مقدمة
القسم الأول: عن الحرية أتحدث
1 - هذه ألف باء الحرية
2 - معجزة الحياة إبداعها
3 - وهكذا انسابت خواطري
4 - شرح وتشريح
5 - رهبة المجهول
6 - حرية الفكر مرة أخرى
7 - المسلم الجديد
8 - رأس الحكمة مخافة الله
9 - التراث هو أول الطريق
10 - صورة يفزعني صدقها
11 - ضمير مكتوم
12 - تلك هي القضية
13 - فكرة الأدب وأدب الفكرة
القسم الثاني: إنسانية الإنسان
14 - إنسانية الإنسان
15 - ويل للمعاصرين من المعاصرين
16 - عين فتحة عا
17 - سلطان الكلمات
18 - شيء من روح العصر
19 - يوم الثقافة العربية
20 - خطاب من مجهول
21 - كانت بالأمس شجرة خضراء
22 - سبع سنابل
23 - إرادة تأمر وعقل يأتمر
24 - كلمة حق عن هذا الجيل
25 - قوة الساحر
26 - نريدها صحوة واعية
27 - أستاذ يحلم
28 - العصور هي أفكارها
29 - ورقة مزقها طفل
30 - وللشمس شروق بعد كل غروب
مقدمة
القسم الأول: عن الحرية أتحدث
1 - هذه ألف باء الحرية
2 - معجزة الحياة إبداعها
3 - وهكذا انسابت خواطري
4 - شرح وتشريح
5 - رهبة المجهول
6 - حرية الفكر مرة أخرى
7 - المسلم الجديد
8 - رأس الحكمة مخافة الله
9 - التراث هو أول الطريق
10 - صورة يفزعني صدقها
11 - ضمير مكتوم
12 - تلك هي القضية
13 - فكرة الأدب وأدب الفكرة
القسم الثاني: إنسانية الإنسان
14 - إنسانية الإنسان
15 - ويل للمعاصرين من المعاصرين
16 - عين فتحة عا
17 - سلطان الكلمات
18 - شيء من روح العصر
19 - يوم الثقافة العربية
20 - خطاب من مجهول
21 - كانت بالأمس شجرة خضراء
22 - سبع سنابل
23 - إرادة تأمر وعقل يأتمر
24 - كلمة حق عن هذا الجيل
25 - قوة الساحر
26 - نريدها صحوة واعية
27 - أستاذ يحلم
28 - العصور هي أفكارها
29 - ورقة مزقها طفل
30 - وللشمس شروق بعد كل غروب
عن الحرية أتحدث
عن الحرية أتحدث
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة
منذ فتحت أبوابنا على حضارة العصر الجديد حين أدركنا - أوضح ما يكون الإدراك - أن فروسية المماليك - بكل ما كانت تتصف به من براعة ومهارة - لم تنفعهم أمام فنون حربية هاجمهم بها نابليون في معركة الأهرامات، وهي فنون لم يكن لهم بها عهد من قبل، أقول إنه منذ ذلك اليوم، الذي لم يكن قد بقي بعده إلا عامان، ليبدأ القرن التاسع عشر، أصبحت القضية الكبرى التي واجهت كل ذي فكر وصاحب قلم في بلادنا، هي قضية الملاءمة الصحيحة بين ما كنا قد ألفناه قبل ذلك من صور الحياة، وما جاء به ذلك الوافد الجديد.
فإذا نحن استثنينا فريقا - وكان في الحق فريقا كثير العدد واسع الانتشار - وقف من المسألة كلها وقفة الرافض، فلا هو راغب في أن يطور ما بين يديه، ولا هو قادر على دفع المهاجم عن بلاده، ألفينا تيار الفكر في بلادنا قد اتجه أساسا نحو ضرب من المواءمة بين الطرفين، وأخذنا نسعى إلى تجديده وتوضيحه، لكي نضمن لأنفسنا بقاء هويتنا الوطنية والقومية بمنجاة مما قد يصيبها بالضياع أو حتى بالانتقاص، ثم لكي نضمن في الوقت نفسه ألا يفوتنا العصر بما فيه من أسباب القوة بكل أشكالها وفروعها.
وكان أهم ما تفرع لنا عن تلك القضية الأساسية حق «الحرية»؛ إذ كانت فكرة «الحرية» قد اكتسبت من الثورة الفرنسية - وما جاء بعدها من مراحل التاريخ في الغرب - أبعادا جديدة لم تكن قط مذكورة في تراثنا بأكثر من كلمات مفردة هنا وهناك، وما تاريخنا الفكري الحديث والمعاصر، إلا سلسلة من جهود بذلت للمطالبة بالحريات المختلفة، كما وكيفا، فكلما تحقق للناس جانب من جوانب الحرية، أو تحقق لهم نوع من أنواعها بقدر قليل أو بقدر أكثر من القليل؛ طالب قادة الفكر بجانب آخر، أو ينبوع آخر، وبقدر أكبر مما قد ظفر به المواطنون.
وقد تجد منا اليوم من يتوهم بأنه لم يعد في الإمكان أحسن مما كان، لكننا في الحقيقة ما زال يعوزنا من «الحريات» شيء كثير.
وفي هذا الكتاب محاولات، أردنا بها أن نبين - من زوايا مختلفة - بعض ما ينقصنا في سبيل حياة حرة بمعناها الأكمل، وأن نوضح بشتى الصور كيف نحيا حياتنا إذا أردنا اكتساب الجانب المفقود.
وبعد أن فرغنا من الحديث عن الحريات أوردنا في الكتاب قسما ثانيا، خصصناه لضرب آخر من «القيم»، ليس منقطع الصلة بموضوع «الحرية»، وأعني بها إحساس الفرد الواحد بوجود «الآخرين»؛ إذ لا يكفي أن يعيش الفرد حرا، بالمعاني الكثيرة التي وردت في القسم الأول، بل لا بد له أن يعي وعيا كاملا بأن ثمة «آخرين » لهم حقوق كحقوقه، وإنما نقول ذلك؛ لأن ما نراه اليوم في حياتنا، يوحي بأن كل فرد يسعى إلى تحقيق أهدافه حتى لو داس بقدميه على رءوس مواطنيه، على أن إحساس المواطن الفرد بمن يعايشونه في وطن واحد، إنما هو «قيمة» اجتماعية عرفناها بكل قوتها في تاريخنا، والمطلوب هو عودة الضال إلى طريق آبائه، وليس من شك في أن الأصيل عائد إلى أصله، كما يكون للشمس شروق جديد بعد كل غروب.
وبالله التوفيق.
زكي نجيب محمود
القسم الأول
عن الحرية أتحدث
الفصل الأول
هذه ألف باء الحرية
المدينة هادئة
كأهدأ ما تكون مدينة في هذا العصر الذي كتب علينا أن نعيش فيه، وهي مدينة صغيرة، تتوسطها بحيرة واسعة، وتحيط بالبحيرة - دائرة ما تدور - سلسلة من جبال ليست شديدة الارتفاع، وعلى سفوح تلك الجبال تقوم المباني ... وكان الفندق على أسفل السفح، يوشك أن يستوي مع البحيرة على مسطح واحد.
وللفندق حديقة فسيحة الأرجاء، كثر فيها الشجر صنوفا صنوفا، وغزر على أرضها العشب الأخضر، وتناثرت فيها المقاعد للنزلاء، وكان النزلاء جميعا - كما بدوا لعيني - من طلاب الراحة الساكنة، تقدمت السن بمعظمهم، ولا بد أن قد كان لكل منهم ما أنقض ظهره من هموم الحياة، ولقد جاء منهم كثيرون مزودين بوسائل التسلية، منها ما عهدته في شعوبهم، ومنها ما لم أعهده، فلم أكن قبل ذلك قد عهدت أن أراهم يلعبون الطاولة، أما هذه المرة، فقد رأيت أكثر من أسرة، تحلقت حول منضدة، حيث فتحت «الطاولة» بين اللاعبين، ولأول مرة في حياتي رأيت الطاولة مكسوة كلها بالمطاط وكذلك كسيت بالمطاط أحجار اللعب، وأعد كوب من المطاط ليضع اللاعب «الزهر» فيه ليقذفه على سطح الطاولة، وبهذه الكسوة المطاطية التي غلفت كل شيء لم يسمع للعبة ولا لاعبيها صوت، فكانوا وكأنهم صورة تشاهدها على سطح مرآة، وليسوا بشرا من البشر، جاءوا ليقضوا إجازتهم في لهو صاخب.
وفي تلك الحديقة الفسيحة الهادئة قضيت ساعات الضحى من نهار جميل، فرأيت أول ما رأيت «أسرة من النخل»، ولم أكن أتوقع نخلا في تلك البقعة من الأرض، وقد كن نخلات ثلاثا، ملساء الجذوع شامخات الرءوس، فأحسست حيالها بشعور قوي غريب، وهو الشعور بالقربى، فكأننا أبناء أسرة واحدة، لم يفرق بينها أن يكون بعض أبنائها نباتا، وبعضها بشرا، والحق أنني هكذا أحس كلما رأيت نخيلا خارج الوطن العربي، وعبثا أذكر نفسي بأن المسألة لا تعدو ضربا من النبات وبيئة تصلح لحياته، ولا شأن هنا للقومية العربية والوطن العربي، نعم عبثا أحاول أن أذكر نفسي بذلك؛ ففي أعماق نفسي شيء يربط النخل بأرض العرب، فأنظر إلى النخلة وهي في غير أرضها وكأنها - مثلي - قد اغتربت عن ديارها.
كانت «أسرة» النخلات الثلاث، أول ما وقع عليه البصر مما يحيط بي، ولبث البصر مركزا فيهن فترة طويلة، يصعد مع الجذوع الفارهة الممشوقة حتى الرءوس، ثم يهبط من الرءوس إلى المنابت على الأرض المعشوشبة بنجيلها الأخضر ... يا سبحان الله! إنهن ثلاث نخلات، ينتمين إلى أسرة نباتية واحدة، وقد اشتدت بينهن أوجه الشبه، لكن انظر! انظر كيف أبت عليهن الحياة إلا أن يتميزن بخصائص تتفرد كل منهن بما يميزها من أختيها؟ وذلك لكي لا يكون للكائن الحي شبيه، وتلك هي حكمة الخالق فيما خلق من «أحياء»، وهي أن يكون للكائن الحي فرديته الفريدة، حتى وإن ارتكزت تلك الفردية المتميزة المتفردة على بضع تفصيلات صغيرة، وكان مدار الحكمة الإلهية هنا هي أنه إذا تشابه كائنان من الأحياء كل الشبه في كل تفصيلة، كان أحدهما قد خلق عبثا، وتعالى الله الخالق البارئ المصور أن يجيء في خلقه ما هو عبث ... وهل كان يمكن أن تخطر برأسي هذه الخاطرة، دون أن نلحق بها خاطرة أخرى، تقول لي: إذا كانت أسرة النخل، على شدة ما بين أفرادها من شبه، لم تمنع أن يتفرد أبناؤها بما يطيب لكل منها أن يتفرد به، وهو تفرد ينم في أعماقه عن شيء من «حرية» تركت لكل نبتة أن تمارسها، كي تستطيع مقابلة مواقف حياتها بما يلائمها، فهل يجوز لأسرة من البشر أن تصب أبناءها في قوالب من حديد، حتى لا يجد أي منهم متنفسا حرا إذا أراد أن يتنفس؟
أغمضت عيني قليلا، مسندا رأسي على ظهر مقعدي، وكان مقعدا مديدا من قماش، يأذن للجالس أن يتخذ لجسده وضعا فيه نصف الرقاد، فنزعت بي أفكاري نحو ذكريات أليمة لم أكن أحب لها أن تنزوي في الذاكرة وسط هذا الهدوء الساكن الجميل، ففتحت عيني لينشغل البصر بما يراه حولي، فكان أن رأى بجانب المقعد «أسرة» من ست حمامات رمادية اللون، يخالط لونها الرمادي ريشات بيضاء على الجناحين وحول العنق، ولم تكن الحمائم ساكنة في مواضعها سكون النخلات في مغارسها من الأرض؛ بل كانت تتحرك كلها، بعضها حول بعض، بحيث يظل لها تكوينها العام، وهو تكوين شبه دائري، وهكذا لبث لها إطار عام له شيء من الثبات، برغم الحركة الدائبة التي أخذت تتحرك بها كل حمامة على حدة، وكل من عبر منا البحر الأبيض المتوسط إلى أي بلد في أوروبا، لا بد أن يكون قد لحظ - في عجب - كيف لا تفزع الحمائم من أبناء آدم، إذ علمتها الخبرة ألا خوف عليها من الإنسان؛ فاطمأنت له، يتحرك أمامها ووراءها وإلى جوارها كيف شاء، فلا تنفر حمامة لتطير.
ولما أمعنت النظر في أسرة النخل، أمعنته في أسرة الحمام، لأجد العبرة أقوى وأوفى، بمقدار ما يعلو به حيوان على نبات، فقد التزمت كل حمامة جماعتها، ولم يكن لها بد من أن تحصر نفسها في طبيعة الحمام، إذ ليس في وسعها أن تخرج على طبيعتها لتصبح صقرا أو تنقلب عصفورا، لكنها مع هذا كله ترك لها شيء من «حرية» الحركة لتتفرد به في مواجهة ما عساها تصادفه مما لا يصادف سواها، وكما ختمت حديثي عن النخل، أختمه في حديثي عن الحمام، فأتساءل: أتكون الحياة وقوانينها قد أمدت كل حمامة فردية تتفرد بها دون سائر أخواتها؟ ثم نجد من جماعات الإنسان من يريد أن يتنكر لهذا الحق الذي أراده للأحياء خالق الأحياء، بحيث ترى هؤلاء المتنكرين وكأنهم يريدون لكل فرد معهم أن يتقيد في تفكيره وفي سلوكه بقضبان من حديد، صنعوها بأوهامهم، وثبتوها على الأرض بجبروتهم ... وا فضيحتاه، ووا خجلتاه!
وهنا أغمضت عيني مرة أخرى، ومرة أخرى نزع بي الفكر نحو أن تنزوي في الذاكرة صورة أليمة لم أكن أريد لها أن تعكر صفو هذا الهدوء الساكن الجميل، ففتحت عيني ليشغل البصر بما يرى، فرأيت تلك الأسرة البشرية التي جلست بجوارنا، وكنت قد شغلت عنها بمتابعة النخل والحمام، ولقد كفاني منها لمحة أسرع من السريعة؛ لأرى والدين وأبناءهما الثلاثة، الوالد يقرأ الصحيفة اليومية والوالدة تتحرك أصابعها بإبرة التطريز فيما لست أعرف ماذا، وفتاة تقرأ كتابا، وفتى يشبه أن يكون قد أخذه النوم على كرسيه الطويل، وطفل جلس على قماشة فرشت له على العشب، وأخذ يخرج من صندوق بجانبه مكعبات، ليبني منها شيئا لست أدري ماذا عساه أن يكون.
فلو كنت مصورا فنانا، لأسرعت إلى مرسمي لأثبت على لوحة تلك الأسرة في جلستها التي رأيتها؛ لأنها نموذج جيد، سواء أخذناها في حقيقتها كما تبدت للمشاهدين، أم أخذناها من حيث هي رمز يشير إلى حقيقة كبرى، فأما وهي مأخوذة على الصورة التي شوهدت بها، فواضح أن مجموعة أفرادها قد ترابطت في كيان يجمعها، لكنها في الوقت نفسه تركت لكل فرد منها أن ينفرد باهتمام خاص، إنها «الحرية» من الداخل، الحرية التي لم تشرع لها قوانين، بل شاءتها طبيعة الحياة نفسها، ولذلك هي الحرية التي شملت الأحياء جميعا، من الأميبا الأولى إلى أرقى ما ارتقى إليه البشر، إنها هي، الحرية التي تعني أن يعبر الكائن عن دخيلته بسلوك ظاهر، وأرجوك أن تقف لحظة عند كلمة يعبر هذه؛ لأنها كلمة استطاعت بها عبقرية اللسان العربي أن تبثها معنى ضخما بعيد الدلالة، فالتعبير إنما هو «عبور»، فهنالك في دخيلة الكائن الحي سره الإلهي العظيم، لكنه سر لا يراد له أن ينكتم، فمهدت له وسائل «العبور» من الداخل إلى الخارج، وذلك هو نفسه «التعبير». الشجرة تعبر عن سرها الذي يعتمل به جسدها من الداخل، فتخرج إلى الدنيا الخارجية أوراقها وثمارها وأزهارها. الحيوان، كل الحيوان يعبر عن السر الإلهي الذي يسري في خلاياه فيكون منه ما نراه في حياته الظاهرة من براعة ومهارة، وأي براعة ومهارة في جمع قوته وفي بناء مأواه، وفي الوقاية من الأعداء! حتى إذا ما وصلت بنا درجات السلم الصاعدة إلى الإنسان، رأينا عجبا من العجب في إرادة «التعبير» أولا، ثم في ممارسته ثانيا؛ لأنه لا يقف عند الحدود التي وقفت عندها صنوف النبات والحيوان، بل إن عملية «العبور» هنا لتتسع وتتسع، حتى نراه - أعني الإنسان - وهو يعالج ما قد اضطرمت به نفسه من «معان»، محاولا أن يمهد لها طرقا تعبر عليها من دنيا الجوانح في ظلامها وغموضها، إلى عالم النور فتراها الأبصار مجسدة في رموزها، أو تسمعها الآذان أنغاما وألحانا وشعرا وأدبا، وليس في وسعنا مقدما أن نتنبأ أي الطرق يستطيعها فلان هذا أو فلان ذاك لإخراج كوامن نفسه، أيخرجها حديثا ساذجا يديره مع من يريد الاتصال بهم، أم هل يبلغ مبلغا من القدرة الفنية والأدبية، فيخرج تلك الكوامن معزوفة، أو قصيدة، أو لوحة، أو تمثالا، أو عمارة، أو ما شاء له الله أن يكون؟ ولقد كانت الأسرة التي حدثتك عنها مثلا جيدا، يرمز إلى تنوع الناس في وسائل العبور من داخل النفس إلى ظاهر الدنيا.
واصبر معي قليلا - أيها القارئ - لأريك كيف أن هذا الجمع بين حرية الأفراد في حركاتها، وفي خلجاتها، ثم في رغبة التعبير عن تلك الخلجات تعبيرا يهيئ لها العبور من محابسها لتصبح مرئية ومسموعة، أقول إني سأحاول أن أريك كيف أن الجمع بين حرية الأجزاء من جهة، والتزامها حدود الكيان الذي هي أجزاء فيه، إنما هو سر عظيم في بناء الكائنات جميعا، من الذرة الصغيرة إلى الكون الكبير في مجموعه، فانظر إلى الذرة الصغيرة، تجدها - كما ينبئنا عنها علماؤها - مؤلفة من كهارب تدق حتى لتتعذر رؤيتها بالمجاهير، وإنما هي استدلال علمي أثبت صدقه بصدق تطبيقاته العملية، أقول: انظر إلى الذرة الصغيرة تجدها مؤلفة من كهارب، لكل كهرب منها فلك يجري فيه، لكنه «حر» في أن يقفز من فلك إلى فلك داخل الذرة، حرية تجعل التنبؤ بها قبل وقوعها أمرا مستحيلا، لكن تلك الكهارب الصغيرة، في حريتها تلك، إنما تلتزم أن يكون نشاطها ملتئما مع البناء العام، الذي هو الذرة في مجموعها.
وهذا الجمع بين حرية الفرد والتزامه، تراه في كل كائن أيا كان نوعه. خذ الفرد الواحد من أفراد الإنسان مثلا، تجده مؤلفا من مجموعة أعضاء، لكل عضو فيها تكوينه ووظيفته وقوانينه، فالقلب يعمل من حيث هو قلب، والكبد تعمل من حيث هي كبد، والمعدة تعمل من حيث هي معدة، وهكذا، لكنها في عملها إنما تلتزم حدود الكيان الكبير، وهذا الذي قلناه عن الفرد الواحد من أفراد الإنسان يصدق بحذافيره على الكون العظيم في مجموعه، فكل ما في الكون يسبح في فلكه، لكنه في الوقت نفسه يلتزم العلاقة التي تنسق بينه وبين سائر الكائنات.
ولم نكن لنرى موضعا للعجب في هذا، إذا كان كل جزء قد رسم له الطريق رسما لا يترك له مجالا آخر إلا أن يسير، لكن المعجزة الكبرى هي أن لكل جزء حريته التي هي نفسها مجموع الحريات المتمثلة في الذرات الصغيرة التي منها يتألف، ومع ذلك، فهي حرية لا تتنافى مع الاتساق العام.
الأساس - إذن - في نظام الكون كله مجتمعا في كيان واحد، وفي كل كائن من كائناته - وبصفة خاصة وواضحة في الأحياء من تلك الكائنات - هو حرية الأجزاء، أو قل حرية الأفراد، حرية مقيدة ومحكومة بطبيعة الكيان التي تكون تلك الأجزاء، أو الأفراد، هي قوامه، وليس في هذا القول تناقض؛ إذ قد يقال: كيف تكون «حرية» و«مقيدة»؟ فأنت - مثلا - حر في تحريك رجليك لتمشي أو في تحريك ذراعيك لتتعامل مع الأشياء، لكن رجليك أو ذراعيك في تلك الحركة الحرة، محكومتان بطبيعة ما فيهما من عضلات وأعصاب وعظام وغيرها مما تتكون منه الرجل أو الذراع، إن لاعب الكرة حر وهو يضرب الكرة، فقد يتجه بها إلى يمينه أو يساره، أو إلى أمامه أو ورائه، لكن حريته تلك محكومة بالقصد الذي يستهدف الوصول إليه بالتعاون مع زملائه، فضلا عن أنها حرية تحكمها قواعد اللعبة نفسها. وهكذا تستطيع أن تسوق لنفسك من الأمثلة الموضحة أي عدد تريد، لكن الذي نحب أن نضيفه هنا هو أنه كلما ازداد القيد صعوبة، ازدادت الحرية حرية، إذا جاز لنا مثل هذا القول، فالشاعر وهو ينظم لفظه في قصيدة أكثر حرية ممن يقذف بكلماته قذفا كما اتفق في حديث عابر؛ لأنه يضع أمام نفسه صعوبات الوزن ليغلبها وكأنها ليست عقبة في الطريق. إن صاعد الجبل إذ تعترضه العقبة تلو العقبة، فيغالبها ويغلبها، هو أعمق في شعوره بالحرية ممن يمشي على «سهل» منبسط، والصائم أقوى شعورا بحريته من المفطر، فالمعول في الحرية هو دائما قدرة الحر على مواجهة الصعب ليقهره. وإذا خلت حياة الإنسان من كل صعوبة (وهذا فرض نظري محال له أن يتحقق) لما عرف ماذا تكون الحرية وماذا يكون معناها، وهكذا قل في «الأخلاق»، فليس من حق إنسان أن يدعي لنفسه الفضيلة، إلا إذا عرضت له الرذيلة فقاومها وانتصر عليها، ومن يدري ربما كانت الحكمة في وجود الشيطان بغوايته أن تظهر الفضيلة في الإنسان الفاضل.
أما الحرية المقيدة، بالمعنى الذي شرحناه لتكون أساسا أوليا لما يشمل الكون وكائناته من نظام، فالأمر فيها درجات تتصاعد بتصاعد الكائن ونوعه. فالكائن كلما علت رتبته، كان أقدر على مجاوزة قيوده، حتى نصل إلى الإنسان، فنرى الحرية بمعناها الذي أسلفناه قد بلغت ذروتها؛ إذ هو لا يكتفي بصعوبات تصادفه فيغلبها، بل إنه ليخلق الصعوبة خلقا ليزداد شعورا بحريته - وبالتالي يزداد شعورا بإنسانيته - حين يزيح العقبة من طريقه، بل إنه ليكلف بحكم عقيدته الدينية نفسها أن يصنع الصعوبة ليقهرها فهو مكلف بالجهاد. وما الجهاد إلا مجاهدة لتذليل عقبات قائمة. ولعل مجاهدة الإنسان في محاربة نفسه الأمارة بالسوء، أن تكون من أخص خصائص الإنسان، بالقياس إلى سائر الكائنات. وقمة الحرية هي قدرة الإنسان على إلجام نفسه، ليحكمها بدل أن تحكمه.
وانظر كم يحرم الإنسان من هذه الخاصية التي تميزه، إذا ما أرادت له الجماعة التي يعيش فردا من أفرادها، أن يتقولب مع الآخرين في قالب واحد، كأنه قطعة من الصلصال يصوغها القابض عليها في أي شكل يريد، وماذا يكون الرق إذا لم يكن هو فقدان الفرد لفرديته، ليصبح عجينة طيعة بين أصابع سواه؟ وإن هذا المعنى ليبرز أمام أعيننا واضحا في الأسطورة اليونانية التي تحكي لنا قصة رجل (هو بروكر ستيز) أقام نزلا في طريق المسافرين، ليبيت فيه من يلحقه الليل، لكنه أعد الأسرة (جمع سرير) لتكون متساوية في الطول، وصمم على أن يخضع المسافر الذي يبيت في نزله لذلك المقياس، فإذا شاءت المصادفة أن يجيء المسافر مستوفيا بطبيعته لذلك الشرط المفروض، كان بها، وإلا فقد جهز آلة تجز ساقي المسافر إذا كان أطول من سريره، كما جهز آلة أخرى تمط من هو أقصر في قامته من طول السرير، حتى يتساوى الطولان. فصاحب النزل لم يتصور أن يختلف الأفراد في أطوالهم عن المقياس الذي فرضه عليهم. وهكذا تكون الحال في مجتمع يريد لأبنائه أن ينصبوا جميعا في قالب من حديد، لا يقبل من أحد أن ينقص دونه أو أن يزيد عليه، وقل في مجتمع كهذا إن فردية الأفراد عليها العفاء، فتصبح حرية الإنسان - بناء على ذلك - سرابا في سراب.
وقد يطول بنا القول، إذا نحن أخذنا في تحليل طبيعة «الإنسان» تحليلا يبين على وجه الدقة ما نعنيه، حين نطالب للإنسان بحريته، بالمعنى الذي تكون الحرية فيه محكومة بقيود تؤكد وجودها، وتزيد من عمقها، لكننا نكتفي بلمحة موجزة عن جانب هام في تلك الطبيعة (وليس هو الجانب الوحيد) وأعني جانب «العقل» من الإنسان، وقبل أن نتحدث عن «حرية» هذا العقل لا بد من تذكير القارئ بالصفة الرئيسية التي تميز العقل عن سائر القدرات البشرية، وتلك الصفة هي أنها حركة انتقالية يبدأ سيرها من شواهد وبينات ومقدمات، وينتهي عند نتيجة تتولد به مما بدأ به، فليس عقلا ذلك الإدراك الذي يدرك ما يدركه بلمحة مباشرة، أو بلمعة (كما يقولون)؛ لأن أمثال هذه الإدراكات المباشرة لها أسماء أخرى، وطبائع أخرى، ليس هنا مكان تفصيلها، أما العقل فإدراكه دائما غير مباشر؛ لأنه قدرة استدلالية، ومعنى ذلك أنه يتضمن قيام طرفين، طرف نبدأ منه، وطرف آخر هو النتيجة التي ننتهي إليها.
ويكون العقل حرا في اختيار الطرف الأول، وما دام قد حدد لنفسه نقطة البدء، فلم تعد له بعد ذلك حرية النتائج؛ لأن هذه النتائج تلزم بالضرورة عن نقطة الابتداء، ونقطة الابتداء هذه إنما هي «فكرة ما»، يرى فيها صاحبها صلاحيتها لتوليد النتائج النافعة للناس، فإذا حرمنا إنسانا من أن يتقدم بأفكاره وما يترتب عليها؛ جردناه من آدميته، إذ نكون قد سلبنا منه حرية عقله حتى ألف بائها.
الفصل الثاني
معجزة الحياة إبداعها
عن الحرية أتحدث
وليس السجين الذي نبحث له عن حريته هنا هو سجين زنزانة ضاقت حولها الجدران، وضربت على بابها ونافذتها المرتفعة الصغيرة قضبان الحديد، كلا، ولا هي الحرية التي سلبها من صاحبها غاصب مستبد، بل هي الحرية التي كبلتها خيوط من حرير، غزلها صاحبها لنفسه على مغزله هو، ونسجها قماشة ناعمة بمنواله هو، ثم أحاط جسده كله بلفائفها حتى أوشكت أن تسد له أذنيه، فلا يسمع إلا خشخشة خفيفة تجيئه منها إذا تحركت أطرافها، وكادت تنسدل على عينيه، فلا يرى شيئا إلا خلالها.
