فالنشوئيون في القرن العشرين لا يستندون إلى التطور في إنكار الدين وإثبات التعطيل والإلحاد، ومن كان منهم معطلا منكرا فليس له سند مسلم من مذهب داروين، ولا من كلام داروين نفسه عن عقائده وترجيحاته.
والدينيون في القرن العشرين لا يقيمون أصول الدين حجة على بطلان مذهب التطور، ولا يقولون بالتناقض بين الإيمان والعلم في هذا الباب.
وإذا رجعنا إلى مكان مذهب التطور من العلم لم نجد من يحسبه علما قاطعا مفروغا من أصوله وفروعه، وأكبر أنصاره لا يدعي له أكثر من أنه صحيح في بعض ملاحظاته ومقارناته، ويجوز بعد ذلك أن يكون التطور قد حصل في جهات متعددة لا في جهة واحدة، وأن يكون ملازما للارتقاء حينا ومقارنا للنكسة حينا آخر، وإن كانت شواهد الارتقاء أكثر من ظواهر النكسات.
وخفت اليوم تلك الدفعة الأولى من جانب النشوئيين وجانب الدينيين، فتقاربت شقة العلم وشقة العقيدة في أمر الخلق والتطور، وجاء القرن العشرون بعد القرن التاسع عشر بنظرة جديدة في هذه المسألة التي أوشكت أن تغطي على مسألة دوران الأرض ومسألة القوانين الطبيعية في دعواها الأولى حيال العقائد الدينية، فإن لم يكن مذهب التطور آية من آيات العقيدة فليس هو على التحقيق برهانا على بطلانها، وثبت اليوم أن الذين حاربوا الدين باسم التطور والذين حاربوا التطور باسم الدين كلهم في الخطأ والادعاء سواء.
وربما كان لسخف الكبرياء نصيب كنصيب الجهل في مقاومة القول بالتطور، فإن الأكثرين أنفوا أن يكون آباؤهم وأجدادهم قردة، وظنوا أن تصديق التطور يوجب هذا النسب لا محالة على كل فرد من أفراد السلالة الآدمية.
ولا مسوغ لهذا السخف اليوم إن كان للسخف مسوغ في حين من الأحيان، فليس باللازم في مذهب التطور أن ينتمي كل إنسان حديث إلى قرد عريق، وما من نشوئي إلا وهو يلتمس حلقة بين النوعين، ويجعل للإنسان نسبا مستقلا في أصله عن غيره من الأنواع العليا بين الحيوان.
المقارنة بين الأديان
لما كشفت أمريكا الوسطى ووجد الأسبان فيها أقواما يتعبدون على أديان لا يعرفونها؛ خف القساوسة والمبشرون إلى البلاد المكشوفة ليبحثوا في أديانهم ويحولوا أقوامها إلى العقيدة المسيحية، فأدهشهم بعد قليل أن يروا لهم شعائر كشعائر الأديان المعهودة في الدنيا القديمة، وأنهم سمعوا منهم كلاما عن التكفير والخلاص ومناسك الإيمان على شيء من الشبه بنظائره في الديانة المسيحية، وحاروا في تعليل تلك المشابهة، فخطر لبعضهم أنها بقية من بشارة قديمة نسيت واندثرت وتخلفت منها موروثاتها الممسوخة، وخطر لغيرهم أن الشيطان يزيف لهم الباطل بالحق والحق بالباطل ليخدعهم عن الدين القيم ويمزج لهم الخبيث بالطيب فيصرفهم عن الطيب كله.
وكان هذا التفسير كافيا لفهم أسرار المشابهة بين الأديان في الدنيا القديمة والأديان في الدنيا الحديثة التي رجح عندهم أنها كشفت لأول مرة، وظل هذا التفسير كافيا من أوائل القرن السادس عشر إلى أواخر القرن الثامن عشر، ثم اتسعت كشوف الرحالين وتتابعت أخبار القبائل والسلالات التي تتشابه بينها شعائر الأديان والعبادات، وتقدم علم الأجناس البشرية ومعه علم المقارنة بين أديانها وعقائدها، فثبت أن التشابه بينها في هذه الأطوار الدينية أعم وأوسع مما خطر لرجال الدين من الأسبان عند كشف القارة الأمريكية، بل ثبت هذا التشابه بين السلالات التي لا صلة بينها ولم يعرف أنها اتصلت قبل القرن الثامن عشر بأزمنة متطاولة، فاحتاج الأمر إلى تفسير غير ذلك التفسير عند المتدينين والمعتقدين. أما المنكرون الذين كانوا قد برزوا وتكاثروا في أواخر القرن الثامن عشر، فقد كانوا يقررون أن الأديان كلها من وضع البشر، فاتخذوا من هذه المشابهات دليلا على صحة ما قرروه.
وقد كانت الصدمة قوية لأنصار الدين، لأن القرن الثامن عشر على الخصوص قيض لهم مشاكل كثيرة لم يفرغوا منها، وأثار في نفوس الأجيال الجديدة شكوكا تعالجها الكنائس واحدة بعد واحدة، ولا تنتهي من علاجها. فلما أسفرت المقابلة بين الأديان والعبادات عن تلك المشابهة المتكررة كانت ضربة قوية محرجة بعد ضربات مثلها في القوة والإحراج، كادت أن تخذل عوامل الإيمان والاعتقاد أمام عوامل الشك والإنكار.
ناپیژندل شوی مخ