تقديم الدليل
كلمة لملخص الكتاب
القيروان
بيان أول من نزل القيروان من قواد جيش الصحابة رضي الله عنهم
بيان المعاهد الدينية والمعالم والمقامات الشهيرة
مشاهير عظماء
النشيد الوطني
كلمة الختام
تقديم الدليل
كلمة لملخص الكتاب
القيروان
بيان أول من نزل القيروان من قواد جيش الصحابة رضي الله عنهم
بيان المعاهد الدينية والمعالم والمقامات الشهيرة
مشاهير عظماء
النشيد الوطني
كلمة الختام
دليل القيروان
دليل القيروان
تأليف
صالح سويسي القيرواني
تقديم الدليل
أقدم هذا الدليل إلى صديقي الجليل الكاتب البليغ السيد محمد بن الأمين الخلصي:
أمحمد يا ابن الأمين ومن له
في القلب ود راسخ التمكين
إني علمت بما لكم من غيرة
وحماسة عن أهل هذا الدين
ورأيت أنك في وفايك مفرد
وبحسن حفظ العهد قد تحييني
ويراعكم في القطر أصبح شاهدا
عن صدق نصح للعباد ثمين
فلذا أقدم ذا الدليل إليكم
ليحوز باسمك غاية التحسين
كلمة لملخص الكتاب
لا يخفى أن مدينة القيروان كانت فلكا سعيدا مزانا بشموس الصحابة، وبدور التابعين، ونجوم العلماء، ولا نحتاج في ذلك إلى إقامة دليل؛ لأن التاريخ يعيد نفسه، وقد تفد الزوار إلى هاته المدينة الأثرية من كل مكان؛ لمشاهدة آثارها الإسلامية التي تنادي أبناء الإسلام في هذا العصر بلسان الاعتبار، نحن من أثر رجال العزم والحزم والفتح والاستعمار، فما لهم عمروا وخربتم! واجتمعوا وتفرقتم! ودونوا العلوم وجهلتم! ورفعوا المظالم وظلمتم! فما أصدق قول الله في حالهم وحالكم لو تدبرتم:
تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم .
وحيث إن الزائرين الكرام إلى هاته المدينة المشرفة في احتياج إلى معرفة تاريخ البعض من معالمها وآثارها، ويسرهم أن يطلعوا على نبذة مفيدة من تاريخ قدوم البعض من مشاهير رجال الفتح من الصحابة العظام إلى القيروان؛ كعقبة بن نافع، وأبي زمعة البلوي صاحب المقام المشهور بها، وتاريخ بناء الجامع الأعظم والزاوية الصحابية، ومختصر تراجم البعض من رجال العلم؛ كسحنون وغيره من الأفراد المشاهير الذين لا زالت مقاماتهم وأضرحتهم مشهورة تزار إلى الآن؛ لخصت ما عثرت عليه من التواريخ الصحيحة الثابتة، وجمعته في هذا السفر الصغير؛ ليكون دليلا كافيا إلى كل زائر كريم، أودعت فيه نبذا من تاريخ المعالم والآثار، وتراجم البعض من عظماء النابغين ورجال العلم وحماة الدين؛ ليتنفح الإنسان بزيارتهم، ويقتدي بأعمالهم، وقد سلكت في ذلك طريقة الإيجاز المفيد، ولا يحمل هذا الكتاب الصغير الإنسان تعبا، بل يوضع في الجيب تيمنا وتخفيفا.
ولا أبعد عن الحقيقة إذا قلت إن هذا الدليل لا يستغني عنه ابن القيروان وغيره؛ لأن غالب أهل هاته المدينة لا يعرفون شيئا من تاريخ آثار أسلافهم، وتراجم مشاهير علماء مدينتهم؛ لأن مطولات التاريخ الكبير تستدعي لمطالعتها زمنا طويلا، قد لا تمكن الإنسان من الحصول على الغاية المطلوبة، أما الآن فلا عذر لمن يجهل تاريخ هاته المدينة الإجمالي، وبين يديه هذا الدليل الصغير المختصر المفيد - وأرجو الصفح وبسط العذر على عدم ترتيبه وتبويبه؛ لأني لخصته بسرعة زمنية، حيث إن حوادث الزمان كثيرة، ومرحلة العمر قصيرة الأمد، وختمته بالنشيد الوطني الذي نظمته بقصد تلامذة المدارس ينشدونه في احتفالات امتحانات مكاتبهم، ولكي يكون لهم إلمام بإجمال تاريخ القيروان عند مطالعة هذا الدليل - وألتمس من المطلع عليه أن يدعو لجامعه في محلات الزيارة بالرحمة والمغفرة، إنه سميع مجيب.
صالح سويسي الشريف القيرواني
القيروان
سماها بهذا الاسم عقبة بن نافع الصحابي الشهير، عندما اختطها سنة 50ه، كما سيأتي ذلك في محله، وكانت قبل الفتح أرض نبات غير مأهولة، ولفظ القيروان في اللغة: موضع القافلة، وقيل: الجيش، والمعنى متقارب.
بيان أول من نزل القيروان من قواد جيش الصحابة رضي الله عنهم
(1) عبد الله بن أبي سرح القرشي العامري
قدم القيروان بجيشه سنة 27ه في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنهما. (2) معاوية بن حديج السكوني
دخل القيروان بجيشه سنة 34ه في خلافة عثمان أيضا، وهو الذي احتفر الآبار المسمات بآبار حديج خارج باب تونس، منحرفة عنه إلى الشرقي عند مصلى الجنائز، وقد اندثرت. (3) عقبة بن ثابت الأنصاري
دخل القيروان بجيشه سنة 47ه، ولم يعرف له أثر بها. (4) عقبة بن نافع الفهري
دخل القيروان بجيشه الجرار سنة 50ه، وفيها اختط القيروان وجامعها الأعظم، وهذا القائد العظيم هو الذي فتح إفريقية في خلافة معاوية بن أبي سفيان، ودوخ جيش الروم، ولما بلغ البحر المحيط بعد انتهاء الفتح، دخل فيه بفرسه حتى بلغ الماء صدره، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم اشهد أني قد بلغت المجهود، ولولا هذا البحر لذهبت في البلاد أقاتل في سبيلك حتى لا يعبد أحد من دونك. ثم انصرف، واستشهد بالزاب من عمالة قسنطينة قرب بلد بسكرة؛ وذلك سنة 62ه، وقبره مشهور، رضي الله عنه.
بيان المعاهد الدينية والمعالم والمقامات الشهيرة
(1) مسجد الأنصار
اختطه رويفع بن ثابت الأنصاري صاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
سنة 47ه قبل أن تخطط القيروان وجامعها الأعظم، والموقع الذي به هذا المسجد يسمى بمحرس الأنصار، وهو بالمكان المسمى الآن بحومة الشرفاء، معروف مشهور إلى الآن. (2) الجامع الأعظم
أول من اختطه عقبة بن نافع رضي الله عنه لما قدم القيروان سنة 50ه، بناه بناء بسيطا، وما زال أثر البناء القديم موجودا إلى الآن يشاهد من خلف ثقب المحراب. (3) أول من جدد بناء الجامع
أول من جدد بناءه: حسان بن نعمان الغساني الذي وجهه عبد الملك بن مروان أميرا على إفريقية سنة 79ه، وهو أول من دخل إفريقية من أهل الشام، وتاريخ تجديده لبناء الجامع سنة 84ه. (4) تجديد الجامع على الهيئة المشاهدة الآن
جدده على الصفة الموجودة الآن زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب سنة 203ه، وكان هذا الأمير جميل الصورة يميل في ابتداء أمره إلى الملاهي، فنظر إلى وجهه في المرآة وهو بحالة سكر فتكلم بكلمة كفر، فلما أفاق بكى وندم، فجمع فقهاء القيروان وأعلمهم بذلك، وسألهم هل من توبة، فكلهم صعب عليه الأمر إلا محمد بن يحيى بن سلام، قال له: إن كنت اعتقدت ما تكلمت به فهو عند الله عظيم، وإن لم تعتقده فالتوبة مبسوطة، فتب إلى الله تعالى وتقرب له بالصدقة. فتاب وقال له: جوزيت خيرا؛ لأنك لم تؤيسني من رحمة الله.
وهكذا كان علماء السلف لا يسلكون طريق الشدة في الدين، وبذلك ترجع الناس إلى اليقين، فأقلع الأمير عن المعاصي وهجر الخمرة، وجدد بناء الجامع الأعظم على صفته الآن. وقد كان قبل توبته جلب القراميد من اليمن لبناء مجلس للهو، وجلبت له من بغداد أخشاب الساج التي لا يعمل فيها السوس بقصد صنع عيدان وآلات الطرب، فلما تاب إلى الله تعالى، جعل تلك القراميد في وجه محراب الجامع، وصنع من أخشاب الساج منبر الجامع، وهو ذلك المنبر العجيب الموجود الآن، وقد قومه أحد سواح الإفرنج العارفين بأهمية الآثار بمليون من الفرنكات، وهو مركب من عدة قطع، كل قطعة منقوشة بنقش عجيب لا يشبه غيرها من القطع.
وقد تولى زيادة الله إمارة إفريقية وهو ابن عشرين سنة، وتوفي سنة 233ه، وقبره اندثر ولم يعرف الآن، وسبب موته أنه خرجت له في يده الشمال قرحة قتلته وهو ابن ثمان وعشرين سنة.
أما السياج المدار على البيت المسمى بمصلى الملوك؛ فقد صنع في إمارة المعز بن باديس الصنهاجي سنة 449ه، بأمر منه، وهو منقوش بنقش جميل، وعليه كتابة بالخط الكوفي الجميل، ويوجد بيت كان يجلس فيه أيمة الجامع منهم سحنون، وله باب من جهة حومة المطمر يدخل منه الإمام. ويوجد في هذا البيت آثار حربية، وهي بقية درع وقطعة من قوس وخوذ نحاسية، يزعمون أنها من آثار الصحابة، والمظنون أنها من الغنائم التي غنمها جيش الإسلام في الفتوحات القريبة. ويوجد بالبيت أيضا عكازة الإمام سحنون التي كان يخطب بها.
