عثمان بن عفان: بين الخلافة والملك
عثمان بن عفان: بين الخلافة والملك
ژانرونه
صلى الله عليه وسلم ، ولو وليت مثل ما ولي لفعلت مثل ما فعل.»
كيف لام قوم عثمان لعمارته مسجد على نحو ما صنع وهو إنما فعل بعد مشاروته أولي الرأي من أصحاب رسول الله؟ وكيف لامه قوم على جمعه الناس على قراءة واحدة للقرآن وعلى حرقه المصاحف التي تخالف هذه القراءة، وهو لم يفعل ذلك إلا عن ملأ من أصحاب رسول الله؟ وما بال هؤلاء الناس لم يكونوا يلومون عمر بن الخطاب وقد كان يجتهد بالرأي في كثير من الشئون، وكان يخالفه في اجتهاده من يخالفه؟ أتراهم استلانوا عثمان فاستضعفوه فأنكروا عليه ما لم يكونوا ينكرون على عمر لبأسه وشدته؟! أم تراهم رأوا عمر يعيش عيشهم، قاسيا بنفسه، ناسيا إياهم، متجردا لله، فلم يكن لأحد أن يؤاخذه بشيء إيمانا بأنه يصنع ما يصنع عن بينة ويقين؟ ثم رأوا عثمان في خفض من العيش لا يستطيع أكثرهم أن يبلغه، فنفسوا عليه، فكان لومهم وتثريبهم مظهر هذه النفاسة؟! مهما يكن من شيء فإن التطور الذي حدث في بلاد العرب منذ عهد الرسول في الناحية الفكرية، وفي الناحية الاقتصادية كان عظيم الأثر في موقف هؤلاء الناس من عثمان. فقد انتقلت بلاد العرب في هذه الفترة القصيرة، التي لا تزيد على ثلاثين سنة، من دين إلى دين، ومن التبعية أو ما يشبهها للفرس أو الروم إلى التغلب على الفرس والروم، ومن حال اقتصادية أدنى إلى العسر إلى يسار ورخاء لم تعرف مثلهما من قبل. وقد كان رسول الله وكان أبو بكر وعمر يؤثرون أن يسير المسلمون سيرة الشظف؛ لأنهم كانوا يهيئون بمغانم الحرب لمتابعة الحرب. أما وقد زادت المغانم وزاد الخراج والجزية، على ما تقتضيه الحرب فقد تشعب الرأي. أيظل الناس على ما كانوا عليه من إعراض عن الدنيا؟ أم يأخذون من متاعها بالنصيب الذي يسره لهم ما أفاءه الله عليهم من أخلاف الرزق؟ كان أكثر الذين يؤثرون الشظف هم الذين آخذوا عثمان لعمارته المسجد عمارة خالف بها ما كان عليه لعهد النبي والخليفتين الأولين، ولعلهم كذلك هم الذين آخذوه بإحراق المصاحف. فالمعرضون عن الدنيا هم أشد الناس تشبثا بحرية الرأي، وبالحرية الفردية. أما الذين رأوا في هذا التطور مدعاة لحياة جديدة غير التي كانوا عليها إلى أن انتهت خلافة الفاروق، فكان أكثرهم على رأي عثمان في عمارة المسجد وفي توحيد القراءة.
لم يكن للوم اللائمين أثر في السنوات الأولى من خلافة عثمان؛ لأن هذا التطور جعل ما صنعه الخليفة الشيخ أمرا محتوما لا مفر منه، وجعل اتجاهه الجديد في سياسة الحكم موضع الرضا من جانب الكثرة العظمى. فقد كان أهل الشام وأهل العراق من العرب ومن الفرس والروم يجيئون إلى المدينة على أنها عاصمتهم، وهم قد ألفوا أن يروا من جلال الملك في بلاد الروم وبلاد الفرس ما يجعلهم يصرفون أنظارهم عن دار للحكم اتخذ بناؤها من اللبن وعمدها من جذوع النخل، وسقفها من الجريد. فإذا وجب أن يبقى المسجد على بساطته، فلا بد أن يكون له من ظاهر الهيبة ما يجعل هؤلاء الأجانب عن شبه الجزيرة يعظمونه ولا تزور أبصارهم عنه.
