عبد الله بن غانم قاضي إفريقية وصاحب مالك بن أنس
هو عبد الله بن عمر بن غانم بن شرحبيل بن ثوبان الرعيني، روى عن الإمام مالك، وعليه كان معتمده، وروى عن سفيان الثوري، ثم دخل الشام والعراق ولقي بها أبا يوسف صاحب أبي حنيفة. كان مالك إذا دخل عليه ابن غانم وقت سماعه أجلسه إلى جنبه، ويقول لأصحابه: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه.» وهذا كريم في بلده. ولي غانم قضاء إفريقية سنة 171ه، وهو ابن اثنتين وأربعين سنة، دخل عليه عبد الملك بن قطن الفهري عائدا في مرضه الذي مات فيه، فقال له: «رفع الله ضجعتك من هذه العلة إلى إفاقة وراحة، وأعاد عليك ما عودك من الصحة والسلامة، فاصبر لحكم ربك عز وجل، فإن الله يحب أن يصبر على بلواه كما يحب أن يشكر على نعماه.» فقال ابن غانم: هو الموت والغاية التي إليها نهاية الخلق، فصبر جميل يؤجر صاحبه خير من جزع لا يغني عنه، ثم تمثل بهذا البيت:
فهل من خالد لما هلكنا؟!
وهل بالموت يا للناس عار؟!
ولابن غانم تآليف كثيرة، وكان موته بسبب فالج أصابه؛ وذلك في شهر ربيع الآخر سنة 198ه، وصلى عليه إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية، وبكى عليه بكاء كثيرا. وترك ابن غانم ولدين: أبا عمرو غانما، وأبا شرحبيل، وكان الأخير فقيها ورعا، ودفن ابن غانم بمقبرة باب نافع بينه وبين قبر سحنون مقدار خمسين خطوة في حوطة بسيطة، وعند رأسه عمود أحمر وبجانبه قبر أبي العرب بن أبي الفضل التميمي العالم الكبير، رضي الله عنهما.
الإمام سحنون صاحب المدونة
اسمه عبد السلام، وغلب عليه لقب سحنون، وسحنون اسم طائر حديد البصر، سمي سحنون بهذا الاسم لحدته في المسائل، وأصله شامي من حمص، سمع العلم بإفريقية من علي بن زياد دفين تونس، ومن عباس بن أشرش، وبهلول بن راشد، وعبد الله بن غانم، ومعاوية الصمادحي. ثم رحل إلى المشرق سنة 188ه، فقرأ بمصر على ابن القاسم، وابن وهب، وأشهب، وابن الحكم، وشعيب بن ليث، ويوسف بن عمر. وقرأ بالمدينة على عبد الله بن نافع، ومعن بن عيسى، وأنس بن عياض، والمغيرة بن عبد الرحمن. وسمع بمكة من سفيان بن عوينية، وعبد الرحمن بن المهدي، ووكيع بن الجراح، وحفص بن غياث،
وحج مع ابن القاسم وابن وهب وأشهب في مرة واحدة. وكان زميل ابن وهب على راحلته، ثم قدم إلى القيروان سنة 191ه، فأظهر علم أهل المدينة بالمغرب. وكان يقول: أنحى الله الفقر، فلولاه لأدركت مالكا؛ لأن مالكا مات وسحنون ابن ثمانية عشر عاما. وكان سحنون قنوعا لا يقبل من أحد شيئا سلطانا كان أو غيره، ولا يهاب الملوك، شديدا على أهل البدع، راوده الأمير أحمد بن الأغلب حولا كاملا على أن يوليه القضاء فأبى عليه، فعزم عليه بالأيمان التي لا مخرج منها، فاشترط عليه سحنون شروطا كثيرة حتى قال له: إني أبدأ بأهل بيتك وقرابتك وأعوانك، فإن قبلكم ظلامات للناس منذ زمان طويل. فقال الأمير: نعم، لا تبتدي إلا بهم، وأجر الحق مفرق رأسي. وتولى القضاء بهاته الشروط؛ وذلك في رمضان سنة 234ه، وأقام قاضيا ستة أعوام، وكان سنه يوم تقديمه أربعا وسبعين سنة، ولم يزل قاضيا إلى أن مات. ولما ولي القضاء دخل على ابنته خديجة، وكانت من خيار الناس، فقال لها: اليوم ذبح أبوك بدون سكين. فعلمت أنه قبل القضاء.
وعندما ولي القضاء كتب إليه عبد الرحيم بن عبد ربه الربعي الزاهد: «أما بعد، فإنك كنت تنظر للناس في مصالح أخراهم، فصرت تنظر مصالح دنياهم، فأي الحالتين أفضل؟ والسلام.» فكتب إليه سحنون: «أما بعد، فإن كتابك جاءني، وفهمت ما ذكرت، وإني أجيبك، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، عليه توكلت وإليه أنيب، وأما ما ذكرت من أني كنت أنظر للناس في مصالح أخراهم فصرت أنظر في مصالح دنياهم، فاعلم أنه لا تصلح للناس أخراهم حتى تصلح لهم دنياهم، آخذا لضعيفهم من قويهم، ومن ظالمهم لمظلومهم، وأنا لم أزل مبتلى ينفذ قولي منذ أربعين سنة في الفتيا، فأنا منذ أربعين عاما قاضيا؛ لأن قول المفتي يمضي في أشعار المسلمين وأبشارهم، ومع هذا فقد ابتليت، فقدمت جبرا، فالزم نفسك بالدعاء لي والسلام.»
ناپیژندل شوی مخ