ويوجد به أيضا مكتبة عتيقة، تلف غالبها من عدم اعتنائنا بالمحافظة على آثار أسلافنا، وتلك مصيبة من أعظم المصائب التي حلت بالمسلمين. ولم يبق من آثار هاته المكتبة النفيسة إلا أوراق من كتب جليلة في علوم متنوعة، ومصاحف جميلة، منها مصحف مكتوب بالذهب على الرق الأزرق بالخط الكوفي الجميل، وليس له بداية ولا نهاية، وهو من النفائس التي يعز وجودها، ويوجد مصحف آخر مكتوب بالخط الكوفي أيضا، حبسته على الجامع حاضنة المعز بن باديس، واسمها مكتوب في آخر المصحف مع تاريخ التحبيس، وقد اعتنى جناب الكاتب العام السيد روا بهاته المكتبة، فرتبها ترتيبا جميلا يشكر عليه الشكر الجزيل، وجعل لتلك الكتب والأوراق غلافات محكمة، ونمر ودفتر رتبت به نمر غلافات الكتب والأوراق مع بيان أسمائها؛ لكيلا يعسر الأمر على المطالع، ولتحفظ بقية المكتبة من التلاشي، وفقنا الله إلى إصلاح حالنا وحفظ آثار أسلافنا بمنه وكرمه. (5) جامع الزيتونة بالقيروان
أسسه إسماعيل بن عبيد الأنصاري سنة 71ه، وهو العالم التابعي المعروف بتاجر الله، من أحد العشرة التابعين الذين بعثهم عمر بن عبد العزيز يفقهون أهل إفريقية، سكن القيروان، وانتفع به خلق كثير من أهلها وغيرهم، وكان يدرس العلم ويصلي بالمسجد المذكور، وسمي تاجر الله؛ لأنه جعل ثلث كسبه لله عز وجل.
من آثاره في الكرم أن خياطا كان له بنات وليس يقوم به عمله إلا عن جهد، فلما كان ليلة عيد الفطر دخل على بناته فوجدهن في الظلام وليس في البيت شيء يرد يده إليه، فخرج من بيته حزينا هائما أن يرى بناته يوم عيد منكسرات قلوبهن بين أترابهن من بنات الجيران، وسولت له نفسه الخروج من القيروان حتى ينقضي العيد، فمر بمسجد إسماعيل تاجر الله، وقد حضرت صلاة العشاء الآخرة، فصلى معهم، فلما انصرف الناس ولم يبق بالمسجد إلا الرجل. رآه إسماعيل فعلم أن له قصة، فمضى إلى داره وبعث إليه فسأله عن قصته فأخبره، فتوجد إسماعيل لذلك وبكى، وقال: كم عندك من البنات؟ قال: خمس. فصاح إسماعيل بأمهات أولاده وقال: ايتوني بحلي بناتكن وما صنعتن لهن في هذا العيد من الثياب والزينة والحناء والطيب. فأتين بجميع ذلك، ثم قال لهن: ايتوني بمائدة الطعام. فأتوا بها وفيها أنواع الأطعمة وأصناف الحلواء، فدفع ذلك كله للخياط، وسلم له دنانير كثيرة، ثم قال له: اكس بناتك هذه الثياب، وجملهن بهذا الحلي، وطيبهن بهذا الطيب، وكل معهن من هذه المائدة، ووسع على نفسك وعليهن من هذه الدنانير؛ فقد وهبت لك جميع ذلك لله.
ثم أمر عبيده فحملوا جميع ذلك إلى داره، فضرب الباب عليهن ففتحنه، فوجدهن في الظلام على حالهن، فأدخل العبيد جميع ذلك إلى داره وذهبوا، ففرح البنات بذلك، وكان في داره سرور كبير، ولبس بناته الثياب الجميلة والحلي النفيسة، واجتمعن حول المائدة، وكان إسماعيل يلبس جبة صوف وكساء صوف وقلنسوة صوف، ولم يزل مقيما بالقيروان إلى أن حضرته نية الجهاد، فخرج في مركب متطوعا في غزاة عبد الله بن رافع صقلية من بلاد الطليان، فغرق في البحر فمات وهو معانق للمصحف؛ وذلك سنة 107ه رضي الله عنه، وهذا الجامع خارج باب الجديد مشهور. (6) مسجد أبي ميسرة
بناه أحد التابعين على رأس المائة الأولى، ونسب إلى أبي ميسرة الفقيه أحمد بن بزار الزاهد؛ لأنه كان إمامه، وكان عالما جليلا يختم القرآن كل ليلة بمسجده، معروف بالكرم الجم؛ حتى إنه يجعل مائدة طعامه خلف باب داره ليكون قريبا من السائل، توفي سنة 337ه، ودفن بمقبرة الجناح الأخضر قرب قبر شقران، وهي المقبرة التي كانت تسمى في القديم بمقبرة باب سلم، رضي الله عنه، وهذا الجامع أمام باب تونس القديم من الداخل. (7) أبو زمعة البلوي ومقامه
البلوي نسبة لبلي؛ قبيلة من قضاعة، واسمه عبد الله بن آدم، قدم القيروان مع جيش الصحابة الذي تحت قيادة معاوية بن حديج السكوني الكندي. وكان من جملة رجال معاوية في غزوته عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن الزبير، وجبلة بن عمر الساعدي، وأبو زمعة البلوي؛ وذلك في خلافة عثمان بن عفان، رضي الله عنهم.
شهد أبو زمعة بيعة الرضوان، وبايع رسول الله عليه السلام تحت الشجرة، وشهد فتح مصر وغزا إفريقية مع حديج، ودفن معه قلنسوته فيها شعر الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وتوفي بجلولة؛ وهو مكان يبعد عن القيروان بنحو ثلاثين ميلا، ونقل إلى القيروان في مشهد عظيم، ودفن بها سنة 34ه، وقد كان قبره بحوطة بسيطة، فأسس القبة وصحن الحرم حمودة باشا بن مراد سنة 1085ه، ثم بنى قبة الهواء والمدرسة والصومعة، والعلوي محمد بن مراد المشهور بصاحب الخيرات سنة 1094ه.
وقد حبس الشريف بن هندة جميع ما يملك على الزاوية البلوية، وهو المدفون بالبيت الذي بصحن الحرم على يسار الداخل، وكان وكيلا على وقف الزاوية، وأصله من الهند، مشهور بالصلاح والتقوى، ولم أعثر على تاريخ وفاته. وللزاوية البلوية أحباس كثيرة، لو صرفت في وجوه الخير لأفادت فائدة عظيمة. وأسست منها تكية للعواجز أو ملجأ للأيتام، ولكن قضى الله على المسلمين بموت الشعور وفقد الإحساس، فتلاشت الأحباس، وذهب الناس، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. (8) أبو حنش الصنعاني التابعي: دفين المقبرة البلوية
هو حنش بن عبد الله السبئي الصنعاني، ولد بصنعاء اليمن، وهو من علماء التابعين المشاهير، كان يروي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وعبد الله بن عمر، وابن عباس ورويفع بن ثابت، رضي الله عنهم، وروى عنه الحارث بن يزيد، وعبد الرحمن بن أنعم، وقيس بن الحجاج، وغيرهم من كبار العلماء. شهد غزو الأندلس مع موسى بن نصير، وهو الذي فتح جزيرة بني شريك، وهو العمل المعبر عنه الآن بوطن الجزيرة بعمل تونس، ثم سكن القيروان، واختط بها دارا ومسجدا اندثرا وعفت رسومها.
قال عبد الله بن وهب: كان حنش إذا فرغ من عشائه وحوائجه وأراد الصلاة من الليل، أوقد المصباح وقدم المصحف وإناء فيه ماء، فإذا وجد النعاس استنشق الماء بعد طلق السلام. وكان كثير الصدقة لا يرد سائلا، فإذا وقف السائل ببابه لم يزل يصيح بأهله: «أطعموا السائل، أطعموا السائل» حتى يطعم. توفي بالقيروان سنة 100ه، وضريحه بالمقبرة البلوية بجوار الزاوية الصحابية مشهور يزار، رضي الله عنه. (9) فسقية الأغالبة
أسسها أبو إبراهيم أحمد بن الأغلب سنة 248، وكان يجلب إليها الماء على حناية من صبيطلة، وكانت منتزها في المصيف لأمراء البيت الأغلبي، وكان بها مقعد مقام على أعمدة بوسطها يجلس عليه أحد عشر نفرا من عائلة إبراهيم بن الأغلب، وكانت محاطة بالرياض والأشجار الباسقة، وبها زوارق بديعة يصلون بها إلى المقعد، وقد بقيت أسطوانات المقعد إلى الآن. وهاته الفسقية بجوار مقبرة الحطبية خارج باب تونس مشهورة، يقصدها الزوار لجمال هيئتها وحسن موقعها، فسبحان مالك الملك ذي الجلال والإكرام . (10) سور القيروان القديم
أسسه ابن الأشعب سنة 144ه، وهذا المؤسس له هو أول عامل أرسل إلى إفريقية من قبل أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي، جعل عرض السور إذ ذاك عشرة أذرع، أما قيس طوله لم أعثر عليه في التاريخ.
أول من جدد السور
جدده المعز بن باديس أحد ملوك الصنهاجيين سنة 444ه، وجعل طوله أحد عشر ميلا، وكانت له أبواب كثيرة.
