دولت عثماني د سندر زوی او وروسته
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
ژانرونه
ذلك كان نظام الخفية، ذلك الوباء المنتشر في البلاد انتشار الجراد، حشرات آخذ بعضها بأذناب بعض، ولكم التفت تلك الأذناب على الرقاب فخنقت نفسها! وكم من جاسوس كبير قضي عليه بوشاية من جاسوس صغير! ولو كان العدل بالمساواة في شكل واحد من أشكال الحكم؛ لكانت الحكومة الغابرة أعدل الحكومات إذا لم تكن الخفية تضرب كشحا عن أحد ظالما كان أو مظلوما.
فإذا علمت ذلك وعرفت أن كل الحول والطول أصبح في يد دعاة الاستبداد، وأن الباب العالي بات أثرا تاريخيا يشير إلى أنه كان مصدر الأحكام في سالف الزمان، وأن الوزراء جميعا أصبحوا آلة صماء في أيدي رجال «المابين» لا يحلون ولا يربطون ما لم يتلقوا الأوامر، وإذ أحرجهم العسف فهزتهم الأريحية فقاموا بوجه تلك الأوامر؛ نبذوا في الحال كما جرى مرارا لسعيد وكامل الصدرين. وإذا علمت أيضا أن سلطتهم أزيلت حتى عن نفس مستشاريهم وكتابهم؛ فقل لي - بحقك - من ذا الذي يعجب لتثبط هممهم وتعذر الإصلاح عليهم.
فكل تبعة هذا الجمود وتلك المظالم إنما يجب أن تلقى على عواتق أولئك المقربين الذين قبضوا على أزمة الأحكام وتصرفوا بحقوق العباد تصرف المالك بملكه.
وما عسى أن نقول في انتخاب المأمورين وتعيين ذوي اللياقة منهم، وليس لصدر محنك أو وزير مدرب أو وال أمين أن يأمن على بقاء مستشاره في خدمته من الصباح إلى المساء. وبينا ترى المأمور الذي قضى حياته في منصبه يجهد نفسه في الخدمة إذا به قد أقيل من منصبه؛ لأنه راق صنيعة فلان أو فلان أن يحل محله فيه. بل ربما أرغم رئيس مجلس أو دائرة كبيرة على أن يحل بين الأعضاء عضوا جديدا لا محل له ولا مزية تحليه إلا أنه من صنائع المقربين. يؤمر بقبوله أمرا ولا يستشار، ودونك رؤساء شورى وأمانة العاصمة ومجلس تفتيش المعارف، فاسألهم ينبئونك بغرائب الحال.
ثم إذا انثنينا إلى الإصلاح المفروض على رجال الدولة قياما بواجب تلك المهام، يجب أن نعلم - قبل كل شيء - أن كلمة «الإصلاح» نفسها كانت من الحروف المقضي عليها بالإلغاء، إذا نطق بها ناطق اتهم في أنه من دعاة الثورة. ومن ذا الذي كان يجسر أن يقول جهرا إن البلاد في حاجة إلى الإصلاح، أو من ذا الذي كان يجسر أن يقرن اسمه إلى عمل مفيد في البلاد حتى ولو كان من رجال «المابين» إلا في أحوال شاذة.
وإذا أردت أن تعلم مبلغ العذر الذي نلتمسه لبعض رجال الدولة على تقاعدهم في زمن العسف عن طلب النافع المفيد والسير في طريق الإصلاح فإننا نضرب لك مثلا رجلا تفاخر به رجال الأمم وقد تدرج في مرقاة المناصب حتى تولى الصدارة العظمى، ألا وهو: مدحت باشا.
رأينا مدحت واليا قبل طرد الحرية من البلاد، ورأيناه واليا بعد ذلك؛ فانظر الآن إلى شأنه في الولايتين، تولى بغداد قبل عهد الاستبداد سنة 1285 /1870، وكانت الإدارة مختلة والقبائل ثائرة والمالية ناضبة، وليس في البلاد شيء من معاهد العلم والصناعة، فوجه نظره إلى توطيد دعائم الأمن؛ فسار بنفسه للضرب على أيدي رؤساء العشائر الهندية والدغارة، فأخذ من أخذ بالقوة، وسكن روع من بقي باللين والمجاملة، وسير البعوث إلى قبائل المنتفق والأحساء والقطيف، فدوخ العصاة وأمن الطائعين. ولما استقر له الأمر وساد الأمن انثنى إلى الشؤون الداخلية، فأصلح إدارة الحكومة ونظم المحاكم، وأوجب أن لا يكون أحد من عمال الحكومة من صنائع الوجهاء.
وشاع خبر نزاهته وتجرده، فهابه المرتشون وأقفلت الأبواب في وجوههم، واتخذ ما أمكن من الوسائل لدفع الرواتب في أوقاتها ورغب في زيادة رواتب صغار المأمورين؛ فلم يتسن له ذلك. وله كلمة مأثورة قالها إذ ذاك: «سوف يأتي زمن يتيسر للدولة فيه أن تعادل بين العمل والأجرة، أما الآن - والإجحاف ظاهر - فكأننا نحن أنفسنا نأذن بالرشوة لذوي الرواتب الزهيدة، بل نأمرهم بذلك أمرا»، وضرب على أيدي الحكام الظالمين وفتح أبوابه للمتظلمين، فهابه الحاكم واطمأن المحكوم، ونظر في الطرق المتخذة لجباية الأموال فعرف الداء وعاجله بالدواء، فأمن الفلاح ظلم ملتزم الأعشار، واطمأنت عشائر البدو من الزراع فعادت إلى زراعتها.
وإن له فوق ذلك من الآثار في تلك الولاية القاصية في أطراف البلاد ما جعل بغداد تفاخر سائر الولايات حتى ما جاور منها عاصمة الملك. فهو الذي أنشأ أول مطبعة في بغداد وأصدر فيها جريدة دعاها الزوراء. وهو الذي أصلح إدارة عمان البحرية التي أخذت تسير البواخر بين بغداد والبصرة ومنها إلى اليمن والحجاز.
وهو الذي أنشأ معمل الحديد الكبير وألحقه بتلك الإدارة، وهو الذي أنشأ مكتب الصنائع وبث في البلاد روح التضافر على تأليف الشركات فألف شركة من أهالي بغداد، فأنشأت طريق الترامواي بين بغداد والكاظم، وهي أول شركة ترامواي في الولايات العثمانية - على ما نعلم - وكانت له عناية خاصة بإصلاح الطرق وتسهيل سبل الاتصال. وهو الذي قرب المسافة بين بغداد والبصرة بضع ساعات؛ إذ خرق سبيلا لدجلة فحوله عن مجراه في محل يلتف فيه المجرى ويدور مسافة طويلة، ثم يرجع إلى قرب المجرى الأول. ولا يزال ذلك المحل يعرف ب «القصة» أو «قصة مدحت»، وله من هذا القبيل أعمال باهرة؛ إذ استقدم مهرة المهندسين وبثهم في الولاية؛ فدرسوا حالة البلاد الزراعية ووضعوا مشروعات الري الخطيرة. ولكن مدته لم تطل فغادر بغداد ولم ينفذ منها إلا القليل؛ فأضحت بعده أثرا بعد عين.
ناپیژندل شوی مخ