نقول: إن مثل هذا الفتى الذي يولي وجهه منذ الساعة الأولى إلى مثل هذه الشئون التي كان يجدر به ومن كان في مكانه ألا تكون صاحبة النصيب الأول من عنايته واهتمامه، خليق ألا يجد المؤرخ له عملا صالحا في شأن من شئون الدولة، وقمين على ذلك أن يكون موضع استغلال كبير للدعوة المأمونية.
وقال غير ابن الأثير: «كان الأمين فصيحا بليغا كريما»، وكيف لا يكون تلميذ الأحمر والكسائي وقطرب وحماد وغيرهم من فحول اللغة، وجهابذة البيان، وأساتذة الأدب من منثور ومنظوم فصيحا بليغا؟
على أنه من الحق والعدل أن نقرر أيضا، أن هذه الصفات تكاد تكون من سجايا كل ناجم من هذه الأسرة الباسقة الفينانة، ومن أجل هذا ذهبنا إلى ما ذهبنا إليه من أن الأمين لم يكن كما صوروه لنا من البله والسخف، ومن الخمول والبلادة، ومحال أن يكون كذلك وتصرفاته في بعض شئون الدولة على ما وصفنا، ومحال أن يكون بليدا بفطرته واستعداده، أو جاهلا غبيا؛ لأنه في الذروة من الهاشمية، وأنت تعلم مقدار اهتمام الخلفاء العباسيين والأمراء الهاشميين بالثقافة الأدبية، كما بينا لك ذلك في كلمتنا عن الحياة الأدبية والعلمية في العصر العباسي، وإنما ظروف حياة الأمين والبيئة التي أحاطت به وما إلى ذلك مما فصلناه لك، جعلت صورة الأمين كما أراناها التاريخ، ثم هي في الوقت نفسه جنحت به إلى الاستهتار، وإلى العبث والمجانة.
وقد يكون أحسن ما نختم به كلمتنا عن تحليل الأمين وسيرته، وأصدق وصف له ما ذكره الفضل بن الربيع، وزيره ووزير أبيه من قبله، والذي سنعرض لشيء من دقيق تصرفاته، وحكيم تدبيراته عندما نعرض لتفصيل النزاع بين الأمين والمأمون، فهذا الوصف ربما كان أقل تحاملا من غيره على الأمين، وربما كان خيرا من سواه في تصوير الأمين وتحليل أخلاقه ونفسيته.
ذكر الطبري أن أسد بن يزيد بن مزيد حدثه أن الفضل بن الربيع بعث إليه بعد مقتل عبد الرحمن بن جبلة الأنباري، قال: فأتيته، فلما دخلت عليه وجدته قاعدا في صحن داره، وفي يده رقعة قد قرأها واحمرت عيناه واشتد غضبه وهو يقول: ينام نوم الظربان، لا يفكر في زوال نعمة، ولا يتروي في إمضاء رأي ولا مكيدة، قد ألهاه كأسه، وشغله قدحه، فهو يجري في لهوه والأيام تسرع في هلاكه، قد شمر عبد الله له عن ساقه ، وفوق له أصيب أسهمه، يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ والموت القاصد، قد عبى له المنايا على متون الخيل، وناط له البلاء في أسنة الرماح وشفار السيوف. ثم استرجع وتمثل بشعر البعيث:
ومجدولة جدل العنان خريدة
لها شعر جعد ووجه مقسم
وثغر نقي اللون عذب مذاقه
تضيء له الظلماء ساعة يبسم
وثديان كالحقين والبطن ضامر
ناپیژندل شوی مخ