تجديد السور على الهيئة المشاهدة الآن
جدده علي بن حسين باشا سنة 1185ه مع جملة أبواب المدينة، عليه حبس عظيم، وغالبه خرب، فيا للعجب! (11) باب الجلادين القديم
جدده علي بن حسين المذكور مع تجديد السور سنة 1185ه كما قدمنا، وعلى الباب لوح رخام نقشت فيه الأبيات الآتية، وفيها تاريخ تجديده في المصراع الأخير، ونصها:
سور المدينة فاق بالتحسين
والباب منه كغرة بجبين
فانظره وادع لمن سعى له في
تجديده بالنصر والتمكين
نجل الحسين علي باشا من له
عزمات مأمون وعز أمين
كثرت مزاياه فحساب لها
عجزت عن الإحصاء والتبيين
حث الخطى لنرى الكمال مؤرخا
فالحسن خط بباب الجلادين
1185ه (12) باب تونس القديم
جدده علي بن حسين باشا المذكور سنة 1185ه أيضا، ومكتوب فوقه على لوح رخام الأبيات الآتية، وبها تاريخ التجديد في النصف الأخير، ونصها:
هذا الذي بسمو منشئه سما
وبحسن طلعته النهار تبسما
ما للبلاد الباب إلا هكذا
حصن وحسن فاق كل منهما
فابن الحسين علي باشا أظهرت
عزماته سورا يسرك كلما
ودعا لأبواب المدينة بهجة
فأتت مجيبته بوجه الانتما
يا داخلا للقيروان مؤرخا
من باب تونس جز مصانا في الحمى
1185ه (13) بئر أوطة
أسسه عبد الله بن أبي سرح القرشي العامري سنة 27ه، أما القبة التي عليه والأحواض التي تسقى منها الدواب بناها محمد باشا بن مراد المشهور بصاحب الخيرات سنة 1094ه، وحبس عليه حبسا عظيما، وقد حفر هذا البئر عبد الله بن أبي سرح الصحابي الجليل بقصد سقي دواب جيش الفتح، الذي تولى قيادته في السنة المذكورة رضي الله عنهم، وهذا البئر بحلفاوين القيروان مشهور إلى الآن. (14) سوقا الربع والعطارين القديمان
أسسهما محمد بن مراد أحد أمراء المراديين سنة 1094ه، ورفع فوقهما جامع الباي نسبة إليه، وهو جامع خطبة حنفي عامر إلى الآن، وعليه حبس قائم به، وهذان السوقان على يمين الداخل من سوق السكاجين، وقد كسد سوق التجارة بأحدهما، وهو سوق العطارين، ولا يمكن إحياء تجارته إلا إذا فتحت له «عقبة» بوسطه تنفذ إلى سوق الربع المجاور له؛ لأن ذلك السوق رائجة به تجارة الزربية وأقمشة الصوف «اللفة»، وبذلك يحيى هذا السوق، ولا يكلف الأمر جمعية الأوقاف تعبا غير فتح النافذة المذكورة فتروج بضاعة السوق، ويتوفر دخل الوقف من كراء الدكاكين، التي أكثرها مغلق بدون كراء لسبب كساد تجارة السوق المذكور. وفق الله جمعية الأوقاف إلى إصلاح البلاد والعباد بمنه وكرمه. (15) سوق السكاجين وسوقا البلاغجية الأسفل والأعلى
أسس الأسواق المذكورة قاسم بن عمر الصيد القيرواني من فواضل أوقاف الزاوية الصحابية؛ لأنه كان وكيلا على وقفها؛ وذلك في أواخر القرن الثاني عشر. (16) سوقا الربع والعطارين الصغيران
وهما اللذان على يسار الداخل من السكاجين، بناهما قاسم بن عمر الصيد المذكور من فواضل أوقاف الزاوية الصحابية مع الأسواق التي تقدم ذكرها؛ وذلك في أواخر القرن الثاني عشر من الهجرة. (17) سوق البلاغجية القديم الذي به المواجن
أسسه علي بن حسين باي سنة، وحبست دكاكينه على المدرسة الحسينية نسبة إلى علي بن حسين باي المذكور، وهاته المدرسة محاذية لأحد أبواب السوق، يسكنها الغرباء والفقراء، وقد كسدت بضاعة هذا السوق، وغالب دكاكينه مقفلة بدون كراء، ولئن سوغت فإن الدكان الواحد لا يتجاوز العشرة فرنك لمدة العام، ولو رزق الله جمعة الأوقاف التبصر لجعلت هذا السوق لبيع الخضر بعد إصلاحه وتهذيبه؛ لأن غالبه خرب، ولا شك أن رجال الأوقاف لو طلبوا من الدولة الإذن في جعل هذا السوق العظيم لبيع الخضر لأذنت بذلك؛ لأن القيروان في احتياج إلى سوق مهذب تباع فيه الخضر كسوق الحاضرة وسوسة، وبذلك يحيا هذا السوق ويرتفع كراء دكاكينه وينمو دخل الأوقاف، ولكن من لنا برجال كرجال السلف لا ينامون عن المصالح، ويؤسسون البناءات التي تستلفت نظر المعتبر ، وقد خرب غالبها في هذا العصر الذي حافظت فيه الأمم الأوربية على آثار بلادها، واعتنت بالأماكن العتيقة اعتناء أسلافنا بها، ونحن في سبات عميق وغفلة استحكمت، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
مشاهير عظماء
(1) مقبرة الجناح الأخضر
زينب الخالصية حفيدة عمر بن الخطاب رضي الله عنه
توفيت بالقيروان لما قدم أبوها عبد الله بن عمر بن الخطاب في الجيش الذي تحت قيادة معاوية بن حديج؛ وذلك سنة 34ه، وهي السنة التي مات فيها أبو زمعة البلوي كما قدمنا، ودفنت بمقبرة باب سلم، وهي المسمات الآن بمقبرة الجناح الأخضر، وقبرها مشهور يزار، رضي الله تعالى عنها.
شقران الهمداني
هو علي شقران بن علي الهمداني نسبة إلى همدان، كان أستاذ ذي النون المصري، روى عنه سحنون، وكان كفيف البصر مواخيا للبهلول بن راشد، قدم ذو النون المصري القيروان لزيارة شقران، وكان شقران لا يخرج من داره إلا يوم الجمعة، فلما خرج قال له ذو النون: قد جئت من بلد بعيد أطلب الموعظة، فقال له شقران: «كل من كد يمينك، فيما عرق فيه جبينك، ولا تأكل بدينك؛ فإن ضعف يقينك، فاسأل الله يعنك، ولا تشتك من يرحمك إلى من لا يرحمك.» توفي شقران رضي الله عنه سنة 186ه، وقد أناف على السبعين، ودفن بباب سلم بالمقبرة المسمات الآن بالجناح الأخضر، وبجوار قبره سبعون عالما؛ منهم: أبو العرب، وأبو ميسرة إمام الجامع الذي ذكرناه سابقا، وقبر مروان بن العابد، وواصل، رضي الله عنهم. وقبر شقران مشهور يزار، رضي الله عنه.
رباح بن يزيد
كان يضرب به المثل في زهده وعبادته، غزير الدمعة، كثير الإشفاق والخشية، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، توفي سنة 172ه، فازدحم الناس يوم جنازته على نعشه، فقال العالم يزيد بن حاتم: ازدحموا على عمله، ولا تزدحموا على نعشه. وصلى عليه يزيد، ودفن بباب سلم بمقبرة الجناح الأخضر، وقبره مشهور يزار، رضي الله عنه.
البهلول بن راشد
روى عن مالك بن أنس، والثوري، والليث بن سعد، وكان من علماء الدين المشهورين بالصلاح والتقوى، من قوله: «والله إني لأستحي من الله عز وجل أن تكون الملائكة أطوع له مني.» قرأ عليه سحنون وغيره. قال سعيد بن الحداد رحمه الله: ما كان بهذا البلد - يعني القيروان - أقوم بالسنة من رجلين؛ البهلول بن راشد في وقته، وسحنون في زمنه.
امتحن البهلول في آخر عمره بمحنة كانت سبب موته؛ وصورة ذلك أن العكي أمير إفريقية كان يلاطف «الطاغية» كبير البرابرة، فكتب إليه الطاغية «أن ابعث إلي بالنحاس والحديد والسلاح» فلما عزم العكي على ذلك وعظه البهلول لتزول عنه الحجة، وقال له: إن في إرسالك ما ذكر إلى ذاك العدو إثما كبيرا. وألح عليه البهلول في الموعظة، فبعث إليه العكي وضربه أسواطا دون العشرين، فبرئت كلها إلا أثر سوط واحد تنغل فكان سبب موته. وقبل جلده غلل فدخل عليه عبد الله بن فروخ العالم الشهير، وجعل يبكي بكاء كثيرا، فقال له البهلول: سبحان الله يا أبا محمد، ما يبكيك؟ فقال: أبكي لضرب ظهرك وتقييدك بدون حق. فقال البهلول: يا أبا محمد «قضاء وقدر». ثم ندم الأمير العكي على ما فعل، فأرسل إليه بكسوة وكيس، فأبى البهلول قبول ذلك، فقال الرسول: يقول لك العكي إذا كنت لم تقبل ذلك فاجعلني في حل. فقال البهلول: قل له ما حللت يدي من العقالين حتى جعلتك في حل. وقد مات من أثر ذلك السوط الذي تنغل كما قدمنا في سنة 183ه، ودفن بمقبرة الجناح الأخضر. وهكذا كان السلف الصالح، وعلماء الدين يقولون الحق ويموتون عليه، وقبر البهلول مشهور يزار متصل بقبر جبلة بن حمود، رضي الله عنهما.
