكأن حكومة «المابين» آلت على نفسها أن تعبث بكل مورد من موارد البلاد بالحجر على الحرية على طرق شتى، وليس من الصعب تصور ما سيكون من ازدياد موارد الثروة باستتباب الأمن والعدل.
ليست إدارة البريد من موارد الثروة العظيمة، ومع هذا فخذ مثلا ضعيفا عن علاقة البريد العثماني بالبريد المصري، فإن مصر - على كونها محسوبة من أجزاء الممالك العثمانية - كانت في نظرها غولا رواعا يمنع مأمورو الدولة من المرور به، بل ربما تحاشوا ذكر اسمه. والرقابة على بريده بلغت أعظم المبالغ، ولهذا كان يضطر أرباب المصالح في الأساكل إلى جعل كل مخاطباتهم بواسطة البرد الأجنبية. وأما في المدن الداخلية كمصر القاهرة، حيث لا مكتب لبريد أجنبي؛ فإن الرسائل تذهب منها رأسا إلى البلاد العثمانية بعد مرورها على الإسكندرية أو بورسعيد. ولهذا كان أصحاب المصالح يتكبدون مشقتين ويصرفون الأجرة ضعفين إذ يبعثون برسائلهم بالبريد المصري إلى إحدى الأساكل، ومن ثم تفض ظروفها وتوضع عليها الطوابع الأجنبية. ولم يكد الدستور يعلن حتى بدا الفرق وظهر الغبن الفاحش؛ فإني أعرف محلا واحدا حصل له من الوفر بعد إعلان الدستور زهاء ثلاث ليرات في الشهر. أما الذي يربحه البريد العثماني بهذا الإصلاح فليس مما يستهان.
وإن ما قيل في إدارة البريد يصدق معظمه على إدارة التلغراف، وإن كانت مكاتب تلغراف الأجانب غير متشعبة في البلاد العثمانية كمكاتب بردهم، ولكنه حسبنا أن يكون في قلب العاصمة مكتب تلغراف أجنبي، وأن يكون للأجانب مكتب آخر في الفاو الواقعة في منتهى أملاك الدولة على خليج فارس، ولا بد أن نذكر استطرادا وأن نبلغ بعد محل البحث في اختلال إدارة البلاد أن الخسائر متطرفة إلى الدولة من كل أبواب مواردها، ومن جملتها خسارة أجرة الرسائل التلغرافية المتبادلة بين أوروبا والهند فممر طريقها الطبيعي على بغداد وفيه لأصحاب تلك الرسائل ونفس الحكومة الإنكليزية وفر عظيم، ومع هذا فقد أدى اختلال الإدارة إلى تحويل هذا المورد إلى طريق السويس.
حرية الجمعيات
ناپیژندل شوی مخ
في أخريات سني السلطان عبد العزيز أيام ألقيت مقاليد الأحكام إلى أمثال مدحت، وشب في الأستانة من خلفاء شناسي أمثال كمال وأكرم وناجي وسعيد ومدحت، هبت في البلاد نسمة نشاط فدفعتها إلى نهضة فكرية تحفزت على إثرها فكادت تثب إلى أوج معارج الفلاح لو لم يقم في وجهها جبار الاستبداد، وامتدت نفحات تلك النسمة الفيحاء إلى المدن، وكادت تبلغ القرى والبوادي لو فسح الله في أجلها، فنهض شبان البلاد على اختلاف نزعاتهم إلى إنشاء المنتديات وتأليف الجمعيات العلمية والأدبية طلبا للإفادة والاستفادة، وكان الجم الغفير من رجال الدولة ينشطون أولئك الشبان ويشدون أزرهم بالقول والفعل.
لا أزال أذكر ذلك اليوم الميمون إذ حدا بنا هذا الحادي، فألفنا جمعية زهرة الآداب في بيروت، وتألفنا عصابة لم يكن فيها أثر لفارق بين مسلم ومسيحي، وسننا قانونا، فجعلنا أول مواده منع التعرض للبحث في الدين والسياسة وفرضنا على جميع الإخوان إلقاء الخطب والمباحث المفيدة، وجمعنا مكتبة على قد ما تيسر لنا فودع الإخوان القهوات، وما لحق بها من محلات اللهو في الفراغ، ثم ما لبث أن عين أسعد مخلص باشا واليا لسوريا بعد أن تولى الصدارة العظمى وكان ساعدنا قد اشتد وربائط الإخاء قد أحكمت فذهب منا إليه وفد يحمل قانون الجمعية؛ فتلقاه بالبشر فخاطبناه بحرية لم يكن يجسر أحد على مثلها بعد تلك الأيام إلا حين تولى سوريا مدحت باشا، وقلنا: إننا لسنا بحاجة إلى درع يقينا في أيام فخامتكم، ولكن من لنا بضمين لخلفائكم، وعليه فإننا نلتمس التصديق على قانوننا بفرمان شاهاني أو أمر عال. فما كان أشد سروره عند سماع هذا الكلام، ولم يمض على تلك المقابلة أسبوع حتى صدرت الإرادة السنية وهي لا تزال محفوظة لدينا لمن شاء الاطلاع عليها، وإن كانت الجمعية قد تبددت وتلاشت.
