حينئذ تكون الهيئة الاجتماعية على أقرب مسافة إلى المثل الأعلى. (4) أهم عيوب الأنظمة الأدبية
قد يستدل القارئ من خلال نبذات هذا الفصل أن العالم الإنساني يكاد يقبض على ناصية المثل الأعلى في الفضيلة؛ لأننا وجهنا البحث في وجهة الرقي الأدبي وحده، وقلما التفتنا إلى ما يعتوره من المبادئ والأنظمة التي تثلم أدبية المجتمع وتحطها؛ ولذلك يبقى بحثنا ناقصا إذا وقفنا هنا ولم نلم بثلمات الأدبية الرئيسية. (4-1) العيب الاقتصادي
لقد علمت في طالع هذا الفصل أن من سنن التطور أن نشوء أنظمة جديدة مخالفة للمبدأ الأدبي العام تستلزم إما تنقيح المبدأ لكي يطابق النظام، أو تنقيح النظام لكي يطابق المبدأ، ومن ثم تتنقح العادة في السلوك لكي تطابقهما معا. وقد حدثت في العصر الأخير تطورات علمية وعملية أحدثت نشوء نوعين من الأنظمة رئيسيين.
أما التطور العلمي الذي حدث، فهو اكتشاف كثير من نواميس الطبيعة وأسرارها كنواميس البخار والكهرباء. وهذا الاكتشاف أوجب تطورا عمليا أيضا، وهو اختراع وسائل عديدة لاعتقال قوى الطبيعة واستخدامها في الصناعة والمواصلات. وهذه الاختراعات أوجبت التعديل في ناحيتين نلم في كل منهما على حدة: أولا: أن تقدم الصناعات وتقدم الاقتصاديات إلى جانبها كنتيجة لها أفضيا إلى الاستقطاب المالي؛ أي جعل فريق من الناس يقبضون على ناصية المال، وجعل فريق آخر يعمل تحت أمرة المتمولين وتحت رحمتهم. هذا الاستقطاب لم يكن من قبل، أو أنه كان ضعيفا، ولم يستفحل هذا الاستفحال الهائل إلا في عصر الاختراعات؛ ولذلك اختل التوازن في المجتمع، وانتفى مبدأ المساواة أو مبدأ العدالة في الحقوق والواجبات، تلاشى الرق شكلا أو صورة، ولكنه تجدد جوهرا، وأصبح الرق الاقتصادي أفظع من الرق الشخصي، فالعامل الذي يشتغل الآن وهو حر الإرادة والفعل أصبح عبدا للمتمول القابض على ناصية المشروعات العملية، أصبحت أسباب معيشته تحت رحمة المتمول، أصبح عرضة للهلاك جوعا، مع أن الرقيق الذي كان قبله كان أقل عرضة منه للفناء؛ لأن سيده كان ضامنا معيشته.
كانت الديموقراطية وجهة تطور المجتمع، فلما تلاشت الأريستوقراطية السياسية برسوخ الديموقراطية السياسية نشأت للأسباب المتقدم ذكرها أريستوقراطية أخرى، وهي أريستوقراطية المال: أصبحت السلطة الاقتصادية في يد فريق المتمولين. وهكذا تقلقل المبدأ الأدبي الأعلى، وتداعى مبدأ التساوي أو مبدأ التكافؤ في الحقوق والواجبات، أصبح لفريق حقوق عظيمة جدا وواجبات خفيفة جدا، ولفريق آخر العكس؛ أي حقوق قليلة وواجبات ثقيلة. إذن المثل الأعلى الذي يضمن بقاء المجتمع وسلامته ورقيه انتقض؛ ولذلك مني المجتمع بثورات الاشتراكيين ومشاغباتهم واعتصاباتهم إلى غير ذلك مما يهدد المجتمع بالخراب.