إنه سجن من حرير، من شأنه إذا مست جدرانه بدن السجين أن يشيع شيء من الخدر اللذيذ في جوارحه فتستريح، وفي أوصاله فتسترخي؛ ولذلك ترى السجين يقاتل من أجل بقائه فيه، وإذا أحس يدا تمتد لتفك عنه الأغلال، بترها بترا إذا استطاع، وأما ذلك الحرير الذي نعنيه، فهو الماضي إذا ما سرى في القلوب وفي العقول بسحره الأسطوري العجيب، وموضع المفارقة في هذا الموقف المحير المربك، هو أن أي إنسان، وكل إنسان، يحب أن يتمسك بماضيه، بل إنه لا اختيار للإنسان في ذلك، فهو - مثلا - لم يخلق لنفسه اللغة التي يتكلم بها ويكتب، عندما استيقظ من نومه هذا الصباح، بل أخذها جاهزة كما انحدرت إليه من ماضيه، وهو لم يصمم لنفسه ثيابه، وصنوف طعامه، وأساليب تعامله مع الآخرين، بل هي أمور جاءته من أبناء أمسه القريب أو أمسه البعيد، ومحال محال أن يخلع ماضيه عن حياته، كما يخلع ثيابه القديمة عن جسده، لا، بل إنه ليرفض ذلك رفضا قاطعا حتى لو كان في مستطاعه أن يفعل، ومع ذلك فالفرق بعيد بين الإنسان السوي السليم وهو يستبقي لنفسه ماضيه، والإنسان الذي أخذته في ذلك علة المرض، فبينما الأول يثبت قدميه على أرض حاضره، ويستدعي الماضي لينسج من خيوطه خيوطا يراها حيوية وضرورية لحياة عصره، ترى الثاني وقد خفت قدماه عن أرض حاضره فقفل بجسده كله راجعا إلى حيث الأجداد ليحيا معهم حياتهم، فالقول ما يقولونه، والفعل ما يفعلونه، وكل ما أبدعته العصور بعدهم من ثقافات وحضارات باطل مذموم.
ليس في هؤلاء المساكين الأبرياء ذرة من شر، فنواياهم هي أطيب ما تكون النوايا، وهم فوق ذلك معذورون؛ لأن لمسة الماضي عند كل إنسان هي من لمسات الحرير، وهل رأيت إنسانا واحدا إذا تلفت وراءه لم يقل إنه إنما كان عصرا ذهبيا ذلك العصر الذي ذهب؟ لكن هذا الشعور الطبيعي الجميل لا يلبث أن يستر الحق عن صاحبه، فهو كشعور الناعم بشفق الغروب في روعته، لا يريد للشمس أن تغيب ليظل الشفق بورده الأحمر، حتى ولو قيل لذلك النشوان: إنه إذا غابت الشمس وذاب الشفق؛ فما ذلك إلا لتشرق شمس جديدة في الصباح، وكيف تريد للنشوان بلحظته أن يستمع إليك، وهو لا يرى شيئا سواها، ولا يرغب في أن يرى.
فأين السبيل إلى تحرير ذلك المخمور بلحظته، وقد اختارها من الماضي الذي هو دائما عصر ذهبي، كان نقاء كله، وكان صفاء كله، وكان بلاغة وفصاحة، وكان طهرا واستقامة، وكان حكمة وصدقا وخيرا؟ كيف تقنع النشوان بلحظته التي اختارها من ماضيه أن الزمن ليس صفا من لحظات رصت لحظة «مستقلة» بعد لحظة مستقلة، بحيث يستطيع أن يختار إحداها «ليسكن» فيها، بل هو سيال مستمر لا سبيل إلى تقطيعه شرائح شرائح ، وإذا كنت ترانا نقسمه أعواما وشهورا وأياما ودقائق، فذلك لنيسر على أنفسنا طريق الحساب، وسيال الزمن كسيال الماء في النهر الدافق، كسيال الحياة نفسها، يتجه اتجاها واحدا لا رجعة فيه، فإذا تشبث إنسان بضرورة أن يرتد بسيال حياته إلى الوراء كان معنى ذلك هو الموت؟
ومعجزة الحياة في مجراها، هي أنها «تبدع» جديدا، بعد جديد، في أثر جديد، خلال ذلك الجريان يموت ما يموت ومن يموت من أبنائها، فتلد الجديد، وضرب من المحال في عالم الأحياء أن يولد جديد ليكون صورة مكررة بكل حذافيرها وتفصيلاتها من سالفه، بدءا من أوراق الشجر التي تسقط عن شجرها أثناء الخريف والشتاء، لينبت مكانها في الربيع أوراق جديدة، فصاعدا إلى الإنسان كلما جاء ولد بعد والد، ولو كان الزمن لحظات متفرقات تتعاقب، وكانت الحياة أفرادا متشابهة في كل نوع من أنواعها، تجيء خلفا بعد سلف؛ لأمكن أن نغير في ترتيبها، فنأتي بقديمها ليكون هو جديدها، ونرتد بجديدها - ولو بمجرد الخيال - ليكون هو قديمها، لكن ذلك محال، وفي كل حالة من الحالات يجيء الحاضر الجديد أكثر امتلاء بمضمونه من الماضي القديم.
وحتى لو فرضنا المستحيل، وهو أن تيار الحياة يسير بالأحياء من الممتلئ إلى الهزيل، ومن الغني بمضمونه إلى الفقير، لبقي لنا أن نقول إن الحاضر الهزيل الفقير إنما يكون أكثر أداء لدوره الحيوي، إذا هو صنع لنفسه حياته بنفسه، و«أبدع» جديدا لم يشهد الماضي مثيلا له، وهذا «الإبداع» الذي فرضنا فيه الهزال والفقر إنما هو أرفع قيمة عند الحي المبدع من كمال صنعه سواه، وذلك لأن ما يصنعه إنسان لنفسه بنفسه يحقق له هويته ووجوده، في حين يبقى المستعار مستعارا. انظر إلى طفل وهو يرسم بيده صورة لأي شيء يجتذب خياله، وقارن شعوره بذاته وبوجوده، بحالته إذا ما جئت له بصورة رسمها فنان عظيم، إنك إذا قلت له: اترك هذا الرسم الهزيل الفقير الذي صنعته، وخذ بديلا له هذه الصورة في روعتها وكمالها! إنك إذا فعلت ذلك، صرخت «الحياة» كلها على لسان الطفل قائلة: ابعد عني بهذا الباطل الذي تفوه به، فالكمال الذي بين يديك هو كمال صاحبه، قد أقتنيه فيكون عندي بعض ما أملكه، لكنه ليس إياي، فأنا فيما أبدعته، ويحكي طاغور - شاعر الهند العظيم - حكاية غنية بمغزاها، فيقول إنه شهد طفلا جاء له أبوه الغني بطائرة صغيرة من بلد ما في أوروبا كان قد سافر إليه، والطائرة قد بلغت في صناعتها غاية الدقة، ثم شاءت المصادفة لذلك الطفل أن يخرج إلى الطريق العام بلعبته الأنيقة، وإذا بمجموعة من الأطفال مشغولة بالتعاون معا على صنع طيارة من الورق، ولبث الطفل صاحب اللعبة الجميلة يرقبهم، حتى أوشكوا على الفراغ من صنع طيارتهم، فلم يسعه إلا أن يقذف بلعبته جانبا ليشارك ولو بالقليل في استكمال ما تصنعه مجموعة الأطفال، حتى إذا ما فرغوا جميعا من مهمتهم، وطارت في الهواء طيارتهم، وهم ممسكون بخيطها في أيديهم الصغيرة، أحس الطفل صاحب اللعبة الجاهزة، بنشوة لم يحس بشيء منها وهو يلهو بلعبته الأنيقة الجميلة، التي اشتراها له أبوه.
ومن هذا القبيل نفسه أذكر شيئا كان كثير الحدوث في صباي، ولا أدري إن كان لا يزال قائما، وهو أن كتبا كانت تباع، فيها خطابات مكتوبة تصلح للمناسبات المختلفة، فيشتريها من يشتريها، حتى إذا ما جاءت له مناسبة ليكتب خطابا، بحث في الكتاب عن صورة تصلح لمناسبته، لينقلها ويرسلها، وكذلك كان من المألوف الشائع في المدارس أن يحمل مدرس اللغة العربية تلاميذه على حفظ عبارات بعينها، ليدخلوها في إنشائهم ... فقارن كل هذه النماذج الجاهزة مهما بلغت من درجات الجودة، وبين كلمات يكتبها صاحبها مملاة عليه من نفسه، مهما بلغت بدورها من درجات الفقر والهزال. أقول: قارن بين الحالتين، من حيث القدرة على تحقيق الذات وإثبات الوجود! كانت والدتي - عليها رحمة الله ورضوانه - لا تكتب، فلما ذهبت إلى الحج للمرة الأولى (فقد حجت سبع مرات) أرسلت إلي خطابا مطبوعا يباع جاهزا، فلما عادت بسلامة الله من حجها، أبلغتها كم انقبضت نفسي لخطاب ليس فيه شيء منها، فقالت: وماذا كنت أصنع ؟ أجبتها: كان خيرا لي أن ترسلي ورقة بيضاء وعليها بصمة أصبعك. نعم، الفرق بعيد بين أن يكون في حياتك شيء منك، وبين أن تستعير صورة من حياة الآخرين، من المعاصرين أو من الغابرين، حتى ولو بلغت ما بلغته من درجات الكمال.
لقد كان من أروع ما لفت أنظارنا إليه، من حيث القوة الإبداعية في فطرة الإنسان، فيلسوف اللغة الرائد في عصرنا هذا «نوام تشومسكي» أن الطفل منذ المرحلة الأولى لتعلمه اللغة لا يقف عند حرفية ما يسمعه من الذين حوله، بل هو لا يلبث حتى يأخذ في التصرف الحر فيما قد سمعه، فقد تعددت التحليلات ووجهات النظر عند فلاسفة اللغة - والمعاصرين منهم بوجه خاص - فمنهم من يذهب إلى أن الطفل لا يعدو أن يحاكي ما يتلقاه من مفردات وتراكيب لغوية، فيتساءل تشومسكي - بحق - كيف إذن يتاح للطفل، بعد قليل جدا من بدء تعلمه للغة، أن يعيد «المعنى» المعين بعدة صور للعبارة التي سمعها تعبر عن ذلك المعنى؟ فمثلا قد يسمع من يقول له: فلان أخذ لعبتك، فترى الطفل بعد ذلك يردد ما سمعه، ولكن بصور أخرى، إذ قد يقول: لعبتي أخذها فلان، أو لعبتي فلان أخذها، وهكذا إلى ما لا نهاية، ويطلق تشومسكي على هذه الخاصية «الإبداعية» في القدرة اللغوية، ثم يستطرد في تحليلاته العميقة الدقيقة، ليبين أن من أهم ما يميز الإنسان في مجال اللغة، هو سرعة اكتسابه ذوقا خاصا في لغته، بحيث يعرف ابن اللغة ما يجوز وما لا يجوز استعماله من تراكيب لغوية، ومن هنا نرى الفرق بين ابن اللغة وبين الأجنبي الذي يتعلم تلك اللغة، فبينما ترى ابن اللغة قادرا على تنويع التراكيب للمعنى الواحد بتذوق لغوي يفرق به بين ما يصح وما لا يصح، ترى الأجنبي الذي تعلم تلك اللغة مقيدا بما سمعه أو قرأه، دون أن يكون له - إلا بعد ممارسة طويلة - ذلك الذوق اللغوي الذي يمكنه من التصرف المبتكر في حدود ما يجوز قوله عند أهل اللغة الأصليين. وبهذه المناسبة أروي قصة كنت سمعتها من المرحوم الأستاذ أحمد أمين، وهي أنه أرسل نسخة من كتاب له - لعله كان «ضحى الإسلام» - إلى أحد المستشرقين الكبار، فأرسل إليه الرجل خطابا باللغة العربية يشكره على الهدية، خاتما ذلك الخطاب بعبارة يقول فيها: «أدامك الله لننتفع من خرارة علمكم»، فلم يكن له ذوق اللغة الذي يعرف به متى يجوز استخدام كلمة «خرارة»؛ إذ هي عنده كلمة مشتقة من الفعل «خر» ولا شيء أكثر من ذلك.
ولهذه القدرة الإبداعية التي أشار إليها تشومسكي في مجال اللغة، علاقة قوية - فيما أرى - بموضوعنا الذي نتحدث عنه، وهو وجوب أن يكون لكل عصر طابعه الخاص الذي يميزه من أسلافه، فإذا كنا قد أخذنا اللغة العربية عن أسلافنا، وليس لنا بديل آخر سوى أن تكون هي لغتنا التي نفخر بها ونفاخر، فلا بد لنا كذلك أن نمارس فطرتنا البشرية في الإبداع اللغوي، بحيث تجيء عبارتنا وقد تميزت بمذاق خاص، كما تميزت اللغة في العصر الأموي، أو العصر العباسي، عنها في العصر الجاهلي، مع أن اللغة في كلتا الحالتين هي هي، تلتزم قواعد معينة، لكن كان لكل عصر ذوقه المتميز.
معجزة الحياة في إبداعها، سواء أكان ذلك الإبداع - في المجال الإنساني - على مستوى الأفراد أم كان على مستوى الجماعات، وإن حيوية الإنسان في شتى جوانب حياته لتقاس بمقدار ما أبدع، أعني بمقدار ما أضافه من ناتج جديد، أما الذي يحيا حياته محاكاة لحياة غيره - من السلف أو من الخلف على حد سواء - فهو إنما يحيا صورة باهتة لأصل كانت له قوته عند صاحبه.
لكن هذا القول لا يعني أن يقوم الفرد أو الجماعة كل صباح، ينقض كل ما تم غزله على أيدي سواهم، ليغزلوا هم الخيوط من جديد، لكي يقال إنهم مبدعون، بل يعني أن يضع الإنسان بين يديه - فردا أو جماعة - ما استطاع أن يضعه من تراث السلف، ومن إنتاج المعاصرين، ليتمثل من هذا كله ما وسعت قدراته الهاضمة أن يتمثل لكي يعود فيخرج منه إبداعا جديدا، فهذا هو ما حدث في كل حياة ثقافية ناهضة عندنا أو عند غيرنا، ولك أن تراجع في روية وأناة ما صنعه العرب الأقدمون، إبان القرنين الثالث والرابع بالتاريخ الهجري «التاسع والعاشر بالتاريخ الميلادي»؛ لترى كيف كان على أطراف أصابعهم معظم ما أنتجته الإنسانية قبل ذلك من فكر وكل ما أنتجه أسلافهم العرب في العصر الجاهلي، ليكون هذا كله ماثلا أمام عقولهم وقلوبهم، لا ليحفظوه حفظا أصم، ويعيدوه مكرورا بحروفه كالببغاوات؛ بل ليتمثلوه ولينتجوا هم بعد ذلك نتاجهم الأصيل، مشبعا بذلك الزائد الوفير، ومعبرا في الوقت نفسه عن ذوات أنفسهم، وإذا أردت مثلا آخر، فراجع كذلك ما صنعته النهضة الأوروبية إبان القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وعندئذ ترى الصنيع نفسه، فلقد كانوا على إلمام واسع ودقيق بما تركه الأسلاف - أسلافهم اليونان والرومان، مع أسلافنا العرب - لا ليحفظوه حفظا أصم «وأقولها للمرة الثانية»، بل ليمزجوه بخبراتهم المباشرة، ليخرج لهم بعد ذلك كله ثمر جديد.
ولماذا لا نضيف إلى تلك الأمثلة التاريخية الكبرى، مثلا محليا من حياتنا نحن خلال المائة العام الأخيرة، فيما قبل هذه المرحلة الراهنة التي نجتازها، فقد كنا على وعي شديد بضرورة أن نلم أوسع إلمام ممكن بتراثنا وأوسع إلمام ممكن بما ينتجه الغرب؛ ليمتزج الرافدان في نهر واحد، نملأ أكوابنا منه، فإذا نحن قد أصبحنا أكثر قدرة على إبداع شيء جديد.
إن أفتك ما يفتك بالطاقة الإبداعية في أصحاب المواهب، هو أن توضع أمامهم نماذج العباقرة من أسلافنا وأسلاف غيرنا، لا ليستلهموها جديدا يبدعونه هم، بل ليضعوها من أنفسهم موضع التقديس فيجلسوا أمامها فاغري الأفواه من دهشة الإعجاب، إنهم في هذه الحالة ليكونون أشبه شيء بمن جلسوا في مسرح يشاهدون رواية عظيمة التأليف يقوم بتمثيلها كبار الممثلين القادرين، أما هم - أعني المتفرجين - فجالسون في الظلام، وأما الممثلون فهم وحدهم الذين تنصب عليهم الأضواء القوية، فيخرج المتفرجون آخر الأمر وقد كادوا ينسون أنهم أحياء؛ إذ لم يعد يملأ خيالهم إلا من شاهدوهم من الأبطال.
كان للفيلسوف البريطاني «هوايتهد» في ذلك ملاحظة لطيفة، إذ سئل مرة : لماذا أخرجت جامعة كيمبردج عددا أكبر ممن أخرجتهم جامعة أكسفورد من أدباء وشعراء، مع أن المعروف هو أن كيمبردج تغلب عليها نزعة العلوم، في حين تغلب على أكسفورد نزعة الآداب؟ فأجاب هوايتهد «وهو نفسه خريج كيمبردج في العلوم الرياضية» قائلا: إن علة ذلك هو أن دارس الآداب في أكسفورد توضع أمامه نماذج العمالقة من الشعراء والأدباء في جو يوهمه بأن هؤلاء العمالقة كقمم الجبال العالية التي يتعذر الوصول إليها، فيحدث أن تشل في الدارس موهبته إذا كان من أصحاب المواهب. وأما دارس العلوم في كيمبردج إذا تصادف أن كانت له موهبة الإبداع الأدبي، فإن موهبته تنمو وتبدع دون أن تعرقلها العراقيل.
أليس مما قد يفيدنا أن نسأل: لماذا كثرت العبقريات العربية في شتى ميادين الفكر والأدب إبان القرون الخمسة الأولى من التاريخ الإسلامي، لتقل بعد ذلك بصورة تلفت النظر؟ ففي تلك القرون الخمسة ظهر أعظم الفقهاء على الإطلاق، وأعظم الفلاسفة وأعظم علماء اللغة، وأعظم الشعراء وأعظم الناثرين، وعدد ملحوظ من أعظم المتصوفة ومن أعظم النقاد ومن أعظم رجال العلوم الطبيعية، ثم جاءت بعد ذلك قرون أربعة غلب عليها «التجميع»، أعني تجميع ما كان قد أبدعه عباقرة الفترة السابقة، وأما بعد ذلك فتكاد لا ترى إلا تكرار المحاكاة.
وقد يكون التعليل لتلك الظاهرة هو أن عباقرة القرون الخمسة الأولى لم يكن لهم سابقون من أسلافهم، بلغوا من الضخامة في ميادينهم حدا من شأنه أن يخيفهم، بحيث يؤثر في ثقتهم بأنفسهم، اللهم إلا في ميدان واحد، هو ميدان الشعر؛ إذ لبث الشعر الجاهلي هو الذي يقيم للشعراء مقياس فحولة الشعر، ولهذا أبدع عباقرة القرون الخمسة الأولى ما أبدعوه وهم أحرار من المعوقات النفسية، وأما بعد ذلك فكلما نشأت موهبة في أي ميدان كان لسان الحال كأنه يصيح في وجه الموهوب قائلا: أين أنت من هؤلاء؟! فتضعف قواه وتفتر همته.
وبعد هذا الذي قدمته فلننظر إلى المرحلة الراهنة التي نجتازها، ولست أظن أن المتتبع النزيه لحياتنا الفكرية يستطيع أن يتغافل عن شيء من شلل المواهب في ميدان الفكر الاجتماعي؛ إذ علت الصيحة التي تنادي بأن يكون لنا من نماذج الماضي وحدها مصادر الهداية، أما في غير هذا الميدان فقد تركت للمواهب حرية الإبداع إلى حد معقول، فأمكن فيها أن نساير الزمن بعض المسايرة، ففي ميدان السياسية نتحدث عن أفكار ونظم لم يكن للسابقين عهد بها، وفي ميدان التعليم نتحرك في إطار ليس هو الإطار الذي كان فيما مضى يقام فيه التعليم، وفي مجالات الفن والأدب نشأت صور جديدة جاءت في معظمها صدى لما نقلناه عن الغرب، وفي ميادين العلم والصناعة وغيرها وغيرها، سايرنا العصر بالقدر الذي سمحت به قدراتنا وظروفنا، إلا ميدان الفكر الاجتماعي، فبعد أن استطعنا في النصف الأول من هذا القرن أن نزيح عنه جانبا من القشرة الجامدة التي كانت تغلفه وتسد عليه الطريق، عدنا بعد هزيمة 1967م بصفة خاصة إلى الحيلولة بينه وبين روح العصر، وقد يكون في هذه العودة شيء كثير من الرغبة في تحصين هويتنا حتى لا تنهار جدرانها، فتنجرف في تيار غيرها، فتضيع، لكن هذا الفرض نفسه حتى لو صدق؛ لا يمنع أن يكون مجال الفكر الاجتماعي عندنا قد جمد، بل تراجع إلى الوراء بخطوات سريعة، ويخشى أن يكون للتخلف في هذا الميدان الحيوي أثره في الحد من قوة الإبداع فيه وفي غيره، ونصبح كالدمى، لا تحركها أيدي الأحياء، بل يحركها سحر الموتى.
الفصل الثالث
وهكذا انسابت خواطري
عن الحرية النزيهة أتحدث
كانت الساعة في قلب الضحى، وكنت فيها أهدأ ما يكون إنسان! نوافذ الغرفة زجاجها مزدوج، فلا أسمع إلا همهمة خفيفة من صخب الطريق. كانت السحب قد أفرغت ماءها، فراقت السماء وشف الهواء وامتدت الرؤية خلال زجاج النافذة إلى أقصى مداها. جلست مسترخيا لا أفكر في شيء، بل ولا أريد لشيء أن يشغلني فأفكر فيه، فلقد جئت هنا لأستريح، أحسست في جلستي تلك كأنني وعي صاف مجرد لا يستند إلى بدن؛ إذ تحولت بانتباهي إلى باطن نفسي عندئذ، لم أكن أرى سابحا على تيار ذلك الوعي الصافي ، سوى ما يشبه البقايا التي تخلفها وراءها عاصفة عاتية، ولقد كانت بالفعل عاصفة هوجاء ظالمة، لا عقل فيها ولا عدل، تلك التي مرت فطفت في تيار الوعي تلك البقايا.
كنت منذ ساعة واحدة، قبل تلك الجلسة المسترخية الهادئة، قد هممت بالكتابة عن فكرة ألحت وتريد أن أعبر بها البرزخ الحاجز بين الداخل والخارج، ولكني شعرت بالقلم يثقل حمله بين أصابعي، وكانت علة ذلك أني رأيت تلك البقايا السابحة على تيار الوعي في جوفي، فهي التي حملتني عندئذ على أن أسائل نفسي: أتكتب لمن يوشكون أن يطالبوك بأن تقسم لهم بأن السماء تكون زرقاء إذا صفت، وبأن في البحر ماء يضطرب بالموج إذا هبت الريح؟ أتكتب لمن جعلوا قلة الأدب برهانا على قوة الإيمان؟ لكني لم ألبث إلا دقائق حتى هدأت النفس واطمأن الفؤاد، فقد كان الشاتمون في غير أدب، وكان المعتدون في غير حق ولا عدل، هم أهلي، ولا حيلة لي في أهل بيني وبينهم صلات الرحم.
وفي أثر ذلك كانت تلك الجلسة المسترخية الهادئة، ومددت يدي إلى منضدة صغيرة بجانب مقعدي، والتقطت مذياعا أصغر حجما من الكف، وأدرت ترسه الصغير في أعلاه، فإذا بحديث لمتحدث يحسن صياغة الكلمات، ويجيد النطق إجادة تستبد بالسمع، فلا تستطيع لنفسك فرارا إذا أردت الفرار، وكان الحديث لمراسل الإذاعة في كوريا الجنوبية، يصف للسامعين ما قد بلغته كوريا من تقدم في علوم العصر وصناعته، حتى لقد باتت منافسة خطيرة، فهي إن لم تكن يابان أخرى، فهي بغير شك توشك أن تكون.
أعدت المذياع الصغير إلى حيث كان، ومررت بأصابعي على جبهة أخذت تند بالعرق الخفيف برغم هبوط الدرجة في حرارة الصيف، وذهب الهدوء عن النفس الهادئة، ولم يعد الفؤاد على طمأنينته التي كانت، وخرجت من شفتي آهة حزينة، يتبعها صوت يتعجب وهو يقول: كوريا! كوريا! لقد تعجبنا بالأمس أن يقال لنا عن اليابان وتقدمها ما يقال، ثم ألفنا أن تكون اليابان في طليعة الطليعة من دول العالم القوية الغنية العالمة المبدعة الصانعة، ثم تعجبنا بعدها أن يقال عن الصين وتقدمها، وهي التي ترزح أرضها تحت عدد من أبنائها زاد عن ألف مليون، ونحن الآن على وشك أن نألف أن تكون الصين قوة جبارة لا يجرؤ أحد على الاستهانة بها، ولكن كوريا! من الذي يستبعد بعد الآن أن يكون دور الجنس الأصفر في حمل مشعل الريادة في حضارة الإنسان الحديث قد دنا؟
وأنت يا مصر، أين أنت في معمعة الريادة الحضارية يا مصر؟ ألم يطرق العصر الجديد أبوابك منذ مائة وثمانين عاما؟ لقد فتحت له الأبواب مرحبة به، قبل أن تفعل اليابان ذلك بثمانين عاما، بل قبل أن تفعل ذلك روسيا! وقبل أن تحلم الصين مجرد الحلم أن تفعل ذلك، وها هي ذي كوريا تكاد تلحق بأختيها، وكأن نبوءة بسمارك قد اقتربت من التحقيق، إذ تنبأ - منذرا - وهو على فراش مرضه الأخير، قائلا لمن حوله: حذار من الجنس الأصفر، فهو على حافة اليقظة والوثوب!
وأنت يا مصر! افتحي صحائف التاريخ واقرئي، إن كنت قد نسيت، اقرئي لتعلمي أنه ما من حضارة شهدها التاريخ - قبل حضارة عصرنا هذا - إلا وكنت أنت منها في مكان الريادة، إنني إذ أقول ذلك أعرف معنى ما أقول، فحتى بعد أن ذهبت عنك ريادة المبدع الأصيل بذهاب العصور الفرعونية - ولا يغيبن عنك أن مداها في ذلك الإبداع الأصيل قد بلغ أربعين قرنا في أقل تقدير، بينما عصر الإبداع في الغرب الحديث مدته أربعة قرون - أقول إنه حتى بعد أن ذهبت عنك ريادة الإبداع الأصيل، فقد كان دأبك بعد ذلك أن تجيء إليك من خارجك ثقافة وحضارتها، فلا تلبثين طويلا حتى تتمثلي هذا الذي جاء إليك من خارج حدودك، لا لتكوني بهذا التمثل واحدة من الأتباع؛ بل إنك لتتمثلينه لتصبحي فيه الطليعة الرائدة، وهذا هو المعنى الحقيقي للعبارة التي نكررها بصدق، وأعني القول بأن مصر كانت دائما مقبرة لغزاتها، إنها لم تكن لهؤلاء الغزاة مقبرة بمعنى أنها تقاتلهم فتقتلهم فتقبرهم تحت ترابها، بل كانت مقبرة لهم بمعنى أنها تسود في ثقافتهم وفي حضارتهم، حتى أصبحت تشق الطريق أمامهم وهو يتبعون.
سقطت شعلة الفكر من أيدي اليونان القديمة، فالتقطتها الإسكندرية، لا لتحاكي ما قد أخذته محاكاة الولد لوالده، أو محاكاة التلميذ لأستاذه؛ بل لتتمثله ثم تضيف إليه من روحها، فإذا هو نتاج جديد لم تشهد له الدنيا مثيلا قبل ذلك، فما هو ذلك الذي التقطته الإسكندرية من اليونان؟ كان في الأساس علوما وفلسفة، فإذا بجامعة الإسكندرية يومئذ تدفع إلى الأمام ما تلقته من العلوم «العلوم الرياضية منها بوجه خاص»، ثم تنفث في الفلسفة المنقولة روحا دينية من روحها التي تدينت منذ فجر الزمان، وإذا بالناتج ضرب من فلسفة متصوفة لها طرازها الفريد، وهي التي اغترف منها العرب بعد ذلك إبان مجدهم ما اغترفوا، غير أنهم كانوا على ظن بأنهم إنما يغترفون من إناء اليونان، ولم يفرقوا في وضوح بين ما كان مصدره اليونان، وما كان مصدره مصر.
ولك أن تزور زيارة فاحصة لمتحف الفن اليوناني الروماني بالإسكندرية، لترى كم كانت مصر في فترة الحكم اليوناني الروماني، مبدعة في إطار ما قد وفد إليها من الغزاة، وجاء بعد ذلك العصر المسيحي في مصر، وكما هي العادة دائما مع الديانات، يبدأ الأمر بإيمان مطلق، لا يريد أن يقف من موضوع إيمانه موقف التحليل الذي كثيرا ما ينتهي بأصحابه إلى التشعب في مذاهب مختلفة، ثم تذهب مرحلة الإيمان المطلق هذه لتليها مرحلة التحليل والتمذهب، فلما جاءت هذه المرحلة الثانية وحدث فيها اختلاف في التأويل ووجهة النظر، بين مصر وغيرها، كان للمسيحي المصري وجهة نظره التي تميزت بما تميزت به مصر دائما، على تعاقب عصورها، واختلاف المجالات والمواقف، وأعني روح الاعتدال.