جبلة بن حمود
هو أبو يوسف جبلة بن حمود بن عبد الرحمن بن مسلمة الصدفي، أسلم جده على يد عثمان بن عفان رضي الله عنهما، سمع جلبة العلم من سحنون، ومحمد بن رزين، ومحمد بن عبد الحكم وغيره، وأخذ عن سحنون المدونة والمختلطة والموطأ. قال سحنون: لو تفاخر علينا بنو إسرائيل بعبادهم فاخرناهم بجبلة بن حمود. وقال القاضي موسى القطان: من أراد أن يدخل إلى دار عمر بن الخطاب فليدخل دار جبلة بن حمود؛ لزهده وتقلله. وقال أبو بكر ابن أبي عقبة: ما أوقد جبلة نارا أربعين سنة، إنما كان له دقيق شعير، إذا كان عند إفطاره أخذ قبضة فحركها في قدح بماء فأفطر عليها. وكان يصدع بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم، ولما دخل عبيد الله الشيعي إفريقية، وكان هو وجماعته من الظالمين المفسدين صار جبلة رضي الله عنه يخرج إلى جهة رقادة، وهو المحل الذي يقصده هذا الشيعي الظالم يبعد عن القيروان بنحو سبعة كيلومترات، فيركب جبلة فرسه، ومعه سيفه وترسه وسهامه، فيجلس هناك من ضحوة النهار إلى غروب الشمس ويقول: أحرس عورات المسلمين من هذا الظالم وقومه. وكانت لجبلة أملاك كثيرة تصدق بها كلها حتى تجرد من ثيابه وبقي عريانا فكساه سحنون. وكان جبلة لا يهاب الملوك ولا يخشى بأسهم. توفي سنة 297ه؛ وذلك يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من صفر، وهو ابن سبع وثمانين سنة، وصلى عليه أبو سعيد محمد بن محمد بن سحنون في مصلى العيد، ودفن بالجناح الأخضر، وقبره متصل بقبر البهلول بن راشد مشهور يزار، رضي الله عنهما. (2) مشاهير رجال مقبرة باب نافع، وهي التي بها قبر سحنون
ابن أنعم التابعي
هو زيادة بن أنعم الشعباني، من عظماء علماء التابعين، يروي عن عبد الله بن عمر، وأبي أيوب الأنصاري، وروى عنه ابنه عبد الرحمن. سكن القيروان واختط بها دارا في ناحية باب نافع بجوار دار سحنون. شهد الغزو مع أبي أيوب الأنصاري. حكى أنه لما كان في الغزو مع أبي أيوب قال حضر غداؤنا، فأرسلنا إلى أبي أيوب، وإلى أهل موكبه فأبى، وبعد أن تغذينا قال أبو أيوب: دعوتموني وأنا صائم وكان علي أن أجيبكم، سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تسليما يقول: «للمسلم على المسلم ست خصال واجبات، فمن ترك شيئا منها فقد ترك حقا واجبا لأخيه: عليه إذا دعاه أن يجيبه، وإذا لقيه أن يسلم عليه، وإذا عطس أن يشمته، وإذا مرض أن يعوده، وإذا مات أن يحظره، وإذا استنصحه أن ينصحه.» توفي ابن أنعم بالقيروان في المائة الأولى، ودفن بمقبرة باب نافع، وهي المقبرة التي بها ضريح سحنون، وقبره في حوطة بسيطة قرب ضريح ابن غانم، مشهور يزار، رضي الله عنه.
عبد الله بن غانم قاضي إفريقية وصاحب مالك بن أنس
هو عبد الله بن عمر بن غانم بن شرحبيل بن ثوبان الرعيني، روى عن الإمام مالك، وعليه كان معتمده، وروى عن سفيان الثوري، ثم دخل الشام والعراق ولقي بها أبا يوسف صاحب أبي حنيفة. كان مالك إذا دخل عليه ابن غانم وقت سماعه أجلسه إلى جنبه، ويقول لأصحابه: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه.» وهذا كريم في بلده. ولي غانم قضاء إفريقية سنة 171ه، وهو ابن اثنتين وأربعين سنة، دخل عليه عبد الملك بن قطن الفهري عائدا في مرضه الذي مات فيه، فقال له: «رفع الله ضجعتك من هذه العلة إلى إفاقة وراحة، وأعاد عليك ما عودك من الصحة والسلامة، فاصبر لحكم ربك عز وجل، فإن الله يحب أن يصبر على بلواه كما يحب أن يشكر على نعماه.» فقال ابن غانم: هو الموت والغاية التي إليها نهاية الخلق، فصبر جميل يؤجر صاحبه خير من جزع لا يغني عنه، ثم تمثل بهذا البيت:
فهل من خالد لما هلكنا؟!
وهل بالموت يا للناس عار؟!
ولابن غانم تآليف كثيرة، وكان موته بسبب فالج أصابه؛ وذلك في شهر ربيع الآخر سنة 198ه، وصلى عليه إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية، وبكى عليه بكاء كثيرا. وترك ابن غانم ولدين: أبا عمرو غانما، وأبا شرحبيل، وكان الأخير فقيها ورعا، ودفن ابن غانم بمقبرة باب نافع بينه وبين قبر سحنون مقدار خمسين خطوة في حوطة بسيطة، وعند رأسه عمود أحمر وبجانبه قبر أبي العرب بن أبي الفضل التميمي العالم الكبير، رضي الله عنهما.
الإمام سحنون صاحب المدونة
اسمه عبد السلام، وغلب عليه لقب سحنون، وسحنون اسم طائر حديد البصر، سمي سحنون بهذا الاسم لحدته في المسائل، وأصله شامي من حمص، سمع العلم بإفريقية من علي بن زياد دفين تونس، ومن عباس بن أشرش، وبهلول بن راشد، وعبد الله بن غانم، ومعاوية الصمادحي. ثم رحل إلى المشرق سنة 188ه، فقرأ بمصر على ابن القاسم، وابن وهب، وأشهب، وابن الحكم، وشعيب بن ليث، ويوسف بن عمر. وقرأ بالمدينة على عبد الله بن نافع، ومعن بن عيسى، وأنس بن عياض، والمغيرة بن عبد الرحمن. وسمع بمكة من سفيان بن عوينية، وعبد الرحمن بن المهدي، ووكيع بن الجراح، وحفص بن غياث،
وحج مع ابن القاسم وابن وهب وأشهب في مرة واحدة. وكان زميل ابن وهب على راحلته، ثم قدم إلى القيروان سنة 191ه، فأظهر علم أهل المدينة بالمغرب. وكان يقول: أنحى الله الفقر، فلولاه لأدركت مالكا؛ لأن مالكا مات وسحنون ابن ثمانية عشر عاما. وكان سحنون قنوعا لا يقبل من أحد شيئا سلطانا كان أو غيره، ولا يهاب الملوك، شديدا على أهل البدع، راوده الأمير أحمد بن الأغلب حولا كاملا على أن يوليه القضاء فأبى عليه، فعزم عليه بالأيمان التي لا مخرج منها، فاشترط عليه سحنون شروطا كثيرة حتى قال له: إني أبدأ بأهل بيتك وقرابتك وأعوانك، فإن قبلكم ظلامات للناس منذ زمان طويل. فقال الأمير: نعم، لا تبتدي إلا بهم، وأجر الحق مفرق رأسي. وتولى القضاء بهاته الشروط؛ وذلك في رمضان سنة 234ه، وأقام قاضيا ستة أعوام، وكان سنه يوم تقديمه أربعا وسبعين سنة، ولم يزل قاضيا إلى أن مات. ولما ولي القضاء دخل على ابنته خديجة، وكانت من خيار الناس، فقال لها: اليوم ذبح أبوك بدون سكين. فعلمت أنه قبل القضاء.
وعندما ولي القضاء كتب إليه عبد الرحيم بن عبد ربه الربعي الزاهد: «أما بعد، فإنك كنت تنظر للناس في مصالح أخراهم، فصرت تنظر مصالح دنياهم، فأي الحالتين أفضل؟ والسلام.» فكتب إليه سحنون: «أما بعد، فإن كتابك جاءني، وفهمت ما ذكرت، وإني أجيبك، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، عليه توكلت وإليه أنيب، وأما ما ذكرت من أني كنت أنظر للناس في مصالح أخراهم فصرت أنظر في مصالح دنياهم، فاعلم أنه لا تصلح للناس أخراهم حتى تصلح لهم دنياهم، آخذا لضعيفهم من قويهم، ومن ظالمهم لمظلومهم، وأنا لم أزل مبتلى ينفذ قولي منذ أربعين سنة في الفتيا، فأنا منذ أربعين عاما قاضيا؛ لأن قول المفتي يمضي في أشعار المسلمين وأبشارهم، ومع هذا فقد ابتليت، فقدمت جبرا، فالزم نفسك بالدعاء لي والسلام.»
وسحنون أول من نظر في الحسبة؛ إذ كانت قبل للأمراء دون القضاة، وأول من فرق أهل البدع من الجامع، وأول من جعل في الجامع إماما يصلي بالناس؛ إذ كان للأمراء، وأول من جعل الودائع عند الأمناء، وكانت قبل في بيوت القضاة. من مآثره في القضاء أنه كان جالسا على باب داره؛ إذ مر به حاتم «من حواشي الأمير المقربين»، ومعه سبي من سبي تونس، فقال سحنون لأصحابه «قوموا وأتوا بهم»، فذهبوا وخلصوهم من حاتم لأنه أبى أن يسلمهم، وهرب حاتم على برذونه بعد خرق ثيابه، ودخل على الأمير وشكا إليه، وكان الأمير إذ ذاك محمد بن الأغلب، فأرسل الأمير غلامه إلى سحنون، وقال له: يقول لك الأمير اردد النسوة على حاتم؛ فإنهن إماء له. قال سحنون: فإن كن إماء فمثل حاتم لا يؤمن على الفروج، وقل للأمير أيها الغلام: جعل الله حاتما شفيعك يوم القيامة. ولما ذهب الرسول، قال سحنون: هذا الأسود - يعني حاتما - يذهب هكذا. فأمر بجلبه وسجن بعد أن طرحت عمامته.
