كانت تلك المأساة المروعة التي تفتت القلوب الجلامد، وتنفجر لها العيون الجوامد، فلنقف عند ذكراها والهين آسفين.
هوامش
الفصل الثاني
الجهاد بين الخلافة والملك
(1) توطئة
نحن الآن مقبلون على فترة جهاد عنيف بين الخلافة والملك، فترة لا يصح أن تعتبر الجهاد فيها جهادا بين علي ومعاوية، أو بين علي وغير معاوية من منافسيه في الخلافة أو من الخارجين عليه، وإنما يخلق بنا أن نعتبرها بمثابة جهاد عنيف بين وجهات النظر العربية في الحياة؛ فإن موت عثمان رضي الله عنه لم يمت الفتنة، بل أذكاها وزادها ضراما واشتعالا.
وإنه لمن الميسور للناقد أن يلتمس العلة في أن الأحزاب العربية حين ذاك لم تجمع على سيدنا علي؛ ذلك بأن الجماعة الراغبة في الوظائف والأموال لم تجد فيه طلبتها وسؤلها، ولم تعثر فيه على أنشودتها ورجلها، بل على النقيض قد لقيت منه حاكما صلبا لا تلين قناته، سار فيهم سيرة الحق لا تأخذه في الله لومة لائم، وكانت حركاته وسكناته رضي الله عنه جميعها لله وفي الله، لا يغمط بها حق أحد، وكان لا يأخذ ولا يعطي إلا بالحق والعدل، حتى إن أخاه عقيلا، وهو ابن أبيه وأمه، طلب من بيت المال شيئا لم يكن له بحق، فمنعه رضي الله عنه وقال: يا أخي، ليس لك في هذا المال غير ما أعطيتك، ولكن اصبر حتى يجيء مالي وأعطيك منه ما تريد، فلم يرض عقيلا هذا الجواب، وفارقه وقصد معاوية بالشام. وكان لا يعطي ولديه الحسن والحسين أكثر من حقهما، فانظر إلى رجل حمله ورعه على هذا الصنيع بولديه وبأخيه من أبويه! فلما سار فيهم هذه السيرة ثقل على بعض الناس فعله، وكرهوا مكانه.
هذه خطة هؤلاء معه، أما خطة الشيوخ؛ فمنهم من آثر العزلة وترك حبل الأمة على غاربها تتطاحن أحزابها بين طلاب الخلافة، ومنهم الخوارج الذين غضبوا على علي كما غضبوا على معاوية، وندبوا من بينهم عبد الرحمن بن ملجم ليقتل عليا، والبرك بن عامر ليخلصهم من معاوية، وعبد الله بن مالك الصيداوي ليريحهم من حليف معاوية عمرو بن العاص، هؤلاء الخوارج كانت كلمتهم: «الحكم لله لا للناس»، فنقموا من علي خضوعه للتحكيم، وما خضع إلا مكرها معنتا. (2) كلمتنا عن علي رضي الله عنه
كان علي إماما دينيا، كان موئلا للشريعة، ومثالا للورع والاستمساك بأحكام الكتاب، كان مصدرا خصيبا من مصادر الفقه والتشريع، وكان في حكومته وحروبه على السواء مؤثرا رضا الله، ومغضبا شهوات الناس، وقادعا أطماعها، وكان عنوانا كاملا لأسمى صفات الخلق الإسلامي من حيث: النجدة والشجاعة لا الحذق والسياسة؛ كان مصلحا دينيا على أتم ما يكون عليه مصلح ديني، يتفانى في هذا الإصلاح ويؤثر الآخرة على الأولى، فيعمل لإرضاء الله لا إرضاء الناس، وكان كما وصفه عدي بن حاتم لمعاوية : «يقول عدلا، ويحكم فصلا، تتفجر الحكمة من جوانبه، والعلم من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، وكان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يحاسب نفسه إذا خلا، ويقلب كفيه على ما مضى، يعجبه من اللباس القصير، ومن المعاش الخشن، وكان فينا كأحدنا ... كان يعظم أهل الدين ويتحبب إلى المساكين، لا يخاف القوي ظلمه، ولا ييأس الضعيف من عدله؛ فأقسم لقد رأيته ليلة وقد مثل في محرابه وأرخى الليل سرباله وغارت نجومه، ودموعه تتحادر على لحيته وهو يتململ تململ السليم، ويبكى بكاء الحزين، فكأني الآن أسمعه وهو يقول: يا دنيا أإلي تعرضت أم إلي أقبلت! غري غيري لا حان حينك، قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها.»
هذا هو علي حقا، علي الذي بالغ في التدقيق في محاسبة عماله حتى أغضب أكثرهم، وحتى خسر نصرتهم، وفي جملتهم مصقلة بن هبيرة الشيباني، وابن عمه عبد الله بن عباس بعد أن كان أكبر نصير له، والذي أغضب الزبير وطلحة وكان في مقدوره أن يضمهما إليه، والذي لم يكتسب إلى جانبه عمرو بن العاص، ولم يقبل نصيحة ابن العباس ولا المغيرة بن شعبة في إقرار معاوية وابن عامر وعمال عثمان على أعمالهم حتى تأتيه بيعتهم ويسكن الناس، ثم يعزل منهم من يشاء، وقال: «لا أداهن في ديني، ولا أعطي الدنية في أمري»، فقيل له: انزع من شئت واترك معاوية؛ فإن في معاوية جرأة، وهو في أهل الشام يستمع منه، وله حجة في إثباته بما كان من عمر بن الخطاب إذ قد ولاه الشام. فأبى وقال: لا والله لا أستعمل معاوية يومين، فلم تكن الحيل والخدع من مذهبه، ولم يكن عنده غير مر الحق؛ والذي يقول لأصحابه بعد أن أثخنوا في أعدائه: «لا تتبعوا موليا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تنهبوا مالا»، فجعلوا يمرون بالذهب والفضة في معسكرهم فلا يعرض له أحد، إلا ما كان من السلاح الذي قاتلوا به والدواب التي حاربوا عليها، فقال بعض أصحابه: يا أمير المؤمنين، كيف حل لنا قتالهم ولم يحل لنا سبيهم وأموالهم؟!
ناپیژندل شوی مخ