وليس منا من لم يعرف أن دقات القلب تسرع وقت الغضب أو الإزعاج، أو أن العرق يتصبب وقت الخجل أو الخوف ، والخطيب يحس جفافا في حلقه فيطلب الماء، ووقت الاضطراب يسرع تنفسنا وتصفر وجوهنا، وأحيانا يغمى علينا من الخوف، بل أحيانا نتجمد كما يحدث في الكابوس.
كل هذه الأعراض مألوفة واضحة، ولكن هناك أعراضا أخرى لتأثير العقل في الجسم تخفى علينا، مثال ذلك: شاب يعمل كاتبا في إحدى المصالح، وهو لا يكاد يقعد على كرسيه كي يشرع في العمل حتى يحس كأنه في إعياء قد فقد كل نشاطه ويود لو يضع رأسه على منضدته وينام، وقد يفعل ذلك، وليس جسمه متعبا، وإنما كل ما فيه أنه يكره عمله ويحب لو يستبدل به عملا آخر يهواه؛ ولذلك فإن إعياءه هو من إملاء عقله (= نفسه) وهو ليس إعياء، وإنما هو سخط وكراهة.
والهموم إذا كانت معتدلة صارت مفيدة؛ لأنها تحفزنا إلى العمل وتنشطنا، وهي عندئذ أولى بأن تسمى اهتمامات بدلا من هموم، والفرق بين الاهتمام والهم أن الأول يتناول موضوعا نعالجه فننجح أو لا ننجح، أما الهم الثقيل فهو اجترار لموضوع نخشاه، فنعاوده دون علاج، ومن هنا تأثيره السيئ، بل من هنا الحكمة القائلة: «إذا كنت تشك في شيء فخاطر فيه»؛ أي: انته منه بصورة ما.
وقد قلت الأمراض البكتيرية (المعدية) في الطبقة المتوسطة؛ لأن الغذاء تحسن وأساليب النظافة ارتقت، ولكن الأمراض العضوية زادت لازدحام الهموم وإرهاقها؛ لأن أفراد هذه الطبقة يعيشون في مباراة قاتلة، ويكنون في قلوبهم مطامع ترهقهم، فعقولهم تؤثر في أجسامهم أسوأ الأثر، وهم ليسوا في حاجة إلى عقاقير حسنة قدر حاجتهم إلى فلسفة حسنة يعيشون بها راضين؛ لأن التوتر النفسي من الهم يؤدي إلى توتر شرياني ثم إلى تصلب في الشرايين ثم إلى موت مبكر بالانفجار المخي.
وسنرى في فصل قادم عن «الإيحاء» كيف يؤثر العقل الأثر الحسن في الجسم، وأيضا كيف يؤثر الأثر السيئ، ولكنا نقول هنا: إن عامتنا يعرفون الكثير من أثر النفس (= العقل) في الجسم؛ فإن الفلاحين يعزون بحق مرض الجلوكوما في العين إلى ما يسمى عندهم «نزول» عقب حزن أو كمد، والأكزيما التي تطفح على الجلد في تعود إلى توتر نفسي، بل أحيانا يحدث الربو من مثل هذا التوتر، وقد كان الرومانيون يقولون: إن العقل السليم في الجسم السليم، ولكن عكس هذا القول صحيح أيضا، بل أصح؛ لأن الحاقد والحاسد والخائف والمتشائم يؤدي توترهم النفسي إلى توتر شرياني أو إلى مرض آخر مؤذ لأجسامهم.
قال الدكتور بارتي بروكس - الجراح الأمريكي المشهور:
إن الجراح الذي مرت به اختبارات كثيرة يذكر - بلا شك - إحدى العمليات التي أتمها في نجاح كما استأصل فيها المرض تماما ولم يجد عقب العملية أية علامة تدل على مضاعفات، ولكن المريض بعد ما بدا عليه من التقدم نحو النقه فقد الاهتمام بما حوله وبنفسه، ثم تدرج - في غير ألم، وكأنه لا يهدف إلى غاية معينة - إلى الموت ولم يكشف التشريح عقب الوفاة عن إيضاح مقنع.
وهذا المثل يدلنا على تأثير النفس في الجسم، وكلنا يذكر أمثلة أخرى تشبه ما رواه الجراح، كالأم المحتضرة تكافح الموت وتنتظر ابنها الغائب؛ فإذا حضر ماتت، ففي المثل الأول تضعضع المريض وفقد إرادة الحياة ومات، وفي المثل الثاني تشبثت الأم بالحياة وأرادت البقاء حتى رأت ابنها.
وهناك أمراض كثيرة نتوهم أنها عضوية؛ أي: في الجسم فقط، وأن النفس لا شأن لها فيها، ولكن قليلا من التأمل يدلنا على أنها في الأصل أمراض نفسية، تتصل بالإرادة والاتجاه كالخوف والقلق والهم والتشاؤم.
اعتبر رجلا يخاف المستقبل ويقلق على معاشه ويتشاءم؛ فإن هذه الحال النفسية تزيد ضغط الدم في شرايينه التي تتصلب بعد سنين من قوة هذا الضغط، ثم يتعب هذا القلب، فيكون المريض عرضة للسكتة في القلب أو «النقطة» بالانفجار في المخ؛ فالمرض هنا عضوي وقد انتهى بالوفاة، ولكنه كان في الأصل نفسيا؛ لأن المريض اتجه وجهة سيئة نحو الدنيا، وتحمل من الهموم أكثر مما كان يطيق فأرهق نفسه ثم أمرض جسمه.
ناپیژندل شوی مخ