ثم أقبل رسول الملك بوجه غير الذي أقبل به أولا، فقال لسحنون: يقول لك الأمير: إنك تعديت عليه، ارددهن له كما أمرتك وسرحه من السجن. فقال سحنون: قل له: أنت الذي تعديت، والله لا رددتهن عليه حتى يفرق بين رأسي وجسدي. فانصرف الخادم، فأقبل محمد بن سحنون على أبيه وقال: اكتب له والطف يا سيدي. فدعا سحنون بدواة وقرطاس، وكان جالسا بالأرض وابنه محمد مشرفا على مقعده، فكان سحنون يكتب، وابنه محمد ينظر ما يكتب ويقول لأبيه: دون هذا، دون هذا. حتى فرغ سحنون من كتابه، ثم طبعه وسلمه مع عونه إلى الأمير، فأخذه الأمير وضرب به وقال: والله لا أدري هذا علينا أم نحن عليه. واسود وجهه، وكان له جمال، فركب فرسه وانصرف لعسكره راجعا إلى القصر القديم، وهو الذي أنشأه بقصر الماء إبراهيم بن الأغلب سنة 185ه، يبعد عن القيروان بنحو ثلاثة أميال، ويسمى العباسية، وقد اندثر الآن، فأقام الأمير بالقصر غاضبا من أول النهار إلى وقت العصر لم يدخل عليه أحد، ثم سكن غضبه ورجع له رشده، فأذن لأصحابه ووزرائه بالدخول، وقال لهم: إني لأظن هذا الرجل - يعني به سحنون - ما يريد بنا إلا خيرا ونحن لا ندري، أرسلوا إليه يرسل محتسبيه ويكتب لهم سجلات إلى أقصى عملي يأخذون من وجدوا من الحرائر. فأرسل سحنون أصحابه يأخذون السجلات، فخرجوا وردوا من وجدوا.
امتحن سحنون في مسألة خلق القرآن، وأراد الأمير الانتقام منه، فمات الأمير قبل الانتقام ونجي سحنون. ولد سحنون سنة 160ه، وتوفي لست خلون من رجب قبل نصف النهار سنة 240ه، ودفن من يومه، ووجه إليه محمد بن الأغلب بكفن وحنوط، فاحتال ابنه محمد حتى كفن في غيره وتصدق بذلك. قال أبو بكر المالكي: لما مات سحنون رجفت القيروان لموته، وحزن له الناس. ولسحنون تآليف كثيرة في فنون متنوعة، فقدت كلها وبقيت منها المدونة المشهورة إلى الآن، ولو لم يكن له غيرها لكفاه. وقبره بداره بباب نافع، بجانبه قبر العالم الشهير أبو إسحاق السبئي المتوفى سنة 356ه، وبجانبه أيضا قبر خلف بن منصور من أتباع أبي إسحاق المذكور رضي الله عنهم، وضريح سحنون مشهور يزار.
محمد بن سحنون
سمع العلم من والده سحنون، ومن عبد العزيز بن يحيى المديني، وموسى بن معاوية الصمادحي، وعبد الله بن أبي حسان. ورحل إلى المشرق سنة 335ه، فلقي أبا مصعب الزهري، وابن كاسب وسلمة بن شبيب النيسابوري. ألف كتبا كثيرة في فنون شتى، ولما سافر إلى مصر كان بها يهودي قوي العارضة، محجاجا في المناظرة، معروفا بذلك عند أهل مصر؛ فأخذ محمد بن سحنون يناظره من صلاة الظهر إلى أن طلع الفجر، فانقطع اليهودي في الحجة، وخرج ابن سحنون وهو يمسح العرق عن وجهه، وأسلم اليهودي، وشاع ذلك بمصر فأتى فقهاء مصر إلى محمد بن سحنون، ومن جملتهم أبو رجا بن أشهب، وسأله أن ينزل عنده ففعل، ولما جلس وحلق عليه العلماء وسألوه، فكان من جملة من أتى إليه المزني صاحب الشافعي، فجلس كثيرا لينفض الناس ويخلو به، فلما خرج قيل له: كيف رأيته؟ قال والله ما رأيت أعلم منه ولا أحد ذهنا على حداثة سنه، وكان إذ ذاك ابن خمس وثلاثين سنة.
ثم سافر محمد بن سحنون إلى المدينة، ودخل مسجد النبي عليه السلام، فوجد جماعة عظيمة محلقين على شيخ وهو متكي لكبر سنه، وهم يتنازعون في مسألة من مسائل أمهات الأولاد، فنبههم محمد بن سحنون على نكتة، فاستوى الشيخ جالسا وقررها، فزاد ابن سحنون أخرى، فقال الشيخ: من أي بلاد أنت؟ قال: من إفريقية. قال: من أي بلدة منها؟ قال: من القيروان. قال: ينبغي أن تكون أحد الرجلين؛ إما محمد بن سحنون، وإما محمد بن لبدة ابن أخي سحنون. فقال له: أنا محمد بن سحنون. فقام إليه وصافحه وخرجا من المسجد، وجعل ابن سحنون يملي على الشيخ بالطريق وهو يكتب المسألة.
من كمالاته وكرمه رضي الله عنه، عن أبي الحسن بن القابسي رضي الله عنه قال: إن رجلا كان يشتم محمد بن سحنون، وينال من عرضه ويؤذيه، فافتقر الرجل واشتد عليه الحال، فمضى إلى محمد بن سحنون لما يسمع من كرمه، فدخل عليه مترديا بأطمار فسلم، فأقبل عليه محمد بن سحنون، وقال له: ما حاجتك؟ وكان قبل ذلك يأتي إليه فيقول له «أحب أن أكلمك في أذنك» فيشتمه ويذهب، فيقول له محمد «جزاك الله خيرا» ولا يعرف أحد ما يقوله له إلى ذلك اليوم، فقال له: أصلحك الله، جئتك تائبا مما كنت أفعل. فقال له ابن سحنون: دع هذا واذكر حاجتك. فقال: والله ما أتاني إليك إلا الحاجة. فاسترجع ابن سحنون واغتم لذلك، وقال: يا أخي، نزل بك هذا وأنا في الدنيا! ثم كتب إليه رقعة وقال امض بها إلى فلان الصيرفي، فمضى إليه فأعطاه عشرين دينارا، فأخذها واشترى ما يحتاج إليه، وأتى بالحمالين إلى الدار، فقالت زوجته: ما هذا؟ فقال: هذا ما أعطاني الرجل الذي كنت أشتمه، وبعد أيام أرسل إليه محمد بن سحنون وقال له: تقدر على السفر؟ قال: نعم. فكتب إليه كتابا وقال: امض إلى قسطيلية. وسلمه إلى أناس من أهلها، وسمى له أفرادا، فلما وصل دفع الكتاب فأضافوه وأعطوه ثلاثمائة دينار وهدايا نفيسة، فظن الرجل أنها لمحمد بن سحنون، فلما وصل إلى القيروان دخل إلى محمد فأعطاه كتاب القوم، فلما قرأه استرجع وقال: حال الناس ما هكذا عهدناهم. فقال الرجل: يا سيدي، إن كان قد بقي لك عندهم حاجة فأنا أرجع إليهم ثانية. قال محمد: يا أخي إنها لك، فكأني لم أجد من أبعث إلا أنت، وإنما عجبت من تغير الزمان في هذا الوقت.
وحكى بعض الثقات قال: كنت بجامع المنستير وإذا برجل يقرأ في جوف الليل هاته الآيات:
وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين * فدلاهما بغرور ، ويبكي ودموعه تقع على الحصير لكثرتها وهو يكرر الآية، وما زال يكررها حتى طلع الفجر، ولا أدري من يكون، فلما خرج إذا هو محمد بن سحنون.
ولي محمد بن سحنون رئاسة القضاء بالقيروان، وكانت وفاته بالساحل، وأتي به إلى القيروان، وغلقت الكتاتيب والحوانيت من أجل وفاته؛ وذلك سنة 256ه وعمره أربعة وخمسون سنة، وصلى عليه إبراهيم بن أحمد الأغلبي أمير إفريقية، ودفن بباب نافع خارج مقام أبيه سحنون بخطوات قليلة في حوطة بسيطة، ورثي بثلاثمائة قصيدة، ومنها تعرف عمارة القيروان، ونقاق سوق الأدب بها فضلا عن العلم. قال بعضهم يرثيه، وهي أبيات من قصيدة طويلة ونصها:
لقد مات رأس العلم وانهد ركنه
وأصبح من بعد ابن سحنون واهيا
فمن لرواة العلم بعد محمد!
لقد كان بحرا واسع العلم طاميا
ومن لرواة الفقه والرأي والحجا
وقد أصبح المفضال في الترب ثاويا !
لقد أفجع الإسلام موت محمد
وأصبح منه جانب العلم خاويا
بكى كل من بالغرب عند وفاته
وحق لمن بالغرب أن يك باكيا
قال أبو محمد بن أبي زيد رضي الله عنه: لما مات محمد بن سحنون أقامت البيوع والأشرية والقباب مضروبة على قبره أربعة أشهر بالليل والنهار، فما صرفهم إلا هجوم الشتاء؛ وذلك أسفا وحزنا على ذلك العالم الجليل، وهكذا كان الناس في ذلك العصر يحزنون على فقد كل من نفعهم في دينهم وأرشدهم في أمور دنياهم، فنعم السلف وبئس الخلف. وقبر محمد بن سحنون مشهور يزار رضي الله تعالى عنه، وهو بحوطة بسيطة خارج مقام والده، ويقال إن القبر الذي بجانبه قبر إبراهيم بن الأغلب، والله أعلم. (3) مشاهير رجال مقبرة الحطبية
عبد الرحمن الحبلي المعافري التابعي
كان من عظماء فقهاء التابعين، يروي عن أبي أيوب الأنصاري، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وفضالة بن زيد الأنصاري، وعقبة بن عامر وغيرهم. روى عنه جماعة؛ منهم: يزيد بن عمر، وأبو هاني الخولاني، وعامر بن يحيى المعافري. بعثه عمر بن عبد العزيز يفقه أهل إفريقية؛ فانتفعوا به، وبث فيها علما كثيرا. وشهد فتح الأندلس مع موسى بن نصير، ثم سكن القيروان واختط بها مسجدا ودارا خارج باب تونس اندثرا وعفت رسومهما.
