أما أحمد بن يوسف كاتب عصرنا المأموني النابه، فإنه يحدثنا عن ثمامة بن أشرس بحديث سننقله لك. وقبل إيراد هذا الحديث نود أن نذكرك بأن محمد بن الليث الذي سيرد فيه هو محمد بن الليث الذي اختاره المهدي كاتبا للسر في مجلس مشاورته لتدبير رأي في حرب خراسان، وأمره بحفظ مراجعة أعضاء المجالس، وإثبات مقالتهم في كتاب.
وربما كان من المفيد أن نزيد القارئ بمحمد بن الليث معرفة، لا لأنه من رجالات عصرنا ومن ذوي الأثر الأدبي القيم فيه، ولا لأنه صاحب تلك الرسالة الشائقة التي بعث بها من الرشيد إلى ملك الروم التي أثبتناها في المجلد الثاني من هذا الكتاب، بل لأنا نرى في توضيح قدره توضيحا لقدر البرامكة، ولأنك حينما ترى الرشيد يقبض على محمد بن الليث؛ بسبب البرامكة وكرامتهم ومنزلتهم من نفسه؛ لنصحه له بأن يضع حدا لاستفحال شأن البرامكة، وللرجل قدره ومنزلته، تستطيع أن تتصور تصورا صميما مكانة البرامكة من الرشيد ومن الدولة ومن العصر الذي هم فيه، ولأنك حينما تعلم أن الرشيد أطلق محمد بن الليث من حبسه واعتذر له قبيل نكبة البرامكة؛ تستطيع أن تعلم إذن مقدار التحول الذي نال نفسية الرشيد.
سنرى في مشاورة المهدي التي ذكرها ابن عبد ربه في العقد، والتي أثبتناها لك في المجلد الثاني، أن محمد بن الليث يتكلم في المجلس - وكان الرشيد بلا شك ولي العهد - كلاما يرضي الرشيد. إذن فمحمد بن الليث كان إلى جانب وظيفته كناموس لمجلس المشاورة صاحب رأي في مجلس الاستشارة نفسه يعتد به، فهو ذو شخصية عظيمة من ذوي شخصيات الدولة الذين لكلامهم خطره، ولقولهم أثره.
2
قال: أول ما أنكر يحيى بن خالد من أمره، أن محمد بن الليث رفع رسالة إلى الرشيد يعظه فيها، ويذكر أن يحيى بن خالد لا يغني عنك من الله شيئا، وقد جعلته فيما بينك وبين الله، فكيف أنت إذا وقفت بين يديه فسألك عما عملت في عباده وبلاده، فقلت: يا رب، إني استكفيت يحيى أمور عبادك، أتراك تحتج بحجة يرضى بها؟ مع كلام فيه توبيخ وتقريع، فدعا الرشيد يحيى وقد تقدم إليه خبر الرسالة، فقال: تعرف محمد بن الليث؟ قال: نعم، قال: فأي الرجال هو؟ قال: متهم على الإسلام - لاحظ كيف يتهمون في الدين - فأمر به الرشيد فوضع في المطبق دهرا.
فلما تنكر الرشيد للبرامكة ذكره، فأمر بإخراجه فأحضر، فقال له بعد مخاطبة طويلة: يا محمد، أتحبني؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، قال: تقول هذا؟! قال: نعم، وضعت في رجلي الأكبال وحلت بيني وبين العيال بلا ذنب أتيت ولا حدث أحدثت، سوى قول حاسد يكيد للإسلام وأهله، ويحب الإلحاد وأهله، فكيف أحبك؟! قال: صدقت. وأمر بإطلاقه ثم قال: يا محمد، أتحبني؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكن قد ذهب ما في قلبي. فأمر أن يعطى مائة ألف درهم، فأحضرت، فقال: يا محمد، أتحبني؟ قال: أما الآن فنعم! قد أنعمت علي وأحسنت إلي، قال: انتقم الله ممن ظلمك، وأخذ لك بحقك ممن بعثني عليك، قال ثمامة: فقال الناس في البرامكة فأكثروا، وكان ذلك أول ما ظهر من تغير حالهم.
فماذا حدث بعد ذلك؟
حدث - كما يخبرنا أحد المعاصرين، وهو محمد بن الفضل بن سفيان مولى سليمان بن أبي جعفر - أن يحيى بن خالد دخل دار الرشيد في الآونة التي نحن في صددها، فقام الغلمان إليه احتراما وإجلالا، فما كان من الرشيد إلا أن قال لمسرور الخادم: مر الغلمان ألا يقوموا ليحيى إذا دخل الدار، قال: فدخل فلم يقم له أحد، فاربد لونه، قال: وكان الغلمان والحجاب بعد إذا رأوه أعرضوا عنه، قال: فكان ربما استسقى الشربة من الماء أو غيره فلا يسقونه، وبالحري إن سقوه أن يكون ذلك بعد أن يدعو بها مرارا.
ولننظر في سبب آخر يرويه لنا أحد المطلعين على أخبار ذلك العصر، وهو أبو محمد اليزيدي، قال: من قال: إن الرشيد قتل جعفر بن يحيى بغير سبب يحيى بن عبد الله بن حسن فلا تصدقه، وذلك أن الرشيد دفع يحيى إلى جعفر فحبسه، ثم دعا به ليلة من الليالي فسأله عن شيء من أمره فأجابه، إلى أن قال: اتق الله في أمري ولا تتعرض أن يكون خصمك غدا محمدا
صلى الله عليه وسلم ، فوالله ما أحدثت حدثا ولا آويت محدثا! فرق عليه وقال له: اذهب حيث شئت من بلاد الله، قال: وكيف أذهب ولا آمن أن أوخذ بعد قليل فأرد إليك أو إلى غيرك؟ فوجه معه من أداه إلى مأمنه، وبلغ الخبر الفضل بن الربيع من عين كانت له عليه من خاص خدمه، فبلا الأمر فوجده حقا وانكشف عنده، فدخل على الرشيد فأخبره؛ فأراه أنه لا يعبأ بخبره وقال: وما أنت وهذا، لا أم لك، فلعل ذلك عن أمري! فانكسر الفضل، وجاءه جعفر فدعا بالغداء فأكلا، وجعل يلقمه ويحادثه إلى أن كان آخر ما دار بينهما أن قال: ما فعل يحيى بن عبد الله؟ قال: بحاله يا أمير المؤمنين في الحبس الضيق والأكبال، قال: بحياتي؟ فأحجم جعفر - وكان من أدق الخلق ذهنا وأصحهم فكرا - فهجس في نفسه أنه قد علم بشيء من أمره، فقال: لا وحياتك يا سيدي، ولكن أطلقته وعلمت أنه لا حياة به ولا مكروه عنده، قال: نعم ما فعلت، ما عدوت ما كان في نفسي. فلما خرج أتبعه بصره حتى كاد يتوارى عن وجهه ثم قال: قتلني الله بسيف الهدى على عمل الضلالة إن لم أقتلك. فكان من أمره ما كان.
ناپیژندل شوی مخ