وبقيت بعد هذه القصة التي أريد أن أكتبها: قصة شادية؛ كبيرة المضيفات؛ تلك التي أطلقوا سراحها لتبلغ رسالة إلى المطار ثم تعود إلى الطائرة، وأريد أن أسأل كم امرأة أو فتاة، لا في مصر والبلاد العربية وحدها، ولكن في العالم كله، تقبل، أن تنفذ بجلدها من حصار الخاطفين والاحتمال شبه الأكيد للموت والقتل، تقبل، بعد أن تصل إلى مبنى المطار في سلام أن تقرر وبمطلق إرادتها، بقرار لا رجعة فيه أن تعود إلى حيث الرعب والموت؟!
إنه موقف يفوق في رأيي بطولة الفتيات والرجال الذين يقبلون أن يلغموا أنفسهم ليفجروا معسكرات وقوات العدو؛ ذلك أن هؤلاء الفتيات والرجال مناضلون تربوا تربية ثورية نضالية بحيث يعتبر عمل كهذا من قبيل المهمات القتالية الثورية.
أما شادية، فلم تكن مقاتلة، ولم تكن ثورية، ولم تكن منضمة إلى حزب أو حركة، ولم تكن فدائية، كانت فتاة عادية جدا، تعمل مضيفة، وقد جاء علينا حين من الدهر كنا نعتبر أن الفتاة التي تقبل العمل كمضيفة، فتاة تهوى السفر والمغامرات الشخصية، وها هي واحدة ممن كنا نعتقد فيهن هذا تتبدى لها في لحظة الواجب شخصية الفتاة والمرأة المصرية التي في لحظات الخطر تصبح أكثر تماسكا حتى من الرجل، وتقبل التحدي، وتعود بقدميها إلى حيث ينتظرها الموت المحقق، وقد فعلت، بمنتهى البساطة، ودون تردد، دون ارتعاشة لجفن، أو دمعة تسيل، دون أن يتداعى إلى ذهنها موقف بناتنا في أفلامنا السينمائية ومسرحياتنا اللاتي يرتعشن من رؤية صرصار، ... و... «يفقعن» بالصوت لدى شكهن في وجود لص.
ها هي فتاة مصرية عربية حقيقية ، عروس تستعد للزفاف، ناضجة وليست مراهقة في السادسة عشرة أو العشرين؛ إذ هي في الثالثة والثلاثين، تقبل بمطلق إرادتها أن تذهب إلى الجحيم القابع على أرض المطار دون وجل أو تردد.
لماذا فعلت هذا؟!
إنه الإحساس بالواجب، وبكلمة الشرف، وبالوعد الذي قطعته وخجلها أن تنقضه، نفس هذه الأحاسيس التي هربت من بعض موظفي الأمن في لحظة الجد، فاستحالوا إلى أداة لمساعدة الخاطفين، وجر الجرحى، وإلقائهم من الطائرة، يا لعار بعض الرجال!
ويا لشجاعة بعض النساء!
فالشجاعة ليست رجلا وامرأة، الشجاعة إنسان، رجل أو امرأة، يحس بواجبه، ولا يتردد في فعله.
سأكتب قصتها وليتني أملك ساعتها شجاعتها؛ لأؤدي واجبي ككاتب تجاه فتاة ضربت مدينتها السويس فأبت أن تغادر وهي بعد لا تزال صبية وأدت واجبها تجاه الوطن إلى آخر لحظة في حياتها، وإن هي إلا مثل واحد أضربه لمن لا يزالون يعتبرون المرأة حرمة وعورة وخطيئة وعيبا، من المحتم أن تحتجز كالعار في الحرملكات والمنازل، وتقوم حولها الأسوار؛ لأنها «بطبيعتها!» ميالة للتبذل والتبرج وإشاعة الفتنة في عالم الرجال. ماذا تقولون عن هذه المرأة التي أشاعت «البطولة» في عالم رجالي معظمه تصرف برعونة وتخاذل وجبن؟!
من بين أزيز الرصاص وقنابل دخان الحرائق واستغاثات البشر واختناقات الأطفال والجثث المكومة، الجثة فوق جثة، وحياة بأكملها وأسرها فوق حياة، ومأساة فوق مأساة، تتبدى لنا القضية العربية في صورتها الحقيقية تماما، فهي لم تعد قضية نظرية ومطالبات استقلال أو وطن، وإنما نجح أعداؤنا بالخارج وأعوانهم في الداخل في أن يقلبوها سرطانا داخليا يتمدد في داخل كل مواطن عربي على حدة، يقلبوها حربا على أنفسنا من أنفسنا، وإهدارا لكل قيمة عليا في شبابنا، فلم يعد الفلسطيني فلسطينيا والعربي عربيا، ولكنه أصبح فلسطيني أبي نضال أبي عمار، وعربيا مشرقيا وعربيا مغربيا، ومصريا منبوذا ومخابرات وحرب مخابرات جبانة ورعديدة وطعنا في الظلام، وجهنم أقامها العرب من أجل العرب وبالذات من أجل المصريين، من أجل «ثورة مصر» أي ثورة لمصر تقتل المصريين والعرب وتبيد الفلسطينيين؟! أي ثورة عربية أو حركة أمل أو دروز أو شيعة تحولت إلى عصابات وقطاع الطرق، بأخس الوسائل تتقاتل وتنسف وتبيد بلا أي عقل أو صواب أو تمييز!
ناپیژندل شوی مخ