وجاءها الإسلام، فأسلمت، وتعربت مع إسلامها، أعني أنها استبدلت بلغتها اللغة العربية، ولنتذكر أنه ليس كل من أسلم تعرب في لغته كذلك، فهناك من البلاد الإسلامية التي لم تغير لسانها. أمثلة كثيرة: تركيا، وإيران، وباكستان، وإندونيسيا، وكثير من الأقطار الأفريقية. ولقد أراد الله بالإسلام وباللغة العربية خيرا، حين أسلمت مصر وحين تعربت؛ إذ أصبحت مصر على امتداد تاريخها بعد ذلك هي الحصن وهي المنارة، التي لا ينازعها في ذلك منازع، ونحن إذ نقول اليوم في أحاديثنا العابرة شيئا عن «التراث» الإسلامي والعربي، فإنما نشير بهذا القول - في الحقيقة - إلى تلك الجهود الجبارة، التي اضطلع بها علماء مصر من رجال الأزهر الشريف؛ إذ إليهم يرجع جزء كبير من الفضل في التجميع والترتيب والتبويب، فيما لو ترك بغير تلك العناية لتبعثرت أجزاؤه، ولما عرفت في وضوح إلى أي شيء تشير وأنت تتحدث عن «التراث».
هكذا يا مصر كان دورك الريادي في عصورك المبدعة الأولى أولا، ثم فيما جاء إليك من خارج حدودك، إلا هذه المرحلة الأخيرة يا مصر! فلقد فتحت أبوابك في بداية القرن الماضي - منذ مائة وثمانين عاما - مستقبلة لثقافة جديدة تولدت عن حضارة جديدة وصحيح أنك ما لبثت إلا مدة لم تطل أكثر من ثلث القرن، حتى بدأت تعبين من ذلك الجديد عبا: ترسلين البعثات إلى الغرب، وتستقدمين العلماء من الغرب، وتقرنين ذلك بالترجمة عن الغرب جنبا إلى جنب مع ما تحبينه من تراثك الإسلامي والعربي، وأخذت الثمرة من ذلك كله تتفتح زهورها، وتزداد نضجا عقدا من السنين بعد عقد، فكان ما رأيناه من ثورات تلاحقت، كلها يطلب الحرية، ثم يطلب مزيدا منها، ثم يطلب مزيدا من المزيد: ثورات أحمد عرابي، وسعد زغلول، وجمال عبد الناصر.
وكذلك كان ما رأيناه من طموح في ميادين التعليم، والأدب، والفن، والاقتصاد، والصناعة، وغيرها، وإنه ليستحيل على المتتبع للحياة المصرية منذ أواخر القرن الماضي، وإلى أن قامت ثورة 1952م وما بعد قيامها بنحو عشرين عاما ألا يشهد في معظم الميادين خطوات تخطو بنا إلى أمام، ولا بد لنا عند كلمة «أمام» هذه من السؤال: ماذا نعني عندما نزعم في مجال معين أننا نسير فيه إلى «الأمام»؟ ولست أجد إجابة مقنعة عن هذا السؤال، إلا أن نقول إن الحركة إنما تكون متجهة إلى أمام إذا هي تحركت نحو صيغة من الحياة اندمج فيها التراث مع الوافد الجديد من حضارة العصر وثقافته، اندماجا يعطيه مذاقا فريدا نستطيع معه أن نقول هذه هي مصر المعاصرة.
كانت الحركة إذن تسير بنا إلى «الأمام» - بالمعنى الذي حددناه لهذه الكلمة - حتى أوائل الخمسينيات وخلال الستينيات كذلك، مع شيء من النقص ساير تلك الحركة طوال الطريق، وهو أننا فيما كنا نأخذه عن الغرب كنا نقطف الثمار جاهزة، دون أن نعنى بأن نبث في عقولنا روح «المنهج» الذي أدى بأصحابه في الغرب إلى إنتاج ما أنتجوه، فنتج عن ذلك أن لبثنا نأخذ دون أن نكتسب القدرة على العطاء لما هو مصري أصيل في دنيا العلم وما ينتج عنها من صناعات ومهارات.
لكننا مع هذا النقص الذي تحفظنا فذكرناه كنا نسير إلى «الأمام» بصفة عامة، إلى أن حلت بنا هزيمة 1967م، فأصبحنا حتى اليوم شيئا آخر، وهو موقف يتطلب منا في تحليله ومعالجته كل ما في قلوبنا وصدورنا من نزاهة وإخلاص، وإنه لمن الطبيعي الذي لا يثير سؤالا، أن يتصرف المهزوم بما يتناسب مع هزيمته، وذلك بأن ينكمش ويكمن، لائذا بالعناصر القوية في مقومات شخصيته، فيجترها حتى تقوى رجلاه على حمله من جديد، والأغلب في هذه الحالة أن يلتمس مصادر القوة في ماضيه، فمن أبطال الماضي يعيد إلى نفسه الإحساس بالبطولة، ومن مجد الماضي يحفز ملكاته لإعادة ذلك المجد، ومن هنا لم يكن أحد ليدهش في أثر الهزيمة أن يرى اتجاها قويا نحو الاحتماء في السلف، حتى لا نظن في أنفسنا أننا ممن جاءوا تحت سقيفة التاريخ الحضاري بمحض مصادفة عابرة.
فالموجة السلفية - إذن - كان لها ما يبررها في أثر هزيمة 1967م، لكن الذي يرفع أمامنا علامات استفهام هو - أولا - لماذا لم يكن لانتصارنا في حرب 1973م ما يرد عنا الشعور بالهزيمة وما قد ترتب عليه من آثار؛ إذ جاءنا ذلك النصر وذهب، لتعود روح الهزيمة إلى نفوسنا حيث كانت. و- ثانيا - (وهو الأهم) لماذا نعيش الهزيمة النفسية بالكلام والكتابة، ولا نعيشها في حياتنا العملية بنفس المقدار؟ بعبارة أخرى: ما هي العلاقة بين الهزيمة وأثرها من جهة، ومن جهة أخرى هذه الازدواجية الرهيبة التي تشق حياتنا شطرين: جعجعة متشنجة باللسان وبالقلم، تصرخ صراخ الهوس منادية بالعودة إلى حياة السلف حرفا بحرف، كما وردت فيما تركه لنا ذلك السلف من توجيهات في طريقة العيش، بل وفي طريقة التفكير ذاتها؟ إنه لمن حسن الحظ (في هذه الحالة) أن نتكلم ونكتب في ناحية، وأن ننشط ونسلك من ناحية أخرى، فنحن - بحمد الله - ماضون في البناء الحضاري بقدر مستطاعنا، نقيم المصانع على أحدث طراز، وندخل الميكنة في الزراعة، ونعد للكهرباء مصادرها المختلفة من مساقط الماء إلى المحطات، ونسلح قواتنا العسكرية بأكثر الأسلحة تقدما وهكذا وهكذا. ثم ترى أشد الدعاة إلى العودة السلفية تحمسا يحيا هو نفسه من أول حياته اليومية إلى آخرها، مستعينا ومستمتعا بما أنتجته حضارة الغرب، فها هو ذلك المسئول الكبير، الذي تقدم بمذكرة رسمية إلى هيئة رسمية، يقول بين ما يقوله فيها إنه يطالب بالزيادة في تحفيظ شبابنا القرآن الكريم؛ ليستطيعوا مقاومة الحضارة القائمة. مفارقة تستوقف النظر، فالقلم الذي كتب به المسئول الكبير مذكرته أنتجته الحضارة القائمة، والمطبعة التي طبعت له المذكرة صنعتها الحضارة القائمة، ومكبر الصوت الذي تحدث أمامه المسئول الكبير ليسمع الحاضرون قوله هو كذلك من إنتاج الحضارة القائمة، والمصابيح الكهربائية التي تومض بأضوائها في سقف القاعة لتمكنه من قراءة مذكرته، هي مما اخترعته الحضارة القائمة، والسيارة التي انتقل بها سيادته من مكتبه إلى مكان الاجتماع أمدته بها الحضارة القائمة، والله أعلم بمن نسج له قماش ثيابه التي يرتديها، فهي حتى لو كانت صناعة مصرية، فهي إنما صنعت بآلات اشتريناها من أصحاب الحضارة القائمة. وإنه لفخر لنا أن نتابع حضارة العصر في إنتاجها، فبأي معنى - إذن - وفي أي جانب من جوانب الحضارة القائمة يريد المسئول الكبير لحافظ القرآن الكريم أن يقاوم تلك الحضارة؟ ولماذا يقاومها؟ ألم يكن الأصوب أن نحمل حافظ القرآن على التزود بقوته ليتمكن من المشاركة في البناء الحضاري، حتى لا نظل إلى الأبد عالة على أصحابها؟
نعم، كان من الطبيعي بعد الهزيمة أن نكمن في ركن من أركان ماضينا المجيد حتى نستعيد قوانا، ونسترجع الثقة في أنفسنا، لكنه أبعد ما يكون عن الطبيعي أن نستطيب الإقامة في ذلك الركن، فنرقد بين جدرانه رقدة الموت.
أليس من الحكمة أن نستعرض في هدوء عاقل ما صنعته بلاد «الجنس الأصفر» اليابان أولا، فالصين ثانيا، فكوريا ثالثا، وقد يكون هنالك غيرها من ذلك الجنس الأصفر تقدم بمثل ما تقدمت به الثلاثة المذكورة، أقول: أليس من الحكمة أن ندرس في أناة وموضوعية ونزاهة، ما صنعته تلك البلاد لتنهض ذلك النهوض القوي، مما لم نصنع نحن مثله فلم نتقدم بمثل ما تقدموا؟ لتكن نتائج هذا ما تكون، لكني أرجح أن يكون من أهم تلك النتائج أن أبناء الجنس الأصفر لم يقعوا في مثل الازدواجية المخيفة التي وقعنا فيها نحن، فالكلام والكتابة في ناحية، والحياة العملية في ناحية أخرى. وقد يسألني سائل قائلا: وماذا يضيرك فيما نقوله وما نكتبه، ما دامت حياتنا العملية تسير في إنشاءاتها ومشروعاتها في الطريق الذي تريد لنا أن نسير فيه؟
الإجابة عن هذا السؤال لها شقان: أولهما أن هؤلاء الذين يتكلمون ويكتبون في اتجاه مضاد للتاريخ إنما هم في الحقيقة من صفوة من أنفقت مصر على تعليمهم ما أنفقت، فلو أنهم تكلموا وكتبوا في الاتجاه الحضاري، لكنا بمثابة من استثمر المال الذي أنفقناه في تعليمهم؛ لأنهم كانوا سيصبحون قوة دافعة إلى الأمام، بدل أن يكونوا كما هم الآن قوة تسير إلى الوراء فتؤدي إلى «فرملة» السرعة التي كنا نتمنى أن نتقدم بها، وأما الشق الثاني من الإجابة فهو أن هؤلاء الألوف ممن يعيشون على دعوتهم الرجعية، كان يمكن أن يكونوا هم أنفسهم من البناة الذين يشيدون المنشآت الحضارية، فهم على كلا الشقين قوة مهدرة على أقل تقدير، إن لم يكونوا إلى جانب ذلك قوة معرقلة، ولك أن تضيف إلى شقي الإجابة المذكورين أن تلك الفئة الكبيرة التي تنفق حياتها في كلام وكتابة لا يعينان أحدا على عمل إيجابي، نشيد به مسكنا، أو نخبز به رغيفا من الخبز أو ننسج به ثوبا . أقول إن تلك الفئة بما تقوله وتكتبه قد تؤثر في بعض شبابنا تأثيرا هداما كهؤلاء الشباب الذين يبلغ بهم التطرف حدودا نعرفها جميعا، وننكرها جميعا، ونقيم لها في وسائل الإعلام ندوات بعد ندوات، لعلنا نفلح في أن نمحو من أذهانهم ما كنا نحن أنفسنا الذين حفرناه في أذهانهم بما قلناه وما كتبناه.
وماذا تقول في فئة من خيرة أعلامنا وهم يشغلون أنفسهم في وسائل الإعلام على اختلافها، بمسائل كهذه: من الذي يشفي المريض أهو الله سبحانه وتعالى أم الطبيب ودواؤه؟ من الذي انتصر في حرب 1973م، أهي قواتنا المسلحة وحدها، أم ساعدتهم على هذا النصر كائنات من الغيب المجهول؟ ما الذي أدى بالطالب المتفوق أن يتفوق، أهو جهده فقط أم كان هناك فوق جهده ما ليس يدريه؟ قل لي: بأي انطباع يخرج القارئ أو السامع لهذه الأمثلة والمناقشات التي تدور حولها؟ أليس من المحتمل أن يؤثر ذلك فيمن هو ضيق الأفق بطبعه، ضعيف الإرادة بطبعه، إلى أن يترك حياته كالسائمة السائبة في الفلاة لا تعرف اتجاها لسيرها، ولا هدفا تسعى إلى بلوغه، وأحب هنا أن أكون واضحا، حتى لا يسيء الفهم من يسيء عن عمد أو عن غفلة، فاعتراضي ليس منصبا على مشيئة الله سبحانه وتعالى، ولا على العوامل التي تعمل على أن نوفق أو لا نوفق في حياتنا، ولكن اعتراضي منصب على أن نجعل هذه الأمور موضوعا للسؤال والحيرة، فالمطلوب من الإنسان أن يحيا بكل جهده وبكل قدراته. وفوق ذلك يكون من مشيئة الله سبحانه وتعالى ما يشاؤه نتقبله مؤمنين. وإلا فليقل لي من يبلبلون أذهان شبابنا بأمثال هذه المسائل: على أي صورة يتغير سلوك المريض، إذا أقمت أمامه السؤال الأول فيما ذكرناه؟ أيذهب إلى الطبيب ويترشد بتوجيهه أم ينصرف عنه؟ فإذا كان الجواب هو أنه يجب أن يعرض حالته على الطبيب؛ فماذا إذن يغير منه أن تثار أمامه مشكلة كالتي ذكرناه؟ وأمثال ذلك كثير في وسائلنا الإعلامية، وعلى ألسنة أعلام من أعلامنا وبأقلامهم ، فانظر إلى هذا الجهد الذي يبذلونه وهم لا يريدون لأحد أن يغير من سلوكه شيئا على ضوء ما يسمعه أو يقرؤه.
وهكذا انسابت خواطري، فعدت إلى قلمي الذي تركته غاضبا، حين قد ثقل بين أصابعي، فأجريته ليخط على الورق هذا الذي أثاره عندي ما سمعته في المذياع الصغير عن كوريا ونهضتها، مما لم أكن أعلم منه إلا أقل من القليل.
الفصل الرابع
شرح وتشريح
عن حرية التفكير الجريحة أتحدث
إنني أوثر ألا أصل إلى بغيتي بأقصر الطرق؛ لأنني لو فعلت ذلك لأضعت على نفسي وعلى القارئ معالم هامة أريد لها أن تكون موضع السمع والبصر؛ ولذلك سأصحب القارئ في خط دائري يدور حول موضوع الحديث، قبل أن نمسه مسا مباشرا. وأما هذا الخط الدائري الذي أعنيه فهو لمحات من المنهج العلمي؛ لأني أرى في تلك اللمحات معينا قويا على مواجهة الموضوع الذي هو هدف الحديث.
أما اللمحة المنهجية الأولى فهي أن نتبين أوضح ما يكون التبين وأقواه، بأن أي لفظ من ألفاظ اللغة التي تستخدمها فيما تقول وما تكتب، ليس هو «الشيء» الذي جاء ذلك اللفظ ليعنيه، أي ليشير إليه، أو لينوب عنه؟ فلفظة «كرسي» ليست هي الكرسي الشيء الذي تجلس عليه، وكلمة «لحم» ليس فيها شيء من البروتين الحيواني الذي يتغذى به الجسم؟ وكلمة «أسد» لا تزأر ولا تفترس، إن أية كلمة منطوقة إنما هي موجات الهواء تلفظها الشفتان عند مرسلها، وتتلقاها الأذن عند سامعها.
وأية كلمة مكتوبة إن هي إلا قطرة من مداد جفت على الورق، ذلك إذا كان كاتبها قد استخدم لها قلم الحبر والورق.
لكن ألفاظ اللغة تلك ليست هي كل شيء، إنما هي «رموز» اصطلح عليها أصحابها، لتنوب كل منها عن الشيء الذي أريد لها أن تنوب عنه، وذلك لاستحالة أن نقدم - بعضنا إلى بعض - الأشياء نفسها عند التفاهم، فليس بوسعي أن أقدم لك فيلا كلما أردت أن أحدثك بشيء عن الفيل، فتواضعنا أنت وأنا على أن تنوب هذه اللفظة عنه، ليتم بيننا الحديث الذي أردناه. على أن من الألفاظ ما صنعناه لا ليدل على شيء بعينه، بل ليدل على «علاقة» قائمة بين أشياء، مثل كلمة «بين» التي ذكرتها لتوي! فإذا قلت لسامعي: إن مدينة المنيا تقع بين القاهرة وأسيوط؛ كان الموجود القائم على أرض الطبيعة ثلاث مدن، هي المذكورة في الجملة، وأما «بين» فليست تشير إلى «شيء» بل تشير إلى علاقة معينة تربط الأشياء على صورة محددة، وإذا أعدت النظر إلى الجملة المذكورة، وجدت كلمات أخرى لا تسمي أشياء، بل تشير إلى علاقات تصل الأشياء بعضها ببعض، أو تصل الأشياء بالمتكلم نفسه، وشرح ذلك يطول، ولكن يكفينا عن «حرية التفكير»، ولكي أقيم الحديث عن أرض في صلابة الحديد، صممت على أن أشرك القارئ معي في «منهج» التناول ومحور المنهج هنا هو أن تقف عند العبارة نفسها أولا، أعني العبارة التي جعلناها موضوعا لحديثنا؛ إذ ما جدوى أن نتحدث قبل أن نتفق، بادئ ذي بدء، على حقيقة ما أردنا أن ندير حوله الحديث، فالعبارة المشار إليها مؤلفة من لفظتين: «حرية» و«تفكير»، على أن اللفظتين لم نرد لهما أن تكونا مستقلتين إحداهما عن الأخرى، بل أضفنا إحداهما إلى الأخرى، والمضاف إليه هو «التفكير»، والمضاف هو الحرية، وإذن فالتفكير وطبيعته وحقيقته هو الأساس، ثم بعد ذلك تجيء الصفة المعينة التي قصدنا إليها وهي صفة أن يكون ذلك التفكير «حرا»، فماذا نعني بتلك الصفة حين تضاف إلى التفكير، وذلك لأنها قد تصف أشياء أخرى كثيرة، ليست هي جزءا من موضوع حديثنا هذا.
ونبدأ «بالتفكير» ماذا يعني؟ وأرجوك أن تستحضر في ذهنك ما قد أسلفناه، وهو أن «اللفظة» ليست هي «الشيء» الذي جاءت اللفظة لتشير إليه، فنحن الآن نسأل عن ذلك «الشيء» الذي تعنيه كلمة تفكير، وأول ما نجيب به هو أن الشيء المطلوب في هذه الحالة المعينة هو «عملية» مؤداها شديد الشبه بالعملية التي يؤديها من أراد أن يقوم برحلة، فرسم لرحلته المرتقبة خريطة تبين طريق السير ومراحله؛ فإذا كانت الخريطة قد رسمت بدقة، جاءت الرحلة على أرض الواقع مطابقة لها مرحلة فمرحلة فهدفا منشودا، «وعملية التفكير» هي من هذا القبيل نفسه، مع اختلاف الأهداف وتنويعها، ويكون التفكير سليما ودقيقا؛ بقدر ما نجد أنفسنا أثناء التنفيذ موفقين خطوة بعد خطوة حتى نبلغ ختام الرحلة، فإذا هو الهدف الذي ابتغيناه لأنفسنا منذ البداية، وعلى سبيل التوضيح أحكي لك ما يأتي: لقد أردت لرحلتي صيف هذا العام (1984م) أن أقضي أسبوعا في مكان ما، وكعادتي دائما، أردت أن أعد كل ما يمكنني إعداده من تفصيلات التنفيذ قبل أن أبدأ السير، وكان بين تلك التفصيلات أن لجأت لإحدى الشركات لتحجز لي غرفة في المكان المقصود، من يوم كذا إلى يوم كذا، وتم كل شيء في إعداد «الخريطة» أو قل إنني أتممت عملية «التفكير»، فلما وصلت إلى المكان المقصود، فوجئت بأن الغرفة قد حجزت لي في أيام أخرى غير الأيام التي أردتها، وكان ما كان من عناء، فها هنا ترى أن «التفكير» لا بد أن يكون قد حدث فيه «خطأ» ما، هو الذي ظهر على الصورة التي ظهر بها عند التطبيق.
وإننا لنسأل: إلى أي شيء تشير كلمة «تفكير» (ولا تنس أن الكلمة ليست هي الشيء الذي جاءت لتعنيه) وها هو ذا جوابنا نعيده: التفكير عملية ذهنية نرسم بها خريطة العمل المؤدي إلى تحقيق هدف ما، وبعد ذلك لتتنوع الأهداف ما شاء لها أصحابها أن تتنوع، لكنها جميعا تلتقي عند هذا الأصل المشترك، فصاحب العمارة التي تنهار بعد بنائها، لم يكن يريد لها أن تنهار، لكنها انهارت لخطأ وقع في عملية التفكير الأولى، أي إنه حسب فأخطأ في الحساب، وخريج الجامعة الذي نراه غير مستوف للصفات التي كنا نود أن نجده محققا لها، لم يكن يريد، ولا كنا نحن نريد له أن يتخرج ضعيفا في مهاراته ومدركاته، لكنه خطأ وقعنا فيه عند رسم الخريطة الفكرية للتعليم الجامعي، وهكذا، كما أن الجوانب الكثيرة التي جاءت ناجحة ومحققة لأهدافها إنما استمدت نجاحها من دقة «التفكير» الذي سبق تنفيذه، ونحن إذ نقول عن أنفسنا - بصفة عامة - إنه ينقصنا شيء كثير من دقة التفكير العلمي؛ فإنما نعني هذا الذي ذكرناه، وهو أننا كثيرا ما «نفكر» فيما نريد إنجازه، فلا نحسن رسم الخرائط الذهنية لما نريده، فتجيء منجزاتنا وفيها من الضعف ما ينتهي بها إلى فشل جزئي، أو أحيانا فشل كامل.
هذا - إذن - هو التفكير، فماذا تكون «حريته» عندما يكون حرا؟ وللإجابة عن ذلك نعود إلى تشبيهنا عملية التفكير في موضوع ما برسم خريطة لرحلة نريد القيام بها، فالتفكير الحر هو الذي لا يتدخل أحد ذو سلطان في طريقة الراسم للخريطة، فهو راسمها، وهو بعد ذلك مسئول عن تحقيقها لأغراضها، فافرض - مثلا - أنه قد طلب إلى مسئول أن يعد خطة - والخطة والخريطة مترادفان - للتعليم الجامعي في مصر، فجلس هذا المسئول «يفكر» والتفكير هو عملية رسم الخطة، فإذا به قد جعل أولى خطوات رحلته، تحديد الأعداد التي يسمح لها بالتعليم الجامعي، فهبط عليه عندئذ صوت من ذي سلطان أعلى، ليقول له: لا، لا بد لك أن ترسم خطتك على أساس أن لا تحديد؛ لأننا نريد لأبناء الشعب كله أن يتخرجوا في جامعات إذا استطعنا، كان هذا التدخل عاملا على تقييد حرية التفكير؛ لأن الخريطة عندئذ لن تستوفي شروطها التي من أجلها سميت باسمها.
ولنوضح فنقول: إن في فلسفة الرياضة ضربا من العلاقة، يطلقون عليه اسم «علاقة واحد بواحد»، وذلك عندما تقول عن شيئين إن بينهما تشابها كاملا، فالشيئان يتشابهان إذا كان كل عنصر من مقومات الشيء الأول يقابله عنصر مثيل في الشيء الثاني، فمثلا إذا قلنا عن صورة لفرد معين من الناس إنها صورة دقيقة له، كان معنى ذلك أن كل مقوم من مقومات الفرد الذي صورناه يقابله مقوم مثيل في الصورة، وهكذا تكون الفكرة بالنسبة لمشروعها، ينبغي أن يكون بين الجانبين علاقة واحد بواحد، لكن افرض أن الفرد الذي أريد تصويره اشترط على المصور ألا يخرجه أصلع الرأس، كما هو في حقيقته، فيكسو رأسه بفروة من الشعر، جاءت النتيجة - بالطبع - محققة لرغبات صاحب السلطة، وغير محققة للحقيقة في موضوعيتها، وقد حدث لي ذات يوم من عام بعيد، أن سمعت سيدة تطلب من المصور الفوتغرافي أن يدخل على صورتها «رتوش»، يحيلها بيضاء ممتلئة الجسم، وشيء كهذا تماما هو الذي يحدث، عندما يشترط صاحب سلطان - أيا كان نوع سلطته - على المفكر أن تجيء الفكرة مطابقة لما يريده هو لها بغض النظر عن الحقيقة الموضوعية كما يراها المفكر حين يأخذ في رسم خريطته الذهنية التي توصل الناس إلى هدف مقصود.
إنني لأكاشف القارئ بحقيقة تصادفني مرة بعد مرة، وهي أن أجد الكاتب الذي أقرأ له ممن كنت أقرأ لهم من كتاب الغرب قد عرض مشكلة اجتماعية أو تربوية أو كائنة ما كانت مما أراه شبيها بعض الشبه بمشكلاتنا نحن في بلدنا، لكنني أجده قد رسم لها حلولا يستحيل على كاتب مصري أن يجرؤ على مجرد ذكرها على قومه، حتى ولو كانت حلولا - في رأيه - تصلح للتهذيب والتعديل، إذا لم يكن ممكنا أخذها بحذافيرها. لماذا؟ لأن في بلدنا - إذا لم يكن القارئ يعلم فليعلم - فئات أعطت نفسها حق «الفيتو»، فإذا قالت: لا، وجب على الشعب كله أن يردد وراءها: لا، وبهذا تنتفي حرية التفكير.
وقد لا يصدقني القارئ إذا أنبأته بأن بيننا من يصادف فكرة تعجبه عند مفكر غربي، لكنه في الوقت نفسه يراها تتضمن بعض الجوانب التي قد يمارس عليها أصحاب الحق في «الفيتو» حقهم في الرفض، فماذا يصنع؟ إنه بدل أن يترك الفكرة برمتها؛ نراه وقد لجأ إلى حذف أجزائها غير المرغوب فيها، مع أن مثل هذا الحذف - أحيانا - يكون من الخطورة بحيث تنقل الفكرة من صورتها الأصلية إلى نقيضها، ولا علينا إذا وقع افتراء على المؤلف الأصلي، بل لا علينا إذا مسخت الحقيقة العلمية مسخا، ومن الأمثلة العامة التي ترد الآن على خاطري «الميثاق» الذي أصدرناه سنة 1962م، وليس الذي يعنيني منه هنا جانبه السياسي، بل الذي يعنيني الآن هو الجانب الذي يمس منطق الفكر، فقد بني الميثاق على مذهب الاشتراكية العلمية كما فهمت تلك الفكرة عند أصحابها من زاوية الفلسفة المادية الجدلية، والأساس في تلك الفلسفة هو ألا شيء وراء الطبيعة المادية، وبالتالي فإذا أردنا أن نرد النظم الاقتصادية والاجتماعية بصفة عامة إلى أصولها الأولى ألفينا أنفسنا وقد انتهى بنا التحليل آخر الأمر إلى البيئة المادية، وما تحتوي عليه من عوامل وظروف، ومن تلك العوامل أدوات الإنتاج ونوعها، إلى آخر ما يقال في هذا الباب، لكن واضع الميثاق - أو واضعيه - كما لو كانوا قد تذكروا فجأة أننا شعب مؤمن بالله، ومن مقتضى الإيمان بالله أن يكون إطار الرؤية العامة قائما على أساس أسبقية الفكرة على المادة؛ لأن هذه مربوبة لتلك؛ فأضاف واضع الميثاق فصلا أخيرا يعلن فيه أننا مؤمنون بالله آخذون بما يقضي به دين الله، فها هنا أحب لك أن تلحظ التحليل في منطق التفكير، فأنصار المادية الجدلية وما يلزم عنها من اشتراكية علمية متسقون مع أنفسهم حين ينتهون آخر الأمر إلى وقفة إلحادية، لا هي تؤمن بالله ولا هي تقيم سلوكها على دين الله؛ لأن هذه النتيجة مشتقة من المقدمة التي تفترض أن الطبيعة المادية تفسر كل ما يحدث بين جنباتها، بما في ذلك الإنسان وحياته وتاريخه. فإذا جئنا نحن لنأخذ المقدمة ذاتها ثم لنتلافى النقطة الخاصة بالإيمان الديني، فأضفناها إضافة مصطنعة، وقعنا في تناقض، ولا مخرج لنا من هذا المأزق إلا بأحد أمرين: فإما أن نحرص على المقدمة، وعندئذ نلتزم بنتائجها، وإما أن نحرص على تلك النتائج فلا يكون لنا بد من رفض المقدمة التي كانت قد أدت بأصحابها إلى ما ينقض النتائج الإيمانية التي نحن حريصون على بقائها، ولست أظن أن الكثرة الغالبة منا تتردد لحظة في الاختيار بين هذين البديلين؛ إذن تختار البديل الثاني. ومرة أخرى أقول: إنني لم أذكر هذا المثل لدلالته السياسية، بل ذكرته لأبين به كيف نخدع أنفسنا بمسخ ما ننقله عن غيرنا من فكر مسخا يجعله في ظاهره مسايرا لوجهة نظرنا، ولم يكن مثل هذا التلفيق ليضرنا في شيء، لولا أنه في أغلب الحالات يتركنا أمام فكر مضطرب لا يستند إلى جذور ثابتة.
