ونادى مناد للخليفة في يحيى
بكيت على الدنيا وزاد تأسفي
عليهم وقلت الآن لا تنفع الدنيا
مع أبيات أطالها، فلما فرغ قبضنا عليه وقلنا له: أجب أمير المؤمنين، ففزع فزعا شديدا وقال: دعوني حتى أوصي بوصية؛ فإني لا أوقن بعدها بحياة. ثم تقدم إلى بعض الدكاكين واستفتح وأخذ ورقة وكتب فيها وصية وسلمها إلى غلامه، ثم سرنا فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين قال: من أنت؟ وبما استوجبت منك البرامكة ما تفعله في خرائب دورهم؟ قال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن للبرامكة أيادي خضرة عندي، أفتأذن لي أن أحدثك بحالي معهم؟ قال: قل، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا المنذر بن المغيرة من أولاد الملوك، وقد زالت عني نعمتي، كما تزول عن الرجال، فلما ركبني الدين واحتجت إلى بيع ما على رأسي ورءوس أهلي، وبيتي الذي ولدت فيه؛ أشاروا علي بالخروج إلى البرامكة، فخرجت من دمشق ومعي ثلاثون رجلا ونيف من أهلي وولدي، وليس معنا ما يباع ولا ما يوهب، حتى دخلنا بغداد ونزلنا في بعض المساجد، فدعوت ببعض ثياب كنت أعددتها لأستتر بها، فلبستها وخرجت وتركتهم جياعا لا شيء عندهم، ودخلت شوارع بغداد سائلا عن البرامكة، فإذا أنا بمسجد مزخرف وفي جانبه شيخ بأحسن زي وزينة، وعلى الباب خادمان، وفي الجامع جماعة جلوس، فطمعت في القوم ودخلت المسجد وجلست بين أيديهم وأنا أقدم رجلا وأؤخر أخرى، والعرق يسيل مني؛ لأنها لم تكن صناعتي، وإذا الخادم قد أقبل ودعا القوم فقاموا وأنا معهم، فدخلوا دار يحيى بن خالد فدخلت معهم، وإذا يحيى جالس على دكة له وسط بستان، فسلمنا وهو يعدنا مائة وواحدا، وبين يديه عشرة من ولده، وإذا بمائة واثني عشر خادما قد أقبلوا ومع كل خادم صينية من فضة على كل صينية ألف دينار، فوضعوا بين يدي كل رجل صينيته، فرأيت القاضي والمشايخ يضعون الدنانير في أكمامهم، ويجعلون الصواني تحت آباطهم، ويقوم الأول فالأول، حتى بقيت وحدي لا أجسر على أخذ الصينية، فغمزني الخادم فجسرت وأخذتها، وجعلت الذهب في كمي والصينية في يدي، وقمت وجعلت أتلفت ورائي مخافة أن أمنع من الذهاب، فوصلت وأنا كذلك إلى صحن الدار ويحيى يلاحظني، فقال للخادم: ائتني بهذا الرجل. فأتاه بي، فقال: مالي أراك تتلفت يمينا وشمالا؟ فقصصت عليه قصتي، فقال للخادم: ائتني بولدي موسى. فأتاه به، فقال: يا بني، هذا رجل غريب؛ فخذه إليك، واحفظه بنفسك ونعمتك. فقبض موسى ولده على يدي وأدخلني إلى دار من دوره، فأكرمني غاية الإكرام، وأقمت عنده يومي وليلتي في ألذ عيش وأتم سرور، فلما أصبح دعا بأخيه العباس وقال له: الوزير أمرني بالعطف على هذا الفتى، وقد علمت اشتغالي في بيت أمير المؤمنين، فاقبضه إليك وأكرمه، ففعل ذلك وأكرمني غاية الإكرام، ثم لما كان من الغد تسلمني أخوه أحمد، ثم لم أزل في أيدي القوم يتبادلونني مدة عشرة أيام لا أعرف خبر عيالي وصبياني؛ أفي الأموات هم أم في الأحياء؟ فلما كان اليوم الحادي عشر جاءني خادم ومعه جماعة من الخدم فقالوا: قم فاخرج إلى عيالك بسلام، فقلت: وا ويلاه! سلبت الدنانير والصينية وأخرج على هذه الحالة!
