(1) التعريف بالوجود
رأينا إذن أن للإنسان قوة دراكة متمايزة من الحواس بمدركات غير محسوسة، وهي المعاني المجردة، وإن تكن المعرفة الحسية هي الأولى زمنا، وهي ضرورية، بحيث نسلم للحسيين بأن ما من شيء يوجد في العقل إلا وقد سبق له وجود الحس، لكن لا بمعنى أنه مدرك من الحس، بل بمعنى أنه متضمن في موضوع الحس، كتضمن معنى الإنسان في صور أفراده، أو بمعنى أنه مستنبط من موضوع الحس، كاستنباط العلة غير المحسوسة من معلول محسوس.
ورأينا أن المعاني تترتب فيما بينها تبعا لدرجة التجريد، فتنتظم منها العلوم الطبيعية فالعلوم الرياضية، وأننا إذ نمضي في التجريد نبلغ إلى أعم المعاني إطلاقا، وهو معنى الوجود مبرأ من أي تخصيص وتعيين. وهذا المعنى إذ نتأمله نجد له لواحق ذاتية تشترك فيها الموجودات بمجرد كونها موجودات، ونجد له مبادئ تعم مبادئ الموجودات والعلوم الباحثة فيها، فيخرج لنا أن ههنا موضوعا كليا هو الوجود بما هو وجود، وأن ههنا علما كليا له الرياسة على سائر العلوم؛ ومنها أقسام الفلسفة، وأنه لذلك يسمى بالفلسفة الأولى، من حيث إن الأعم متقدم في الوجود على الأخص. وإن كل برهان فإنما يستمد أصله من هذا العلم، ففي هذا الباب ننظر في تلك المعاني الأولى، أعني الوجود ولواحقه ومبادئه، فنشرحها وندافع عنها لكي نقيم المعرفة الإنسانية على أساس متين.
قلنا في عنوان هذه الفقرة: «التعريف بالوجود»، ولم نقل: «تعريف الوجود»؛ إذ ليس للوجود حد، وليس له رسم. أما الحد فيلتئم من جنس ومن فصل نوعي، والوجود أبسط المعاني، ومن ثم أعمها، فلا جنس فوقه يعرف به، ولا فصل نوعي يعرض له من حيث إن كل ما يعرض للوجود فهو وجود. وأما الرسم فيكون بما هو أبين من المرسوم، وما من معنى أوضح وأبين من معنى الوجود حتى يرسم به، وما من شيء يدرك إلا ويدرك موجودا إما في الحقيقة أو في الذهن. فالوجود أول المعاني لبساطته القصوى، وأول ما يقع في الإدراك لعمومه الشامل. وكل ما يمكن صنعه هو شرح اللفظ فقط.
1
لفظ الوجود يقال بمعنيين، أحدهما كمصدر، كما هو ظاهر، والآخر كاسم أي «الموجود». فالمصدر أو الوجود يعني على وجه الاستقامة، أي أولا وبالذات: فعل الوجود أو الوجود بالفعل، ويعني على وجه الانحراف، أي ثانيا: ما يعنيه الاسم نفسه أي الموجود. ومعنى الاسم - أي الموجود - هو أولا: الماهية الحاصلة على الوجود، أو التي يلائمها الوجود فيمكن أن توجد، وهو ثانيا: الوجود حاصلا أو ممكنا، سواء كان الموجود ذاتا أم فعلا؛ فإن الفعل وجود، أي إيجاد من جهة الفاعل، ووجود من جهة المفعول. والشأن ههنا كشأن كل لفظ مجرد بالنسبة إلى اللفظ المشخص، وكل لفظ شخص بالنسبة إلى اللفظ المجرد. فإننا إذا قلنا «الإنسانية» عنينا أولا صورة الإنسانية، وثانيا الموضوع الحاصل عليها؛ وإذا قلنا «الإنسان» عنينا أولا الموضوع الموجود إنسانا، وثانيا صورة الإنسانية التي هو بها إنسان. ومعنيا الوجود والموجود مرتبطان أوثق ارتباط، فإن الوجود وجود ماهية ما، والوجود والماهية شيئان متمايزان من حيث إن الماهية قد لا توجد. يضاف على ما تقدم أنه «قد يدل بلفظ الموجود على النسبة التي تربط المحمول بالموضوع في الذهن، وعلى الألفاظ الدالة على هذه النسبة، سواء كان ذلك الارتباط لارتباط إيجاب أو سلب صادقا وكاذبا، بالذات أو بالعرض».
2
فإذا قلنا: «زيد عالم» أو زيد «هو» عالم عنينا أن زيدا «موجود» عالما.
وفي الفلسفة الإسلامية ألفاظ أجريت بمعنى الوجود أو الموجود مع دلالتها على معنى آخر أيضا أو أكثر من معنى: فلفظ «الشيء» يقال على كل ما يقال عليه لفظ الموجود. وقد يقال أيضا على ما هو أعم مما يقال عليه الموجود، وهو كل معنى متصور في النفس، سواء كان خارج النفس كذلك أو لم يكن، كعنزإيل وعنقاء مغرب. وبذلك يصح قولنا: هذا الشيء إما موجود وإما معدوم. وبهذا ينطلق اسم الشيء على القضية الكاذبة، ولا ينطلق عليها اسم «الموجود».
3
ناپیژندل شوی مخ