ومع أن هذا النوع من البيعة بولاية العهد الثنائية أو الثلاثية سنة أموية آتت ثمرها الخبيث، وجرت على الأمويين أنواع الوبال فمزقتهم وأضاعت ملكهم، كما قدمنا، وكان المعقول أن يستفيد العباسيون من هذا الدرس، ويعرضوا عن سنة منكرة في نفسها، وقد سنها أعداؤهم السياسيون، مع هذا كله تورط الرشيد فيما تورط فيه عبد الملك وخلفاء عبد الملك، وتعرضت الدولة العباسية لما تعرضت له الدولة الأموية، بل كان خطر هذه السنة على العرب أيام بني العباس أشد منه أيام بني أمية؛ ذلك أن سقوط الدولة الأموية قد نقل السلطان من أسرة إلى أسرة واحتفظ به لقريش.
فأما أثر هذه السنة أيام بني العباس، فهو نقل السلطان الفعلي من العرب إلى الفرس ثم إلى الترك، وجعل الخلافة نوعا من العبث والسخرية في أيدي المتغلبين من القواد والخدم والرقيق.
ومهما نلتمس الأسباب لتورط الرشيد في هذه السنة التي كان يجب أن يتجنبها، فلن نستطيع أن نهمل سببين أساسيين؛ أحدهما: تأثر القصر العباسي بسنن الملك الفارسي القديم وسياسته. والآخر: تأثر الخلفاء بما كان للنساء، حرائرهن وإمائهن، من سلطان ونفوذ.
فلولا هذان السببان لما تورط الرشيد في هذه السنة التي تورط فيها أبوه المهدي، وذاق هو غير قليل من ثمرها.
ستقول: ولكن الرشيد احتاط فأخذ على أبنائه العهود والمواثيق أن يفي بعضهم لبعض، ويبر بعضهم ببعض. ولكن ما قيمة هذا الاحتياط أمام سطوة الملك وسلطانه ومطامع الإنسان التي لا حد لها؟ وما قيمة هذه العهود والمواثيق وقد أثبت التاريخ في جل مراحله أنها لا تعتبر عهودا ومواثيق إلا عند الضعفاء من الأمم والأفراد، أما الأقوياء وذوو السلطان والبطش فهي عندهم ليست بعهود ولا مواثيق، إنما هي «قصاصات ورق» لا أكثر ولا أقل، وقد يفتي بأنها «قصاصات ورق» أولئك الذين وكدوها وشهدوا على صحتها، وتضامنوا في البر بها، والوفاء لأصحابها؟
وقد كان الخلفاء قبل الرشيد يحتاطون لكل بيعة فيها أخذ للعهود والمواثيق، ومع ذلك لم ينفع هذا الاحتياط أيام بني أمية ولا أيام بني العباس.
وإليك الآن أحاديث المؤرخين من العرب وغير العرب في هذا الموضوع:
لما لاحظ الفضل بن يحيى سنة خمس وسبعين ومائة أن جماعة من بني العباس قد مدوا أعناقهم إلى الخلافة بعد الرشيد؛ لأنه لم يكن له ولي عهد، أجمع على البيعة لمحمد، ولما صار الفضل بن يحيى إلى خراسان فرق في أهلها أموالا، وأعطى الجند أعطيات متتابعات، ثم أظهر البيعة لمحمد بن الرشيد، فبايع الناس له، وسماه الأمين، وفي ذلك يقول النمري:
أمسى بمرو على التوفيق قد صفقت
على يد الفضل أيدي العجم والعرب
ناپیژندل شوی مخ