أقص هذه القصة على أبناء زمن الاستبداد فيقولون: أفي يقظة أنت أم في منام، ومن ذا الذي يصدق بإباحة الاجتماع حينئذ لشرذمة من الفتيان يخطبون في السر والعلانية؟ أليس ذلك من الأسباب الداعية إلى تقويض أركان الملك؟ تلك إحدى الأماني التي بلغتها الأمة العثمانية منذ خمسة وثلاثين عاما فما ترى كان يرجى أن يكون مبلغها الآن لو ظلت مطلقة في ذلك السبيل؟
تسلط الوهم على عقول رجال الاستبداد بل أرادوا أن يسلطوه على العقول؛ فقضوا على الجمعيات كما بددوا الجماعات وحرموا كل ما يشف عن تضافر وتعاون؛ أي كل ما ينتج خيرا للبلاد. تأخذهم الرعدة لقلبين متآلفين، فما بالك إذا تعددت القلوب، يسيئون الظن حتى باجتماع أعضاء أسرة كبيرة في بيت واحد، يخافون - والخائن خائف - أن توجه قوة تلك الجموع عليهم وإن قصرت بحثها على حروف الهجاء. أجهلوا أن المؤامرات السياسية إذا قصد بها دفع الظلم يسبل عليها ذيل السر والتكتم؟ وما أغناهم كل ذلك التنكيل بالجمعيات العلنية عن غل أيدي الجمعيات السرية التي ما زالت دائبة على عملها ليل نهار حتى ظفرت بغل أيديهم، ولم يكونوا يقتصرون على فض المجتمعات الرامية إلى تثقيف العقل وترويض الفكر، بل تجاوزوها - خطأ أو عمدا - إلى بعض ما يقصد به إسعاف الفقير وتعليم اليتيم.
ولسنا هنا بمنكرين أنهم أجازوا تأليف الجمعيات الخيرية المحضة؛ حيث لا بحث ولا خطاب، ولكنهم سواء اختلط عليهم الأمر أو لم يختلط، لم يكونوا يأذنون بارتفاع صوت في تلك المجتمعات؛ فكان لذلك نتيجتان مشئومتان، أولاهما: أنهم بذلك الضغط جروا بالعقول في وجهة التقهقر. والثانية: أنه لم يبق في البلاد إلا الجمعيات الطائفية الخيرية، وأن هذه الجمعيات مع ما فيها من النفع ليس من شأنها أن تسعى في التأليف بين أبناء البلاد، وهو الطامة الكبرى في نظر الحكومة الغابرة.
وكم خلطوا بين النافع والضار حتى في عرفهم. وهذه جمعية المقاصد الخيرية ألفها وجهاء المسلمين في بيروت لإسعاف الفقراء وتربية الأيتام وإنشاء المدارس وما أشبه من المقاصد النبيلة. فقال الوشاة: تلك الجمعية ينم اسمها عن مرمى خفي، ولا حاجة بالجمعيات الخيرية أن يكون لها مقاصد؛ فلا بد من أن تكون تلك المقاصد لأمر آخر. فاقضوا عليها قبل أن تقضي عليكم. تلك كانت فلسفتهم بتعبير الإعلام. وكم كان لهم من مثل هذه الأعمال التافهة في عاصمة السلطنة وسائر المدن.
ولست هنا بمتكلم عن الجمعيات التي كانت على وشك القيام للتأليف بين المسلمين والمسيحيين؛ فإنه قضي عليها وهي في مهدها؛ لأنها تأخرت في النشوء؛ فتقدمت في الاضمحلال.
ولست بباحث أيضا في الجمعيات العلمية المحضة من أمثال المجمع العلمي الذي أنشئ في بيروت منذ خمسين عاما، وكان مؤلفا من نخبة علماء المسلمين والمسيحيين من وطنيين وأجانب؛ فإن جرثومة هذه النهضة لم تكن قد اختمرت الاختمار الكافي لتمكنها من الاستقرار على أس مكين.
