عدت من إجازة الصيف (1984م) لأجد خطابا من الأستاذ الدكتور محيي الدين صابر، المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. وقد بدأ خطابه بالعبارة التالية: «يسعدني أن أنقل إليكم قرار المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم منحكم الجائزة التقديرية للثقافة العربية، وهي أرفع جائزة تقديرية لدى المنظمة، وأول جائزة تقديرية تقدمها لشخصية فكرية عربية متميزة.
وإني إذ أهنئ سيادتكم على هذا التقدير الذي أنتم أهل له، أشيد مع المنظمة العربية بالعطاء الكبير المبدع الذي أغنيتم به الثقافة العربية، ونهلت منه أجيال من أهل العلم والثقافة في الوطن العربي، وكان نعم العمل الطيب والعطاء الخير ...» وحدد للاحتفال بتقديم الجائزة في مدينة تونس اليوم العشرون من شهر ديسمبر سنة 1984م، ولبثت لا أعلم عن طبيعة تلك الجائزة شيئا، مكتفيا بقيمتها الكبرى، التي هي كونها قرارا إجماعيا ممن يمثلون الدول العربية كافة على أنه إذا كانت مصر لم تشارك في ذلك القرار لظروف معلومة لنا، فقد ظفرت منها قبل ذلك بجائزتين من جوائز الدولة، إحداهما كانت تشجيعية سنة 1960م عن كتابي الذي ظهر في ذلك الحين «نحو فلسفة علمية»، والأخرى كانت «تقديرية» سنة 1975م في مجال الأدب، والحمد لله رب العالمين.
وجاء اليوم الموعود فكان أول سؤال تلقيته هو من مراسل وكالة أنباء الشرق الأوسط؛ إذ كنت لا أزال في المطار أنتظر حقائبي وهو: بماذا تعلق على هذه المبادرة؟ فأجبته قائلا ما معناه: إنها دليل عملي على صدق ما كنت قد كتبته تحت عنوان «العروبة ثقافة لا سياسة» (في الأهرام بتاريخ 27 / 9 / 1979م)، واستطردت شارحا بأن العربي عربي بثقافته التي هي تعبير عن رؤيته ووجدانه قبل أن يكون عربيا لأي سبب آخر، ومضيت في توضيح هذه الفكرة لمراسل وكالة الأنباء لأبين له كيف يلتقي العرب جميعا حول محور ثقافي واحد، أساسه اللغة العربية وما تنطوي عليه تلك اللغة من دلالات تتفرع عنها، فليست اللغة مجموعة من رموز كرموز الرياضة مثلا، مجردة عارية تتفق على مدلولاتها كل شعوب الأرض، بل اللغة مشحونة بالقيم التي بثت فيها خلال العصور التي استخدمت فيها، ومن مجموعة تلك القيم المبثوثة في ألفاظ اللغة العربية يتكون وجدان الأمة العربية، وأضرب لك مثلا يوضح لك ما أريد: فلقد كنت ذات يوم أقارن عبارة وردت في إحدى حكايات «ألف ليلة وليلة» أقارنها بترجمتها الإنجليزية، فوقفت عند جملة يدعو فيها أحد لآخر قائلا له: «أكثر الله خيرك.» فترجمها من ترجمها إلى الإنجليزية من رجال الأدب عندهم، بما معناه «أكثر الله من إيرادك.» مع أن الفرق كبير بين زيادة «الخير» وزيادة «الإيراد»، فالإيراد يمكن حسابه، لكن إضافة «الخير» إليه تكسبه بعدا مباركا يستعصي على الحساب، وهكذا أستطيع أن أورد لك مئات الأمثلة من اللغة العرية في مفرداتها وفي تراكيبها مما ينطوي على أبعاد روحية ونفسية وخلقية على نحو لا نراه في ترجماتها إلى لغات أخرى. فماذا ينتج عن ذلك بالنسبة إلى أصحاب تلك اللغة إلا أن يتطبعوا بوقفة ثقافية متميزة؟ وإذا كان أمرها كذلك، أفلا تكون تلك الوقفة الثقافية المشتركة بين العرب مرتكزا قويا يرتكز عليه انتماؤهم إلى قومية واحدة؟ على أن الأمر في هذا السبيل لا يقتصر على اللغة وما توحي به إلى أصحابها، بل إن بين العرب روابط أخرى ثقافية تتمثل في اجتماعهم على فلسفة أخلاقية معينة ومتميزة واجتماعهم على تذوق فني معين ومتميز وغير هذا، وذلك من جوانب الحياة الأخرى مما يحتم علينا نتيجة هي أن «العروبة» نمط ثقافي ذو خصائص يمكن تحليلها وتبيانها، والعربي عربي بانخراطه في ذلك النمط الثقافي، وليكن بعد ذلك ما عساه أن يكون من ضروب الاختلاف بين عربي هنا وعربي هناك.
واختياري لأول جائزة رفيعة المستوى في مجال «الثقافة العربية» إنما هو دليل قاطع على ما كنت زعمته في مقالة «العروبة ثقافة لا سياسة»، والذي نشرته منذ خمس سنوات، ثم أخذت أكرر فكرتها بصور أخرى فيما بعد ذلك، ولقد كان مما رأيته ذا مغزى بعيد، وربما يكون قد جاء عفوا ومصادفة، لكن ذلك لا يغير من قوة المغزى، أن رياسة المجلس التنفيذي للمنظمة العربية في ذلك الحين كانت لأخ ليبي، وأن مهمة تقديمي يوم الاحتفال بالجائزة أسندت إلى أخ سوري، فإذا كانت زاوية الاختلاف قد انفرجت بين مصر من ناحية وليبيا وسوريا من ناحية أخرى؛ فما ذلك إلا في مجال السياسة وحدها، وأما عندما انتقل الموضوع إلى دنيا «الثقافة العربية» فهنالك اختفت المسافة التي كانت تباعد بين ضلعي الزاوية حتى أصبح الضلعان خطا واحدا، فالليبي والسوري وسائر الأعضاء الممثلين للدول العربية الأخرى اختاروا للجائزة العربية مصريا! ومن ذا يجحد تلك الرابطة الفكرية والوجدانية بين أبناء الوطن العربي كله من أقصاه إلى أقصاه؟! إن صاحب القلم يكتب في المغرب فيقرأ له من هم في المشرق، يكتب الكاتب من الجزائر أو من تونس - مثلا - فيطالع كتابته القارئون في العراق وفي عمان، ويعزف الموسيقي على أوتاره في مصر فيطرب لأنغامه العربي من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، ومن ذا لا يستشعر الصدق في شعر أحمد شوقي الذي أنشده عن «العروبة» من حيث هي وحدة واحدة، تفرح معا، وتحزن معا، استمع إليه يقول:
كان شعري الغناء في فرح الشر
ق وكان العزاء في أحزانه
قد قضى الله أن يؤلفنا الجر
ح وأن نلتقي على أشجانه
كلما أن بالعراق جريح
لمس الشرق جنبه في عمانه
ناپیژندل شوی مخ