ونقول من الوجه الثاني: إن التحقق من نفع الآلات الصناعية أمر ممكن يسير، وذلك بالمضاهاة بين فعلها وما نتوخاه منها. أما المعتقدات الروحية فلا سبيل إلى التحقق من نفعها إلا في الحياة الأخرى، والحياة الأخرى مقبلة لا حاضرة، فلا سبيل على تطبيق المنهج البراجماتي ههنا، وإلا وقعنا في دور منطقي ظاهر. بل قد لا توجد حياة أخرى، فتكون فكرتها أسوأ اختراع يضيع علينا متاع الدنيا ولا يعوضنا منه شيئا. إن ما بعد الطبيعة موضوع استدلال عقلي، ولا تمكن معالجته إلا بتقديم النظر على العمل.
وبرجسون أيضا ينكر كل قيمة للاستدلال العقلي، ويحاول إثبات ما بعد الطبيعة بالتجربة الصرف. كان في أول أمره على المذهب المادي، ثم تبين له أن هذا المذهب مخطئ كل الخطأ في تفسيره للحياة، سواء النامية منها والوجدانية؛ فإن الحياة تيار متصل من الظواهر المتنوعة، على حين أن المادة حاضرة كلها في كل آن، تتكرر ظواهرها هي هي. ويدل تطور الأحياء خلال العصور على أن الوجود كلمة حياة صاعدة منتشرة من أدنى الأنواع إلى أرقاها، في هذا التطور يصون الأحياء وجودهم ويعملون على ترقيهم باستغلال الطبيعة، كل على قدر استطاعته. هذه الاستطاعة ضئيلة في النبات، ثم تقوى وتتسع في الحيوان بفضل الإدراك الحسي والنقلة في المكان، وأخيرا تبلغ حدا بعيدا من التنوع والسداد بفضل الإدراك العقلي؛ ذلك بأن استغلال الطبيعة يقتضي تجزئتها للتمكن منها في تطورها الجارف، والحواس والعقل آلات لهذه التجزئة: الحواس تجزئ الأشياء إلى وجهات عدة هي الموضوعات التي تتمثلها، والعقل يجزئ إلى معان ومبادئ ثابتة. فهي جميعا آلات لتيسير الحياة لا لتصوير الوجود، ومن العبث التعويل على العقل فيما عدا العلوم الطبيعية. ولنا إلى ما بعد الطبيعة سبيل أخرى غير الاستدلال العقلي، هي التجربة نفسها كما نشاهد في الصالحين من بني الإنسان، مما يدل على أن القوة المستولية على العالم تستولي بنوع خاص على بعض الأشخاص وتدفعهم إلى خلق أعلى يستمسكون به لذاته، ويستطيبون في سبيله الحرمان والاضطهاد والموت، وتستولي بنوع أخص على المتصوفة الذين يشعرون بالألوهية شعورا، ويذوبون في محبتها لكونها هي محبة، وينشرون المحبة في الإنسانية جمعاء.
