وقد بينا لك أن الأمان الذي كتبه الرشيد ليحيى بن عبد الله قد أشهد عليه الفقهاء والقضاة وزعماء الشعب. وقد يكون من المفيد في تصوير ناحية من نواحي العصر أن نذكر لك هنا نصيب هذا الأمان وحظه من بعض الفقهاء في الفتيا بنقضه، وآخرين بالوفاء له، ولندع لأبي خطاب - أحد المعاصرين - الكلمة، قال: إن جعفر بن خالد حدثه ليلة وهو في سمره قال: دعا الرشيد اليوم يحيى بن عبد الله بن حسن وقد حضره أبو البختري القاضي ومحمد بن الحسن الفقيه صاحب أبي يوسف، وأحضر الأمان الذي كان أعطاه يحيى، فقال لمحمد بن الحسن: ما تقول في هذا الأمان، أصحيح هو؟ قال: هو صحيح، فحاجه في ذلك الرشيد، فقال له محمد بن الحسن: ما تصنع بالأمان لو كان محاربا ثم ولى؛ كان آمنا؟ فاحتملها الرشيد على محمد بن الحسن، ثم سأل أبا البختري أن ينظر في الأمان، فقال أبو البختري: هذا الأمان منتقض من وجه كذا وكذا، فقال الرشيد: أنت قاضي القضاة وأنت أعلم بذلك! ومزق الأمان وتفل فيه أبو البختري.
ولك أن تعلق ما شئت على تصرف أبي البختري «الفقيه الديني» الذي أصبح بفتياه تلك قاضي القضاة، ولك أن تستنبط ما أحببت في موقفه ومرونته حين مزق الأمان، ولم تزد قيمته في نظره على «قصاصات الورق» حتى تفل فيه، ولك أن تقول ما أردت في موقف زميله محمد بن الحسن الفقيه صاحب أبي يوسف، وعدم ترخصه أو جموده. أما نحن فإنا لا نعدو خطتنا التي رسمناها لأنفسنا في مثل هذه المواقف من التزام الحيدة التامة، وعدم الزج بأنفسنا في المزالق الخطرة، والاكتفاء من ناحيتنا بتقييد الحوادث لا أكثر ولا أقل.
ولقد سعى بالنميمة بين الرشيد ويحيى بن عبد الله الساعون، وكلما رق الرشيد له أثاروا في نفسه السخيمة عليه، فقد ذكروا أن يحيى بن عبد الله قال للرشيد: يا أمير المؤمنين، إن لنا قرابة ورحما، ولسنا بترك ولا ديلم، يا أمير المؤمنين، إنا وأنتم أهل بيت واحد، فأذكرك الله قرابتنا من رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، علام تحبسني وتعذبني؟ قال: فرق له هارون، ولكن الزبيري - وكان حاكما للمدينة أيام الرشيد، وهو يعد من الأحزاب المعادية للعلويين، واشتهر بشدة البغض لهم، وكان حاضرا مجلسهما - أقبل على الرشيد فقال: يا أمير المؤمنين، لا يغرك كلام هذا، فإنه شاق عاص، وإنما هذا منه مكر وخبث، إن هذا أفسد علينا مدينتنا، وأظهر فيها العصيان، قال: فأقبل يحيى عليه، فوالله ما استأذن أمير المؤمنين في الكلام حتى قال: أفسد عليكم مدينتكم! ومن أنتم، عافاكم الله؟ قال الزبيري: هذا كلامه قدامك، فكيف إذا غاب عنك؟! يقول: «ومن أنتم؟» استخفافا بنا، قال: فأقبل عليه يحيى فقال: نعم، ومن أنتم، عافاكم الله؟ المدينة كانت مهاجر عبد الله بن الزبير أم مهاجر رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟! ومن أنت حتى تقول: أفسد علينا مدينتنا! وإنما بآبائي وآباء هذا هاجر أبوك إلى المدينة؟ ثم قال: يا أمير المؤمنين، إنما الناس نحن وأنتم، فإن خرجنا عليكم قلنا: أكلتم وأجعتمونا، ولبستم وأعريتمونا، وركبتم وأرجلتمونا، فوجدنا بذلك مقالا فيكم، ووجدتم بخروجنا عليكم مقالا فينا، فتكافأ فيه القول، ويعود أمير المؤمنين على أهله بالفضل. يا أمير المؤمنين، فلم يجترئ هذا وضرباؤه على أهل بيتك يسعى بهم عندك؟ إنه والله ما يسعى بنا إليك نصيحة منه لك، وإنما يأتينا فيسعى بك عندنا عن غير نصيحة منه لنا، إنما يريد أن يباعد بيننا، ويشتفي من بعض ببعض، والله يا أمير المؤمنين، لقد جاء إلي هذا حين قتل أخي محمد بن عبد الله فقال: لعن الله قاتله، وأنشدني فيه مرثية قالها نحوا من عشرين بيتا، وقال: إن تحركت في هذا الأمر فأنا أول من يبايعك، وما يمنعك أن تلحق بالبصرة فأيدينا مع يدك، فتغير وجه الزبيري واسود، فأقبل عليه هارون فقال: أي شيء يقول هذا؟ قال: كاذب يا أمير المؤمنين، ما كان مما قال حرف، قال: فأقبل الرشيد على يحيى بن عبد الله وقال: تروي القصيدة التي رثاه بها؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين، أصلحك الله. وأنشدها إياه، فقال الزبيري: والله، يا أمير المؤمنين، الذي لا إله إلا هو - حتى أتى على آخر اليمين الغموس - ما كان مما قال شيء، ولقد يقول علي ما لم أقل، قال: فأقبل الرشيد على يحيى بن عبد الله فقال: قد حلف، فهل من بينة سمعوا هذه المرثية منه؟ قال: لا، يا أمير المؤمنين، ولكن أستحلفه بما أريد، قال: فاستحلفه، قال: فأقبل على الزبيري فقال: قل: أنا بريء من حول الله وقوته موكل إلى حولي وقوتي إن كنت قلته، فقال الزبيري: يا أمير المؤمنين، أي شيء هذا من الحلف؟! أحلف له بالله الذي لا إله إلا هو ويستحلفني بشيء لا أدري ما هو! قال يحيى بن عبد الله: يا أمير المؤمنين، إن كان صادقا فما عليه أن يحلف بما أستحلفه به، فقال له هارون: احلف له، ويلك! قال: فقال: أنا بريء من حول الله وقوته موكل إلى حولي وقوتي - ويقول الطبري: إنه اضطرب منها وأرعد - فقال: يا أمير المؤمنين، ما أدري أي شيء هذه اليمين التي يستحلفني بها وقد حلفت له بالله العظيم أعظم الأشياء! قال: فقال هارون له: لتحلفن له أو لأصدقن عليك ولأعاقبنك، فقال: أنا بريء من حول الله وقوته موكل إلى حولي وقوتي إن كنت قلته، قال: فخرج من عند هارون فضربه الله بالفالج فمات من ساعته.
وقد روى المؤرخون العرب في صدد موت ذلك الزبيري روايات ، لا نرى بأسا بإيرادها، فقد ذكر الفخري أنه ما انقضى النهار حتى مات، فحملوه إلى القبر وحطوه فيه، وأرادوا أن يطموا القبر بالتراب، فكانوا كلما جعلوا التراب فيه ذهب التراب ولا ينطم القبر، فعلموا أنها آية سماوية، فسقفوا القبر وراحوا. وإلى ذلك أشار أبو فراس بن حمدان في ميميته إذ يقول:
يا جاهدا في مساويهم يكتمها
غدر الرشيد بيحيى كيف ينكتم
ذاق الزبيري غب الحنث وانكشفت
عن ابن فاطمة الأقوال والتهم
ناپیژندل شوی مخ