إذا كان الغرض من الاستعمار هو التمدين - كما يزعمون كذبا بلا خجل - فلا بد له من أمرين؛ الأول: أن يكون صادرا عن نية حسنة من الفريقين؛ أي تريده الأمة القوية المستعمرة والأمة الضعيفة المستعمرة. وهذه الإرادة غير موجودة لا عند هذه ولا عند تلك، ثانيا: وإذا فرضنا أن الأولى حسنة النية، ولكن الثانية ليست حسنتها، فلا بد من وجود سلطة عليا تخول الأولى حق التسلط على الأخرى لكي تمدنها، ولا نعرف سلطة عليا تمنح هذا الحق غير سلطة الله. وأما أن تتفق بعض الدول العظمى على ادعاء هذا الحق لها، وتتقاسم المستعمرات فيما بينها، فلا يبرهن على سلامة نية هذه الدول. والواقع يشهد على أنهن سيئات النية، وإذا كانت نياتهن فيما بينهن سيئة ورديئة، فكيف ينتظر أن يحسن النية نحو الأمم الضعيفة؟! وإذا كانت جمعية الأمم التي اقترحت لكي تكون كمحكمة عدل بين الأمم لم تنصف أمة، فكيف ينتظر أن تكون سلطة الدول المستعمرة عادلة؟! فهذه الحجة فاسدة أيضا. (3)
بقيت حجة الاستعمال المستندة إلى ضيق البلاد بأهلها: بهذا العذر تدعي الأمة حق استعمار بلاد واسعة قليلة السكان لكي تعيش. في هذه الحجة شيء من الحق. إذا كانت مجاهل أفريقيا لا يقطنها إلا قبائل متوحشة قليلة، وهي واسعة جدا تحتمل أضعاف أضعاف ما فيها من السكان؛ فيحق للأمم المتمدنة أن تستعمرها، ولكن على شرط أن لا يبيد هذا الاستعمار أهلها؛ فهم بشر لهم حق البقاء والحياة.
والإنسانية التي هي المثل الأعلى في الأدبية توجب على الأمم المتمدنة أن تحفظ هذا الحق للسكان الأصليين، كما فعلت الأمة الأميركية الحديثة في معاملة سكان أميركا الحمر. وأما استعمار آسيا وشواطئ أفريقيا الشمالية فلا مبرر له؛ لأن سكانها يملئونها وهم في درجة من التمدن تقدرهم على مجاراة سائر الأمم المتمدنة في المدنية، فاستعمار بلادهم إنما هو اغتصاب وانتهاب، ولا رائحة للتمدين فيه البتة.
هذا عيب ثان في الهيئة الاجتماعية، عيب استفحال الأريستوقراطية الدولية، عيب ينقض المثل الأعلى الإنساني، عيب يدل على انحطاط الروحانية الأممية، عيب يهدد الهيئة الاجتماعية كلها بالخراب إذا بقيت هذه الأريستوقراطية الأممية مستفحلة هذا الاستفحال.
هذا العيب يدل على أن الشخصيات المتمدنة - الأوروبية خاصة - لا تزال ناقصة الروحانية الإنسانية؛ لأنها لا تزال تنظر إلى الحق الطبيعي محصورا في قومياتها، كما كان الإسرائيليون لعهد موسى ينظرون إلى أن حق الحياة والبقاء لهم وحدهم، وأنهم هم شعب الله الخالص.
فالعالم الإنساني لا يضمن سلمه، ولا يستتب مجتمعه ما لم يتأيد المبدأ الإنساني الأعلى، وهو أن حق البقاء والحياة والتمتع هو حق كل أمة على الأرض. وهذا يستلزم أن يتعدل النظام الدولي على قاعدة الديموقراطية الدولية.
فإذا استتبت الديموقراطيتان الاقتصادية والدولية في العالم الإنساني قرب العالم إلى المثل الأعلى كثيرا، ولكن هل يقف العالم الإنساني عند هذا الحد في الرقي؟ ألا يمكن أن تحدث تطورات اجتماعية جديدة في العالم تنشئ أنظمة جديدة كهذه الأنظمة تقلقل المثل الأعلى كما فعلت سابقاتها؟ هذا في عالم الغيب، ولكنه محتمل، والله أعلم.
ناپیژندل شوی مخ