قال أبو عقيل زهرة بن معبد القرشي: كنت ضجيعا لأبي عبد الرحمن الحبلي في المركب في غزو إفريقية، فكنت أسمعه إذا انتبه من نومه يقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثلاث مرات. سبحان الذي يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير، ثلاثا. والحمد لله الذي أنام ليلي وأهدأ عروقي، ثلاثا.» فقلت له: رأيتك تلزم هذه الكلمات، فما بلغك فيهن؟ قال الحبلي: بلغني أن ما يقولهن أحد حين ينتبه من نومه إلا كان من الخطايا كيوم ولدته أمه، أقول ويشترط مع هذا الإقلاع عن المعاصي، والسير في طريق نفع الأمة بالإرشاد والعمل الصالح؛ لأن كثيرا من الناس يستمر على ارتكاب الآثام، والجمود عن كل عمل نافع، ويعتمدون على الأدعية ، مع أن الله يقول:
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ، وقال في آية أخرى:
وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ، ولو أن دخول الجنة بفضل الله وكرمه، ولكن لا بد للإنسان من العمل، وفقنا الله للتوبة وللعمل الصالح.
توفي عبد الرحمن الحبلي بالقيروان سنة 100، ودفن بمقبرة باب تونس المشهورة الآن بالحطبية خلف زاوية الشيخ يوسف الدهماني، في حوطة بسيطة، وقبره مشهور يزار، رضي الله عنه.
أبو الحسن القابسي
هو الشيخ أبو الحسن علي بن محمد بن خلف المعافري المعروف بابن القابسي. قال عياض: لم يكن قابسيا، وإنما كان له عم يشد عمامته بشد قابس فسمي بذلك، وهو قيرواني الأصل. سمع العلم بإفريقية من أبي العباس عبد الله بن أحمد الأبياني، ومن مسرور التجيبي، ومن علي بن محمد الخولاني، وغيرهم من مشاهير العلماء. ثم رحل إلى المشرق سنة 352ه، وحج 353ه، ثم عاد إلى مصر، فسمع بها الحديث من أبي الحسن علي بن جعفر الشابياني، ثم عاد إلى القيروان سنة 357ه، فقرأ عليه خلق كثير؛ منهم: أبو عمران الفاسي، وأبو القاسم اللبيدي، وأبو القاسم بن الكاتب.
ولأبي الحسن تآليف كثيرة؛ منها: «الممهد»، بلغ فيه ستين جزءا ومات ولم يكمله، جمع فيه الحديث والأثر والفقه، وله كتاب «الملخص» وكتاب «المنبه للفطن، والمبعد من شبه التأويل»، وله «رسالة الاستنتاجات» ورسالة «أجمعية الحصون» وكتاب «المناسك»، و«الرسالة المفصلة لأحوال المعلمين والمتعلمين». قال ابن سعدون لما طلب القابسي للفتوى تأبى وسد بابه دون الناس، فقال ابن سعدون: اكسروا بابه؛ لأنه قد وجب عليه فرض الفتيا وهو أعلم من بقي من القيروان، فخرج القابسي إليهم وأنشد:
لعمر أبيك ما نسب المعلى
إلى كرم وفي الدنيا كريم
ولكن البلاد إذا اقشعرت
وصرح نبتها رعي الهشيم
وبالجملة فقد كان القابسي إمام زمانه في العلم والصلاح. توفي ليلة الأربعاء لثلاث خلون من ربيع الآخر سنة 403، وله من العمر ثمانون سنة إلا خمسة أشهر، وصلى عليه أبو عمران الفاسي بين الفسقية والمقبرة، ورثاه شعراء القيروان إذ ذاك بمائة قصيدة، وضربت الأخبية على قبره مدة ستة أشهر، وبات عليه خلق كثير، وقبره بمقبرة الحطبية بجوار الشيخ يوسف الدهماني مشهور يزار، رضي الله عنه.
أبو يوسف الدهماني
كان من أعلام طريق الإرادة، وكان له في بداية أمره رياضة ومجاهدات للنفس وصدق معاملات، سمع الفقه من أبي زكرياء بن عوانة، ولازم مجلسه وانتفع به، وسمع الحديث من عبد الله بن حوط وغيره، ورحل إلى بجاية للقاء الشيخ أبي مدين شعيب بن موسى، ثم توجه إلى الحج سنة 595ه، ولقي الشيخ أبو عبد الله القريشي وجماعة من شيوخ المتصوفين الذين خدموا الأمة بإرشادهم وإصلاحهم، وقد تخرج على الشيخ الدهماني طائفة اشتهرت بالعلم والصلاح. ولد أبو يوسف بالبادية بقرب قرية تسمى المسروقين من حوز القيروان، ونشأ بالبادية والقيروان، وتوفي ليلة عاشوراء سنة 621ه وعمره اثنان وسبعون عاما، وقبره في وسط قبة بمقبرة الحطبية مشهور يزار، وأحفاده موجودون إلى الآن، رضي الله عنه.
ابن ناجي
هو العالم قاسم بن عيسى بن ناجي، قرأ العلم بالقيروان عن ابن عرفة، وعن أبي مهدي الغبريني، والبرزلي، ويعقوب الزغبي، وعمر المسراتي القيرواني، ومحمد بن فندار القيرواني، والقاضي بن أبي بكر الفاسي. ولي الإمامة والخطابة في جامع الزيتونة بالقيروان بإشارة قاضي القيرواني في ذلك العصر وهو الشيخ محمد بن قليل الهم، وفي يوم توليته قال له الشيخ المذكور: «نحن عقدنا على رأسك لواء أبيض، فاحذر أن تدنسه بما لا يليق، وبالمشي مع من لا يليق.» وكان عمر ابن ناجي إذ ذاك إحدى وعشرين سنة، ثم انتقل إلى تونس، وقرأ بها أربعة عشر عاما، وبعدها قدم قاضيا وخطيبا بجزيرة جربة، ثم انتقل لقضاء باجة، وكان له تفقه عظيم، وله شرحان على المدونة؛ «الشتوي» في أربعة أسفار ، و«الصيفي» في سفرين. وله شرح على الرسالة حسن مفيد سماه «المهذب»، وبالجملة فهو من مشاهير العلماء المصلحين، انتفع به خلق كثير، توفي سنة 837ه، وقبره في وسط قبة صغيرة بمقبرة الحطبية مشهور يزار، رضي الله عنه.
علي العبيدلي
أصله من عرب البادية، جاء إلى القيروان كبيرا، فقرأ العلم على الشيخ الرماح وغيره من كبار العلماء، فنبغ وانتفع به خلق كثير، وكان لا يريد أن يجتمع بالأمراء ولا ينظر إليهم، ولا تأخذه في الأمر بالمعروف لومة لائم. ولما وصل أبو يحيى أبو بكر أمير إفريقية في ذلك العصر للقيروان بمحلته، اقتبله أبو عبد الله الرماح مع أهل القيروان، فقال لهم الأمير: هل في القيروان من العلماء الأحياء الصالحين من يزار؟ فقالوا له: نعم، الشيخ علي العبيدلي. فعزم على زيارته، فقيل له: لا يفتح لك الباب. فقصده هو وقائده المسمى ابن سيد الناس، فدق الباب، فقالت امرأة من خلف الباب: من هذا؟ فقال لها الأمير: قولي للشيخ أميرك بالباب ينتظرك. فلم يخرج له، فتعوذ الأمير، وقرأ بصوت عال:
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، فأجابه الشيخ، وكان يصلي بصوت عال سمعه الأمير والناس:
الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور
ولم يخرج له، فقال الأمير: لا بد لي من رؤيته. فقيل له: إنك لا تراه إلا يوم الجمعة؛ لخروجه للصلاة.
فوقف له الأمير يوم الجمعة في مكان، فلما رأى الشيخ ترجل عن جواده، فانفتل الشيخ العبيدلي بوجهه إلى حائط السور ولم ينظر إليه، فقال له الأمير: يا سيدي، أحب منك أن تدعو لي، فقال له الشيخ: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «اللهم من ولي أمرا من أمور أمتي فشق عليهم فاشقق اللهم عليه، ومن ولي أمرا من أمور أمتي فرفق بهم فارفق اللهم به.» فركب الأمير ولم ير له وجه.
قال الشيخ محمد الشببي: وإنما حسن من الشيخ العبيدلي هذا؛ لأن الشيخ الرماح ذلك العالم الجليل الذي اقتبل الأمير المذكور كانت حوائج الخلق تقضى على يديه، فلذلك حسن من العبيدلي الإعراض عمن ذكر، ولو مات الشيخ الرماح قبله، واضطرت الناس إلى العبيدلي؛ لوجب عليه أن يغير طريقه ويسلك طريق شيخه الرماح؛ ليتوصل بذلك إلى قضاء حوائج المسلمين. ألف العبيدلي كتابا في الفقه، وعقيدة في التوحيد. توفي سنة 748ه، وقبره عليه قبة صغيرة بمقبرة الحطبية بقرب ضريح ابن ناجي مشهور يزار، رضي الله عنه.