إن موضوع حديثنا هذا هو حرية التفكير، وقد أسلفت القول بأن تلك الحرية تقتضي من رجل الفكر أن يرسم بفكره خريطة للسير من أجل الوصول إلى هدف منشود، وأنه إذا تدخل ذو سلطان بإقحامه على الخريطة شروطا من إضافة أو حذف، كان بمثابة من يحول بين السائر وبلوغه الغاية التي يستهدفها، وأود الآن أن أعرض جانبا من جوانب المنهج العلمي في التفكير؛ لأنه جانب بالغ الأهمية فيما نحن بصدد الحديث فيه، وذلك هو أن كل تفكير منهجي مهما يكن موضوعه لا بد أن يبدأ من أساس يوضع وضعا، إما على سبيل الفرض، وإما لأنه نص مأخوذ مأخذ التسليم، فحركة الفكر لا تبدأ من فراغ، خذ المجال العلمي الصرف تجد هناك مجموعتين من العلوم، لكل مجموعة منها منهاجها في السير: الأولى هي مجموعة العلوم الرياضية، ومنهاجها هو أن تجعل أساسها الذي تبدأ منه سيرها الاستدلالي عددا مما يسمونه بالمسلمات، لكن تلك المسلمات قابلة للتبديل على أيدي العلماء المختلفين، ولا ضير في ذلك طالما التزم كل منهم مسلماته التي صدر بها سيره الاستدلالي، وأما المجموعة الثانية فهي العلوم الطبيعية، وهنا يكون الأساس الذي يبدأ منه الباحث سيره الاستدلالي ما يسمونه «فرضا» يبني على ما كان قد جمع من شواهد ومعطيات، وهنا أيضا يجب على الباحث العلمي أن يبدل فرضه بفرض آخر إذا وجد أن فرضه الأول قد أوصله إلى نتائج لا تتفق مع واقع الأشياء.
وأما في مجالات الفكر الأخرى، وفي مقدمتها الفكر الديني؛ فالأساس الذي يوضع أمام الباحث العلمي ليبدأ منه سيره الاستدلالي هو النص أو النصوص التي آمن بصدقها إيمانا دينيا، والفرق بين هذه الحالة والحالتين السابقتين وهما: العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية، هو أن الأساس المبدوء منه غير قابل للتبديل من باحث إلى باحث.
ولقد ذكرت هذا كله لأوضح على ضوئه كيف تكون حرية التفكير في كل حالة من هذه الحالات، أما في الحالتين الأوليين، فالباحث العلمي حر في فروضه التي يرى فيها قابلية الوصول إلى نتائج صالحة للتطبيق، وأما في الحالة الثالثة؛ فالأغلب فيها أن يكون النص أو النصوص التي تحتم على المؤمنين بها قبولها وتصديقها، أقول إن الأغلب في هذه الحالات أن تكون النصوص قابلة لتعدد التأويلات في فهمها، ولهذا قد تتعدد المذاهب فيما تستخرجه من أحكام ونتائج، وفي هذه الحالة لا ينال من قدرة الفقيه وسمعته أن يختلف مذهبه عن فقيه آخر، ومن حق المتلقي العادي أن يقبل أحدهما دون الآخر ولا يكون في ذلك خروج على مصادر إيمانه.
فإذا أردنا أن نعمم القول تعميما يشمل كل مواقف التفكير لترى متى يكون التفكير حرا ومتى لا يكون، قلنا إن هنالك طرفين لكل موقف: أما أحدهما فهو الأمر الواقع، وأما الآخر فهو تفسير ذلك الأمر الواقع، واستدلال النتائج التي تترتب على وقوعه، ففي الطرف الأول لا مجال لحرية المفكر، فالواقع واقع، وفي المجال الثاني يكون للمفكر كل الحرية في استخدام قدراته ليفسر ذلك الأمر الواقع بما يراه تفسيرا مقبولا عند العقل «والتفسير معناه رد الشيء إلى ما يمكن أن يكون مصدرا لحدوثه»، كما يكون المفكر حرا كذلك في استدلال النتائج التي يرى أنها يمكن صدورها عن ذلك الواقع، خذ مثلا لذلك: هذه هي أرضنا التي نعيش على سطحها، تدور حول نفسها دورة الليل والنهار، كما تدور كذلك حول الشمس دورة الفصول الأربعة، فليس لأحد حيلة سوى أن يقبل هذا الأمر الواقع، لكن نبدأ حرية العقل في فاعليته حين يسأل: كيف حدث هذا؟ فها هنا لا قيد على العقل في أن يفسر وأن يستدل طالما هو يبين في دقة كيف سارت خطواته المنطقية وهو يرد ذلك الأمر الواقع إلى مصدره، ثم وهو يستدل ما عساه يحدث بعد ذلك. وخذ مثلا آخر من حياتنا العملية: فهنالك أمر واقع خاص بشبابنا في هذه المرحلة الزمنية الراهنة يمكن تحليلها تحليلا علميا دقيقا من حيث ميوله ونزعاته ومداركه، وما إلى ذلك من جوانب حياته، وليس لأحد منا حيلة سوى أن يقبل بأن تلك الصورة التي يقدمها لنا التحليل العلمي هي أمر واقع، ويبدأ نشاط العقل في عملية التفكير الحرة حين يأخذ في البحث عن الأصل الذي انبثقت منه حالة شبابنا الواقع، وحين يستبق الزمن لينبئ بما عسى أن يترتب على هذه الحالة من نتائج، لو أنها تركت هكذا بغير تعديل، فإذا تدخلت سلطة أيا كان نوعها وحالت بين العقل وبين أن يفسر أو أن يستدل كان ذلك قتلا لحرية التفكير.
وحرية التفكير إنما هي نوع واحد من صور متعددة تتبدى فيها «الحرية»، فهنالك العبد يعتقه مولاه فيصير حرا، وهنالك السجين يفك القيد عن يديه أو قدميه أو يفتح له باب سجنه ليخرج طليقا، وهنالك الفرد أو الشعب الذي تستبد به سلطة ما لترغمه على سلوك معين أو لتحرمه من سلوك معين، وقد يثور ذلك الفرد أو الشعب على من استبد به ليسلك في حياته كما يريد لنفسه أو أن يحكم نفسه بنفسه على الصورة التي اختارها، وهنالك وهنالك، لكن صورة الحرية مهما اختلفت وتنوعت فأظنها تلتقي عند أصل واحد وهو أن يكون هناك قيد ما أضيف بغير ضرورة ملزمة إلى القيود الطبيعية التي لا مفر منها، والحرية في كل صورة من صورها هي كسر ذلك القيد، ولعل أسمى ما يسمو إليه الإنسان في مدارج الحرية هو أن يكشف بالعلم سر الطبيعة في هذا الجانب منها أو ذاك، فيصبح بهذا الكشف سيدها بعد أن كان سجينها؛ لأنه كلما كشف سرا من أسرارها كان له بذلك القدرة على تسخيرها في المجال الذي انكشف له سره.
لكننا في هذا الحديث قد قصرنا أنفسنا على نوع واحد من الحرية، وهو حين تكون تلك الحرية مضافة إلى عقل يفكر، ولقد اخترنا حرية التفكير موضوعا للحديث بعد أن رأيناها قد أوشكت أن تكون شهيدة طغيان غاشم.
الفصل الخامس
رهبة المجهول
عن الحرية المغامرة أتحدث
من يقرأ لي فيراني متلفعا بمنطق العقل رائحا وغاديا، قد لا يعلم أن لي خيالا يشتعل لأتفه المؤثرات، اشتعالا يكتسح أمامه كل ما يعترض طريقه من قوى النفس الأخرى ، ولكم تأملت طبيعتي تلك، إذا ما انزاح من رأسي ما اشتعل فيه من سورة خيال تشطح بي إلى دنيا المستحيلات والعجائب، فأحزنني عندئذ أن أجد تلك القوة العارمة في فطرتي، مضيعة مع الهباء؛ لأنه وإن يكن خيالا ملتهبا، إلا أن لهبه يحرق ولا يضيء، ويهدم أكثر مما يبني، ولو كان خيالا بناء مع قوته تلك، لأنتج لي أعمالا فنية تستعصي على الفناء السريع، ولكنه لم يفعل، واكتفى معي بتلك الشطحات المجنونة إلى عوالم أغرب من عالم علاء الدين.
ولم يتغير الموقف في ذلك كثيرا بين طفولتي وأعوام نضجي، اللهم إلا أن يكون الفرق بين العهدين هو أن احتكامي إلى العقل ومنطقه أخذ مع الأيام يزداد، وربما كان ذلك لرغبة أكيدة في عمق نفسي بأن يتولى العقل عني كبح الخيال إذا جمح، ولو كان خيالا بناء - كما قلت - لأرخيت له العنان ليفعل فعله، لكنه جموح، وكثيرا ما شعرت بشيء من النجاح فيما أردته؛ إذ كنت ألحظ أن ذلك الخيال الملجم المكبوت، يتحول معي إلى أحلام هي أروع وأنصع ما تكون الأحلام عند حالم، وعندئذ ينفض الإشكال، فتوزع نفسي قوتيها بين صحو ونوم، فللصحو نشاط العقل بمنطقه، وللنوم أحلام يشطح بها الخيال كما يشاء.
وكان من لحظات الطفولة لحظة، حكيت فيها حكاية على مسمع مني، فحركت في جوفي ذلك الخيال بأقوى قوته، حتى لقد بقيت معي شعلته حتى هذه الساعة من حياتي، ولو أن شعلته تتقد حينا وتخبو حينا. وكانت تلك الحكاية تحكي عن قصر فيه أربعون غرفة، قيل لساكنيه أن يرتعوا في تسع وثلاثين منها، أما الغرفة الأربعون فهي مغلقة، ويجب أن تظل مغلقة حتى لا يكشف أحد عن شيء من سرها المكتوم. وانتهى الحاكي - أو الحاكية لا أذكر - وبدأ الخيال يؤرقني في نهار وفي ليل: ماذا يا ترى في تلك الغرفة المحرمة؟!
ومرت بي الأعوام، وتقدمت بي السن، والسؤال ما زال قائما، لولا أن نطاقه قد اتسع، ولم يعد يسأل عن غرفة واحدة من أربعين غرفة، بل ازدادت الغرف المغلقة على أسرارها ازديادا أشرك العقل في أمره مع الخيال، فكل ذرة في هذا الكون الفسيح العظيم منطوية على سر، يكشف لنا جانبا من حقيقتها، وتخفي جانبا أو جوانب، وكأنها الحسناء ترخي قناعها على شيء وتضمه عن شيء، والناس حيال حقائق الكون المكشوفة المحجوبة أحد رجلين: فرجل يؤثر أن يزيد من ألغاز ما انكشف ليصبح كل شيء فوق قدرات البشر، ورجل آخر يصب الضوء على ما احتجب، حتى ينكشف مع ما انكشف، فيزداد الإنسان علما بدنياه، فيزداد نتيجة لذلك قدرة على أن يمسك بالعنان، وأراني من الصنف الثاني، وأرى كثيرين حولي من الصنف الأول، وحول هذا المحور الانقسامي تدور حياتنا الفكرية كلها.
الإنسان بطبعه يرهب المجهول رهبته من الظلام، ويطمئن لما هو معلوم له اطمئنانه للضوء، ففي الظلام تنشط العفاريت وتتحرك الأشباح، وتستيقظ كثرة كثيرة من الحيوان المخيفة ومن الحشرات القارضة واللاسعة والسامة، وكذلك في ظلام الليل يسطو اللصوص على فرائسهم وتحاك المؤامرات وتدبر الوقيعة، مهما قيل بعد ذلك عن الليل من حلو السمر فيه ولقاء المحبين، وحقيق بالمؤمن أن يعوذ برب الفلق من شر غاسق إذا وقب، ففي ستر الغسق ينزوي الشر من مكامنه، وتنفث النفاثات بسحرهن في العقد ليؤذين من أردن بهم الأذى، ويدبر الحاسد شراك حسده ليهدم من يدبر له أن ينهدم، ولما كان الإنسان بطبعه يرهب المجهول رهبته من الظلام، حق للمؤمن أن يعوذ برب الفلق من خطورة المجهول وشره، ولكنني أرى - وا عجباه - أصحاب الفكر منا ينقسمون رأيين: فإذا كانت دنيانا فيها المعلوم لنا وفيها المجهول، والمعلوم ضوء والمجهول ظلام، والأول مؤنس والثاني موحش، فمنا من يتجه برأيه إلى محاولة أن يصبح الكل معلوما - ما وسع الإنسان أن يعلم - ليصبح الكل نورا تطمئن له النفوس، ومنا كذلك من يتجه برأيه في الاتجاه المضاد، فيحاول أن يبين للناس أن ما حسبوه معلوما إنما هو مغلق مجهول، فالكل علينا ظلام في ظلام، وبين من يسعى إلى إضاءة المظلم، ومن يحاول إظلام المضيء، تقع حياتنا الفكرية جدالا لا أظنه ينفع أحدا أو يشفع لأحد.
علم الإنسان بشيء معناه حريته إزاء ذلك الشيء، يصوغه كما شاء ويحركه كما شاء، ومزيد من العلم به هو في الوقت نفسه مزيد من حرية الإنسان، إنه إذا بقي الإنسان منحصرا في ذاته هو، لما عرف الكثير عن تلك الذات نفسها، ولما استطاع عندئذ أن يتحرك إلا بمقدار ما تسعفه رجلاه على التحرك، وكان تطوره في هذا الصدد يقف عند حدود الدواب التي يجد في مقدوره أن يسخرها، لكنه إذ عرف سر البخار وقدرته، كان له القطار والباخرة والمصنع الذي تدور عجلاته بغير سواعد البشر، وإذ عرف الكهرباء ازداد تحرره من قيد المكان، وتحولت ظلمة الليل إلى ضوء النهار، إذا أراد لها الإنسان أن تتحول، ثم عرف الذرة وقوتها الحبيسة، فعرف كيف يطلق تلك القوة من سجنها، فكان له ما كان من معجزات تتكشف له كل صباح. إن التحرر من قيود المكان وقيود الزمان، هو من أبرز ما يميز الإنسان من سائر الكائنات الحية، فالنبات سجين موقعه من الأرض، لا يتحول عنه إلى موقع آخر، فلئن كان يعلو بجذعه وفروعه في حركة رأسية، فهو لا يستطيع الحركة الأفقية التي فيها أمام وفيها وراء، وفيها يمين ويسار، فيأتي بعد النبات حيوان ليقهر قيد المكان، محدودا في ذلك بحركة جسمه، لكنه يظل مقيدا بلحظته الزمنية، فهو لا يعرف من زمانه إلا «الآن»، ليس له أمس ولا غد، ليس له تاريخ يعيه ويستلهمه، وليس له مستقبل يتسلفه ويدبر له، وأما الإنسان ففي جوهره أن يحطم قيود المكان وقيود الزمان معا، دون أن تحده في ذلك حدود، فها هو ذا قد أخذ يزداد تحررا في خفة حركته وسرعتها، حتى تغلب على قوة الأرض في جذبها لجسده؛ إذ جاوز حدود الأرض وغلافها ومجالها، وأما قيود الزمان فقد أعانته فطرته على تحطيمها منذ خلقه الله إنسانا، إن اللحظة الراهنة لا تعتقله بحدودها، فله من الخيال ما يطير به إلى اللانهاية فيما هو آت أو ما يقدر هو بحسابه أنه آت - ولا يزيل عنه قوة الخيال أن يخطئ في الحساب - كما أن له من قوة الذاكرة ما يسترجع به الماضي وكأنه يحيا في رحابه مع أبناء ذلك الماضي.
تلك الحرية كلها مكسوبة للإنسان، مرتفعة به عن سائر الأحياء إلى فلك أرفع وأسمى، وهي حرية مرهونة بفطرته البشرية أولا وبما هو في مقدور تلك الفطرة من «علم» بطبائع الأشياء، ولقد ألفنا جميعا ألا نفهم من حرية الإنسان إلا الجانب السلبي وحده، دون جانبها الإيجابي الذي بفضله تبنى الحضارات وتقام الثقافات، وجانبها السلبي هو المرحلة الأولى التي تفك فيها القيود، ويصبح الإنسان بعد ذلك «حرا» في أن ينطلق إلى حيث شاء، وها هنا يأتي الجانب الإيجابي من الحرية، فإلى أين ينطلق، وكيف ينطلق، وعند هذه النقطة تأتي أهمية المعرفة بطبائع الأشياء، وعندما أمرنا في كتاب الله أن نضرب في مناكب الأرض، وأن نتفكر في خلق السموات والأرض، كان ذلك التوجيه الإلهي بمثابة إرشادنا إلى الشرط الأساسي الذي بغيره لا تتحقق للإنسان حريته بمعناها الإيجابي البناء. وتلك الحرية - بمفهومها السلبي والإيجابي - هي بدورها المقوم الأساسي لجوهر الإنسان وكرامته، وهل تكون مسئولية خلقية بغيرها، أو يكون للإنسان بدونها حضارة تقام بعلومها وفنونها ونظمها وسائر عناصرها؟
مغامرة الإنسان في مواجهته للمجهول، وهتك أستاره وكشف أسراره، ثم تسخيره وتسييره إلى حيث أراد له الإنسان أن يسير، إنما هي صميم الصميم من حرية الإنسان، وقد يغنى فيه أفراد من الناس عن أفراد؛ لأن الناس متفاوتون في القدرات، وتلك المغامرة في مواجهة المجهول قدرة قد توهب لإنسان ولا توهب لآخر، لكنها مع ذلك قدرة يجب أن نجعلها في طليعة القدرات التي نربي أبناءنا على اكتسابها، فالموهبة دائما تكون هي الأساس، ولا بد لها من شحذ وتدريب وتنمية حتى تثمر، وأحسب أن ليس في البشر جميعا إنسان خلت فطرته من هذه الموهبة، أو تلك، لكنه الخوف من الحرية الذي يصاب به من يصاب فيشل عن المغامرة ملقيا بالعبء على سواه، وهذا السوى قد يحيل المهمة بدوره على سوى آخر، وهكذا قد تتسع الدائرة حتى تصبح شاملة للأمة كلها أو معظمها، وأعتقد أن هذه الحالة المتواكلة هي جزء مما أصابنا منذ القرن السادس عشر، وحتى تباشير النهضة الجديدة في أوائل القرن التاسع عشر، حيث أخذت الصحوة تعلو بنا لتردنا إلى ما كنا عليه في تاريخنا كله، من إبداع حضاري لم يفتر قط بمثل ما أخذه الفتور - بصفة عامة - في المرحلة الأخيرة، فها هنا غمرتنا حضارة الغرب، فلم نكد نأخذ منها بنصيب حتى أوهمنا من أوهمنا بأنها ليست منا ولا نحن منها، فسرى في أوصالنا «خوف» من المغامرة، خوف من الحرية، خوف من الإبداع الذي نشارك به سائر الدنيا التي تقدمت.
وقد تعجب من كلمة «خوف» في هذا السياق، الذي يسوقها منسوبة إلى «الحرية» كيف هذا؟ من ذا الذي يخيفه أن يكون حرا؟ ألسنا نثير الثورة تلو الثورة لنظفر بالحرية في جوانبها المتعددة؟ وهذا كله صحيح، لكننا لم نكد نظفر بجانب منها، حتى رأينا كثرتنا الغالبة قد استثقلت عبئها، فأحالت ذلك العبء إلى أفراد منا قليلين، ليكونوا هم الأحرار أصالة عن أنفسهم، ونيابة عن بقية الشعب، وأقول ذلك راجيا أن يفهم بالمعنى الحضاري العام، وألا يقصر على جانب السياسة وحدها؛ لأن في الحضارة عناصر كثيرة أخرى غير السياسة، ففيها علوم تقتضي منهجا خاصا في النظر إلى الأشياء، فإذا كانت العلوم قد حصلها نفر وتأثر بمنهاجها، فهو نفر، أقل من القليل، ولن يكون لنا نهضة حقيقية إلا إذا تسربت الرؤية العلمية الجديدة قطرة قطرة، حتى تعم الشعب كله بدرجات، وتصبح طابعا يميزه عن نفسه وهو في مراحل تاريخه الماضي.
وفي الحضارة فنون وآداب وفكر، ولكل ذلك في حضارة عصرنا مذاق خاص يميزه عن أشباهها في المراحل الحضارية السابقة، وفي هذا المجال - كما في مجال العلوم ومنهاجها - اقتصر الأمر على فئة قليلة، قليلة جدا، هي التي أتاحت لها الظروف أن تتذوق روح العصر في تلك الجوانب المذكورة، ومرة أخرى أقول: إنه لن يكون لنا نهضة حقيقية إلا إذا تقطر الذوق الجديد قطرة قطرة حتى يعم الشعب كله بدرجات، وإلا لظل هذا الشعب غريبا في دنياه، غربة أهل الكهف حين استيقظوا وساروا في شوارع المدينة، فإذا كل شيء حولهم ينكرهم، وإذا هم ينكرون كل شيء، على أني أحب أن أوضح هنا بأن المقصود بهذا ليس هو أن نحاكي سوانا محاكاة تستغرق ذواتنا، بل المقصود هو أن ندخل مع حضارة العصر وثقافته دخول من يقبل ويرفض ويعدل، أي دخول من يحاور ويجادل ويبدع، لكن هذا كله يتطلب أولا إلماما بعصرنا وما يدور فيه لا إلمام من يسمع الأخبار وكأنها ليست من شأنه هو، بل إلمام من يتبنى القضية لتكون جزءا من حياته، مؤيدا أو مهاجما، وقد فعل شيئا كهذا جمال الدين الأفغاني في «الرد على الدهريين»، وسواء أصاب أو لم يصب فيما أورده من أفكار في ذلك الكتاب، إلا أنه لم يكن ليكتب سطرا منه إذا لم يكن قد ألم بقدر مستطاعه بتيارات الفكر في أوروبا في عصره، وفي ألمانيا بصفة خاصة، وكذلك فعل شيئا كهذا الإمام الشيخ محمد عبده، حين كتب رده على هانوتو، وحين زار فيلسوف بريطانيا إذ ذاك «هربرت سبنسر» أثناء زيارة الإمام لتلك البلاد؛ لأنها لم تكن زيارة تفريج، بل كانت زيارة تتيح الفرصة لحوار يدور بين ثقافتين، وفعل شيئا كهذا أيضا كثيرون جدا من أعلامنا، فأين هؤلاء جميعا ممن ينادون اليوم بالفزع مما أسموه بالغزو الثقافي؟ وأين هؤلاء جميعا من ذلك المسئول الكبير الذي سمعته يقول: إن في الدنيا الآن حضارة جديدة، وعلينا أن نحمل شبابنا على حفظ القرآن الكريم ليقاوموا به تلك الحضارة؟! إلا أنه الخوف من مواجهة المجهول، الخوف من الغرفة المحرمة في القصر المسحور، ومع الخوف من مغامرة مع المجهول حتى ينكشف يجيء الخوف من أن نكون أحرارا، وكان كل نصيبنا من الحرية هو أن نهتف باسمها في المظاهرات، ثم نأوي إلى مخادعنا لنغط في النوم!
الحرية مسئولية وفكر وإرادة، لأن يكون الإنسان حرا لا بد أن يضطلع بعمل يؤديه أداء القادر الماهر العارف بأسرار مهنته، وهو حر بمقدار ما يكون في وسعه أن يسيطر على مادة مهنته، حرية الطبيب هي أن يعرف أين يكون شفاء مريضه وكيف، حرية القاضي هي أن يعرف مسالك القانون وحناياه، ليعرف أين يقع منها من قدموه إليه ليحاكمه، وهكذا يكون معنى الحرية في كل ميدان من ميادين العمل، الإنسان الحر «يعرف» فيتصرف على هدي معرفته تصرفا مؤديا به إلى تحقيق غايته، وغير الحر لا يعرف أنه يقف أمام وقائع الحياة العملية فاغرا فاه في ذهول التائه الذي ضل الطريق.
ونحن إذ نجعل الحرية بمعناها الإيجابي، مرهونة بقدرة العامل على معالجة موضوعه بحيث ينتهي به إلى غاية يريد تحقيقها، نود لفت الأنظار إلى نقطة لها الأهمية الكبرى في حديثنا هذا، وهي أن روح العصر تقتضي أن يكون معظم الفكر، ومعظم العمل، منصبا على «أشياء» والقليل من ذلك الفكر أو العمل، هو الذي نتجه به إلى «كلمات» إلا أن تكون تلك الكلمات وثيقة الصلة بمواقف عينية فيها مواجهة لأشياء فيقتضي الأمر أن نكون على معرفة علمية دقيقة بطبائع تلك الأشياء، فشعورنا بالحرية عندما نغالب قفر الصحراء حتى نرغمها على أن تخضر بالزرع، أغزر جدا من شعورنا بالحرية حين نبذل الجهد في حفظ صفحة كتبها سوانا، حفظا لا يحمل في طيه مفتاحا نغزو به الأشياء العصية إذا استعصى علينا تشكيلها وتسخيرها لصالح الإنسان.
ولم تكن الحضارات التي شهدها التاريخ كلها سواء في الطابع العام الذي يميزها، من حيث رجحان القيمة في كفة «الكلمة» أو رجحانها في كفة «العمل» فانظر - مثلا - إلى الحضارة المصرية القديمة في عصر الفراعنة، بالمقارنة مع حضارة اليونان القديمة، تجد الأولى أميل إلى العمل في طابعها، العمل في ميادين الصناعة والبناء والنحت والتصوير والحرب، بينما الثانية أميل إلى «الكلمة»، ففيها فلسفة وفكر نظري أكثر جدا مما كان فيها من صناعة وبناء إلى الدرجة التي لا يفوتنا معها أن نلحظ أمرين: الأول هو أن المصري القديم حين عرف كيف «يعمل» لم يهمه كثيرا تنظير ذلك العمل تنظيرا يخرج ما كمن فيه من مبادئ وقوانين وأفكار، حتى لقد جاء اليوناني بعده، واهتمامه الأكبر هو مثل ذلك التنظير، وكان مما حاول استخراج الجانب النظري فيه هو بعض ما كان شاهده مما يصنعه المصري، مثال ذلك ما رآه فيثاغورس اليوناني عندما كان المصري يريد أن يرسم على الأرض زاوية قائمة تحدد له ركن الأرض الزراعية التي في حوزته، فكان يأتي بحبل فيه اثنتا عشرة عقدة، على مسافات متساوية بين العقدة والعقدة، ثم يجعل ثلاثا منها في جانب، وأربعا في جانب، حريصا على أن يرى أن طرفي الحبل قد تلاقيا في جانب ثالث، فعندئذ تكون زاوية الركن بين الجانبين الأولين زاوية قائمة، ولم يهتم المصري بعد ذلك بأن يبحث بحثا نظريا يعرف به لماذا نتجت زاوية قائمة بهذه الحيلة العملية، أما فيثاغورس فقد جعل هذا البحث الرياضي النظري مهمته، حتى أقام البرهان المعروف الخاص بالمثلث القائم الزاوية، حين يكون المربع المقام على وتر المثلث مساويا لمجموع المربعين المقامين على الضلعين الآخرين. وعناية اليونان القدماء بالفكر الفلسفي معروفة؛ إذ يكفي أن يكون منهم سقراط وأفلاطون وأرسطو خلال عصر واحد لم يزد على مائة عام. أما الأمر الثاني مما أردت ذكره في تلك المقارنة بين حضارة الكلمات وحضارة الأفعال، فهو أن اليونان قد ذهبوا في مبالغتهم نحو تفضيل الفكر النظري على الفعل، حتى جعلوا «العمل» مما يشين أفراد الطبقة الأرستقراطية، فهؤلاء إنما خلقوا للتفكير النظري، وأما من دونهم فيختصون بالأعمال التي يستخدم فيها الجسم، والفرق بين هؤلاء وأولئك هو نفسه الفرق بين الروح والجسم في المنزلة.