إذن لا بد من تعديل الأنظمة الاقتصادية تعديلا كبيرا؛ لكي يعود المثل الأعلى - التكافؤ بين الحقوق والواجبات - إلى مقامه الأول؛ ولكي يتوطد المجتمع على أساس العدل والإنصاف، يجب أن تستتب الديموقراطية الاقتصادية في المجتمع كما استتبت قبلها الديموقراطية السياسية بعض الاستتباب أو معظمه. هذا هو العيب الرئيسي الأول الذي يعاب به المجتمع الإنساني في الوقت الحاضر؛ فهو عيب في نظامه الاقتصادي بالأكثر، وهو يدل على أن الروحانية الأدبية في الأشخاص لم تزل ضعيفة. يدل على أن هذه الروحانية لم تشمل جميع الأفراد، يدل على أن فريقا كبيرا من الناس لم يزالوا منحطي الأدبية؛ ولا سيما لأن معظمهم يعلمون هذا العيب، ويفهمون أن الحق غير قائم، وأن العدالة مثلومة، ولكنهم لا يريدون أن يضعوا الحق والعدالة في نصابهما. (4-2) فظاعة الاستعمار
ذلك عيب في كل مجتمع في كل أمة تقريبا، هو عيب شعبي داخلي على كل أمة أن تصلحه على حدة. وأما العيب الثاني فهو دولي موجود في علاقات الأمم بعضها مع بعض، هو عيب الأريستوقراطية الدولية؛ وهو أن بعض الأمم تتسلط على أمم أخرى، وبواسطة هذا التسلط تبتز حقوقها، وتستثمر أتعابها. وفي كثير من الأحوال تعاملها بالاستبداد والإرهاق كأنها رقيقة لها. وحجتها في هذا التسلط: أولا؛ أن الحق للقوة، ثانيا: أن هذه الأمم الضعيفة غير متمدنة، وتلك تدعي أنها تمدنها، ثالثا : أن بلادها ضاقت بها، فهي مضطرة أن تستعمر بلادا غيرها لكي تعيش؛ ولا سيما لأن بلادا غيرها واسعة تحتمل زيادة السكان. ونحن نفند هذه الحجج تفنيدا أدبيا. (1)
أما إن الحق للقوة فيناقض المبدأ الأدبي الأعلى؛ لأن الحق حق سواء أيدته القوة أو لم تؤيده، وإلا لكان حق الحياة والبقاء منحصرا في أمة واحدة؛ أي أقوى الأمم، بل لكان هذا الحق منحصرا في شخص واحد أو جماعة واحدة صغيرة على الأكثر. إذن لماذا المعاهدات الدولية؟ وعلى أي أساس أقيمت هذه المعاهدات؟ أليست مبنية على أن الحياة حق لكل فرد ولكل أمة؟ ولماذا الرفق بالحيوان وهو أضعف من الإنسان؟ فالحق للقوة مبدأ فاسد أدبيا، ثم إنه فاسد اجتماعيا؛ لأن الهيئة الاجتماعية الكبرى لا تستتب على مبدأ «الحق للقوة»، فالحروب الدولية المتعاقبة نتيجة هذا المبدأ.
وما دام هذا المبدأ قائما؛ فالسلم مهدد دائما، ولو كان مبدأ «الحق حق» نافذا لأنه المثل الأعلى للمجتمع الإنساني العام؛ لانتفت الحروب. الحق الذي «يعلو ولا يعلى عليه» هو حق كل أمة بالبقاء والحياة على قدر جهادها في العمل على قاعدة العدل، هو العدل بين الأمم. (2)
أما أن الأمم القوية تتسلط على الأمم الضعيفة لكي تمدنها، فهو إفك وبهتان فظيعان؛ لأن الواقع مناقض لهذه الدعوى على خط مستقيم، فما من أمة استعمرت أمة أخرى إلا كبلتها بسلاسل من حديد، ومنعت تقدمها في المعارف والأعمال والمشروعات، وأوجبت عليها أن تبقى متأخرة لكي تستطيع الاستحكام منها، واستثمار أتعابها، ولا نظننا في حاجة إلى ذكر الشواهد وهي ناطقة في جميع بلاد الشرق بلا استثناء، وسلوك الدول المستعمرة سبة لها ولعنة عليها؛ لأنه محض ابتزاز واغتصاب واستعباد، ولا ندري كيف تكون الحرب الأفيونية المشهورة تمدينا.
ناپیژندل شوی مخ