عبد السلام بن غالب المسراتي
قرأ على أبي يوسف الدهماني وغيره من العلماء؛ منهم: أبي زكرياء يحيى بن محمد البرقي الصدفي، قرأ عليه القراءات السبع والحديث وتفقه عليه، ثم انتصب الشيخ عبد السلام لقراءة العلم، فانتفع به خلق كثير، منهم عبد الرحمن بن محمد الأنصاري. قال أبو يوسف الدهماني: اجتمع في عبد السلام بن غالب أربع خصال: العلم، والعمل، والزهد، والورع. ولعبد السلام تآليف كثيرة منها كتاب في الفقه سماه «الوجيز»، ونقل فيه الشيخ خليل في شرحه على ابن الحاجب. وكان عبد السلام كثيرا ما ينشد هذا البيت:
أنت في غفلة وقلبك ساهي
ذهب العمر والذنوب كما هي
توفي يوم الخميس من شهر صفر سنة 646ه، ودفن يوم الجمعة إثر صلاتها، وقبره بالحطبية عليه عمود أزرق، وبجانب قبره من جهة الجوف قبر ابنه إبراهيم العالم المصلح المتوفى سنة 704ه، رضي الله عنهما. (4) مقبرة باب الخوخة
أبو القاسم السيوري
أخذ الفقه عن أبي بكر بن عبد الرحمن وأبي عمران الفاسي، وكانت له عناية بالحديث والقراءات، والغالب عليه الفقه. انتفع به خلق كثير؛ منهم: عبد الحميد المهدي، وأبو الحسن اللخمي، وأبو القاسم الماهري، وغيرهم من فضلاء العلماء. وكان من الحفاظ المعدودين، والفقهاء المبرزين، يحفظ المدونة تماما، ويحفظ دواوين المذهب الحفظ الجيد، ولما نفذت المدونة أملاها من رأسه، وعندما وجدت نسخها قابلوا ما أملى عليهم فوجد سواء. وله تعليق على نكت في المدونة. وبنى دارا لدبغ الجلود؛ لأنه كان يأكل من كد يمينه. وكان يملك من الزيتون بالساحل اثنتي عشرة ألف زيتونة، ويخدم بعضها بنفسه، يأخذ نصف دخلها ينتفع به، والنصف الآخر للفقراء والمساكين، وكان مسموع الكلمة عند الأمراء؛ بحيث إذا طلب عزل وال ظالم عزل. توفي بالقيروان سنة 462ه، ودفن بداره خارج الباب المعبر عنه الآن بباب الخوخة أحد أبواب القيروان، ضريحه مشهور، رضي الله عنه. (5) مقامات العلماء والصلحاء الأتقياء التي داخل سور القيروان
أبو عمران الفاسي
أصله من فاس، وبيته بها بيت مشهور، يعرفونه ببني الحجاج. تفقه بالقيروان على الشيخ أبي الحسن القابسي وغيره. ثم رحل إلى قرطبة فقرأ على سعيد بن نصر، وعبد الوارث بن سفيان وغيرهما. ثم رحل إلى المشرق، وأخذ بمصر القراءات على عبد الكريم بن أحمد، وأخذ بمكة على أحمد السرقسطي، وحج حجات كثيرة، ودخل بغداد سنة 399ه، وحضر مجلس أبي بكر بن الطيب الباقلاني القاضي، وسمع العلم منه ومن غيره، ثم عاد إلى القيروان فأقرأ بها القرآن ودرس الفقه وأسمع الحديث، ورحلت إليه الطلبة من أقصى البلاد، وتفقه عليه جماعة كأبي القاسم السيوري وغيره، وطارت فتياه في المشرق والمغرب، ثم رحل إلى المشرق مرة ثانية سنة 426ه، فلقي بمكة عبد الله بن أحمد الهروي وأخذ عنه، ثم قدم القيروان قبل وفاته بيسير. ولما حضرته الوفاة جعلت زوجته تمرغ خديها على رجليه، فقال لها: مرغي أو لا تمرغي، والله إني ما مشيت بهما إلى معصية قط. ولد في سنة 368ه، وتوفي في الثالث عشر من رمضان سنة 430ه، وصلى عليه أبو بكر عتيق السوسي الزاهد بوصية له، ودفن بداره الكائنة الآن قرب الجامع الأعظم، وأحفاده موجودون بالقيروان إلى الآن، ضريحه مشهور بالدار المذكورة يزار، رضي الله عنه.
أبو عبد الله الرماح
هو أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن القيسي ثم الرماح، تفقه بالقيروان على تلامذة الشيخ أبي محمد عبد السلام بن عبد الغالب رحمه الله، ثم رحل إلى تونس، فقرأ بها على الشيخ أبي القاسم بن زيتون. قال أبو القاسم الرزلي: درس العلم أبو عبد الله الرماح بالجامع الأعظم بالقيروان خمسين سنة، وكان مشهورا بالسخاء، وإطعام المساكين . من آثاره في الكرم أن أهل القيروان أصابتهم شدة في زمنه، وكانت عنده ثلاثة مطامير مملوءة شعيرا، ففتحها وفرق جميعها على الفقراء والمساكين، ثم دخل لداره فقالت له زوجته: ما بقي في الدار عندنا طعام. فقال لها: لو عرفتني كنا أخذنا من جملة الفقراء ربع شعير كواحد منهم. وانشرح وقال: الحمد لله، نشتري من السوق طعامنا.
وكان يطعم الفقراء في المواسم والأعياد، وكان مقصودا في الفتيا، قائما بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أن حضرته الوفاة. دخل بعض العلماء عليه في مرضه الذي مات فيه، فوجدوه متوسدا حجرا، وتحته حصير حلفاء قديمة، فقال العايد لولد الشيخ: أيا ولدي، هكذا تترك الشيخ! فقال: كلما نفرش له ونرفهه يتركني حتى نغيب عنه، فيزيله من تحته ونجده هكذا، فكلمته في ذلك، فقال لي: يا بني ما نحب نلقى الله إلا وأنا على هذه الحالة. توفي رحمه الله بالطاعون سنة 749ه، ودفن بداره الكائنة على يسار الذاهب إلى الجامع الأعظم من طريق الخضراوين، قريب من الجامع بخطوات، وأحفاده موجودون بالقيروان إلى الآن، رضي الله عنه.
أبو فندار
هو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الجليل بن فندار المرادي، قرأ على الشيخ محمد الرماح ابن الجلاب وهو صغير السن وارتحل لتونس، وقرأ بها على ابن عبد السلام، ثم رجع إلى القيروان، وانتفع الناس به، ومن جملة من قرأ عليه: ابن محمد الجديدي، والشيخ منصور المزوعي، وأبي بن يعقوب الضاعني. كان أعرف الناس بمذهب مالك ليس فوقه في عصره أحد بإفريقية، وتولى قضاء بلده القيروان، ثم تولى قضاء قفصة، وقدم القيروان زائرا وهو مريض، فمات قرب وصوله فجر ليلة الإثنين الموفي ثلاثين محرم سنة 702ه، وصلى عليه الفقيه الخطيب إبراهيم بن عمر الدهماني، ودفن بداره بحومة الجامع، وقبره مشهور يزار، رضي الله عنه.
أبو القاسم اللبيدي
هو أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد الحصري المعروف باللبيدي نسبة للبدة؛ قرية من قرى الساحل. سمع العلم من أبي الحسن القابسي، وأبي محمد بن أبي زيد وغيرهما، وقرأ عليه محمد بن سعدون وغيره من القرويين والأندلسيين، وجهه أبو الحسن القابسي ليفقه أهل المهدية، وامتد عمره بعد أقرانه فحاز رئاسة العلم بالقيروان. ألف كتابا في الفقه كبيرا، جمع فيه بين النوادر لأبي محمد بن أبي زيد وموطأ مالك. وألف في اختصار المدونة كتابا سماه «الملخص»، وكان ينشد الشعر، ويحسن القول فيه. توفي سنة 440ه لليلتين بقيتا من شوال وعمره ثمانون سنة، وصلى عليه ابنه أبو بكر، وكان من أهل العلم، وحضر جنازته صاحب إفريقية، وجميع أركان دولته، ورثي بمراثي كثيرة، وقبره بداره الكائنة بحومة اللبيدية نسبة إليه، رضي الله عنه.
عبد الله بن أبي زيد
النفزاوي نسبا، القيرواني مولدا ومنشأ ومدفنا، سمع العلم بإفريقية من محمد بن اللباد، وعليه كان اعتماده في الفقه. وسمع من عبد الله بن مسرور الحجام، ومحمد بن العسال، ومن أبي ميسرة، ومحمد بن موسى القطان، وأجازه من أهل المشرق أبو سعيد بن الأعرابي، وإبراهيم بن أبي بكر بن المنذر، وجماعة من البغداديين، وتفقه عليه كثير من القرويين، والأندلسيين، وأهل المغرب؛ فمن القرويين: أبو بكر بن عبد الرحمن، وأبو القاسم اللبيدي، وأبو القاسم خلف البراذعي وغيرهم. انتشرت إمامته في العلم شرقا وغربا. قال أبو الحسن القابسي: كان عبد الله ابن أبي زيد إماما مؤيدا وثوقا به في درايته وروايته. وقال الشيرازي: كان عبد الله بن أبي زيد يعرف بمالك الأصغر، وله تآليف كثيرة؛ منها: كتاب «النوادر» وكتاب «مختصر المدونة»، و«الرسالة» الشهيرة، و«الاقتداء»، وكتاب «الذب عن مذهب مالك»، وكتاب «المضمون من الرزق»، وكتاب «المعرفة واليقين والتوكل»، وكتاب «المناسك»، وكتاب «شرح مسألة الحبس»، وكتاب «إعجاز القرآن»، وكتاب «التنبيه»، وكتاب «رد الخواطر من الوسواس»، وكتاب «قيام رمضان والاعتكاف»، وكتاب «إعطاء الزكاة للقرابة»، وكتاب «كشف التبليس»، وكتاب «الرد على أبي ميسرة المارق»، وكتاب «حماية عرض المؤمن».
وله رسالة وعظ وعظ بها محمد بن الطاهر القائد، وأول تأليف له الرسالة الشهيرة، وسبب تأليفها أن الشيخ محرز بن خلف التونسي سأله، وهو في سن الحداثة، أن يؤلف له كتابا مختصرا في اعتقاد أهل السنة مع فقه وآداب ليتعلم ذلك أولاد المسلمين، فألف الرسالة الشهيرة؛ وذلك سنة 327ه، وسنه إذ ذاك سبع عشرة سنة، فانتشرت الرسالة في سائر بلاد المسلمين حتى بلغت العراق، واليمن، والحجاز، وبلاد السودان. وتنافس الناس في اقتنائها حتى كتبت بالذهب، وأول نسخة نسخت منها بيعت ببغداد في حلقة أبي بكر الأبهري بعشرين دينارا، ولما كان القصد بها أن تعلم لأولاد المسلمين لم يبق بلد من بلاد الإسلام إلا بلغت إليه. وكان ابن أبي زيد رضي الله عنه على غاية من الجود والكرم، كثير البذل للفقراء، والغرباء، وطلبة العلم، ينفق عليهم ويكسوهم ويزودهم. توفي يوم الإثنين عند الزوال الموافق ثلاثين من شهر شعبان سنة 386ه، وعاش ستا وسبعين سنة، وصلى عليه الشيخ أبو الحسن القابسي يوم الثلاثاء في جمع لا يحصى، ودفن بداره المعروفة الآن، وبجوار قبره قبر العالم الجليل أبو محمد عبد الله الشبيبي شارح الرسالة في سفرين، وقد توفي سنة 872ه، رضي الله عنهما.