ولست بناظر أيضا إلى الخطابة في بلاد يكاد يكون الهمس بالآذان فيها محظورا منذ بددت طوالع الاستعداد لها إلا ما كان يقال في حفلات المدارس، وأكثره في المدارس الأجنبية والكثير منه مشوب بمزيج الحقيقة والرياء، ولكنه لا بد من التنبيه إلى أنه، وإن لم يكن للجمعيات ولا للخطابة شأن مذكور في البلاد في زمن من الأزمان، فإن النفوس قد تشربت مبادئ الاجتماع وعرفت منافع الجمعيات الرامية إلى أغراض حميدة، وليس بالكثير على العثمانيين بعد الآن أن يتخذوها من وسائل الإصلاح - ولا حرج عليهم - فيقيموا المنتديات العلمية والتهذيبية، ويجاروا العالم في سيره الحثيث، ويشيدوا معاهد العلم، ويتعهدوا الكثير من مجاهل بلادهم التي يسعى الإفرنج من البلاد القاصية للبحث في آثارها وتدوين سابق تاريخها المجيد؛ فتكون منهم اللجان المقيمة والبعثات الضاربة في قلب البلاد وأطرافها للبحث والدرس؛ فإن مجال التنقيب والاكتشاف في البلاد العثمانية أوسع منه في كل بلاد. في السهول والجبال والحواضر والبوادي، وفوق وجه الأرض وفي قلبها. ثم إن القيام إلى الإصلاح الأدبي والتأليف الثابت بين عناصر الأمة لا يتأتى إلا بواسطة هذه الجمعيات العلنية؛ فإن فعلها في العلم والعقل وللفكر فعل الشركات المالية في التجارة والصناعة والزراعة.
وعلى الجملة يقال: إن الحاجة في البلاد العثمانية إلى هذا التكاتف أشد منها في سائر البلاد، وخصوصا إذ تخطينا زمن القول إلى زمن العمل، وهيهات أن يسد الأفراد في الأعمال العامة مسد الجماعات.
ناپیژندل شوی مخ
الحرية ورجال الدولة
خرجت باكرا صباح يوم من أيام سنة 1894 للنزهة في مرسيليا؛ فالتقيت بصديق فرنسي معه رفيق عليه لوائح الكآبة، فاستوقفني صديقي ودعاني لتناول القهوة في إحدى قهوات الكانبير، فجلسنا هنيهة ورفيقه صامت مطرق، حتى إذا شرب قهوته سار في سبيله، فقال صديقي: أراك محدقا بصاحبنا كأنك تستطلع طلع أمره وسبب انقباض صدره. قلت: نعم. قال: هذا مأمور إحدى دوائر الحكومة وهو كاثوليكي ورع في تعبده، رب بيت يعول امرأة وأولادا، ليس بذي ثروة ولا مورد رزق له غير راتبه، وقد ألف الذهاب إلى الكنيسة صباح كل يوم، وإن الله قد ابتلاه برئيس أبغض ما عليه العبادة والمتعبدون؛ فأصبح مضطرا إلى تأدية فرضه فجر يومه، فيذهب ويرجع خلسة؛ لئلا يعلم به رئيسه وأقل ما يناله من ضرره سد سبيل الترقي في وجهه. قلت: أيكون هذا عندكم وأنتم في بلاد تفاخر الدنيا بحريتها؟ قال: وجب أن لا يكون ولكنه كان ولو قليلا.
إذا كان هذا مبلغ محاذرة المأمور في بلاد الحرية، فما عسى أن يكون في بلاد الاستبداد؟
يقول أعداء البلاد: إنها خالية من الرجال الصالحين لتولي الأحكام. ويقول محبوها القانطون عن غير روية: لقد تدنست الأخلاق وساد الفساد وهيهات أن يستقيم المعوج. فقل للأولين والآخرين: كل ذلك لم يكن ولا كان بعضه. ولكن لكلا الزعمين أسبابا زالت يوم إعلان الدستور وقد، حان لنا أن نقول اليوم قول اللورد سولسبري: إن في البلاد العثمانية رجالا وهم لو أطلقوا رجال عظام.