وجاءت الحضارة الإسلامية مزيجا من كلمة وفعل، إلا أن كفة الكلمة راجحة، ويكفي أن يكون أخص خصائص العربي هو الشعر، كما ورد عند الجاحظ وهو يتناول الحضارات المختلفة بالمقارنة، وإبراز الطابع المميز لكل حضارة منها. ولقد أغرى هذا الفارق بين الكلمة والفعل بعض الباحثين في خصائص الحضارات أن يجعلوها نوعين: حضارات مدارها «أخلاق»، وأخرى مدارها «أفعال» وهو تقسيم لا ينفي - بالطبع - أن يفيد أصحاب النوع الأول من إنتاج النوع الثاني، وأن يأخذ أصحاب النوع الثاني مبادئ السلوك من أصحاب النوع الأول!
وفي ضوء هذا الذي أسلفته أقدم الصورة التي أتصورها وأتمناها لحياتنا الثقافية في اتجاهها العام، ولطالما عرضت هذا التصور فيما كتبته؛ لأنني مؤمن بصوابه، لكنني هذه المرة أعرض تصوري مقرونا بما حدث قبل ذلك في تاريخ الفكر الإنساني وتطوره، فنحن في موقفنا الحاضر نواجه حضارتين وما يلحق بكل منهما من ثقافة سايرتها، إحداهما حضارة ورثنا أصولها عن آبائنا، وكان محورها الثقافي هو «الكلمة»، وهي ثقافة - كما قلنا - طابعها أخلاقي، وذلك لأن محورها «مبادئ»، وأما الحضارة الأخرى التي تواجهنا فهي حضارة الغرب في عصرنا الحاضر، وإنها لتختلف عن حضارتنا الموروثة اختلافا جوهريا، في أساسها وفي مدارها معا، فأساسها ليس «الكلمة» بل «الشيء» ومدارها ليس «المبادئ» مصوغة في ألفاظ، بل «العلم» متمثلا في منهجه أولا، وفي قوانينه التي تصور مسلك الأشياء ثانيا، وإذا كانت «الكلمة» في الثقافة الأولى قد بلغت ذروتها في الشعر فنا وفي مبادئ الأخلاق سلوكا، فإن معالجة «الأشياء» في الثقافة الثانية قد بلغت ذروتها في الأجهزة العلمية والآلات.
ويبدو واضحا أنه لا بد لنا من الجمع بين أصول الحضارتين معا في صيغة واحدة، هي نفسها الصيغة التي ترسم لنا خطة السير في ثقافتنا الجديدة، فنجمع بين الكلمة والجهاز، أي بين مبادئ الأخلاق كما وردت في العقيدة الدينية، وقوانين العلم الحديث بما تتضمنه من منهج جديد للنظر، وليس هذا الجمع مستحيلا، وإن لم يكن يسيرا، ولقد تحقق هذا النموذج في بعض أعلامنا، كما تحقق في بعض مواقف حياتنا، وفي هذا السياق أذكر المثل التاريخي الذي يوضح مثل هذا الجمع، وهو موقف أوروبا في نهضتها؛ إذ وجدت نفسها أيضا بين حضارتين وما يلحق بكل منهما من ثقافة تلائمها، فمن جهة كان بين يديها تراث اليونان القدماء، وهو فلسفي أخلاقي في المقام الأول، مضافا إليه عقيدة دينية استولت وحدها على معظم الحياة الفكرية في العصور الوسطى، ثم كان بين يديها (أعني أوروبا في نهضتها) حركة جديدة قوية، اتجهت بكل اندفاعها نحو الطبيعة تقتحمها برا وبحرا وسماء، فنتج عنها علم جديد مصحوب بمنهج للنظر والبحث جديد، فما لبثت أوروبا أن دمجت التيارين في نهر واحد هو ما يسمى بأوروبا الحديثة!
وربما قيل إن أوروبا حين احتفظت بتراثها الفكري لتضمه إلى الحركة الكشفية العلمية أيام نهضتها، فإنما كانت تضم قديمها هي إلى حديثها هي، فلا تناقض، أما نحن إذا حاولنا مثل هذا الضم، فإنما نحاول به الجمع بين قديمنا نحن وجديدهم هم، وهنا التناقض فيما يظهر، لكن اعتراضا كهذا ليس صحيحا على إطلاقه، لأن الجانب الديني من مقومات الحضارة الأوروبية الجديدة، لم يكن يونانيا ولا غير يوناني من السلف الأوروبي، إنما هو عقيدة مسيحية - على الأغلب - هبطت وحيا على عيسى - عليه السلام - وهو على أرض فلسطين، ولبثت بضعة قرون فيما يسمى الآن بالشرق الأوسط، قبل أن تعبر البحر إلى روما فإلى سائر أنحاء أوروبا.
رافدان لا بد من جمعها معا في بنائنا الثقافي الجديد: موروثنا الحضاري الثقافي من جهة، وما أبدعه الغرب في العصر الحديث من جهة أخرى، ولئن كان الجانب الأول سيلزمنا بالدوران في نصوصه، حفظا واستدلالا، فإن الجانب الثاني لكونه يعالج «الأشياء» فسوف يدفعنا دفعا إلى ارتياد الكون المحيط بنا، فننعم عندئذ بضرب من الحرية لا أظننا قد ألفنا منه الشيء الكثير، وهي الحرية المغامرة في الهواء الطلق، غير منحبسة في نصوص نحفظها ونشرحها ونستدل منه نتائجها، كلا الجانبين ضروري ومطلوب لتولد أمة عربية ناهضة على جناحين، هما تاريخها وتراثها الحيوي من ناحية، وحاضرها بعلومه وفنونه وبعض نظمه من ناحية أخرى.
تعليق على مقال شرح وتشريح
حمدي غيث
قرأت في عدد الأهرام الصادر يوم الإثنين الماضي مقال الدكتور زكي نجيب محمود بعنوان «شرح وتشريح»، وأنا واحد من الذين يتابعون باستمرار كتابات ذلك المفكر العظيم الذي جعل همه الأول الدعوة إلى إعمال العقل وإعلاء الفكر العلمي ليحكم سلوكنا، وليكون منهجا لحركتنا الاجتماعية والسياسية، بل وسلوكنا الفردي، وهو بلا شك يكابد من جراء هذه الدعوة كثيرا من العنت ويتحمل كثيرا من العذاب، ولكنه لا يفصح عن هذا فيما يكتب، وإن كان المرء لا يفوته أن يدركه من خلال كلماته الصادقة العميقة المفعمة بالمعاناة من أجل الحقيقة.
تحدث الدكتور في مقاله عن «حرية التفكير»، وأخذ في تشريح وشرح ما تحتمله هذه العبارة من معان ومقاصد، وكان تعريفه لحرية التفكير بأنها «عملية ذهنية لرسم خطة عمل نحقق بها هدفا ما»، كان هذا التعريف جامعا مانعا كما يقول المناطقة، ولكن مع ذلك فليسمح لي أستاذي الدكتور أن أختلف معه في تشريحه بعد ذلك لمعنى «حرية التفكير» ومضمونها.
إن مقتضى تعريفه السالف يعني أن هناك حدين لحرية التفكير هما أولا «العملية الذهنية»، وثانيا «الخطة التي تحقق هدفا ما»، والدكتور ركز على أن ما يعتور حرية التفكير إنما يكون فيما يحدث من تداخلات وعوائق في رسم الخطة وتحديد الأهداف، وأخذ يضرب الأمثال على ذلك بمن يضع خطة للسفر، أو بمن يضع خطة للتعليم، وأنه يجب أن تكون هناك علاقة واحد بواحد، أي علاقة مشاكلة كاملة بين الفكرة ومشروعها، وأنه عندما يحدث خلل في هذه العلاقة لسبب ما كتدخل ذوي السلطان تنعدم الحرية عندئذ، وهذا كله حق، ولكن الدكتور قصر حديثه على «الخطة» ولم يتحدث عن «العملية الذهنية» نفسها، وقد يتوهم واهم أن «العملية الذهنية» - لأنها عملية حيوية - تتم داخل دماغ شخص ما لا يمكن أن تخضع لصاحب سلطان، أي لا يمكن أن يكون لأحد سلطان عليها بالمنع أو الخوف أو الإضافة، ولكن السلطان يفعل فعله عندما يبدأ الشخص (المفكر) في وضع «خطته»، فأنا يمكن أن أرسم خطة العمل بملء حريتي في ذهني، (خطة سياسية أو اجتماعية أو هندسية أو فنية) ولكن عندما أريد أن أخرج بها إلى مجال التنفيذ قد أصطدم بمن يريد أن يغيرها بالحذف والإضافة، إما لأن أهدافه تختلف عن أهدافي، وإما لأن فهمه وثقافته ومعطياته العقلية تختلف عما يخصني مما يترتب عليه اختلاف العملية الذهنية نفسها في الأساس.
وهنا إما أن أرضخ لهذا الشخص لأنه صاحب سلطان، فأغير وأبدل وأضيف وأحذف في «خطتي»، وأفقد حريتي، وإما أن أقاوم من أجل حريتي.
وعلى أية حال فإن هذا القهر الذي يقع على «الخطة» و«تنفيذها» هو أهون ألوان القهر؛ لأنه تدخل في المظهر الخارجي ل «التفكير»، هو محاولة لمنع التفكير من أن يحقق ذاته، ولكنه يدع «المفكر» قادرا على المقاومة، أما أسوأ ألوان القهر، وهو ما لم يتحدث عنه الدكتور، فهو ما يقع على «العملية الذهنية نفسها»، هو ما يكمن في عقل المفكر من عوامل الضغط والإرهاب، أو عوامل الزيف والغش والتدليس، وهي عوامل قد تكون قديمة، كالتقاليد والمسلمات الدينية، التي قد تكون أقوى وجودا من المسلمات الرياضية، وقد تكون آنية كالدعاية وعمليات غسل المخ الملحة التي تقع تحت تأثير أشد العقول ذكاء وفهما، فتفقد الوعي دون أن تعي ذلك.
ومن هنا فإنه لكي تتحقق «حرية التفكير» لا بد من أن يكون «المفكر» حرا من الضغط الخارجي المادي الذي يقع على «خطته» ومن الضغط الداخلي المعنوي الذي يقع على «عمليته الذهنية»، ولا بد من أن يكون المفكر قادرا على أن يقاوم كل المؤثرات التاريخية والآنية، مادية كانت أو معنوية، ليتحقق له إجراء «العملية الذهنية» ووضع «الخطة» دون أي تأثير ينحرف بهذه أو تلك عن الهدف المنشود، يجب أن يكون «المفكر» عاريا تماما إلا من إيمانه بالهدف الذي يريد أن يحققه.
وهذا ليس مجرد فذلكة عقلية، ولكنها رؤية محددة تساعدنا على إدراك ما قد يعتور «حرية التفكير» من عوائق، فليست هذه العوائق مجرد سلطان أو صاحب نفوذ، أو أية عوامل خارجية مادية كانت أو معنوية تعترض «الخطة»، ولكنها أيضا عوائق قد تخترم العقل نفسه وتؤثر على «العملية الذهنية» دون أن تستثير أية رغبة في المقاومة؛ لأنها تحدث بإرادة من تقع عليه أو على الأقل في غفلة منه، وتسري في دماغه مسرى السرطان الخبيث، ومن أجل هذا كان النضال من أجل حرية التفكير ليس فقط نضالا «ماديا» لإزاحة عوامل القهر التي تقع على «الخطة» وتنحرف بالأهداف، بل أيضا نضالا معنويا، يستهدف تحرير العقل ذاته الذي يقوم ب «العملية الذهنية»، تحريره من كل عوامل القهر والتخلف والقصور.
ومن هنا أيضا قد ننخدع في بعض المجتمعات ونعتبرها مثل الحرية الأعلى، حيث لا يبدو لنا فيها ذلك القهر المادي الذي يقع على «الخطة والهدف»، وإنما يبلغ فيها القهر مبلغا فظيعا من المكر والخبث؛ لأنه يقع على «العملية الذهنية»، يقع في بساطة ويسر وبلا عنف، بل يقع على «المفكر»، أي على «الإنسان» وهو يستمتع به في الصحافة والإذاعة والتليفزيون والمسرح والسينما، بل في برامج التعليم، ويقع بما تحمله التقاليد والموروثات والمسلمات الفكرية، والاجتماعية الطاغية، من عوامل التخلف والقهر.
الفصل السادس
حرية الفكر مرة أخرى
لقد أعجبت إعجابا شديدا بالوضوح الناصع الذي عرض به الفنان الكبير الأستاذ حمدي غيث رده على ما كنت نشرته من حديث عن حرية التفكير، ويتلخص الرد في أنه بمثابة «تكملة» أراد بها الأستاذ حمدي غيث أن يستوفي بها جانبا من الموضوع رأى الأستاذ أنني أسقطته من حسابي بغير مبرر، وذلك أني حين عالجت موضوع التفكير وحريته، بدأت أولا بتحليل ذلك الشيء الذي نطلق عليه لفظة «تفكير» فإلى أي شيء نشير - على وجه الدقة - حين نستخدم هذه الكلمة فيما نقول أو نكتب؟ حتى إذا ما فرغت من ذلك التحليل، انتقلت إلى معنى «الحرية» حين توصف بها عملية التفكير.
وكانت خلاصة ما حددت به طبيعة «التفكير» أنه عملية ذهنية تنتهي بصاحبها إلى ما يشبه رسم خريطة لو اهتدينا بها عند التنفيذ، بلغنا الهدف الذي من أجل بلوغه جرت عملية التفكير عند من أجراها، وبمقدار ما تكون تلك الخريطة الذهنية صحيحة، تكون قوتها في تحقيق الهدف المنشود، وكذلك بقدر بعدها عن الصواب، لا يترتب على تنفيذها بلوغ للغاية التي يراد بلوغها، ثم تجيء «حرية التفكير» أو الحرمان منها، عند إخراج الخريطة الذهنية، أو النظرية إلى حيز التطبيق، فإذا روعيت حرية المفكر، ترك ليخرج فكرته من رأسه إلى دنيا العمل، لتتحول هناك من كونها فكرة في الذهن لتصبح عملا يؤدى، أو سلوكا يسلك، أما إذا قيدت حرية المفكر، رأيت صاحب السلطان الذي فرض ذلك القيد، قد فرض إجراءات من شأنها ألا تتم عملية الترجمة التي تحول الفكرة الكامنة في رأس صاحبها إلى واقع في دنيا الناس يرونه أو يسمعونه.
تلك خلاصة شديدة الإيجاز لما عرضته، فرأي الأستاذ حمدي غيث أنه إذ يوافق على الجانب الذي ذكرته من الموضوع، فهو يراني قد أغفلت جانبا آخر له أهميته وخطورته، فحديثي عن الحرية أو الحرمان منها قد انصب على جانب الفعل والتطبيق، أي إنه اقتصر على النصف الخارجي المنظور أو المسموع، ولكن ماذا عن الفاعلية الذهنية الداخلية نفسها؟ فإذا أجبته بأن أحدا لا يستطيع أن يحرمك من فاعلية عقلك، ما دمت منحصرا في حدود رأسك لا تخرج شيئا مما يدور فيه إلى الناس كلاما أو سلوكا تنشط به، أسرع فتلافى مثل هذه الإجابة في رده، شارحا لنا أوضح ما يكون الشرح، بأن الذي يعنيه هو أن حرية المفكر تتعرض للخطر حتى وهي لا تزال في مخبئها من الدماغ وذلك إذا كان المفكر قد وقع تحت تأثير العوامل الخارجية التي من شأنها أن تشكل للإنسان المتلقي لتلك العوامل طريقة تفكيره، فهناك ما نعلمه جميعا من وسائل الإعلام، وما تحدثه في تشكيلنا على نحو ما يريده لنا المسيطرون على تلك الوسائل، وسواء كنا على وعي بما يقع علينا ويؤثر فينا، أو كنا في غفوة عنه فالحاصل واحد، وهو أن يجد الإنسان نفسه يفكر وفقا لما شكله به من شكلوه، لا وفق ما كان ليفعله إذا خلوا بينه وبين فطرته وموهبته؛ ولهذا يرى الأستاذ حمدي غيث وجوب أن يكون المفكر «عاريا تماما إلا من إيمانه بالهدف»، وهذا الجانب الداخلي من حرية التفكير هو الذي يأخذ على الأستاذ غيث أنني أسقطته من الحساب - مكتفيا بالجانب الخارجي، جانب التنفيذ - الذي قد يتدخل صاحب السلطان في مجراه فيلغيه أو ينقص منه بالقيود التي يختارها لذلك.
واعتراض الأستاذ حمدي غيث له قوته ووجاهته، لولا أنه يتمنى للإنسان أمرا مستحيلا عليه بحكم طبيعته ذاتها؛ إذ إن عملية التفكير لن يكون لها وجود - مجرد وجود - إلا إذا كان قد سبق إلى ذهن الإنسان شيء ما ترتكز عليه ، كفراخ الطير تخرج من بيضها مزودة بأجنحتها لتطير، وإلا قبعت في أعشاشها، إن عملية التفكير - بطبيعتها - ضرب من الفاعلية لا يولد إلا وله في الرأس ركيزة يتكئ عليها ليتحرك، وانظر إلى حركة الفكر في دنيا «العلم» بشطريها: العلم الرياضي، والعلم الطبيعي، ففي العلم الرياضي لا بد من «افتراض» مجموعة من المسلمات حتى يتاح للفكر الرياضي أن يتحرك منبثقا منها لا لأن تلك «المسلمات» أمور تولدت عن العقل ذاته بما فطر عليه ذلك العقل منذ ولادته، بل لأن عالم الرياضة قد «افترضها» افتراضا، وكان يجوز له أو يجوز لغيره أن يفترض سواها، ولماذا وجوب افتراضها؟ ذلك ليكون لحركة الفكر محطة قيام، وإلا لما عرف القطار كيف يسير ولا إلى أين يسير، وأما في العلم الطبيعي فالموقف - في جوهره - هو هو، والاختلاف مقصور على الشكل؛ إذ العلم الطبيعي محطة القيام فيه هي مجموعة معلومات تجمع أولا عن الظاهرة المراد التفكير فيها بطريقة علمية، ثم يعقب ذلك تفسير يضم تلك المعلومات المتفرقة تحت فكرة واحدة نقدمها على سبيل الافتراض أيضا إلى أن يثبت تطبيقها على دنيا الواقع أنها فكرة صحيحة فها هنا أيضا كما ترى، لا بد من ركيزة يستند إليها العقل ليتحرك.
لكنك مع ذلك قد تسأل، ويحق لك أن تسأل قائلا: صدقنا وآمنا بأن عملية التفكير لا تبدأ في الحركة إلا إذا كان قد سبق ذلك في ذهن المفكر ركيزة ترتكز عليها لتسير، ولكن من الذي يضع في رءوسنا تلك الركيزة، أنضعها لأنفسنا بأنفسنا، أم يضعها لنا ذو نفوذ وسلطان؟ ولقد ذكر لنا الأستاذ حمدي غيث في رده أمثلة لركائز تقحم على عقولنا بغير اختيارنا، كالتقاليد، وما تبثه فينا الدعاية بأشكالها المختلفة، وها هنا نكون - بحق - قد وضعنا أصابعنا على نقطة بالغة الخطورة في تربية العقل تربية عملية موضوعية، وإن هذه المناسبة مواتية أقول فيها إن التاريخ الفكري للإنسان يشهد في جلاء أنه لا انتقال لجماعة الناس من مرحلة فكرية لم تعد صالحة للعيش المزدهر النامي، إلى مرحلة أخرى إلا إذا اقتلع من رءوس الناس بعض ما ركز فيها من أفكار بليت وذهب زمانها، لتحل محلها أفكار أخرى أكثر صلاحية لسير الحضارة.
ومن الأمثلة القوية لعملية الاقتلاع هذه ما بشر به فلاسفة أوروبا؛ إذ كانت على مشارف نهضتها من وجوب تنقية الرءوس مما بها، لإعادة النظر فيه وتمحيصه لكي يعاد البناء الفكري على أساس أقوى، وكلنا يعلم ما صنعه ديكارت في هذا السبيل حين طالب نفسه أولا بأن يفرغ رأسه مما يحتويه لأنه قد تلقى كثيرا جدا من الأفكار التي تلقاها قبل أن تكون له القدرة على النقد والتحليل والمراجعة والتحقيق؟ فإذا ما نحى جانبا محتوى الذهن، كان في وسعه عندئذ أن يعيد البناء من جديد على أسس ثابتة اليقين، ولا تقبل أن يشك في صوابها.
وفي فاتحة النهضة الأوروبية كذلك كان هنالك فيلسوف آخر أراد أن يقيم للعقل منهجا سديدا، فكان أن دعا أولا إلى التخلص من مصادر الخطأ، ومن أهمها ما أسماه «أوهام الكهف»، وذلك الفيلسوف هو البريطاني «فرنسيس بيكون»، ويقصد بأوهام الكهف أن كلامنا يطوي في رأسه كهفا معتما مليئا بحفنة من الأفكار لا يرى سواها، فيظن أنها الحق الذي لا يأتيه باطل، وإذن فأول واجب على من أراد فكرا صحيحا هو أن يتخلص من كهفه ذاك ليخرج إلى النور، وجدير بالذكر هنا أن نقول إن «بيكون» قد أخذ التشبيه بالكهف عن أفلاطون الذي أورد هذا التشبيه مفصلا في محاورة «الجمهورية» ليقول به إن الإنسان في حياته الفكرية والمألوفة هو كمن ولد ونشأ وعاش في كهف ووجهه متجه إلى جدار الكهف الداخلي وظهره إلى الفتحة التي ينفتح بها الكهف على الطريق الخارجي، فهو - أي سجين الكهف - لا يرى أمامه إلا ما قد ينعكس على جدار الكهف الداخلي من ظلال ألقت بها أجساد السائرين خارج الكهف، فلو قيل له إنك لا ترى أمامك إلا ظلا للحقائق لا الحقائق نفسها لما فهم معنى لما يقال، فدنياه كلها هي تلك الظلال.
والمستفاد من هذا كله أن الإنسان يعبأ منذ طفولته الباكرة بأفكار وصور للسلوك يربيه عليها أبواه ومن عساه يصادفه في محيطه، ثم تأتي المدرسة وتعليمها ووسائل الإعلام وشحناتها إلى آخر تلك القائمة الطويلة، فإذا هو آخر الأمر إنسان «مصنوع» من الناحية الفكرية على أيدي الآخرين، وأخطر ما في الموقف هو أننا لا نستطيع مقابلة هذه الحالة بما يمحوها محوا كاملا، فأقصى ما نستطيعه هو أن نحسن تربية من نربيه لينشأ على استعداد تام لتصحيح ما كان قد عبئ في رأسه من أفكار إذا ما وجد ما هو أصح منها دون أن يجمد على محصوله القديم، وكأنه منزه عن الخطأ.
لكنه حين يستبدل بفكرة قديمة عنده فكرة جديدة أصح منها؛ فهو إنما يعيد الموقف نفسه في صورة جديدة؛ لأن الأغلب هو أن يتلقى هذه المرة فكرة من سواه عاجزا في معظم الحالات عن تحقيقها لنفسه تحقيقا علميا، كما تلقى في طفولته وصباه أفكارا عن سواه أخذها مأخذ التسليم.
ولقد ازدادت المشكلة إشكالا في عصرنا الحاضر، وذلك من جهتين، فأولا تقدم علم النفس تقدما هائلا مما جعل العلماء على قدرة كبيرة في تشكيل سلوك الإنسان وطريقة تفكيره، ولهذا أصبح ما يطلق عليه اسم «غسل المخ» أمرا ميسورا، بمعنى أن يتحكم من أراد أن يتحكم في تفريغ مخ الإنسان من محتواه - إذا صح لنا استعمال هذا التصوير المادي في مجال العقل - لتعبئته بمحتوى آخر، وفي تشكيل سلوكه بعادات جديدة غير عاداته السابقة، وكثيرا ما يحدث هذا في أسرى الحرب، بل هذا نفسه هو ما يحدث شيء منه بطريق الدعاية ووسائل الإعلام إذا ما خطط صاحب السلطان لهذا الهدف، وثانيا كثرة الأجهزة التي نتجت عن التطور التقني الحديث «التكنولوجيا» التي يستعان بها على شحن أي إنسان بالشحنة الفكرية والسلوكية التي تراد له، وقد سبق لي أن كتبت (الأهرام في 27 / 2 / 1984م) تحت عنوان «هذه الأجهزة وحرية الإنسان»، وكانت المشكلة التي دفعتني إلى كتابة ما كتبته هي الخطورة الداهمة التي تصيب مسألة المسئولية الأخلاقية، فنحن إنما نتوقع للإنسان أن يكون مسئولا عما يفعله بحر إرادته، فماذا وقد تمكن العلم بأجهزته أن يغير من فكر الإنسان وإرادته بحيث أصبح يفكر ويريد متوهما أن الفكر فكره الحر وأن الإرادة هي إرادته، مع أن الفكرة والإرادة معا قد صنعتهما له أجهزة الدعاية وأجهزة الإعلام؟
ولا يسعنا إزاء هذا كله إلا أن نوصي ونلح في التوصية بأن نربي أبناءنا على منهج التفكير العلمي حتى نحصل لهم على قدر معقول من النقد والتمحيص والموضوعية، لا أقول ليتخلصوا من البلاء كله؛ بل أقول ليحصروا هذا البلاء في حده الأدنى.
وبعد هذا أعود إلى ما عرضه الأستاذ حمدي غيث في رده من وجوب أن يفكر المفكر الحر «عاريا تماما إلا من إيمانه بالهدف» (هذه هي عبارته)، فأقول: إن ذلك العري الكامل مستحيل نظريا وعمليا في آن واحد؛ إذ لا بد من أفكار، إما مكسوبة وإما فطرية تكون متكأ لحركة الفكر، وإن الحرية الداخلية في فاعلية الفكر مكفولة لكل إنسان لا يستطيع حيالها أقوى الجبابرة الطغاة أن يتعرض لها ما دامت تلك الفاعلية حبيسة الدماغ لا تتسلل إلى الناس حيث يعيشون، ولذلك فإن ما يستحق أن نطالب به هو أولا أن نزود المواطنين بقوة النقد والتحليل لما يتلقونه من أفكار، وثانيا أن يخرج صاحب الفكر فكره إلى العلانية والتطبيق، دون أن يصيبه أذى.
الفصل السابع
المسلم الجديد
عن بناء الإنسان الحر أتحدث
لست من فقهاء الإسلام أو علمائه، ولكنني مسلم، والمسلم أسبق في ترتيب الزمن ظهورا من فقهاء الإسلام وعلمائه! إنني كما أنعم بعقيدتي، أشعر شعورا قويا بما تلقيه علي من واجب، ولست أريد بذلك مجرد القيام بفرائض الدين، فذلك أمر مفروغ منه ولا يحتاج إلى سؤال، فهو بمثابة أن تقام للبناء أركانه فيجيء بعد ذلك سؤال: ثم ماذا بعد أن أقمت أركان البناء؟
إن نعيمي بعقيدتي صادر من كونها عقيدة مكنتني من الشعور بإنسانيتي إلى آخر المدى الذي استطاعته جبلتي، ولو كانت الطبيعة التي جبلت عليها أرحب وأعمق وأقوى، لاشتد ذلك الشعور بإنسانيتي أغوارا وأبعادا ، ولكن حسبي من عقيدتي أن كانت حافزا لكل ذرة من قدرة ولدت بها أو اكتسبتها من عرك الحياة والتمرس بخبراتها، وقد كان من الممكن لعقيدة أخرى - لو كان الله قد أراد لي عقيدة أخرى - أن تضع في طريق ملكاتي البشرية قيودا وعثرات تعرقل انطلاقها ونماءها بكثرة حرامها وقلة حلالها، ولست بمستطيع في بضع صفحات أن أتقصى كل الجوانب التي تجمعت لي من أصول عقيدتي وتآزرت لتفسح أمامي مجال الشعور بإنسانيتي إلى آخر ذرة في طاقتي، ولكن جانبا واحدا هنا يكفيني، وهو أن أتخلق بصفات ربي، فأكون واحدا أحدا، كما أنه سبحانه وتعالى واحد أحد، مع الفارق اللامتناهي في حدوده بين الإنسان وربه، فتلك الصفات بالنسبة إلى الخالق جل وعلا لا نهاية لحدودها، ولكنها في البشر تكون محدودة بقصور الطبيعة البشرية وحدودها، هكذا قال لنا فقهاء الدين وعلماؤه، وما كنت لأقوله من عندي؛ لأنني لست من الفقهاء، ولا من العلماء في مجال الدين، ولكنني مسلم أشعر - مستلهما عقيدتي - بما قد يجيء الفقهاء والعلماء بعد ذلك فيتناولونه بالتحليل والتأصيل.
وأما الواحدية؛ فهي ما نعبر عنه بلغتنا الدارجة بقولنا «فردية»، فأنا بين سائر البشر فرد لا يشاركني في خصائصي بكل تفصيلاتها فرد آخر؛ وهكذا شاء رب العالمين للناس أن يكونوا أفرادا، لكل فرديته التي تميزه وحده، فحتى لو تشابه مع نوعه في ألف ألف صفة، فهو يتوحد بفرديته ببضع خصائص، وأما «الأحدية» فهي التي قد نقول عنها بلغتنا الدارجة حين نصف إنسانا سليما سويا إنه لا ينقسم على نفسه، بمعنى أن قواه الفطرية لا يتنازع بعضها مع بعض، بل هي متعاونة متآزرة على السير في طريق واحد، نحو غايات واضحة ونبيلة، إذ كثيرا جدا ما يقع الإنسان فريسة حرب داخلية بين مختلف نوازعه: العقل يملي عليه بشيء، والعاطفة تدفعه إلى شيء آخر، وبين العقل والعاطفة تأخذه الحيرة والاضطراب.
