169

ببيعة لولي العهد أحكمها

بالنصح منه وبالإشفاق والحدب

قد وكد الفضل عقدا لا انتقاض له

لمصطفى من بني العباس منتخب

فلما تناهى أمر البيعة إلى الرشيد ووجد نفسه أمام «الأمر الواقع»؛ إذ قد بايع لمحمد أهل المشرق، بايع له بولاية العهد، وكتب إلى الآفاق فبويع له في جميع الأمصار.

ومن هذا تعلم ما يصح أن يعتبر سرا في أن الأمين كان ولي عهد الرشيد دون أن يكون أكبر ولده سنا. (3) نشأته وأخلاقه

تقرأ ما سطره أمثال «كارليل» عن «كرومول» و«فردريك الأكبر»، وما كتبه «ترڤيان» عن «ماكولي» و«بزول» عن «جونسون» و«اللورد مورلي» عن «جلادستون»، وغيرهم من الكتاب الذين يعرضون لكتابة تاريخ حياة الملوك أو الساسة أو العبقريين، فتلاحظ في جل كتبهم، وفي الدقيق المستوفى منها على الأخص، أنهم يحفلون أيما احتفال، بقيد ملاحظاتهم عن تاريخ بطلهم في طفولته، وكيف كانت ثقافته في ميعة شبابه وطراوة إهابه، وما هي الأوابد والغرائب أيام كان حدثا صغيرا.

وقد لا تدهشك متانة «ماكولي» وقوة سبكه وارتفاعه إلى ذروة البلاغة في أساليبه، ولا يهولك كثرة ما حفظ ووفرة ما اطلع، إذا علمت، مثلا، أنه وهو لم يعد السادسة أو السابعة كانت محفوظاته في طفولته تبشر بعبقريته في رجوليته، وكذلك يقال عن «شارلس دكنز» وسيع الاطلاع في صباه على جل ما سطر وكتب، حتى صار في مقتبل حياته وقد ملك ناصية البلاغة، وتسنم الذروة في تعرف النفسيات وتحليل روح الطبقات كافة من بائسين معوزين إلى أشراف مترفين، وكذلك يقال عن «سپنسر» الفيلسوف العظيم والمربي النابه الذي كان يحفل في مبدأ نشأته، وهو لم يعد العاشرة مثلا، بالدويبات وغريب الهوام التي كانت على شاطئ النهر، فعكف على دراستها، فتولدت في نفسه صفات الجلد والأناة والمواظبة حتى أصبحنا نراه وهو في شيخوخته يخرج للناس المعجز المطرب في علم النفس وعلم الحياة وعلم الأخلاق وعلم التربية، وهكذا مما لا حد له ولا حصر.

كذلك يقال عن «جونسون» في صباه، وكيف كان يغالب المرض والمرض يغالبه، وكيف كانت أحاديثه في مطامعه، وكيف كان سحر بيانه وتدفقه في مجالسه، وكيف كان أبيا عيوفا مترفعا أنوفا، فرفض في شمم وإباء حذاء جديدا اشتراه له من لاحظ تخرق حذائه وقصر يده عن جديد ... إلى آخر ما يقيده كتاب العصر عن نشأة أبطالهم، مما نمسك القلم عن الاسترسال في إثبات شبيهه ومثيله، مما يفيد في تعرف أحوالهم، ويساعد على تفهم حقيقة أمورهم؛ لأن القارئ إذا زامل الزعيم في طفولته وصباه، ووقف على عبثه وجده، وجلده أو تبرمه، وتعلمه أو تعرمه، ونشاطه أو خموله، ورزانته أو تبذله، ووقف كذلك على نقائصه وفضائله، وهو حدث بعد، يستطيع أن يفهم فهما صحيحا حكمة تصرفاته في مقتبل حياته، كما يفهم الصديق صديقه والخدن خدنه.

ولنتساءل الآن: هل سجل لنا التاريخ شيئا قيما عن نشأة الأمين وطفولته؟

ناپیژندل شوی مخ