محمد بن خيرون المعافري الأندلسي
كان من أكابر العلماء العاملين، رحل إلى العراق، وقرأ العلم على محمد بن نصر صاحب يحيى بن معين وغيره، ثم عاد إلى القيروان واشتغل بتدريس العلم بمسجده الذي أسسه، وهو المسمى الآن بمسجد ذي ثلاثة أبواب، فانتفع بعلمه خلق كثير. وكان قائما بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، شديد الوطأة على الظالمين المستبدين، فسعى به الظالم علي المرودي قاضي الشيعة إلى الأمير عبيد الله المهدي، فأمر عامله بالقيروان المسمى الحسين ابن أبي خنزير بقتله. حكى الشيخ أبو الحسن القابسي رحمه الله قال: أخبرني من أثق به أنه كان جالسا عند ابن أبي خنزير عامل عبيد الله المهدي المذكور، إذ دخل عليه شيخ ذو هيئة جميلة، وقد علاه اصفرار مع حسن سمت وخشوع، فلما رآه ابن أبي خنزير بكى، فقال له جليسه: ما الذي يبكيك؟ قال: بعث لي السلطان عبيد الله يأمرني بدرس هذا الرجل - يعني ابن خيرون - حتى يموت، ثم أمر به فأدخل إلى مجلس، وبطح على ظهره، وطلع السودان فوق سرير، فقفزوا عليه حتى مات؛ وذلك من أجل جهاده على دين الله، وبغضه لملوك بني عبيد الظالمين المستبدين.
قال المالكي: ولما مات أخذوه وحملوه على بغل، وألقوه في حفير خارج البلد، ثم نهب ابن أبي خنزير داره وأخذ مولدة كانت معه، وجعلها مع خدمه. وكانت عاقبة القاضي الشيعي ابن علي المرودي الذي سعى بابن خيرون أن الله انتقم منه؛ وذلك أن ابن أبي خنزير عامل القيروان المذكور سعى به إلى الأمير عبيد الله فمكنه الأمير منه، فأخذه وكتفه ورماه في إصطبل الدواب فركضت الخيل وغيرها عليه حتى قتلته، وكانت جارية ابن خيرون تأتيه وهو تحت أرجل الدواب وتتولى عذابه بنفسها، فيقول لها: إنك بسببي صرت عند عامل الأمير. فتقول له: يا شيخ السوء، قتلت سيدي ابن خيرون شيخ القيروان، وأزلتني من عنده، ورددتني عند خنزير ابن خنزير، فقد خاب من حمل ظلما. ثم تأمر خدمها فيلطمونه إلى أن مات، وتلك عاقبة الظالمين، ومسجد ابن خيرون قائم إلى الآن على ذاته يشهد لله بالوحدانية والعظمة، ويترجم بلسان حاله على مؤسسه الذي ذهب ضحية الدفاع عن عباد الله والذب على الدين الإسلامي القويم، وهذا المسجد هو المعروف الآن بجامع ذي ثلاثة أبواب، يبعد عن سوق المداسين بنحو أربعين خطوة، رضي الله عن مؤسسه، توفي ابن خيرون سنة 301ه، ودفن بعد إخراجه من الحفرة التي ألقي فيها بمقبرة الجناح الأخضر، عليه رضوان الله ورحمته.
علي العواني الشريف الحسيني
قرأ على الشيخ الرماح بالقيروان، وقرأ بتونس على الشيخ محمد بن عبد السلام الهواري، وقرأ القراءات السبع على أبي إبراهيم بن عبد العظيم، وتفقه عليه أبو عبد الله الشبيبي، وتولى بالقيروان القضاء، والفتيا، والإمامة، والخطابة بالجامع الأعظم، وهو جد جامع هذا الكتاب للأم، وأحفاده الشرفاء موجودون بالقيروان إلى الآن، ولا زالت نقابة الأشراف في بيتهم. توفي الشيخ العواني بالقيروان في سجوده في صلاة العشاء الآخرة سنة 758ه، ودفن بزاويته الكائنة بحومة الباي المجاورة لمدرسته، وعلى هذه الزاوية والمدرسة أحباس قائمة بهما ، وقبره يزار، رضي الله عنه.
عبيد بن يعيش الغرياني
أصله من جبل غريان من ولاية طرابلس الغرب، قدم القيروان واشتهر بالصلاح والتقوى والتوسعة على الفقراء والمساكين، وكان آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر. حبست على زاويته أحباس كثيرة، عائد بالنفع على طلبة العلم وأبناء السبيل، وكان رضي الله عنه لا يهتم بأمر نفسه، وغاية مبتغاه في حياته الالتفات إلى العجزة والأرامل والأيتام الضعفاء، ولا زالت زاويته إلى الآن مأوى الغرباء وطلبة القرآن. وللطلبة النازلين هناك جراية خبز يأخذونها يوميا، توفي الشيخ عبيد سنة 805ه، ودفن بزاويته داخل باب الجلادين، وقد تفد الزوار إلى هاته الزاوية للتبرك بضريح صاحبها وضريح حفيده الشيخ عبيد الأصغر العالم الجليل المتوفى سنة 1182ه، وضريحه في البيت الذي في الجدار المواجه لباب الزاوية الثاني على يسار الداخل مواجهة له، رضي الله عنهما.
الشيخ عمر عبادة
أصله من أولاد عيار، قبيلة من قبايل البادية، نشأ بالقيروان، وتعاطى صناعة الحديد حتى برع فيها، ثم أعرض عن الصناعة، واشتهر بالصلاح وفعل البر فأحبه أحمد باشا باي الحسيني، وصار يرسل له الأموال الكثيرة، والشيخ ينفقها على الفقراء العاجزين والأرامل والأيتام الضعفاء، واقترح على الباشا المذكور بناء الزاوية المشهورة، وقصد الشيخ من ذلك تبادل الحركة، ولينتفع فقراء البنائين والنجارين في ذلك الوقت العسير، فأسست الزاوية الشهيرة سنة 1261ه، والنقش الموجود في الألواح والأبواب الغاية منه رواج اليد العاملة.
ثم أرسل الشيخ عبادة إلى أحمد باشا في توجيه «المخاطف» الحديدية الكائنة الآن ببرج الزاوية، وهي ضخمة الحجم من أثر المراكب الرومانية، وجد اثنان منها تحت الأرض بغار الملح، وواحد برادس، فوجهها له الأمير المذكور محمولة على عربات المدافع العتيقة؛ وذلك سنة 1270ه، وقد تقصد الزوار هاته الزاوية للتبرك، والتفرج على هيئة بنائها، والتأمل في تلك المخاطف العجيبة، وبعد الزيارة والتأمل ينفحون الفقراء والأطفال الأيتام المجاورين للزاوية بنصيب من الدراهم؛ بحيث صار نفع الشيخ عبادة متعديا في حياته وبعد الممات. توفي الشيخ سنة 1273ه، ودفن بزاويته المشهورة، رضي الله عنه.
النشيد الوطني
نظمت هذا النشيد بقصد تلامذة المدارس ينشدونه في احتفالات امتحانات مكاتبهم، وجعلت صيغته على لحن صيغة «إذا ما شئت في الدارين تسعد»، ونصه:
بحمد الله منطلق لساني
على نعم التعلم والبياني
فليس العلم يدرك بالأماني
ولكن بالعزيمة والتفاني •••
بني الأوطان إنا قد سعدنا
بأنوار المعارف قد رشدنا
ومكتبنا الجميل به استفدنا
فوايد ما لها في الكون ثاني •••
فمنا قد يحوز الوطن فخرا
ويسعد قطرنا برا وبحرا
فسوف نعيد للأسلاف ذكرا
وننشر ما طوته يد الزمان •••
وبالقرآن نسعد في الحياة
ونرجو الفوز من بعد الممات
فذكر الله حصن للنجاة
به نسمو إلى غرف الجنان •••
نعيد فضائل العلماء فينا
ونهرع للعلا حينا فحينا
ونحيي سنة المتشرعينا
ك «سحنون» دفين القيروان •••
ونتبع شرعنا فيما أحل
لأن الجهل بالعلم اضمحل
وندفع كل ضر قد أذل
بحجة عالم حسن البيان •••
فلا وهم ولا بدع لدينا
ولا ذل إلى المستعبدينا
فنحن بحمد رب العالمينا
نقابل كل قبح بامتهان •••
فزيدوا أيها الآباء أمنا
فقد صرنا إلى الأوطان حصنا
فلا تلقوا إلى الجهلاء أذنا
فنحن بالمعارف في أمان
كلمة الختام
تم هذا الدليل بإعانة الله تعالى وروحانية رسوله الكريم، ولا شك أن تلك النبذ الوجيزة عن تاريخ البعض من المعالم والمعاهد وتراجم رجال الدين كافية لكل من يهمه الاطلاع على غابر هاته المدينة الأثرية؛ إذ الإطناب في هذا الموضوع من وظيفة رجال مطولات التاريخ، ولو أردنا البسط عن تاريخ جميع الآثار وخصوصا تراجم جملة علماء القيروان، لما وسعنا الوقت وخرجنا عن موضوع اختصار هذا الدليل الصغير، وأرجو من علماء التاريخ أن ينظروا إليه بعين الرضاء التي هي عن كل عيب كليلة؛ لأني أعتبر نفسي تلميذا صغيرا لتلامذة العلماء المصلحين، وقد طرقت باب النصح والإرشاد من قبل مذكرا لنفسي أولا ولأبناء جنسي ثانيا بقدر ما سمحت به قريحتي الضعيفة، ويراعتي التي تقطر بمداد الخجل على جبهة قرطاس القصور، ولم ألج باب التاريخ من قبل؛ لأن بضاعتي المزجاة تصدني عن الولوج فيه، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، راجيا من علماء هذا الفن الجليل أن يصلحوا الخطأ منه؛ إذ الكمال لله وحده، والله ولي المصلحين.
ناپیژندل شوی مخ