وإنها لنعمة كبرى أن يكون للفرد من الناس ما يحقق له فرديته تلك، ثم أن يجد ذلك الفرد في طوية نفسه مصالحة مطمئنة بين مختلف الدوافع والقوى، وفرق بعيد بعيد بين أن يكون الإنسان معتنقا لعقيدة تؤيده فيما يبتغيه بفطرته، وبين أن تشده عقيدته في ناحية وتشده الفطرة في ناحية أخرى، ولست أقول بذلك إنني قد بلغت من تلك النعمة أقصى مداها، كلا، فلم يشأ لي ربي أن يكون في جبلتي ذلك السواء كله، وتلك الطمأنينة كلها، فالناس في هذه النعمة يتفاوتون، وإني لأحمد الله على نصيبي منها، وحسبي أن أكون على وعي بها، فذلك الوعي بالنعمة هو في ذاته نعيم على نعيم.
ولقد أجمع أهل الفكر في عصرنا على أن من أبشع آفات هذا العصر آفة جاءت نتيجة طبيعية مباشرة لأروع ما يتميز به من حسنات، وأعني بها نزوعه إلى «العلم» بأسرار الكون، نزوعا لم يعهده الإنسان قبل ذلك في أي عصر من عصور التاريخ، وهو علم تولدت عنه صناعة من طراز فريد، لم يكن يعرفه ولا يحلم به الإنسان فيما مضى من حضارات، ثم تولد عن العلم وذيوله الصناعية ضرب من الحياة أفقد «الفرد» الإنساني كثيرا جدا من فرديته، وكثيرا جدا من طمأنينته بنفسه التي هي ناتج الأحدية (أعني اتساق القوى الباطنية فيه) فاستبد بالإنسان في هذا العصر قلق وضجر وسأم ويأس، بدرجة فاقت - هي الأخرى - ما كان قد أصاب الإنسان منها في أي مرحلة سابقة من مراحل التاريخ، وإنني كلما رأيت مفكرا منهم يحلل تلك الآفة العصرية، باحثا لها عن علاج، سمعت في صدري صوتا يقول إن علاج ذلك هو في شعور المسلم بواحديته وأحديته لا بدافع من فطرته وكفى، بل كذلك بحض من عقيدته.
وعلى هذا النحو أنعم بعقيدتي، وإنما اكتفيت هنا بذكر مصدر واحد من مصادر تلك العقيدة، وكان يمكن أن تضاف إليه عشرات، وكان لا بد لي في مقابل تلك النعمة النفسية أن أشعر بقوة الدفع نحو واجب أؤديه لتلك العقيدة التي أفيء إلى ظلها ولم يكن الواجب الذي تصورته سيفا أحمله، ولا حتى مالا أنفقه، ولا ضيقا في صدري نحو من لا يرون رؤيتي ويعتنقون عقيدتي، بل كان «كلمة» أرددها وألح في ترديدها وأكتبها ولا أمل من كتابتها، وهي الدعوة إلى القوة التي تلائم هذا العصر، وهي قوة أولها «العلم» وأوسطها «العلم» وآخرها «العلم».
هي قوة أولها التزود بعلوم العصر، وأوسطها مزيد من ذلك العلم، وآخرها مزيد من المزيد.
ويا لشقائنا من كلمات نملأ بها أفواهنا دون أن نحدد لها معانيها التي نريدها لها، فأنت إذا دعوت إلى علم وإلى مزيد من علم جاءتك أصوات غاضبة من كل ناحية: أي علم تريد يا مولانا والعلماء عندنا يعدون بعشرات الآلاف، «الدكاترة» بل الدكاترة وحدهم من هؤلاء العلماء يبلغون عشرات الآلاف! إذن فكلمة «العلم» في هذا السياق تريد التوضيح والتحديد، العلم بماذا؟ ولهذا السؤال ما يبرره؛ إذ إن كلمة «العلم» هذه قد أطلقت على أشياء مختلفة في العصور المختلفة، بل إنها في العصر الواحد لتطلق على ميادين يختلف بعضها عن بعض اختلاف الأبيض عن الأسود، فقد كان العلم في العصر اليوناني القديم، ثم على العصور التي توالت بعد ذلك حتى عصر النهضة في أوروبا إبان القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أقول إن العلم خلال ذلك الدهر المديد يعني عند أصحابه - في معظم الحالات - أن يكون بين يدي العالم قول ما، فيستخرج هو منه ما قد كان مضمرا فيه ليجعله ظاهرا، وليس هذا بالأمر الهين؛ لأن المسألة في ذلك تحتاج إلى قدرة على التحليل تنصب على القول المعين المبدوء به لتستولده معانيه الكامنة فيه، فما أيسر على الإنسان العادي - مثلا - أن يقول عن البحر أو عن الجبل أو ما شاء إنه «جميل»، أما الذي هو مضمر في فكرة «الجمال» من عناصر وصفات فهيهات على الإنسان العادي أو من هو فوقه بقليل أن يستطيع استخراجها من جوف الموقف المشار إليه بصفة الجمال، وقل شيئا كهذا عن صفة «الفضيلة»، فالكلمة جارية على كل لسان، ولكن ماذا تضمر تلك الكلمة في ثناياها من معان؟ ذلك هو ما يحتاج إلى تحليل لا يقوى عليه إلا «العلماء» بالمعنى المفهوم من هذه الكلمة بين القدماء. وأحب أن أوجه الانتباه إلى جانب عظيم الأهمية هنا، وهو أن الفكر الرياضي كله إنما يقوم على مثل هذا الضرب من التحليل، فلا عجب أن يبلغ القدماء من اليونان إلى العرب من بعدهم ما بلغوه في علوم الرياضة، فلما جاءت النهضة الأوروبية كان موضع نهوضها الأساسي هو أنها أضافت (وأرجوك الالتفات إلى كلمة أضافت هذه)، أضافت إلى ذلك النوع من العلم الذي قوامه أن يستولد الرموز اللغوية والرياضية ما يمكن أن يتولد عنها نوع آخر كان موجودا قبل ذلك في أضيق الحدود، وهو أن ينصب جهد «العلم» على الطبيعة وظواهرها انصبابا مباشرا، فليس المطلوب هو فقط أن نضع بين أيدينا جملا لغوية أو تركيبات من رموز الرياضة لنرى ما الذي نستطيع استخراجه منها، بل مطلوب كذلك أن «نقرأه على الطبيعة»؛ لأنها بدورها بمثابة كتاب مفتوح يراد له أن تفك رموزه حتى ينكشف عن سره الغطاء، ومن هنا نشأ في النهضة الأوروبية منهج جديد «يضاف إلى المنهج السابق عليه ليستطيع العلماء الجدد أن يقرءوا كتاب الطبيعة كما استطاع السابقون عليهم أن يقرءوا بمنهجهم ما أرادوا قراءته من صحائفهم، وأعني بكلمة قراءة هنا - كما هو واضح - عمليات التحليل التي تستخرج من الشيء المعروض مضموناته الكامنة في أصلابه».
وكما كان أرسطو إماما للمرحلة الأولى كلها، وقد امتدت ما يقرب من عشرين قرنا، إماما بصياغاته لقواعد المنطق ومبادئه التي بها يتم استدلال صحيح من قول مقدم إلى قول ينتج عنه، كان نيوتن هو إمام المرحلة الثانية، وذلك من حيث رؤيته للكون رؤية تحيله إلى مادة وحركة، وهو يخضع في كل ذلك لحتمية صارمة، فالأشياء نفسها ذات قصور ذاتي رأى أنها لا تحرك نفسها بنفسها، بل لا بد للشيء إذا تحرك أن تجيء حركته بفعل عوامل خارجية عنه، وذلك وفق القوانين الحتمية الصارمة التي أشرنا إليها.
وامتدت ريادة نيوتن إلى أواخر القرن الماضي، حين أضيفت (ومرة أخرى أرجو الالتفات إلى كلمة أضيفت هذه) فكرة جديدة تستتبع رؤية أخرى تسد مواضع نقص كانت قد تبدت في نظرة نيوتن ، وذلك حين وجد أن قوانين الحركة عند نيوتن تنطبق على مجالات دون أخرى، فهي لا تشمل الذرة الصغيرة من حيث حركة كهاربها، كما أنها لا تشمل الأبعاد الفلكية فيما وراء المجموعة الشمسية، فظهر للمرحلة الثالثة - وهي المرحلة التي نجتازها نحن في عصرنا هذا - رائد جديد برؤية جديدة هو أينشتين وفكرة النسبية.
وبهذا العلم في صورته الجديدة كان ما كان من تطور سريع في الأجهزة العلمية التي هي وليد مباشر للعلم في صورته الراهنة، فهل نفتري على الحق كذبا إذا قلنا إن العالم الإسلامي قد احتفظ بمنزلته الريادية طالما كان العلم منصبا على أشياء لم تكن هي كتاب الطبيعة وبمنهج لم يكن هو منهج العلوم الطبيعية، أما بعد ذلك منذ رفع نيوتن لواء علم جديد، ثم تبعه في عصرنا أينشتين ليرفع لواء آخر لرؤية أخرى، فقد أصبحت القوة لغير العالم الإسلامي، بل أخذت أجزاء هذا العالم تهوي أمام القوة الجديدة جزءا بعد جزء حتى بات العالم الإسلامي كله في أيدي من غزوه من أصحاب العلم الجديد.
ونسأل عن المسلم الجديد كيف نريد له أن يكون؟ فقل لي بالله ماذا يكون سوى أن يسعى إلى قوة العلم في أحدث صوره، يسعى إليه من أبوابه ومن نوافذه ومن كل ثقب إبرة يوصله إلى تلك القوة، وعندئذ يسود الدنيا كما يسودها آخرون، أما علماؤنا فيما هم فيه اليوم، فبرغم فضلهم وتحصيلهم ومؤهلاتهم ومؤلفاتهم فهم لم يحققوا أمرين بغيرهما يتعذر علينا الوصول إلى ما نبتغيه، الأمر الأول هو أنهم في أكثر الحالات حافظون لما صنعه سواهم، ينقلونه من مراجعه نقلا أقرب إلى التكديس والتجميع منه إلى التفكير المبتكر الأصيل، ولا فرق بين أن يكون المنقول عنهم هم أجدادنا نحن أو أبناء الغرب وثقافته وحضارته، والأمر الثاني هو أنهم يحفظون ما يحفظونه وينقلون ما ينقلونه دون أن يتغير عند أكثريتهم الغالبة ذرة من حيث منهج التفكير، فيظلون ينظرون إلى الدنيا كما كانوا ينظرون.
إنك إذا أردت تعريفا - أدق تعريف للعلم - فلن تجد ذلك التعريف مستمدا من مضامين الموضوعات التي يبحثها العلماء؛ وذلك لأن لكل عالم منهم موضوعا مختلفا كل الاختلاف عن موضوع زميله، فواحد يبحث في الضوء وقوانينه، وثان يبحث الجينات التي عن طريقها تتم الوراثة، وثالث يبحث في عوامل سقوط الدولة الأموية، ورابع يبحث في كيفية استخراج السماد من الهواء، وهكذا، وكل هذه الحالات هي «علم» فكيف يمكننا تعريف العلم بمادة بحوثه؟ لكن ذلك التعريف ممكن إذا بحثنا في تلك الحالات كلها عن نقطة تشترك فيها جميعا، وسنجد أنها كلها تلتقي في «المنهج» الذي ينتهجه الباحث. وقد أسلفنا لك نبذة غاية في الإيجاز تبين كيف تميزت عصور التاريخ في هذا الصدد بتغير المنهج، فقد كان على صورة معينة رائدها أرسطو، ثم أصبح إمام النهضة الأوروبية على صورة ثانية (أضيفت إلى الصورة الأولى)، وكان أبرز من مارس تطبيقها هو إسحاق نيوتن، ثم جاء عصرنا بصورة ثالثة قامت على استخدام الأجهزة، وأحلت الاحتمالية محل الحتمية في قوانين العلم، ووقع هذا كله في ظل النسبية التي كان أينشتين رائدها، ومعنى هذا كله هو أن تعريف العلم إنما يكون بمنهجه لا بمادته، فليكن موضوع البحث أيا كان، فهو علم ما دام قد انتهج منهج العلوم، أما أن نقف عند موائد الآخرين لننقل عنهم ما قد انتهوا إليه، ثم ننتهج في جوانب حياتنا طريقة ليست هي طريقة العلماء؛ فذلك هو التلفيق والترقيع والإفلاس.
ونعود بعد هذا العرض إلى المسلم الجديد وما يراد له وما يراد منه، ولقد أسلفنا لك الرأي بأن الذي يراد له ومنه إنما هو علم بمعناه الحديث ومزيد من العلم ثم مزيد من المزيد، وبهذا العلم ينفتح أمامه السبيل إلى القوة وإلى السيادة وإلى المشاركة في موكب العصر، فلقد سمعت ذات يوم مسئولا كبيرا - كبيرا جدا - وهو يقول في اجتماع رسمي يخطط فيه الحاضرون لمستقبل شبابنا، سمعته يقول ما معناه إن في الدنيا الآن حضارة جديدة، وعلينا أن نزيد من تحفيظ شبابنا القرآن الكريم ليقاوموا تلك الحضارة، وكان الأصوب أن يقول إن علينا أن نزيد من تحفيظ شبابنا القرآن ليستطيعوا المشاركة في حضارة عصرهم، وفي هذه الجملة الأخيرة بيت القصيد.
إن كتاب المسلم هو القرآن الكريم، الذي يحث المؤمن حثا لا ينقطع على أن يتفكر في خلق السموات والأرض، وبهذا أصبح التفكير فريضة إسلامية (وقد جعل العقاد هذه العبارة عنوانا لكتاب له) فماذا وكيف يكون التفكير في خلق السموات والأرض إلا أن يتقصى المسلم كل شيء يستطيع أن يتقصاه ليعرف سره وليستخرج قوانينه، وتلك هي العلوم وما تصنعه بمنهاجها، ربما توهم من توهم أن المراد بالتفكير هو أن يجلس على كرسيه شاخصا ببصره إلى لا شيء سارحا بخواطره السائبة فيما ليس يدري هو نفسه إلى أي شيء تؤدي به تلك الخواطر، لا وألف مرة لا، فليست لفظة «التفكير» رمزا بغير معنى، بل هو لفظ عربي له في اللغة معناه، ثم حدد له المناطقة ذلك المعنى تحديدا لم يترك لنا خيارا في طريقة فهمه، فلأن «تفكر» لا بد لك - أولا - من مشكلة مطروحة عليك لتجد لها حلا «بالتفكير» في طريقة الخروج منها، أو قل إنه لا بد لك من «سؤال» ملقى ينتظر الجواب ممن يستطيع أن يجيب، فإذا ظننت مرة أنك «تفكر» فعليك أن تقدم لمن يسألك أو أن تقدمه لنفسك «السؤال» الذي تسعى بتفكيرك ذاك إلى الإجابة عنه، إذا فكر الطبيب في علة مريضه فهو بمثابة من يسأل نفسه ماذا عساه يزيل عنه المرض؟ إذا فكر الجغرافي في علة الخماسين فهو بمثابة من يسأل ماذا كانت العوامل المناخية والطبيعية التي حركت الهواء وأثارت الغبار؟ وإذا فكر فقيه في حكم الشرع في الربح الذي تعطيه المصارف لأصحاب الأموال المودعة فيها، كان بمثابة من يطالب نفسه بالبحث عن الأسانيد التي تثبت هذا وتنفي ذاك، التفكير - إذن - موقف فيه سؤال عن شيء ما ثم البحث له عن جواب، وقد يكون السؤال نابعا من المفكر ذاته، وكذا قد يأتي السؤال من شخص غير الشخص الذي سيتلقاه ليبحث له عن جواب.
التفكير في خلق السموات والأرض فريضة إسلامية لا تؤدى وأنت متربع على مقعدك، شاخصا ببصرك إلى فراغ، سارحا بخواطرك إلى غير هدف. كلا، ولا هي فريضة تؤدى بتكرار الآيات الكريمة التي تحض المسلم على أدائها، فما من مشكلة طرحها العلم أو سوف يطرحها إلى يوم الدين، إلا وهي خاصة بجزء معين من خلق السموات والأرض. ولقد اضطلع السلف بكثير من التفكير في الكون وكائناته وظواهره؛ فكان منهم علماء الفلك وعلماء الطب وعلماء الكيمياء وعلماء الطبيعة في هذه الظاهرة أو تلك، كما كان منهم علماء الحيوان وعلماء النبات والرحالة الذين يجوبون اليابس والماء، ومع ذلك كله فلا يسعنا إلا أن نلحظ في أمرهم نقطتين، الأولى هي أن معظم جهودهم العلمية قد اتجهت نحو فقه الدين واللغة وعلوم الكلام والفلسفة وغير ذلك مما يدور كله حول «الكلمة» في شتى أوضاعها، وأما الكون وكائناته فلم يظفر منهم إلا بالجزء الأقل في جملة اهتماماتهم، والأمر الثاني هو أن العلوم الطبيعية بصفة عامة لم يكن قد آن أوانها من حيث مراحل التاريخ العلمي؛ فلقد برع القدماء في علوم الرياضة بصفة خاصة وتعليل ذلك هو أن «المنهج» الذي كان سائدا هو منهج الاستنباط الذي يستولد من مقدمة لغوية أو رياضية نتائجها التي كانت كامنة في رموزها، فلم يكن للبحث في ظواهر الطبيعة إلا نصيب أقل من القليل.
فلم يكن قصور أسلافنا في مجال العلوم الطبيعية - أعني القصور النسبي - راجعا لعجز في قدراتهم، ولكن المرحلة التاريخية التي جاءت حياتهم فيها لم تكن قد شهدت إلا بوادر يسيرة من ذلك الوليد الذي كتب له أن تجيء ولادته الكاملة في أوروبا عند نهضتها، ومنذ ولد العلم الطبيعي وولد معه المنهج الذي يلائمه. مرت على الدنيا أربعة قرون أو ما هو أكثر من ذلك قليلا، حدث خلالها من التطور في أساليب الحياة ما لم يحدث مقدار ذرة منه خلال تاريخ بشري امتد قبل ذلك أكثر من ثمانين قرنا، بل إنك إذا أحصيت في يومنا هذا عدد العلماء، وأعني علماء الطبقة الأولى ممن جعلوا مجالهم العلوم الطبيعية، لوجدت عددهم في الجيل الواحد الحاضر يفوق بكثير عدد علماء العلوم الطبيعية خلال تلك القرون الثمانين، على أنه لا بد لنا أن نلاحظ هنا أن الأمر في ذلك ليس أمر تفاوت في القدرات العقلية بين أهل الحاضر وأهل الماضي، بل هو مجرد اختلاف في الاهتمامات، فلو كان أفلاطون وأرسطو - مثلا - من أهل العصر الحاضر، لكان الأرجح جدا ألا يتجها بعبقريتيهما نحو المسائل الفلسفية، بل يتجهان بهما نحو فرع من فروع العلم الطبيعي، ولو كان الخليل وسيبويه من أبناء عصرنا لكان الأرجح جدا كذلك أن يتجها بذكائهما الخارق لا إلى دراسة اللغة، بل إلى علوم الذرة والكهرباء، فلكل عصر اهتماماته التي استقطبت قدرات أبنائه، وليس الفرق بين عصر وعصر فرقا في درجة النبوغ عند أبناء هذا وأبناء ذاك. والمسلم الجديد مطالب كما طولب المسلم القديم بالتصدي لعلوم عصره، إنه مطالب بقراءة الكون فيما يعرضه أمام حواسنا من صفحات، لكنها صفحات كتبت بلغة الصوت والضوء والمغناطيسية والكهرباء. ولقد أراد الإسلام للمسلم أن يكون قويا، وللقوة هي الأخرى قنوات مختلفة باختلاف العصور وظروفها، وعصرنا قوته في علومه، فليسأل المسلم الجديد نفسه: كم كان نصيبه لا من نقل علوم الآخرين وحفظها، بل نصيبه من البحث العلمي الأصيل الذي يقدمه إلى الدنيا قائلا ها أنا ذا؟ فإذا وجد نصيبه في ذلك صفرا أو ما يقرب من الصفر، فكيف يبيح لنفسه بعد ذلك أن تأخذه الدهشة، ومع الدهشة غضب وحسرة حين غفا ثم استيقظ ليجد نفسه في قبضة من ليس ينتمي إلى أمته أو ملته يتحكم فيه كيف شاء مستعينا بعلومه، ولا يقاوم العلم إلا علم مثله، ولا يتأتى للمسلم ذلك إلا إذا أمعن في دراسة كتاب الله، لا ليقاوم به حضارة العصر كما أراد المسئول الكبير، بل ليتشارك بقوته التي يستمدها منه في هذه الحضارة مشاركة الأنداد، فتكون له السيادة كما كانت لأسلافه، وليست هي السيادة على أحد من البشر، بل السيادة المطلوبة هي سيادة على ظواهر الكون بقوة العلم، وبذلك يظفر بالحرية مرتين: حرية القادر على تسخير الطبيعة لصالحه ، وحرية أخرى تفك عنه قبضة من ساده بعلمه فحكمه وتحكم فيه.
الفصل الثامن
رأس الحكمة مخافة الله
عن الحرية المسئولة أتحدث
لا أظنني كنت قد جاوزت الثانية عشرة حين وقعت عيني على هذه العبارة: «رأس الحكمة مخافة الله»، فقد رأيتها أول ما رأيتها في كراسة الخط، وفي أيامنا كان هنالك شيء اسمه دروس الخط العربي، حيث تخصص لها كراسات توزع علينا، كتب في الطرف الأعلى من كل صفحة فيها نموذج مطبوع ليحاول التلاميذ محاكاة ذلك النموذج فيما بقي من بياض الصفحة، وقد يوضع أحيانا على السطر التالي للنموذج، مثيل له مطبوع بالنقط الخفيفة؛ ليسير التلميذ بقلمه على ذلك المثيل المنقوط، لكي تعتدل يده بعض الشيء قبل أن يستقل بذاته في الأسطر التالية، وأظن أن هذا كله لم يعد له وجود في المدارس، وتركت أصابع التلاميذ لتعتدل في الخط أو لتعرج وفق ما تشاء لها المصادفات، وربما كنت مخطئا في ظني هذا، فلست أدري على وجه اليقين ماذا هناك.
كانت عبارة «رأس الحكمة مخافة الله» هي أحد النماذج التي أجريت قلمي لأحاكيها في درس الخط، فوعتها الذاكرة من تلك السن الباكرة، لكن كم وعى العقل من معناها عندئذ يا ترى؟ لا أحسبه قد وعى إلا قطرة يسيرة من الإناء المليء، فما أكثر ما حفظت ذاكرات الصغار مما حفظوه، ولكنها في ذلك لم تكن قد حفظت إلا رنين الألفاظ، ثم تجيء الأيام بعد ذلك مترعة بخبراتها، هذه خبرة قد ملأت النفس بالحسرة والأسى، وتلك خبرة أخرى قد هزت النفس بالنشوة والفرح، وهكذا تتوالى الخبرات مع الإنسان الواحد، بالنسبة إلى اللفظ الواحد، حتى يصبح ذلك اللفظ مع مر الزمن وكأنه الوعاء قد امتلأ جوفه بأطياف المعنى وظلاله، وهذا هو نفسه ما يجعل اللغة كائنا حيا كأي كائن حي؛ لأنها تنمو أو تذبل بحسب غزارة أو ضحالة الخبرة عند المتكلمين بها، ثم كان ذلك هو نفسه الذي جعل الترجمة من لغة إلى لغة أخرى ترجمة تصون المعنى المنقول بكل امتلائه ضربا من المحال، اللهم إلا في مجال العلوم ذات المصطلح العلمي المحدد الدقيق .
لا، بالطبع لم أكن قد أدركت من عبارة «رأس الحكمة مخافة الله» عندما صادفتني لأول مرة في كراسة الخط، وأنا في نحو الثانية عشرة من عمري، إلا رنين لفظها، وإن لفظها لذو رنين لم يزل حتى هذه الساعة يهز نفسي بحلاوته، ثم جاءت أعوام الزمن تتوالى عشرات بعد عشرات، وكثرت فيها المواقف التي تستوجب أن يستحضر الإنسان فيها ضرورة أن يخشى الله فيما يقوله وما يعمله، وأن يخشاه فيما لم يقله ولم يفعله، في حين كان الواجب الخلقي يستلزم أن يقال أو يعمل، فكنت في كثير من تلك المواقف أجد صديقتي القديمة، أعني تلك العبارة الجميلة في جرسها الغزيرة في معانيها، وقد وثبت إلى الذاكرة من تلقاء نفسها، وكانت - بالطبع - كلما حضرت ازدادت بالموقف الحي الجديد وضوحا.
ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن من معاني «مخافة الله» هو خوف الإنسان من عذاب النار إذا هو اقترف إثما، ولهذا وجب عليه الحرص، فلا تزل قدماه في خطيئة، لينجو بنفسه من عذاب أليم، وواضح أنه كلما أوشك الإنسان في موقف ما أن يزل في خطيئة، فأحس خشية الله، فامتنع عن اقتراف الإثم، ازدادت حاسة الفضيلة عنده إرهافا، حتى يجيء له اليوم الذي يصبح الحكم الخلقي الصحيح عنده عادة مألوفة، وكأنها جزء من طبعه الفطري الذي ولد مزودا به، وتلك هي «الحكمة» بل ذلك هو رأسها.
وتمضي بي الأيام، وتكثر في طريقي مواقف الحياة وأزداد بكل ذلك خبرة لا أقتصر فيها على ما قد أكتسبه من حياتي العملية اكتسابا مباشرا، بل أضيف إليها ما قد يكون أهم منها وأغنى، وهو ما أقرأ عنه من خبرات الآخرين، وبين هؤلاء الآخرين من هو صاحب موهبة تعلو به فترفعه - في هذا الصدد - فوق رءوس البشر من عامة الناس، بل ومن الصفوة المصطفاة من هؤلاء العامة، فلقد صادفت من هؤلاء العمالقة الجبابرة الذين أنعم عليهم ربهم بحاسة خلقية تطير بهم إلى الحكمة في أعلى ذراها، بلمعة من لمعات البصيرة الصافية النافذة إلى الحق في صميم جوهره، ومن هؤلاء من قرأت له وهو يعوذ بربه من ضعف في نفسه قد يميل به نحو أن يفعل الفضيلة ابتغاء ثواب الآخرة أو اجتنابا لعذابها، فالفضيلة عند هؤلاء هي الفضيلة واجبة الأداء في ذاتها قبل أن يكون لها جزاؤها. نعم، إن ثواب الآخرة وعقابها حق لا جدال فيه، لكنه حق يضاف إلى حق آخر، وهو أن الفضيلة خير في ذاتها، وأن الرذيلة شر في ذاتها؛ ولذلك كان فعل الفضيلة يحمل ثوابه فيه، وفعل الرذيلة يحمل عقابه فيه، ثم يضاف إلى الثواب ثواب الآخرة، وإلى هذا العقاب عقاب الآخرة، يمكن توضيح ذلك بمثل هو أن ينجح ولدك في الامتحان فينتج عن نجاحه نقله إلى فرقة أعلى، ثم تزيده أنت فتكافئه على نجاحه ذاك، أو أن يرسب فينتج عن رسوبه حرمانه من النقل إلى فرقة أعلى، ثم تجيء أنت فتضيف على ذلك الحرمان حرمانا آخر من عندك. مخافة الله تصنع من صاحبها ذا حكمة، أي تجعله ذا قدرة تلقائية على تمييز الحق من الباطل بلمحة مباشرة، أو قل إنها في هذه الحالة لمعة تلمع بها البصائر وذلك هو نفسه ما تعنيه بكلمة «الضمير»، فضمير الإنسان - كما هو واضح من اسمه - قوة «مضمرة» في جوفه يفرق بها بين الصواب والخطأ، فحتى الذي يرتكب الخطأ في سلوكه يعلم في دخيلة نفسه أنه قد ارتكب خطأ، فليس التمييز بين الصحيح والفاسد في أمور الأخلاق شيئا يحتاج إلى علم غزير لمعرفته، بل هو مرهون بتربية تبث في الناشئ خشية الله كلما هم بفعل لا يجوز أداؤه، سواء وقف الإنسان من تلك الخشية عند الرغبة في ثواب الجنة والرهبة من عذاب النار، أو أضاف إلى ذلك شعورا هو أن الصالح ثوابه فيه والفاسد عقابه فيه، ففي كلتا الحالتين يتحقق للإنسان مرشد باطني هو «الضمير»، ولكنه في الحالة الثانية يكون أقوى حياة وأفعل أثرا منه في الحالة الأولى، إنه في الإنسان يشبه أن تكون دفة السفينة خافية عن الأبصار، لكنها موجودة تحرك السفينة إلى حيث تتحرك، وتلك الدفة الخافية في تركيب الإنسان هي «حكمته» التي تتولد في نفسه من خشية ربه كلما وسوس له ضعف نفسه أن يقترف إثما، ومن الإثم أن يسكت عن الحق، حتى يغمره الباطل بظلامه.
