عثمان بن عفان: بين الخلافة والملك
عثمان بن عفان: بين الخلافة والملك
ژانرونه
وزاد عثمان في رقعة المسجد زيادة عظيمة. لكنه لم يقف عند زيادة رقعته على نحو ما فعل عمر، بل أحدث من التطور في عمارته ما يتفق واتجاه ميوله، فأنكر صنيعه يومئذ جماعة من المسلمين الذين أرادوا أن يبنى المسجد على نحو ما بناه رسول الله. ولم يحفل عثمان بقولهم، ولم يجدد المسجد باللبن، ولم يجعل عمده الخشب وسقفه الجريد، بل بنى جدره كلها بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من حجارة منقورة أدخل فيها بعض الحديد، وصب فيها الرصاص ونقشها من خارجها، وجعل سقفه من الساج. بذلك أقر المسجد على أساس من بنائه، وخلع عليه بعض الرونق والرواء؛ ولذلك أنكر عليه بعض أصحاب رسول الله صنيعه وآخذوه بمخالفته سنة رسول الله وسنة الخليفتين أبي بكر وعمر.
خلع عثمان على مسجد النبي هذه الهيبة؛ لأنه كان مركز الحكم، فكانت الأوامر تصدر منه إلى الولاة الذين يقيمون في قصور دمشق والفسطاط والكوفة والبصرة. وإنما يدعونا إلى هذا القول أنه لم يصنع مثل هذا الصنيع بالمسجد الحرام بمكة حين وسعه. فقد كانت الكعبة بيت الله الحرام قائمة، وليس حولها إلا فناء ضيق يصلي الناس فيه، وظل ذلك شأنه طيلة عهد النبي وفي خلافة أبي بكر، فلما امتد الفتح وكثر الذين يشهدون الحج ويصلون حول البيت في عهد عمر ضاق بهم هذا الفضاء حين الصلاة. ثم كانوا يدخلون إليه من الأبواب القائمة بين الدور المحيطة به. عند ذلك اشترى عمر دورا حول الكعبة وهدمها وأدخلها في حرم البيت الحرام وأحاطها بجدار قصير. وزاد عدد الذين يشهدون الحج في خلافة عثمان، فاحتذى مثل عمر وأضاف إلى الكعبة دورا اشتراها، وأحاطها بجدار قصير لا يرتفع إلى قامة الرجل كما فعل عمر من قبل. هو إذن لم يصنع بمسجد مكة ما صنعه بمسجد المدينة؛ لأن مسجد مكة كان خالصا للعبادة والصلاة؛ ولأن مسجد المدينة كان دار الحكم وكانت تقام فيه الصلاة.
لم يدفع عثمان إلى ما صنع من عمارة المسجد، وما أباح للمهاجرين من الانتشار في بلاد الإمبراطورية، وما كان من زيادة العطاء، تهالك على الدنيا أو حب لمظاهر السلطان. فقد كان الخليفة الشيخ من أتقى الناس ومن أكثرهم حياء وأصدقهم إيمانا، وكان يقول: «لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي علي يوم لا أنظر في المصحف.» لما تسور الثائرون بعثمان عليه داره ألفوه يقرأ القرآن، وما مات حتى خرق مصحفه من كثرة ما كان يديم النظر فيه. وقالت امرأته نائلة للذين أحاطوا به في داره يوم مقتله: «إن تقتلوه أو تدعوه، فقد كان يحيي الليل بركعة يجمع فيها القرآن.» وكان عثمان إذا قام في الليل للصلاة لا يوقظ أحدا ليعينه على وضوء إلا أن يجده يقظان. فقيل له غير مرة: «لو أيقظت بعض الخدم؟» فكان يقول: «لا، الليل لهم يستريحون فيه.»