إنا لله وإنا إليه راجعون
فرفع الستر الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع، فلما رفع الخادم الستر الأخير قال لي: مهما كان لك من الحوائج فارفعها إلي، فإني مأمور بقضاء جميع ما تأمرني به، فلما رفع الستر الأخير رأيت حجرة كالشمس حسنا ونورا، واستقبلني منها رائحة الند والعود ونفحات المسك، وإذا بصبياني وعيالي يتقلبون في الحرير والديباج، وحمل إلي مائة ألف درهم وعشرة آلاف دينار، ومنشور بضيعتين وتلك الصينية التي كانت أخذتها بما فيها من الدنانير والبنادق. وأقمت، يا أمير المؤمنين، مع البرامكة في دورهم ثلاث عشرة سنة لا يعلم الناس أمن البرامكة أنا أم رجل غريب، فلما جاءتهم البلية، ونزل بهم، يا أمير المؤمنين، من الرشيد ما نزل، أجحفني عمرو بن مسعدة وألزمني في هاتين الضيعتين من الخراج ما لا يفي دخلهما به، فلما تحامل علي الدهر كنت في آخر الليل أقصد خرابات دورهم، فأندبهم وأذكر حسن صنيعهم إلي، وأبكي على إحسانهم، فقال المأمون: علي بعمرو بن مسعدة. فلما أتي به قال له: تعرف هذا الرجل؟ قال: يا أمير المؤمنين، هو بعض صنائع البرامكة، قال: كم ألزمته في ضيعته؟ قال: كذا وكذا، فقال له: رد إليه كل ما أخذت منه في مدته، وأفرغهما له ليكونا له ولعقبه من بعده، قال: فعلا نحيب الرجل، فلما رأى المأمون كثرة بكائه قال له: يا هذا، قد أحسنا إليك، فما يبكيك؟ قال: يا أمير المؤمنين، وهذا أيضا من صنيع البرامكة! لو لم آت خراباتهم فأبكيهم وأندبهم حتى اتصل خبري إلى أمير المؤمنين ففعل بي ما فعل، من أين كنت أصل إلى أمير المؤمنين؟ قال إبراهيم بن ميمون: فرأيت المأمون وقد دمعت عيناه وظهر عليه حزنه، وقال: «لعمري هذا من صنائع البرامكة! فعليهم فابك، وإياهم فاشكر، ولهم فأوف، ولإحسانهم فاذكر.»
مما يدل على تقدير المأمون للبرامكة ما رواه القاضي يحيى بن أكثم قال: سمعت المأمون يقول: لم يكن كيحيى بن خالد وولده أحد في الكفاية والبلاغة والجود والشجاعة، قال القاضي: فقلت: يا أمير المؤمنين، أما الكفاية والبلاغة والسماحة فنعرفها فيهم، ففيمن الشجاعة؟ فقال: في موسى بن يحيى، وقد رأيت أن أوليه ثغر السند. •••
مكانة عالية بلا ريب مكانة آل برمك، وسلطان لا حد له سلطانهم، وغنى فاحش قبل الإسلام، وصولة ونفوذ قول في دولة الرشيد، فما الذي يا ترى غير قلب الرشيد عليهم حتى نكبهم؟
لنذكر ما يقوله المعاصرون ونعقب عليه بكلمة هادئة حكيمة لابن خلدون:
أما بختيشوع الطبيب المأموني فإنه يقول نقلا عن أبيه جبريل: إنه لقاعد في مجلس الرشيد إذ طلع يحيى بن خالد - وكان فيما مضى يدخل بلا إذن - فلما دخل وصار بالقرب من الرشيد وسلم، رد عليه ردا ضعيفا، فعلم يحيى أن أمرهم قد تغير، قال: ثم أقبل علي الرشيد فقال: يا جبريل، يدخل عليك وأنت في منزلك أحد بلا إذنك؟ فقلت: لا، ولا يطمع في ذلك، قال : فما بالنا يدخل علينا بلا إذن؟! فقام يحيى فقال: يا أمير المؤمنين، قدمني الله قبلك، والله ما ابتدأت ذلك الساعة، وما هو إلا شيء كان خصني به أمير المؤمنين، ورفع به ذكري، حتى إن كنت لأدخل وهو في فراشه مجردا حينا، وحينا في بعض إزاره، وما علمت أن أمير المؤمنين كره ما كان يحب، وإذ قد علمت فإني أكون عنده في الطبقة الثانية من أهل الإذن أو الثالثة، إن أمرني سيدي بذلك، قال: فاستحيا الرشيد، وكان من أرق الخلفاء وجها، وعيناه في الأرض ما يرفع إليه طرفه، ثم قال: ما أردت ما تكره ولكن الناس يقولون، قال جبريل: فظننت أنه لم يسنح له جواب يرتضيه، فأجاب بهذا القول، ثم أمسك عنه وخرج يحيى.
ناپیژندل شوی مخ