ودفة الإنسان تلك، ليست من خشب ولا من حديد، بل هي مجموعة معايير بثت في نفسه يقيس بها السلوك الواجب إزاء كل موقف يعرض له في الطريق، إنها مجموعة مبادئ وهي مبادئ - لحسن الحظ - لا يكاد يختلف فيها إنسان عن إنسان مهما اختلفا بعد ذلك علما وثقافة، بل مهما اختلفت بينهما العقائد ذاتها، إن الظالم لا يعلن في الناس أنه ظالم - بل يسمي ظلمه عدلا - لعلمه أن العدل هو مبدأ من تلك المبادئ. انظر إلى جماعة اللصوص (في قصة سرفانتيز) حين اختلف بعضهم مع بعض على تقسيم ما سرقوه فنادوا عابر سبيل وطلبوا منه أن يقسم ما معهم بينهم بالعدل، إنهم لصوص ومع ذلك بحثوا عن «العدل».
ومن تلك المبادئ الإنسانية التي لم يختلف عليها أحد مع أحد مبدأ أن يكون الإنسان حرا، وحتى لو أبت على بعض الناس نفوسهم الخسيسة أن يعيشوا أحرارا، فإنك لتراهم على علم بأن حرية الإنسان هي مبدأ يوجه الضمير، لكنهم قد يعتذرون عما يسود حياتهم من طغيان بقولهم إن الضرورات العملية هي التي قضت بكبت الحرية «مؤقتا» إلى أن يستتب الأمن وتستقر الأمور، أو هم يعتذرون بأي عذر آخر من هذا القبيل، لكن أحدا من الناس لا يجرؤ على أن ينكر حق الحرية على الناس؛ لأنه حق فرضته الديانات أولا، ونادت به التشريعات البشرية ثانيا، وحتى إذا رأيت في العقائد والتشريعات ما قد يبدون انعداما للحرية بمعناها المعروف فيكون المضمر في ثنايا الموقف أن ما هو قائم ليس هو المثل الأعلى، وأن ذلك المثل الأعلى سيتحقق للإنسان عندما يصبح الإنسان كفئا له، قادرا على حمل تبعاته.
وللحرية صور كثيرة: الحرية الشخصية، وحرية العقيدة، والحرية السياسية، وحرية الفن ... وغير ذلك، لكننا نقصر هذا الحديث على حرية الفكر، وهي حرية كغيرها من ضروب الحرية لا بد لها - بحكم طبيعتها - أن تتقيد بقيود العقل نفسه، ومن أهمها أن العقل لا يستطيع أن يتحرك في طريق استدلالاته من فراغ، أعني من لا شيء؛ إذ لا مناص له حين يستدل من أن يجد الأصل الذي يستدل منه، وهذا الأصل يتغير في نوعه وطبيعته من موضوع إلى موضوع، فهنالك المجال الذي تكون نقطة الابتداء فيه معلومات أولية جمعت من مشاهدات الحواس أو من تجارب المعامل، وهناك المجال الذي تكون نقطة الارتكاز فيه فروضا وضعت على سبيل الافتراض بأنها ربما تولدت منها نتائج صالحة للتطبيق، وهنالك المجال الذي يبدأ فيه الباحث رحلته من نص مكتوب، وهكذا وهكذا، وأيا ما كان الأصل الذي يضعه العقل بادئ ذي بدء ليرتكز عليه في استدلاله، فهو قيد لا بد للعقل أن يتقيد به وإلا لما كان له فكر على الإطلاق، أضف إلى ذلك تلك القيود المنهجية التي يلتزمها العقل في انتقاله من خطوة في بحثه إلى الخطوة التي تليها، فأين هي - إذن - «حرية» الفكر ما دام العقل مكبلا في سيره بقيوده؟ الجواب على ذلك هو أن تلك الحرية كامنة في أن أحدا مهما بلغ سلطانه لا يجوز له أن يفرض على الباحث نتيجة معينة، أو فكرة بذاتها مقدما دون أن تكون تلك النتيجة أو هذه الفكرة قد نتجت عن عملية التفكير العقلي نفسها والتي لا يقيدها إلا قيود «العقل» ذاته، ولاحظ هنا كلمة «عقل» هذه لأن معناها اللغوي هو «قيد»؛ لتعلم أن حرية الفكر مقيدة بقيود نابعة من طبيعتها.
أقول إن للحرية صورا كثيرة، وإنني في هذا الحديث سأقتصر على إحدى تلك الصور، وهي حرية الفكر، التي أشعر بأنها في مصر - وفي الوطن العربي كله - مقيدة بغير قيودها الطبيعية التي ذكرت طرفا منها؛ إذ هي معرضة للتدخل المسبق من ذوي النفوذ وذوي المصالح في المجالات المختلفة، فهؤلاء كثيرا ما يفرضون - مقدما - أفكارا معينة لا بد للمفكر أن ينتهي إليها بعملياته الفكرية وهم لا يقفون من الفكر الحر موقف الحياد، إلا إذا كان موضوع البحث بعيدا عن مجالاتهم التي تتصل بأشخاصهم وبمصالحهم.
وإن ذلك لنقص خطير في حياتنا العقلية، وتتبدى لنا خطورته إذا علمنا أن مصر - بصفة خاصة بين بلدان العالم العربي والعالم الإسلامي - قد كانت أسبق من سواها في العصر الحديث إلى الأخذ بفكرة الحرية في كثير من صورها ومعانيها، فهي - مثلا - سباقة إلى المطالبة بالحرية السياسية وبالحرية الاجتماعية وإلى حرية الأدب والفن، وكان الأمل ألا تستثني أنواعا معينة من صور الحرية لتضع أمامها العقبات.
وفي هذه المناسبة أذكر أن الأديب الإنجليزي ج. ب. بريستلي كان قد أصدر في أوائل الخمسينيات - على ما أظن - كتابا في تاريخ الأدب كنت قد اطلعت عليه فوجدته قد انتهج منهجا متميزا، وهو أن يكتب ذلك التاريخ الأدبي من خلال انطباعاته هو التي انطبع بها في قراءاته الواسعة، فجاء تاريخه أقرب إلى مذكرات شخصية يعلق بها على الحياة الأدبية في مختلف العصور، والعصر الحديث منها بصفة خاصة، والمهم الذي من أجله أذكر هذا الذي أذكره هو أنني وجدته يستخدم مفتاحا ليفهم به روح الفترة المعينة التي يؤرخ لها، استوقف نظري بطرافته وفائدته، وهو أن يبحث في تلك الفترة عن الفكرة أو المعنى أو اللفظة التي يجدها أكثر من سواها دورانا على أقلام الكتاب والشعراء، فتكون هي التي تشير إلى أبرز ما كانت تلك الفترة المعينة تهتم به، فلما صادفت تلك الطريقة التي اتبعها بريستلي في كتابه ذاك (وبالمناسبة لقد مات بريستلي صيف هذا العام 1984م عن تسعين عاما) أخذت نفسي عندئذ بتطبيق الطريقة نفسها على حياتنا الفكرية في مصر في تاريخها الحديث، وقمت ببعض المراجعات لطائفة كبيرة من أصحاب القلم عندنا منذ رفاعة رافع الطهطاوي وإلى الوقت الذي قمت فيه بتلك المراجعة، وكان ذلك في أواخر الخمسينيات على أرجح الظن، فلم ألبث أن رأيت في أجلى جلاء أن فكرة «الحرية» على إطلاقها هي التي ظفرت بالنصيب الأكبر، فما من كاتب أو شاعر أو مفكر في مجال السياسة أو التقدم الحضاري أو غير ذلك إلا وقد سيطرت فكرة الحرية على عقله وشعوره . وأعتقد أن ما يجوز تسميته «بالمنطقة المحرمة» في عالم الفكر والأدب قد أخذ يضيق حتى أصبحت تلك المنطقة المحرمة على حرية الأديب والمفكر غير ذات وزن يعتد به خلال العشرينيات والثلاثينيات التي نعدها فترة نهوضنا الحقيقي، لكن حدث بعد ذلك ما شجع أصحاب المصالح في المنطقة المحرمة أن أخذت تلك المنطقة تتسع وتتسع حتى شملت أطرافا من حياتنا الأدبية والفكرية، لم يكن يحق لها أن تشملها ولكنها فعلت.
ومن أضر النتائج التي نتجت لنا من اتساع المنطقة المحرمة على الفكر الحر والأدب الحر، نتيجة أرادها في مقدمة العوامل التي أدت إلى رجحان فترة العشرينيات والثلاثينيات على هذه الفترة التي تجتازها، وذلك حين نعقد موازنة بين الفترتين، وأعني بتلك النتيجة ما قد أصاب «الحرية المسئولة» من تقلص وضمور، والذي أقصد إليه - على وجه التحديد - من عبارة «الحرية المسئولة» هو تلك الحرية التي يأخذها أصحابها على أنها «كل» لا يتجزأ؛ فالإنسان الحر - في هذه الحالة - مسئول عن تلك الحرية بالنسبة إلى سائر المواطنين، كذلك فإذا كنا - كما أسلفت - نقصر حديثنا هذا على حرية الفكر، كان معنى ما أقوله عند تطبيقه على حرية الفكر هو أنه إذا رأى مواطن معين أنه هو نفسه لم تحدد حريته في فكره، فذلك وحده لا يكفي إن زعم أنه حر مسئول عن الحرية، بل إن تلك المسئولية تقتضي أن يتصدى للدفاع عن ذلك الآخر الذي قيدت حريته في التفكير، حتى ولو كان ذلك الآخر خصما له في الرأي والحرية؛ وذلك لأن حرية الفكر في أمة بعينها - وكدت أقول في الإنسانية جمعاء - هي «كل» لا يتجزأ، ولكن ماذا تعني هذه العبارة؟ إنها تعني في عالم الفكر ما تعنيه حين تقال عن أي كائن حي فلا يستطيع عضو معين - كالقلب مثلا أو الرئتين - أن يعمل لصيانة نفسه وحده، وليحدث ما يحدث لسائر الأعضاء، وذلك لما بينه وبين تلك الأعضاء جميعا من ترابط، فإذا فرضنا - في عالم الفكر - أن استقل مفكر ما بالحرية التي ظفر بها وبعده يكون الطوفان، فهو لا يبالي، وجدنا أن حريته تلك هي في الوقت نفسه استبداد بالآخرين، فإذا دافع عن حرية كهذه فهو في آن واحد يدافع عن الاستبداد كذلك، وعلى سبيل التوضيح أعيد هذا المعنى في عبارة أخرى أقل تجريدا: افرض أن مواطنا ما قد سمح له أن يسيء إلى مواطن آخر في الصحف أو في الإذاعة أو في غيرهما من وسائل النشر، ثم لم يسمح لمن أسيء إليه أن يعرض وجهة نظره بالوسيلة نفسها أو بغيرها، هنا نجد أنفسنا أمام طرفين كان أحدهما «حرا» في عرض فكرته، وكان الآخر وبسبب الحرية التي أعطيت للطرف الأول محروما من حريته، فهل يجوز لنا في حالة كهذه أن نصف الأمة التي حدث ذلك في حياتها بأنها أمة تأخذ بمبدأ حرية الفكر؟ إنها لا تستحق هذه الصفة إلا إذا وجد الخصمان فرصة متساوية في عرض الرأي أو الفكرة أو المذهب أو كائنا ما كان مما يتصل بالحياة العقلية، ولقد شهدت مصر إبان العشرينيات والثلاثينيات أمثلة رائعة للحرية المسئولة بالمعنى الذي حددناه، وهو أن يكون الفرد الحر مسئولا كذلك عن الحرية ذاتها لتكون حقا للآخرين، أما في مرحلتنا هذه التي نجتازها، فما أيسر أن يلوذ المواطنون الأحرار بالصمت إذا رأوا تلك الحرية نفسها تتقلص أمام الإرهاب بالنسبة لغيرهم، ولقد قالها فولتير عبارة قوية وواضحة حين قال: إنه لا يوافق على رأي خصمه، لكنه مستعد أن يقاتل حتى يتاح لذلك الخصم كل الحق في أن يعرض رأيه حرا وبلا قيود.
وأعود إلى «مخافة الله» التي هي رأس الحكمة في العبارة المحكمة الجميلة التي صادفها الصبي مني، وهو في عامه الثاني عشر، صادفها في كراسة الخط «مشقا» (هكذا كانوا يسمون النماذج التي طبعت في الكراسة لتحتذى، ولا أعرف من أين جاءتنا كلمة «مشق» هذه) فالتقط الصبي العبارة بذهنه حفظا لا فهما، ولطالما التقط في طفولته وصباه وبعض شبابه عبارات أو مفردات لجرسها وإيقاعها دون أن يدرك لها معنى، نعم، أعود إلى عبارة «رأس الحكمة مخافة الله» لأعيد معناها ومرماها على نفسي وعلى القارئ معا، فأنت «حكيم» بمقدار الصواب في «حكمك» على الأشخاص والأشياء والمواقف، (لاحظ العلاقة اللغوية بين «حكمة» و«حكيم»)، وإنك لتبلغ من تلك الحكمة منتهاها الذي هو في وسعك أن تبلغه إذا أنت لم تخف أحدا سوى الله، الذي هو «الحق» سبحانه وتعالى، أما إذا أخذتك الرهبة أمام إنسان من البشر؛ فقد عرضت صواب فكرك للضياع، فالمهم هو بلوغ الحق كما تراه مع استعدادك للتراجع بطوع إرادتك إذا رأيت أنك على باطل، ولو كان ذلك الحق المنشود في عالم الفكر من الوضوح بحيث يسطع في أذهان البشر سطوع الشمس على من يتجه إليها ببصره لما تشعبت المذاهب وتفرعت الرؤى، تحت الفكرة الواحدة أو في رحاب العقيدة الدينية الواحدة، عد يا أخي إلى تراثنا الذي يعرف كاتب هذه السطور قيمته الكبرى. لحياتنا معرفة عاقلة هي خير ألف مرة من معرفة آخرين له، التي تشبه في صورتها إدراك المجنون وهو يصيح فيمن حوله قائلا إنه الإمبراطور الذي يسيطر على العالمين، أقول: عد يا أخي إلى ذلك التراث في أي كتاب تقع عليه من الكتب التي أخذت نفسها بتفصيل أوجه الشبه وأوجه الاختلاف بين ما كانوا يسمونه ب «الفرق» (جمع فرقة) مما ينطوي تحت فكرة واحدة، فالفكرة الواحدة أو العقيدة الإيمانية الواحدة لم تفهم دائما على صورة واحدة، بل تعددت فيها «الفرق بتعدد وجهات النظر». ارجع - مثلا - إلى كتاب «الفرق بين الفرق» للبغدادي أو إلى كتاب «الملل والنحل» للشهرستاني، لترى كم تبلغ الفوارق بين رجال الفكر في طريقة فهمهم للفكرة الواحدة، ومع ذلك قلما حدث أن اضطهدت فرقة فرقة أخرى خالفتها في وجهة النظر، ودع عنك أن ترميها بما يمس سلامة عقيدتها الدينية، ومعنى ذلك أن الحرية المشتركة التي أسميتها في حديثي هذا بالحرية المسئولة، كانت هي المناخ السائد في سماء الفكر، فإذا دعونا إلى التمسك بتراثنا في أصوله؛ فإنما ندعو إلى الأخذ بكل ما عرفه أسلافنا من دقة في تحليل المعاني، ومن حرية في أن يأخذ كل بما يراه صحيحا ، وأن يعلنه في غير خوف إلا من ربه ورب العالمين.
الفصل التاسع
التراث هو أول الطريق
عن حرية العقل أتحدث
كان الفتى المراهق يتوقد ذكاء، وكان فوق ذكائه موهوبا في الرؤية الفنية، وأعني بذلك أنه كان مستعدا بفطرته للسير في أي طريق شاء لنفسه، أو شاء له أهله، فهو قادر على السير في طريق التعليم الجامعي بكل فروعه قدرته على السير في طريق الإبداع الفني، وهو كأي مراهق آخر، دائب الحيرة بين قدراته المختلفة، أيها يختار لمستقبل حياته؟ وقد سألني ذات يوم: بماذا أشير؟ فأجبته قائلا: ولماذا لا تملأ حياتك بالقدرتين معا؟ فالمهنة تقيمها على إحدى الدراسات الجامعية من هندسة وطب وما إليهما، والهواية تقيمها على فن من فنون؟ واعلم - يا بني - أن من مواضع القصور في حياتنا أن كثرتنا الغالبة تخرج من مراحل تعليمها وليس لها إلا شيء واحد تعرفه وترتزق منه، وأقل ما يقال في مثل هذه التربية المنقوصة هو أن حياة الإنسان - كل إنسان - مناوبة بين ساعات للعمل وساعات للفراغ، فإذا أعددنا أنفسنا بالمهنة المعينة لحياة العمل الكاسب للعيش، فلا بد لنا كذلك من هواية نختارها، أو هوايات لنجعل منها مشغلة ومسلاة في ساعات الفراغ، وإن شئت يا ولدي أن أضرب لك أمثلة كثيرة لأفراد لم يكن في مستطاعهم إلا مهنة أو حرفة يحبذونها ويعيشون من ربحها؛ فإذا كان فراغ لم يعرفوا كيف يستخدمونه إلا نياما، لسقت لك أمثلة من هؤلاء شاء لهم الله أن يصابوا فيما يعينهم على أداء المهنة أو الحرفة، فقضوا بقية حياتهم في حسرة وأسى، يثقل عليهم عبء الحياة فلا يجدون بين أيديهم الهواية التي يملئون بها الفراغ الثقيل، ومضت بيننا دقيقة صامتة، فكسرت حاجز الصمت بأن سألته: هلا أطلعتني على آخر ما أبدعته من تكويناتك الفنية الرائعة؟ فأسرع كالطائر المرح وعاد ليطلعني على رسم مثير للدهشة أولا، ومثير لسيل من الأفكار ثانيا؛ إذ هو رسم الإنسان من حروف الأبجدية، بمعنى أنه أقام الشكل من تلك الحروف وحدها، بغير إضافة أي شيء آخر إليها، فمن الحروف كان الرأس وكانت العينان وكانت الأذنان وكان الأنف وكانت الشفتان وكانت سائر الأجزاء جميعا، ولقد تعمد أن يكون الشكل دالا على مجرد إنسان، يصلح أن يكون رجلا وأن يكون امرأة في آن واحد معا. كان التكوين الفني من العناصر الأبجدية بديعا ورائعا، فأخذت أتفرسه، وقد أطلت فيه النظر، فسألني الفتى: ماذا ترى؟ فخرجت الإجابة من بين شفتي تمتمة بكلمات أرددها: أرى ... إلى أبعد الآماد! ففرح الفتى بما قد سمعه وسأل في خفة المراهق: كيف؟ قلت له سأحاول أن أعرض عليك الفكرة في أبسط صورة أستطيعها، فرسمك هذا هو أبرع ما يمكن أن نصور به الموقف الثقافي لشعب جمد عند ماضيه، وأبى على نفسه التطور والنماء، وكثيرا ما شهد التاريخ مواقف ثقافية في مثل هذا التحجر، وكان مصيرها بعد ذلك إلى فناء محتوم، بل إن الأمر في هذا لا يقتصر على تاريخ الإنسان وثقافاته، وإنما يتسع نطاقه ليشمل الكائنات الحية جميعا، فما أكثر ما جمدت أنواع حيوانية عن التكيف لظروف استحدثت في بيئاتها فأخذت تضعف جيلا بعد جيل حتى اندثرت.
ونحصر حديثنا الآن - يا بني - في الإنسان وثقافته بأوسع معنى لهذه الكلمة، وألخص لك الصورة قبل أن أنتقل معك إلى تفصيلاتها فأقول: إن موجة التاريخ إذا ما ارتفعت بأمة إلى ذروة حيويتها ومجدها، وجدت تلك الأمة مبدعة جديدا كل يوم، فهي اليوم أكثر امتلاء من الأمس، وستكون في غدها أكثر امتلاء من يومها، وقلما يحاكي إنسان من أبنائها ذوي الاهتمام المعين إنسانا آخر في مجال ذلك الاهتمام محاكاة تامة، ولماذا يحاكيه على تلك الصورة وهي له بمثابة إعدامه وإلغاء لوجوده؟ نعم، قد تجد من يتبعون إماما لمدرسة معينة، فيكونون تلاميذه في اتجاهه ومنهاجه، لكنهم يستقلون بشخصياتهم داخل ذلك الإطار، وأما إذا ما هبطت موجة التاريخ بتلك الأمة فها هنا قد يحدث أحد أمرين: إما أن تستعيد الأمة حيويتها الضائعة فتعود بها موجة أخرى إلى الصعود، وإما أن تعجز دون ذلك «فتحفظ» عن ظهور القلوب حفظا أصم لما خلفه لهم آباؤهم من تراث، وعندئذ يصبح العالم من علمائهم هو من حمل رأسه فوق كتفيه، وكأنه يحمل صندوقا مليئا بالمحفوظات، ثم يصبح التعليم كله عملية ملء للصناديق بمحفوظات - كل بمقدار ما تسعفه قوة ذاكرته - فإذا طرح سؤال على عالم أو على متعلم - ابتغاء إجابة تنفع في حل مشكلة طرأت على الناس - كانت الوسيلة الوحيدة للجواب هي البحث في تلك الصناديق المليئة بمحفوظاتها من مخلفات الآباء، عن قول أو جملة أو لفظة مما يمكن أن يكون لها صلة بالمشكلة الطارئة، فإذا أردنا أن نرسم صورة تبين ملامح الرجل من هؤلاء الذين يحملون أدمغة صندوقية ملئت بمحفوظاتها، لم نجد أبرع من الصورة التي رسمتها أنت يا ولدي، وكأنك ألهمت الحقيقة دون أن تدري؛ إذ الحقيقة في أمثال تلك الشعوب التي جمدت عروقها هي أن العالم فيها أو المتعلم لا يراد له ولا يراد منه إلا أن يكون جسدا قوامه كله الحروف الأبجدية وزعت على محفوظات من أقوال وجمل وكلمات، وأما دنيا العمل والبناء والإنشاء والإنتاج فهذه يتولاها من لم يسعدهم الحظ بحفظ التراث، فيكون لهم هو الثقافة وهو المرتزق في وقت واحد.
تلك هي الصورة في مجملها يا ولدي، ولأعد بك إلى شيء من التفصيل ضاربا لك المثل في المرحلتين معا: مرحلة الإبداع والحيوية، ومرحلة المحاكاة والذبول بالأمة العربية في ماضيها وفي حاضرها، ففي ماضيها الذي شهد عزها ومجدها، كان كل يوم في حياتها يزيد علما وخصوبة عن أمسها، وبالتالي كان غدهم يبنى على أمسهم، ثم يضيف من عنده ما قد أبدعه هو في هذا المجال أو ذاك، وخذ أمثلة لذلك في مجال اللغة وعلومها، وفي مجال الفقه وأصوله، وفي مجال الفلسفة وتأصيلها، وفي مجال الأدب ونقده، وفي مجال العلوم الطبيعية والرياضة، وفي مجال التاريخ وتدوينه، وفي مجال الرحلات والكشوف الجغرافية، وفي أي مجال آخر تشاء، ففي كل مجال تجد القرن الثاني للهجرة أوفر علما من القرن الأول، والثالث من الثاني والرابع من الثالث، وقد يصل بك الصعود إلى الخامس، ثم يبطئ الصعود ليلتقي رجال العلم عندئذ بعملية الترتيب والتبويب في الأعم الأغلب، حتى إذا ما جاء القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) لم يكن في وسع الأبناء إلا أن يحفظ علماؤهم حفظا أصم لما تركه آباؤهم، وهنا تحققت صورتك التي رسمتها، فلم يكن قوام العلماء إلا أقوالا يعيدونها مما حفظوه.
وجاء عصرنا، وكدنا نوفق إلى الخروج من تلك الساقية التي تدور بأوعيتها في بئر مغلقة، تمتلئ منها ثم تعود فتصب ماءها فيها، لا بل استطعنا أن نقطع شوطا في طريق الإبداع - أو على الأقل - في طريق الحث عليه، لكننا يا ولدي عدنا فانتكسنا إلى حياة ثقافية وعلمية، وهي الحياة التي صورتها في رسمك، فالعالم والمتعلم معا رأسه حروف، وعيناه حروف، وأنفه حروف، وشفتاه حروف، وكل جذعه وأطرافه حروف، تأتلف معه في أقوال وجمل خزنها في دماغ صندوقي حمله فوق كتفيه، وأما دنيا العمل والبناء والإنشاء والإنتاج، فبقدر ما عندنا منها. إنما توكل إلى من لم يسعد نجمهم ليحفظوا «التراث» عن ظهر قلب، ليكون لهم هو الثقافة وهو مصدر العيش معا.
والآن استمع إلي بكل انتباهك يا ولدي. إنك قد دنوت من الثامنة عشرة، وهي السن التي عندها تدخل من عالم المراهقة إلى دنيا الراشدين، ثم هي السن التي يباح لك عندها أن تشارك في انتخاب من ينوبون عن الشعب، وبالتالي من يحكمونه، وإنني - فضلا عن ذلك - لشديد الثقة في ذكائك؛ ولذلك فسوف أخاطبك وكأنني أخاطب الشباب جميعا، وأول ما أقوله هو أن تلك الحرية السياسية التي ستظفر بها وشيكا لن يكون لها كل معناها إذا لم يمهد لها ويصاحبها - ويلحق بها - حريات أخرى لا تكون هي شيئا بغيرها، وماذا تكون حرية سياسية نمارسها في انتخاب النواب ورجال الحكم إذا لم يكن معها حرية ضمير، وحرية فكر، وحرية عقيدة، وحرية تعبير، وإن هذه الحريات جميعا التي أقرها دستورنا وأقرها ديننا لتصبح هواء من هواء إذا لم نمارسها ممارسة حقيقية في حياتنا العملية ، فإذا صادفت يا بني من يريدون أن يجعلوا منها هي الأخرى محفوظات مع سائر محفوظاتهم، يكرونها لك كرا باللسان والشفتين، حتى إذا ما نطق ناطق بما لا يتفق مع هواهم حاصروه ليخنقوه؛ فاعلم أنهم هازلون.
استمع إلي بكل انتباهك يا ولدي؛ لأنني سأشرح لك نقطتين متصلتين بمنهج التفكير العلمي، وهما نقطتان على شيء من الدقة، فإذا لم تركز انتباهك فقد تفلتان منك فتزل في الخطأ كما يزل آخرون، ولهاتين النقطتين أهمية خاصة إذا ما كان الموضوع المطروح متصلا بالحفظ الأصم لطائفة من المبادئ والقواعد والجمل والألفاظ، ثم يراد لها أن تكون هي الموجهات لحياة الناس في شئونهم العملية الجارية مع جريان الزمن.
أما النقطة الأولى فهي أن الخطورة فيمن «يحفظ» تركيبا لغويا معينا ويريد له أن يكون هو المرجع للفكر أو السلوك هي أنه قد ينسى أن ذلك التركيب اللغوي المحفوظ ربما كان خاطئا في ذاته، فإذا استخرجنا منه نتيجة ما، كانت بدورها - في هذه الحالة - نتيجة خاطئة، لكننا بما في طبيعتنا البشرية من نقص وضعف إذا ما ارتبطت حياة أحدنا بمحفوظات حفظها وكررها مرة بعد مرة توهم - دون أن يدري - أنه إنما يحفظ ما هو صواب، فإذا طالبته بإقامة الدليل العلمي على صواب معرفته، تشنج وأخذه الغيظ، وهي حالة يعرفها المحللون النفسيون في مرضاهم، والذي أريد أن أقوله لك - ولسائر الشباب معك - إنه محتوم علينا بحكم العقل الذي تميزنا به دون سائر الكائنات بأن نتثبت بكل طريقة علمية ممكنة من صدق ما كنا حفظناه إذا نحن أردنا أن نجعل منه قواعد نحتكم إليها في التفرقة بين الصواب والخطأ، وأحسبك يا ولدي مدركا بذكائك الفطري أنه إذا ما اختلف «الحفاظ» في مسألة معينة؛ فذلك الاختلاف وحده دليل على أن محفوظاتهم تحتاج إلى مراجعة نحتكم فيها إلى منطق العقل.