لا ريب أن استبداد الحكومة الغابرة أزاح من وجهها صفوة خالصة من رجال الذكاء والغيرة والاستعداد، وإذا اضطرت إلى استخدام بعضهم ذرا للرماد في أعين الناس طرحتهم في إحدى زوايا الإهمال لا حول لهم ولا قوة، كما طرحت أكرم وسعيدا في زوايا مجلس الشورى حتى تسنى لها إبعاد سعيد إلى اليمن. فهؤلاء وأمثالهم أسبل ذيل التعسف سترا على ما كان يرجى من نفعهم. أما الآن وقد فتحت لهم الأبواب، فسيكون لهم في المستقبل شأن مذكور ومآثر غراء، وهناك فئة أخرى آثرت الاغتراب والفقر وواصلت الجهاد كرضا وصباح الدين وعبيد الله؛ فبذلت لها الأموال فلم تطمعها، وغررت بأعلى الرتب وأسمى الوظائف فلم تغتر، ولم تزل دائبة في سبيلها حتى قيض الله لها هذا الفوز المبين. ومن هذه الفئة الأخيرة زمرة من خيرة النجباء أخذها العياء؛ فوقفت في منتصف الطريق، وبلغ منها الجزع مبلغ اليأس وخدعت بالأماني والوعود، فسقطت في الأحبولة وعادت إلى الأستانة فحيل بينها وبين أمانيها، وغلت أيديها بحبل من مسد، كلطف الله ومراد. ولسوف تحكم بين جميع هذه الفئات ربط التآخي والتعاضد؛ فيكونون عصبة مجتمعة بعد أن كانوا عصابات متفرقة أقيمت بينها الحواجز والسدود.
هؤلاء جميعا لم يكونوا من رجال الدولة على ما يفهمه أرباب السياسة، فلنغادرهم وشأنهم إلى حين، ونقصر البحث على أولئك الذين تولوا الأحكام، وأسندت إليهم المناصب للعهد المنصرم.
ترى الجم الغفير من الناس ينحون باللائمة على جميع رجال الحكومة بلا استثناء، وهو خطأ فاحش؛ فإذا استقريت الأحول وتتبعت مجاري السياسة الداخلية تبين لك أن التبعة كل التبعة في هذا البلاء لا تتجاوز النزر اليسير منهم.
انظر أولا إلى الجيوش التي كانت ملتفة حولهم من جند الجواسيس، ولا تظنن أنها كانت أخف وطأة عليهم منها على سائر الناس. بل إذا أمعنت النظر رأيت الحقيقة بخلاف الظاهر ، وكلما صعد الواحد منهم في سلم الارتقاء زادت الرقابة عليه، ولا يسثنى من ذلك صدر أعظم ووزير خطير، ولا ترعى حرمة شيخ إسلام وعالم كبير، بل كان صغار المأمورين أخف ضيما وأنعم بالا إذ كان يتاح لهم أن يزوروا ويزاروا ويختلفوا إلى المجالس.
وأما أولئك فكانوا سجينين في بيوتهم، توجس منهم الخيفة إذا تجاوزوا الأبواب، وعليهم العيون مبثوثة في المنازل والطرق، لا يعلمون أهم واقفون لهم في الطريق، أم قاعدون بين جلسائهم وندمائهم في بيوتهم، أم جاثمون بين خدمهم في غرف نومهم ومطابخهم. لا يجسر الوزير أن يزور وزيرا ولو كان حبيبا له قبل الوزارة. يمعن الفكرة طويلا قبل أن يفوه بكلمة؛ خوف أن تؤول أو تنقل. تأخذه الهواجس فلا يعلم مصيره مساء يومه، لا يعلم أيخرج عن منصة الأحكام إلى بيته فيلفي الجواسيس قد برزت من خفائها تحمل أوامر تفتيش غرف المكاتب والملابس والمطابخ والشرفات، أو الجنود قد حملت أمر سوقه إلى «المابين» ليستنطق ويهان أو صدرت الإرادة السنية بإيقافه إلى أجل غير مسمى. ولهذا كنت ترى معظم هؤلاء الأمراء الأرقاء على تحفز واستعداد حتى إذا خشوا الغدر بهم، تناولوا حقيبتهم المعدة لمثل هذا اليوم، وطلبوا ملجأ يتقون به شر السعايات. ولا يزال خبر التجاء سعيد باشا الصدر السابق إلى السفارة الإنكليزية يرن في الآذان.
ثم إذا ألفت إلى زعماء الخفية أنفسهم رأيتهم تحت رقابة خفية أخرى يقال في وصفها مثل ما تقدم، وعلى هذه رقابة أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية له، حتى تصل من أكبر كبير إلى أصغر صغير متسلسلة من ولي عهد السلطنة إلى أبناء الأسرة المالكة، إلى الوزراء والعلماء، إلى المشيرين والضباط، إلى الولاة المتصرفين، حتى مرتبي الحروف في المطابع وموزعي رسائل البريد والتلغراف.
ناپیژندل شوی مخ