هذا التصور للوجود، وهذا النقد للعقل جعل من برجسون فيلسوفا اسميا جاري الحسية إلى الحد الأخير، فتورط في متناقضات شتى. التناقض الأول: اعتقاده أن الوجود تغير محض دون ما شيء معين ثابت من وجه متغير، من وجه: إن التغير تغير شيء بالضرورة. تناقض ثان: هو اتهامه العقل بتجزئة الوجود تجزئة مفتعلة، ودعواه أن الغاية من هذه التجزئة استغلال الوجود: كيف نشأ من التغير المحض عقل مجزئ مجمد الأجزاء؟ وكيف أفلح العقل بجموده على معانيه ومبادئه وسط الحركة الشاملة، فتحكم في الوجود؟ ولم تلك النظريات المعقدة في العلوم، وتلك الآلات المركبة في المصانع؟ أليس كل هذا التعقيد والتركيب مجاراة للأشياء أنفسها؟ وإذن فليس العقل مشوها للوجود، ولو كان متروكا لنفسه فالظن الغالب أنه كان كيفه تكييفا أكثر بساطة وأيسر تناولا. ثم إن النظرية العلمية كلية ضرورية، تتضمن توقع المستقبل، مما يدل على وجود أشياء وطبائع للأشياء وقوانين ثابتة. تناقض ثالث: لو سلمنا أن العقل عملي بالذات، لبقي أن نفهم كيف تحول التعقل النفعي إلى معرفة نزيهة يزيد اغتباطنا بها بقدر بعدها عن العمل والمنفعة، وكيف شق العقل لنفسه طيفا مغايرا لطريق التجربة، فأنشأ علوما مستقلة عن التجربة بمبادئها ومنهاجها، منتهية مع ذلك إلى التجربة. كما نشاهد في الرياضيات وفي الطبيعيات المعالجة بالرياضة، فنبرهن مثلا على مساواة زوايا المثلث لقائمتين بذلك البرهان النظري المعروف، على حين أن عقلا علميا بالذات لا يوحي بأكثر من قياس الزوايا وجمع الدرجات. وعلى ذلك فلننظر قيمته الخاصة. وقد يستخدم للعمل، ولكنه متمايز منه، بل إنه كلما طلب النظر لذاته كان العمل أكثر تنوعا وسدادا. ولا مناص من طلب النظر لذاته؛ فإن للعقل حاجة لا ينزل عنها: هي الإدراك والتعليل.
وأما إقامة ما بعد الطبيعة على التجربة البحتة، فنقول فيها إجمالا: إن التجربة البحتة ما هي إلا تسجيل الإحساس ظاهرا وباطنا، وإن التفكير، حتى في أدنى صورة ترجمة عن التجربة بمعان مجردة. وإذا لاحظنا أن العقول مختلفة في فهم المعاني المستفادة من التجربة، فنضطر للتحليل والتعريف والدفاع والهجوم، وكل أولئك إنما يتم بمعان مجردة، اقتنعنا بأن التجربة البحتة لا تلفى إلا عند العجماوات. وما كتب برجسون إلا ميتافيزيقا، فقد تحدث فيها، ليس فقط عن ديمومة شخصية ملحوظة بالوجدان، بل أيضا عن ديمومة كلية وصفها بأنها جوهر خالق دائم التغير، وعرض آراء في أصل المادة، وأصل العقل، والعلاقة بين العارف والمعروف في الإحساس والتعقل والحدس، وحلل معاني اللاوجود، والإمكان، والتغير، والزمان، والمكان، والأخلاق، والدين، وبالجملة عرض لجميع مسائل الميتافيزيقا السلفية بأسلوب الميتافيزيقيين، فكان شاهدا آخر بعد شواهد لا تحصى، على صدق قول أرسطو: إن إنكار الفلسفة هو نفسه فلسفة. وهل نعد من التجربة البحتة، أو من الاستدلال العقلي، الانتقال من تطور الأحياء إلى قوة عليا مستولية على العالم ودائمة التغير هي أيضا؟ وهل يمكن أن تكون العلة الأولى متغيرة، والمتغير متغير بغيره بالضرورة وفاقد الأولية؟ وبأي حق نعتمد على تجربة المتصوفة للاعتقاد بوجود الله، ولكل متصوف تجربته الخاصة لا يشاركه فيها غيره ولا يستطيع هو تبليغها تمام التبليغ إلى غيره، فهي تلزمه وحده. بل إن برجسون نفسه اندفع إلى القول بأن الصوفي لا يدري إن كان شعوره شعوا بالله، ولا يعنيه أن يدري، ويكفيه شعوره!
2
من هذه الأمثلة ندرك أن مسائل الفلسفة هي مسائل حقا، وأنها لا تعالج إلا بالعقل، وأن دعاة التجربة البحتة، أو العمل المنتج، لا ينكرون ذلك إلا باللفظ فقط، ويستخدمون عقولهم في عرض ومحاولة حلها. فلنستخدم نحن عقلنا لبيان أصول ما بعد الطبيعة بعد أن أثبتنا ضرورته القصوى ومكانته العليا.
الباب الثالث
المعاني والمبادئ الأولى
الفصل الأول
الوجود
ناپیژندل شوی مخ