ثم إن التطور ألقى على الخليفة عبئا جديدا نهض عمر بشيء منه، وكان لا بد لعثمان من أن يضاعف الجهد للنهوض به. ذلك تنظيم الحياة المدنية تمهيدا للحضارة التي وضع القرآن أساسها. لقد كان معظم الجهد في عهد رسول الله وفي عهد أبي بكر مبذولا لتوطيد الدعوة الدينية الجديدة وتثبيت قواعدها. فلما اتسعت رقعة الإمبراطورية لم يكن ثمة بد من التفكير في العمران ونشره ليعم الناس الرخاء؛ وليكون لهم من ارتفاع مستوى العيش ما يجعلهم يطمئنون للنظام الذي يسر له سعة الرزق؛ لهذا زاد عثمان عطاء الناس وأباح للمهاجرين ما كان مباحا لغيرهم من التنقل في أنحاء الإمبراطورية والنيل من خيراتها. بذلك عم الرخاء العرب وآن لهم أن يفكروا في التمتع بما أبيح لهم التمتع به من طيبات ما رزقهم الله.
بل إن كثيرين منهم بدءوا ينظرون إلى ألوان من اللهو على أنها بعض المتاع المباح. فمع أن القرآن نص على أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان، وطلب إلى المسلمين اجتناب هذا الرجس أقام كثيرون منذ عهد النبي يشربون الخمر ويباشرون الميسر. ومع أن عمر جلد شارب الخمر ثمانين جلدة بعد أن استشار المسلمين؛ لم يمتنع عن شربها من استتر واستطاع النجاة من الحد. وكان كثيرون يرون في عهد عمر أن الشراب إنما يحرم منه ما أسكر، فأما ما لم يسكر فلا يحد صاحبه. وكان عمر يقسو بهؤلاء ولا يرضى عن أمر فيه ما يضعف النفس أو يستذلها لعادة من عاداتها. فلما تولى عثمان ظل الأمر على ما كان عليه في عهد عمر، وكان ولاة عثمان أكثر تغاضيا عن هذه الألوان من اللهو؛ لأن كثيرين منهم كانوا يتوقرون عليها توقرا كان له في حكومة هذا العهد أثر بالغ.
3
الفصل الخامس
نهاية عثمان
كانت الكوفة موطن الثورة الأساسي في خلافة عثمان، فكثيرا ما أظهر أبناؤها تذمرهم من أمرائهم وولاتهم، فسخطوا على سعد بن أبي وقاص، ثم اتهموا الوليد بن عقبة بشرب الخمر، فولى عثمان سعيد بن العاص ، فلما قدم على الكوفة قال لأهلها في خطبة له: إنه تولى أمورهم وهو كاره لذلك، وأعلن أن الفتنة قد أطلعت خطمها وعينيها. ثم أخذ سعيد يدرس أحوال الكوفة وأهواء أهلها ليتبين مواطن الداء. ولما وقف على حقيقة الحال فيها كتب إلى عثمان بما شاهده في هذه المدينة، فقال: «إن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم، وغلب على أهل الشرف والبيوتات منهم، والغالب على تلك البلاد روادف قدمت، وأعراب لحقت، حتى لا ينظر إلى ذي شرف أو بلاء من نابتتها ولا نازلتها.» فبعث عثمان إلى سعيد بن العاص يطلب إليه أن يقدم الصحابة على غيرهم من سكان الكوفة. وقد جاء في كتابه: «أما بعد، ففضل أهل السابقة والقدم، ومن فتح الله عليه تلك البلاد، وليكن من نزلها من غيرهم تبعا لهم، إلا أن يكونوا تثاقلوا عن الحق وتركوه، وقام به هؤلاء، واحفظ لكل منزلته، وأعطهم جميعا بقسطهم من الحق، فإن المعرفة بالناس يصاب بها العدل.»
كذلك ألقى عثمان على أهل المدينة خطبة، أخبرهم فيها بما وصله عن الحالة في الكوفة وحذرهم الفتنة، وعرض عليهم أن ينقل إلى الناس فيئهم حيث يقيمون في بلاد العرب، فرحب أهل المدينة بذلك وقالوا له: كيف تنقل إلينا ما أفاء الله علينا من الأرض؟ فقال عثمان: «نبيعها ممن شاء بما كان بالحجاز واليمن وغيرهما من البلاد.» فأظهروا ابتهاجهم وفتح الله لهم أمرا لم يكن في حسابهم.
ناپیژندل شوی مخ