180

ومن العدل أن نقرر أيضا أنه كان إلى آخر لحظة من حياته محاولا الانتصار، باذلا مقدوره في الحرب، ولكن عبثه ولهوه كانا يقعدان به.

وكان طيب القلب يعفو حتى عن الخارجين عليه والمسيئين إليه، وإن موقفه مع حسين بن علي بن ماهان لمعروف مشهور، وكذلك موقفه مع أسد بن يزيد أحد قادته حينما طلب إليه أن يدفع له ولدي عبد الله المأمون ليكونا أسيرين في يديه، فإن أعطاه المأمون الطاعة فبها، وإلا عمل فيهما بحكمه، وأنفذ فيهما أمره، فقال له الأمين: «أنت أعرابي مجنون، أدعوك إلى ولاء أعنة العرب والعجم، وأطعمك خراج كور الجبال إلى خراسان، وأرفع منزلتك عن نظرائك من أبناء القواد والملوك، وتدعوني إلى قتل ولدي، وسفك دماء أهل بيتي! إن هذا للخرق والتخليط!»

هذا الموقف النبيل دليل على سلامة طويته وطهر سجيته، ولكن حظه الحالك ونجمه الآفل، ورياء مشيريه، وضعف إرادته، وخور عزيمته، ولهوه وعبثه، ونصيب المغلوب من الدعوة عليه، والحملة الموجهة إليه قد ضربت بجرانها على سيرته؛ فإذا بها شوهاء مزرية، وإذا بها مقبحة منفرة، حتى قيل فيه ما قيل مما يجدر بنا ألا نخلي كتابنا من إثبات بعضه.

جاء في الجزء السادس من كتاب بغداد لأحمد بن أبي طاهر طيفور: «قال المأمون لطاهر بن الحسين: يا أبا الطيب، صف لي أخلاق المخلوع، قال: كان، يا أمير المؤمنين، واسع الطرب، ضيق الأدب، يبيح نفسه ما تعافه همم ذوي الأقدار، قال: فكيف كانت حروبه؟ قال: كان يجمع الكتائب ويفضها بسوء التدبير، قال: فكيف كنتم له؟ قال: كنا أسدا تبيت وفي أشداقها أعناق الناكثين، وتصبح في صدورها قلوب المارقين، قال: أما إنه أول من يؤخذ بدمه يوم القيامة ثلاثة - لست أنا ولا أنت رابعهم ولا خامسهم - وهم: الفضل بن الربيع، وبكر بن المعتمر، والسندي بن شاهك، هم والله ثار أخي وعندهم دمه ...»

وقال المسعودي في التنبيه والإشراف: «إن الأمين كات باسطا يده بالعطاء، قبيح السيرة، ضعيف الرأي، سفاكا للدماء، يركب هواه، ويهمل أمره، ويتكل في جليلات الخطوب على غيره، ويثق بمن لا ينصحه، واستوزر الفضل بن الربيع إلى أن استتر الفضل لما تبين من اختلال أمر محمد، ووهي أمره، فقام بوزارته من حضر من كتابه كإسماعيل بن صبيح، وغلب عليه عدة من الأولياء؛ منهم: علي بن عيسى، والسندي بن شاهك، وسليمان بي أبي جعفر المنصور»، وقال غيره: «إنه كان كثير اللهو واللعب، منقطعا إلى ذلك مشتغلا به عن تدبير مملكته.»

ويقول ابن الأثير: «لم نجد للأمين شيئا من سيرته نستحسنه فنذكره»، وهذا حق في جملته عن الأمين كمدبر مملكة وخليفة، فإن فتى غرا لم يثقف الثقافة السياسية اللازمة، ثم يصبح ذا سلطان مطلق في ملك كبير يشبع ذوي المطامع النهمة، ثم تحوطه حاشية من الدهاة ذوي المطامع الواسعة، والأغراض الكبيرة كالفضل بن الربيع الذي أفسد ما بينه وبين أخيه، وبكر بن المعتمر الذي زين له خلعه، ثم هو فوق ذلك ينصرف إلى حد كبير عن معالجة تدبير الملك إلى اللهو، وإلى اللهو بكل ألوانه وضروبه، فقد ذكر الطبري في حوادث سنة ثلاث وتسعين ومائة عن علي بن إسحاق أحد معاصريه، أنه لما أفضت الخلافة إلى محمد، وهدأ الناس ببغداد، أصبح صبيحة السبت، بعد بيعته بيوم، فأمر ببناء ميدان حول قصر أبي جعفر في المدينة للصوالجة واللعب، فقال في ذلك شاعر من أهل بغداد:

بنى أمين الله ميدانا

وصير الساحة بستانا

وكانت الغزلان فيه بانا

يهدى إليه فيه غزلانا

ناپیژندل شوی مخ