وما كان عليه عثمان من صدق الإيمان هو الذي أدى به إلى جمع الناس على قراءة واحدة للقرآن، وإلى إحراق ما سوى مصحف عثمان من المصاحف. فقد كان حذيفة بن اليمان يقاتل مع المسلمين في أرمينية وأذربيجان في السنة الثانية أو في السنة الثالثة من خلافة عثمان. وكان قد اجتمع في هذا القتال خلق من أهل الشام ممن يقرءون على قراءة المقداد بن الأسود، وأبي الدرداء، وجماعة من أهل العراق ممن يقرءون على قراءة ابن مسعود وأبي موسى الأشعري، وآخرون حديثو عهد بالإسلام كانوا يفضلون قراءة على قراءة، وبالغ كل فريق في تفضيل قراءتهم ودب الخلاف لذلك بينهم، وعظم اختلافهم وتشتتهم، حتى إن الرجل ليقول لصاحبه: إن قراءتي خير من قراءتك، وبلغ حدا كاد يكون فتنة. فقد اختلفوا وتنازعوا، وأظهر بعضهم إكفار بعض والبراءة منه وتلاعنوا ورأى حذيفة خلافهم وانتشار الكلام السيئ بينهم ففزع وفر راجعا إلى المدينة، ودخل على عثمان قبل أن يدخل إلى بيته فقال له: أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك ! قال عثمان: في ماذا؟ قال حذيفة: في كتاب الله، إني حضرت هذه الغزوة وقد صحبت ناسا من العراق والشام والحجاز. ثم وصف له ما تقدم من اختلافهم في القراءة وأردف: وإني أخشى عليهم أن يختلفوا في كتابهم كما اختلف اليهود والنصارى. ورأى عثمان الخطر، فجمع الناس يشاورهم في الأمر. فسألوه رأيه فقال: الرأي عندي أن يجتمع الناس على قراءة. فإنكم إذا اختلفتم اليوم كان من بعدكم أشد اختلافا. وأقره أهل الرأي فبعث إلى حفصة يسألها أن ترسل إليه مصحف أبي بكر لنسخه في المصاحف. ذلك أن مصحف أبي بكر كان عند الصديق في حياته، ثم عند عمر بن الخطاب، ثم عند أم المؤمنين حفصة بنت عمر.
وأمر عثمان زيد بن ثابت الأنصاري أن يكتب المصحف، وأن يملي عليه سعيد بن العاص الأموي، بحضرة عبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، وأمرهم إذا اختلفوا في شيء أن يكتبوه بلغة مضر؛ لأن القرآن نزل على رجل من مضر. فلما أتموا كتابته على قراءة واحدة أمر عثمان فكتب لأهل الشام مصحفا، ولأهل مصر مصحفا، وبعت إلى البصرة مصحفا، وإلى الكوفة مصحفا، وأرسل إلى مكة مصحفا وإلى اليمن مثله، وأقر بالمدينة مصحفا. وهذه المصاحف اطمأنت لها الأمة ولا يزال الناس يسمونها المصاحف العثمانية؛ لأنها كتبت بأمر عثمان وإن لم تكتب بخطه.
ولما أرسلت هذه المصاحف إلى الأمصار وأوجب الخليفة القراءة بما فيها أمر أن يجمع ما سواها من المصاحف فجمع وأحرق. وقد أثار هذا الأمر من جانب عثمان ثائرة كثيرين، بينهم قوم من الصحابة والتابعين، وآخذوا عثمان بأنه صنع ما لم يصنعه أبو بكر وعمر. روي عن ابن مسعود أنه تعنت لما أخذ منه مصحفه فحرق، وتكلم في تقدم إسلامه على زيد بن ثابت، وأمر أصحابه أن يغلوا مصاحفهم، وتلا قوله تعالى:
ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ، فكتب إليه عثمان يدعوه إلى اتباع الصحابة فيما أجمعوا عليه من المصلحة في ذلك جمعا للكلمة وحسما لكل شقاق.
ولا شبهة في أن ما صنعه عثمان من جمع الناس على قراءة واحدة قد كان الحكمة عين الحكمة؛ لأنه بصنيعه هذا قد أبقى للقرآن صفاءه كما أوحاه الله إلى رسوله
صلى الله عليه وسلم . وصحيح قول علي بن أبي طالب: «أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع بين اللوحين.» لكن عثمان لم يكن أقل من أبي بكر أجرا لما صنع تلافيا للاختلاف وحسما للخلاف. وليس ينقص من أجره أن اختلف الناس وإن لامه بعضهم لحرقه كل المصاحف إلا مصحفه. فلو أنه لم يفعل لبقي النزاع وما انحسم الشر.
سئل علي بن أبي طالب في إحراق المصاحف فقال: «لو لم يصنعه هو لصنعته.» وبالغ قوم مع ذلك في التثريب على عثمان لحرق المصاحف فوقف علي في الناس فقال: «أيها الناس، إياكم والغلو في عثمان تقولون: حرق المصاحف، والله ما حرقها إلا عن ملأ من أصحاب محمد
ناپیژندل شوی مخ