وأما النقطة المنهجية الثانية التي أردت تقديمها - ولعلها أصعب إدراكا من الأولى - فهي أن من كانت بضاعته محفوظات لغوية كان بمثابة من بعد عن دنيا الواقع بخطوتين؛ ولذلك لم يكن من حقه أن يحكم على أمر من أمور الحياة الواقعية إلا إذا قطع تينك الخطوتين راجعا من عالم محفوظاته إلى عالم الأشياء. ولماذا هما خطوتان؟ هاك شرح ذلك: إن مفردات اللغة وتراكيبها إذ هي تشير إلى الأشياء والمواقف الفعلية، فهي لا تؤدي ذلك على مستوى واحد بالنسبة إلى جميع الحالات، بل هي في بعض الحالات تمس الواقع مسا مباشرا، وفي بعضها الآخر تبعد عن ذلك الواقع بخطوة أو خطوتين، أو أي عدد من الخطوات، وذلك متوقف على درجة التجريد والتعميم التي يتحدث بها من يتحدث، خذ - مثلا - هذه الدرجات الثلاث: مريض، مريض بالحمى، جاري فلان مريض بالحمى، فواضح أن الجملة الثالثة تتصل بحالة معينة واقعة اتصالا مباشرا، وأما الثانية والأولى فتشيران إلى «تصورات» ذهنية، لا إلى حالات معينة وقعت بالفعل، بعبارة أخرى قد تكون أوضح، إن من يقول كلمة «مريض» أو يقول عبارة «مريض بالحمى» يكون مفهوما لسامعيه، دون أن يكون هنالك بالضرورة مرض قائم بالفعل، وأما من يقول: جاري فلان مريض بالحمى، فهو أيضا يكون مفهوما لسامعيه، لكنه فوق ذلك يجعلنا على علم بشيء حدث بالفعل.
وبناء على هذا الذي قدمناه يمكن القول بأن اللغة تامة الأداء لوظيفتها الأساسية حين تدلنا على ما هو واقع بالفعل، وتكون ناقصة الأداء حين تشير إلى تصورات ذهنية، نفهم ما تعنيه، لكننا لا نضمن بها أن يكون هنالك في دنيا الواقع ما يقابلها، وهنا نستطيع العودة بحديثنا إلى «الحفاظ»؛ فبالبداهة هم لا يحفظون عبارات مأخوذة أخذا مباشرا مما هو واقع حولنا، وذلك لأنهم يحفظون أشياء استخرجوها من كتب، والكتب كتبها أصحابها في عصور مضت، فهي على أحسن الفروض إذا كانت صادقة فصدقها كان مرهونا بما قد كان واقعا في زمانها، وهي بعد ذلك إما أن يكون صدقها ممتدا ليشمل وقائع حياتنا الحاضرة، وإما أن يكون صدقها قد اقتصر على زمانها، ومعنى هذا هو أن حفاظ التراث عليهم في كل حالة على حدة أن يثبتوا أن ما قد حفظوه من الكتب عن أشباه تلك الحالة يمتد بصدقه إلى حالة عصرنا ليشملها.
ربما ظننت يا ولدي أنني قد بعدت بك بعدا شديدا عما بدأنا به، فلقد كنت بادئ ذي بدء أضمر في نفسي أن أحدثك عن حرية العقل، ثم جاء رسمك الذي صورت به إنسانا قوامه كله حروف الأبجدية فرأيت أنا في رسمك رمية صائبة - أردتها أم لم تردها - فذلك سيان، وهي رمية صائبة؛ لأن الرسم على بساطته يصور لي جانبا هاما من حياتنا الراهنة؛ إذ هي حياة يراد لها أن تلقي بزمامها إلى من لا يملكون إلا حافظة وما تخزنه من أقوال محفوظة، وفي ذلك خطورة خطيرة تستحق منا وقفات متدبرة متأنية، وليس يعيبنا أن نهتدي بحكمة التاريخ، حتى ولو كان تاريخا يؤرخ لأمم غير أمتنا، وها هي أوروبا وما كانت عليه قبل نهضتها نستطيع أن نراها بكل وضوح فيما رواه المؤرخون وفيما صوره الأدباء، كانت أوروبا تجتاز عندئذ مرحلة تتحكم فيها «المحفوظات» قبل أن تتحكم فيها «الأشياء» الواقعة والمواقف الحادثة بالفعل، والمحفوظات بطبيعتها تختزن الماضي، وقد تصلح أو لا تصلح لما هو حادث، فجاءت قصة «دون كيخوته» إلى الناس في تلك المرحلة، فكتب لها منذ الساعة الأولى أن تكون آية من آيات الأدب العالمي كله، لماذا؟ وماذا تحكي تلك القصة؟ إنها بكل بساطة جعلت إنسانا، هو «دون كيخوته»، يحفظ من الكتب كل شيء عن الفروسية والفرسان - وكان عهد الفروسية والفرسان قد انقضى - لكنه أعجب بما قرأه إعجابا ملك عليه كل زمامه، وصمم أن يحيا حياته على نحو ما عاش الفرسان، وإذا بالمسكين يصبح أضحوكة الناس، لكنهم في الحق كانوا يشفقون عليه لبراءته بمثل ما كانوا يضحكون منه لسذاجته، ولقد أصبحت القصة منذ ظهورها أروع مثل يساق لمن حفظ عن الماضي شيئا وأراد أن يطبقه على حاضره، بغض النظر عما قد تغير بفعل الزمن.
هي يا ولدي خطورة خطيرة على أمة من الأمم، أن تلف عقولها في أغشية من «محفوظات» يعيد الناس بها كلمات وعبارات تركها السلف؛ فيحيون حياتهم في «قال» و«قيل». وموضع الخطورة هو أنهم سرعان ما يجدون أنفسهم قد انفصلوا عن عالم الأشياء والوقائع والمواقف والأحداث، فيفاجئهم الحادث الضخم وهم عنه غافلون، وذلك هو ما حدث لنا - وأعني مصر والوطن العربي والعالم الإسلامي - مرة ومرة وثالثة ورابعة، ولعله آخرها كان هو أن صحونا على شيء اسمه إسرائيل قد انغرس في الجسم العربي ونما وانتشر وازداد قوة ونحن ما زلنا نلف أنفسنا في أغطية القال والقيل، وإنها لأغطية تشبه في تأثيرها فعل الأشرطة العازلة للكهرباء تلف بها الأسلاك المكهربة فتصبح بردا وسلامة على لامسيها.
قال الفتى: لقد تابعتك كلمة كلمة، وفهمت عنك ما أردته أحسن الفهم، لكنني أود أن أعلم منك كيف - إذن - تكون الصلة بيننا وبين أسلافنا إذا كان حفظنا لتراثهم لا يرضيك؟
قلت: حاشا لله يا بني ألا يرضيني تراث آبائي وأجدادي، وهو يجري في كياني مجرى الدماء في العروق، لكن المسألة هي في «كيف» أقف من ذلك التراث؟ وجوابي هو أن الأمر فيه يشبه الأمر في أرض زراعية ورثتها عن أبيك، فماذا أنت صانع بها؟ إنك لا تطويها لتخزنها في رأسك لتسير معك حيث تسير، بل تزرعها لتستثمرها، فالتراث الذي ورثناه لا ينبغي أن يكون في حياتنا كالحبائل التي يقع فيها الصيد فلا يستطيع لنفسه فكاكا حتى يمسك به صياده، بل ينبغي أن نجعل منه أول الطريق نستثمره على النحو الذي نراه نافعا لنا، فمثلا قد وجدنا في تراثنا مبدأ يوصي بأن يكون أمرنا شورى بيننا؛ فعلينا أن نبدأ من هنا ونسأل كيف نجعل هذه الشورى لتلائم ظروف عصرنا؟ فإذا اخترنا أن يكون ذلك بمجلس لنواب الشعب المختارين، فقد يجيء سؤال بعد ذلك عن أفضل طريقة نجري بها عملية الاختيار، وهكذا، فها هنا ترانا قد بدأنا من التراث ثم مضينا في طريقنا نحن الذي يلائم حياتنا في عصرنا، لكن قارن ذلك بما كنا قد قرأناه منذ فترة ليست بعيدة لرجل فاضل ممن يحيون التراث «محفوظات» صماء؛ إذ قال إن علينا أن نتبع أسلافنا في أننا ما دمنا قد اخترنا الحاكم، فقد انتهى دورنا في الشورى، وللحاكم بعد ذلك أن يفعل ما يشاء فلا رقيب عليه ولا حسيب.
وقل شيئا كهذا في «العلم» ومكانته من حياتنا، فنبدأ بتراثنا فيما أوصى به من وجوب العلم ووجوب استرشادنا، لكننا من نقطة البدء هذه ننطلق فيما يلائم عصرنا، فأي «علم» يكون؟ العلم بماذا؟ كان أسلافنا يوجهون الطاقة العلمية - أو معظمها - نحو دراسات كانت في يومهم هي ذات الأولوية الأولى، وكان معظمها منصبا على الجانب اللغوي من الفكر، ولا أعني فقط دراسة اللغة من حيث هي لغة، بل أعني أن موضوعات البحث كانت صيغا لغوية على كل حال، وأما اليوم فبالإضافة إلى تلك الدراسات التي لا بد منها لكل عصر فتحت أمام الإنسان صفحة جديدة، أو هي كالجديدة، بل وأصبح لها الأولوية الأولى، وأعني بها صفحة الكون وظواهره، فوجبت دراسته بالعلوم التي تصلح لدراسته.
لقد كنت من أشد الناس فرحة بجامعة الأزهر في صورتها الجديدة، وكتبت لأعبر عن فرحتي تلك مقالة جعلت عنوانها: «الثورة الرابعة» اعتبارا مني بأن مصر كانت قبل ذلك قد حققت ثلاث ثورات، هي الثورة السياسية التي خلصتنا من الاحتلال البريطاني، وأعطت المواطنين شيئا من حقوقهم السياسية، والثورة الاجتماعية التي رفعت من مكانة الفلاح والعامل، فجعلتهما مساوية لأي جماعة أخرى من أبناء الوطن في القدر وفي الحقوق؛ علما بأن تلك الفئة التي كانت مغلوبة على أمرها تبلغ أكثر من أربعة أخماس السكان، والثورة الثالثة هي الثورة الاقتصادية التي غيرت ما غيرته من الملكية الزراعية، ثم ضاعفت قطاع الصناعة الثقيلة منها والخفيفة أضعافا عدة، وها هي تلك الثورة الرابعة في مجال التعليم والعلم، وأعني تطوير جامعة الأزهر لتصبح جامعة كسائر جامعات الدنيا. إن وقفت وقفة مع تاريخ الفكر وتاريخ العلم؛ فيجب أن تقف وقفات مع الفكر والعلم كما يعرفهما العصر الذي نعيش فيه، فليس شأني يا بني هو رفض تراثنا - أستغفر الله - وها هي ذي كتبي في هذا الميدان شاهدة على ذلك.
ولكن يبقى مع ذلك سؤال جوهري لا بد لنا من الإجابة عنه إجابة عملية، وهو: كم من التراث؟ وكيف؟
على أني ألاحظ أننا نتحدث عن «التراث» وكأنه طاقية - مثلا - إما وضعناها على رءوسنا وإما خلعناها، وليس الأمر كذلك، فهذا التراث عالم فسيح الجنبات كثير الأبعاد عميق الأغوار، فيه أصول الدين وفيه مذاهب الفقهاء، وفيه الشعر وفيه النثر الأدبي وفيه الفلسفة وفيه كتب المتصوفة، وفيه علوم اللغة، وفيه العلوم بكل أنواعها، وفيه ... وفيه ... وليس موقف عصرنا من هذه الفروع الكثيرة متساويا بالنسبة إليها جميعا، بل إن فيها ما يظل ماضيه هو حاضره وقديمه هو جديده، وفيها كذلك ما كان ماضيه مرفوضا كله أو بعضه عند الإنسان الجديد بعلومه العصرية وبحياته التي تغيرت ظروفها.
ومن ذلك ترى - يا ولدي - أن ما ورثناه عن أسلافنا لا بد أن يكون نقطة ابتداء ننظر إليه عندها نظرة جادة نظرة من يحب أسلافه ويحب نفسه، وإما وجدنا الضرورة تقتضي أن نطيل وقوفنا عند تلك النقطة، وإما دفعتنا ضرورة الحياة دفعا إلى مجاوزتها إلى ما قد استحدث بعدها، مع إحالتها إلى عناية المؤرخين.
الفصل العاشر
صورة يفزعني صدقها
عن حرية الحركة أتحدث
حمار مربوط بحبل في وتد، تلك هي العناصر المادية، التي أقام عليها الشاعر العربي الصورة التي رسمها في بيتين من شعره، ولست أذكر متى حفظتهما، ولا بد أن يكون ذلك منذ زمن بعيد، بل ولا أذكر من هو الشاعر، لا، بل تذكرته الآن، إنه «المتلمس» وما هو أهم من ذلك عندي، هو السؤال الذي طالما طرحته على نفسي في حالات التذكر التي تشبه هذه الحالة، والسؤال هو: لماذا تذكرت هذا المحفوظ القديم الآن؟ إذ كثيرا ما ظننت أن لا علاقة هناك بين حادثة تصادفني، وبين ما تستدعيه من مخزون الذاكرة، لكنني لا أدع نفسي لتستريح إلا إذا بحثت فوجدت الرابطة بين الطرفين.
وليست العناصر المادية في الصورة التي رسمها الشاعر هي - بالطبع - كل ما يحمل البيتان، بل هي الركيزة الحسية التي اختارها الشاعر ليقيم عليها ما أراد إقامته من معان، وإني لأوثر أن أرجئ ذكر البيتين حتى أعرض لب المعاني التي أرادها الشاعر، وذلك لأني أعلم كم بات عسيرا على القارئ اليوم أن يقرأ شعرا، فأولا: لم يرد الشاعر أن يسمي «الحمار» حمارا، بل أسماه «عير الحي»، وذلك - في ظني - لأن اسم «الحمار» قد ينصرف عند القارئ إلى تلك الحمر التي يركبها السادة الأثرياء، والتي هي مطهمة بسروج من حرير، في حين أن الحمار الذي عناه الشاعر في صورته، إنما هو ذلك الضرب الذي يستخدمه سواد الناس في نقل الحجارة أو الرمل والزلط، أو ما إلى ذلك من أحمال! ولهذا فكثيرا ما ترى الحمار المسكين في هذه الحالة مسلخ الظهر، معفر الجلد، ثم هو مع ذلك هزيل بارزة عظامه لسوء ما تغذى، وثانيا لا بد لنا إذا ما وردت كلمة «الوتد» في البيتين أن نستحضر في أذهاننا شيئا من تاريخ الوتد؛ لأننا أميل إلى إهماله ونسيانه، فالوتد هو الآن قطعة من خشب، لكنه كان أيام عزه جزءا من فرع شجرة حية خضراء، ولا بد لذلك الفرع أن كان يميس مع الرياح كأنه الغادة الحسناء يتأود عودها من عجب وخيلاء، وأحسب أن القارئ على علم بكثرة ما لجأ الشعراء العرب إلى فروع النبات يشبهون بها الغيد الحسان.
هكذا كان الحمار، والوتد الذي ربط به، كلاهما في الصورة التي رسمها الشاعر، قد أحاط بهما، وسرى في جسديهما هوان وذل، وثالثا لم يتركنا الشاعر لنتخيل في تلك الحالة الذليلة ما نتخيله، إذ خشي أن يذهب بنا الظن إلى افتراض أن يكون ذل الحمار وذل الوتد - كما رسمهما - قد جاءهما مصادفة، فما أكثر ما تهبط مصادفات الحياة بعزيز قوم إلى مذلة في أقل من لمح البصر، لكن حالة الحمار والوتد لم تكن من هذا القبيل، بل هو ذل أريد بهما عن عمد، ومع ذلك فهما مقيمان على ما أريد لهما من ضيم وكأنهما راضيان به، إذ تراهما وقد شملهما هدوء وسكون، فلا قلق ولا ملل ولا سخط. رابعا إذا فرضنا أننا قد التقينا بذلك الشاعر فسألناه: من أين لك هذا كله عن الحمار والوتد؟ فإنه يجيب في ثاني البيتين بالبينة، إذ يقول عن الحمار إنه لم يقتصر على أن يكون مربوطا «برمته» (الرمة هي الحبل تساق به الدابة)، بل إنه في وضعه ذلك «على الخسف»، وأما الوتد فإن سيده الذي غرسه في الأرض أخذ يدقه على رأسه حتى شج له ذلك الرأس، ومع ذلك فقد بلغ من الهوان أن أحدا من الناس لم يعطف عليه ببكاء أو رثاء.
والآن فلأذكر البيتين:
ولا يقيم على ضيم يراد به
إلا الأذلان: عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته
وذا يشج فلا يرثى له أحد
على أن روعة الشعر الجيد لا تنحصر في نصه، بكل ما يكون في ذلك من حلاوة لفظ، ودقة تصوير، بل إنها لتجاوز به تلك الحدود لتجعله قادرا على تصوير مواقف وحالات لا حصر لأنواعها، مما قد يصادف الإنسان في حياته، فلئن كانت الصورة في البيتين المذكورين خاصة بحمار ووتد أصابهما هوان وذل، بسبب ما فرض عليهما من قيود تشل فيهما حرية الحركة التلقائية، فإن هذه الصورة نفسها تنطبق أتم انطباق على مواقف أخرى كثيرة، وكأنما كانت تلك المواقف هي المقصودة بشعر الشاعر، ومن هنا كانت صورة الحمار المربوط برمته في وتد شج رأسه من قسوة الدق عليه كثيرة الورود إلى مخيلتي، أستدعيها بالذاكرة من الوعاء الذي امتلأ بالمخزون، فهي صورة تقفز إلى ذهني دون أن يكون فيما أراه أمامي حمار ولا وتد، فتراني - كما أسلفت لك القول - لا أدع نفسي لتستريح حتى أجد العلاقة الخفية بين حادثة أراها وبين أن تقفز صورة الحمار والوتد إلى ذهني.
قد لا يكون الحمار - في الموقف الحادث - حمارا ولا الرمة التي تربطه حبلا (الراء في «الرمة» مضمومة)، ولا الوتد وتدا، لكنها كثيرا جدا هي تلك المواقف التي تستثير في مخيلتي الصورة التي رسمها الشاعر؛ إذ يكفي أن يكون في الموقف المعين «مربوط» و«رباط» و«رابط» بحيث ينتج عن ذلك الثالوث شلل في الحركة لتكون الصورة التي رسمها الشاعر دالة على طبيعة ذلك الموقف، وأن أمثال تلك المواقف المشتملة على مربوط ورباط ورابط (أو مربوط به) لتتراوح عندي من الحادثة الصغيرة فصاعدا إلى الحضارات حين يصيبها جمود يبطل فيها حرية الحركة.
حرية الحركة هي التي كانت معيارا للتقدم في مسيرة الحياة منذ كانت في الدنيا حياة! وإن أشواط تلك المسيرة الكبرى لثلاثة تعاقبت في الظهور، نبات، وحيوان وإنسان، فإذا أمعنت النظر في تلك الخطوات الثلاث، وجدت أن العلاقة الفاصلة بين ما هو أدنى وما هو أعلى، إنما هي القدرة على الحركة في اتجاهات مختلفة وأبعاد متفاوتة، فالنبات يتحرك في نمائه حركة رأسية في مجملها، لكنه لا يتزحزح بجذعه من مغارسه على الأرض، والحيوان في وسعه الحركة من مكانه إلى مكان آخر، لكنه مقيد في ذلك بحدود، فضلا عن أنه في حياته مقيد بلحظته الزمنية الحاضرة، فهو لا يعي تاريخ نفسه، ولا يجاوز لحظته الحاضرة إلى لحظة يتوقعها بخياله في مستقبله، وأما الإنسان فقد بلغ من حرية الحركة حدودا كانت تسبق خياله، فهو لا يتقيد بمكان ولا يتقيد بزمان، فإذا عزت عليه الحركة في المكان والزمان بجسده، استطاع بخياله أن يصل إلى اللامتناهي مكانا وزمانا. وإنه لمن نافلة القول في هذا المجال أن نذكر ما قد أبدعه الإنسان لنفسه من وسائل الحركة الحرة: سيارات، وطيارات، وغواصات، وصواريخ.
لكن القول الذي ينبغي أن يقال مرة وألف مرة حتى يرسخ بجذوره في رءوسنا إلى آخر خلية فيها؛ هو أن الإنسان؛ لكونه الذروة التي ليس بعدها خطوة تعلوها بالنسبة إلى كائنات الأرض، وذلك من ناحية الأجساد وأعضائها، قد انفرد - دون سائر الكائنات - بطرق يسلكها ليستأنف صعوده في مدارج الارتفاع، وأعني بذلك المسالك العقلية والوجدانية من دين وعلم وفكر وفن وما شئت بعد ذلك من فروع الحياة الثقافية للإنسان، ومعنى ذلك أنه إذا لم يكن هنالك وجه للمفاضلة بين إنسان في مقومات الكيان العضوي؛ فتلك المفاضلة واردة في مجال الثقافة بمختلف نواحيها ومعانيها. وإني لأستغفر الله إذا كنت أجاوز الحدود لو قلت إن في الجماعات البشرية ما يكاد يصبح «نوعا» آخر بالنسبة لسواه، لا لأنه تغير وتطور في مكوناته العضوية، بل لأنه تغير وتطور في قدراته العقلية والوجدانية على نحو مكنه من أن يقهر الطبيعة قهرا حتى خضعت له في الكثير من جوانبها، ثم كان أن نتج عن ذلك سيطرته على من لم يستطع من الجماعات البشرية أن يصنع صنيعه، وهي سيطرة قد تكون ظاهرة حينا وخافية في معظم الأحيان، فإذا سألتني: ماذا قيد من تخلف من الجماعات البشرية فحال بينه وبين أن يصعد مثل ذلك الصعود؟! أجبتك بأن هذا هو موقف من المواقف الكبرى التي كلما طافت بذهني، قفزت إلى الصورة التي رسمها الشاعر العربي، وعليك أنت أن تتبين لنفسك، أين الحمار، وأين رمته المربوط بها على خسف، وأين الوتد الذي ربط فيه!
إن حياة الكائن الحي مهما اختلف نوعه، ومن الكائنات الحية لغات وثقافات وحضارات، مرهونة بسرعة التكيف للبيئة ومتغيراتها إن الكائن الحي يأخذ من بيئته ويعطيها، وإذا لم يتحكم فيها تحكمت فيه. إنه يأخذ منها الهواء شهيقا ويرده إليها زفيرا مختلفا في عناصره عن الشهيق الذي أخذه، يأخذ منها طعاما وشرابا ويرده إليها فضلات، وهو يتحوط لها كلما أصابته منها صائبة احتمى بما يحميه، فإذا برد فيها الهواء أكثر مما يطيق، استدفأ بالثياب الملائمة، وهكذا وهكذا إلى ما ليس له آخر فيما بين الإنسان وبيئته من مداورة ومناورة وتعاون حينا وعناد حينا آخر، والفناء لمن قصر في تلك اللعبة العجيبة، وإنه لمما يقال عن سبب اندثار الديناصور (وهو حيوان جسيم الضخامة حتى لترى هياكله العظيمة المعروضة في المتاحف الكبرى كالتي رأيتها في واشنطن وفي لندن قد بلغت من ضخامتها حدا جعلها تمتد به عدة أمتار) أقول إن سبب اندثار هذا الحيوان الجبار - فيما يقال - هو أنه قصر في سرعة التكيف للعوامل التي تفاجئه في بيئته، فإذا أصاب ذيله ما يؤذيه وتطلب سرعة الرد؛ أبطأت الرسالة الذاهبة من الذيل المصاب إلى المخ، حتى لتستغرق في طريقها نحو ثلاثة شهور، فإذا بدأ المخ في الاستجابة بتحريك البدن حركة ترد عن الذيل ما أصابه، كانت الفرصة قد أفلتت، واعتدى على الذيل ما اعتدى من عدو مهاجم.
فهل ترى فرقا كبيرا بين هذه الصورة التي يذكرونها عن حيوان الديناصور وانقراضه وبين أمة كان يمكنها بما لديها من مقومات ثقافية وحضارية أن تكون سريعة الحركة، شديدة الوعي بما حولها، لكنها لأسباب تريد التحليل والتوضيح جمدت وخمدت فتثاءبت فنامت، حتى دهمها من دهمها، ولم يقتصر الداهم على الذيل والأطراف كما حدث للديناصور، بل توغل في قلبها وفي حشاياها. أقول هل ترى فرقا كبيرا بين ما أصاب الديناصور وما قد يصيب أمة كالتي ذكرت، فإذا سألتني: وما الذي حال تلك الأمة دون أن تتحرك كما تحرك الأحرار؟ أجبتك: وهذا ما يحيرني، وكلما أحسست الحيرة، وثبت إلى ذهني من الذاكرة الصورة التي رسمها الشاعر العربي. وعليك أنت مهمة البحث، أين يكون الحمار في هذه الصورة؟ وأين يكون الوتد الذي يشد إليه الحمار برمته؟ وهنا يعن لي أن أثير لك سؤالا فرعيا يستحق منا وقفة قصيرة، فالشاعر العربي قد اختار أن يصف الحمار والوتد بأنهما «الأذلان»، فلماذا لم يقل إنهما «الذليلان»؟ أيكون قد جعل الفرق بين «الذليل» و«الأذل» أن الأول ذليل ويعرف أنه كذلك، فيحاول أن ينفض عن نفسه الذلة إذا استطاع، وأما «الأذل» فهو الذليل الذي ليس له من الإدراك ما يعلم به أنه ذليل؟ ربما.
إن الأمة العربية في تمزقها وتخلفها اللذين يسودان حياتها الحاضرة لو كانت مدركة حقا كم تمزقت وكم تخلفت لحاولت بكل ما ورثته من مقومات الحضارة والثقافة أن تتخلص مما انحدرت إليه، لكنها تزداد كل يوم تمزقا وتخلفا، فالمقياس الوحيد الذي أراه معيارا للتقدم هو أن أرى كم تشارك في بناء عصرها، وإذا كان العصر تشوبه عيوب، فمن المشاركة أيضا أن تتصدى لإصلاح عيوبه، باعتباره عصرنا الذي كتب علينا أن نعيش فيه، وبهذا المقياس الوحيد، نرى في وضوح كم يكون مقدارنا، فلو كان المعيار عدد المدارس والجامعات ومن تخرجوا فيها، لكان من الجائز أن نجد لأنفسنا ما نعتز به في موكب العصر، لكن المدارس والجامعات برغم قيمتها الكبرى في تخريج أصحاب المهن والحرف، فهي دون المطلوب، والمطلوب هو أن نشارك في الابتكار في عملية البناء، وإلا فهل يعقل أن نشتري سلاح الحرب ممن هو عدو لنا، لو كنا لنقاتل أحدا لقاتلناه؟ هل يعقل أن أطب لمرضاي بطب من هو عدوي الذي يسعى إلى محوي إذا استطاع؟ إننا نخدع أنفسنا إلى الحد الذي يجعلنا نشتري من عدونا مصانع نقيمها على أرضنا، ثم نقول إننا منافسوه، ولو كنا ممن تسكع على طريق الحضارة الإنسانية دون أن يضيف إليها شيئا لقلنا إن ذلك - إذن - هو قدرنا في الحاضر كما كان قدرنا في الماضي، ولكننا بناة حضارة كأمهر من بنوها، وينبوع ثقافة كأغنى ما عرفت الثقافة الإنسانية من ينابيع، وهذا يعني أن البركة الآسنة التي نعيشها الآن لا تتطلب منا سوى أن نشق لها الأخاديد لتتدفق أنهارا هادرة كالتي عشناها في معظم عصور التاريخ، لكن ما حيلتنا وفينا من أخذته الغيبوبة، ثم حسب أنه هو الواعي وهو العالم، وهو الشاعر وهو الفنان، وهو الرائد، وهو كل شيء في الدنيا، وماذا يعرف عن نفسه من لا يعرف إلا نفسه؟!
لقد مرت في تاريخ الأمة العربية تجربتان تستحقان النظر الصادق والدراسة الجادة المتأملة، كانت الأولى هي حكمها للأندلس ثمانية قرون - ومع ذلك - فقد استطاع عدوها انتزاعها منها بعد تلك المدة الطويلة، والثانية هي أن استولى الصليبيون على فلسطين ولبثوا فيها نحو ثلاثة قرون، ولكننا عدنا فجمعنا عزيمتنا وطردنا الصليبيين من فلسطين، والسؤال الذي يتطلب منا الدراسة العميقة لنهتدي بنتائجها فيما نحن فيه الآن من تمزق وتخلف هو هذا: لماذا فشلنا في تجربة الأندلس ونجحنا في تجربة الصليبيين؟
إنني في أعماق نفسي مؤمن أشد الإيمان بإمكانات الأمة العربية لو صدقت عزيمتها وصحت نظرتها إلى الأمور، ولم يرتفع فيها صوت كالذي سمعته من ذلك المسئول الكبير - وذكرت لك أمره في مناسبات سابقة - وذلك حين أعلن في اجتماع رسمي أنه سيعمل على تحفيظ شبابنا القرآن الكريم ليستطيع أن يقاوم الحضارة القائمة، ولو هداه الله إلى الصواب لقال إنه سيعمل على تحفيظ شبابنا القرآن الكريم ليستطيع به أن يشارك في بناء الحضارة القائمة؛ لأنها حضارة عصر يعيش هو فيه.
إن الدراسة المستفيضة التي قام بها فيلسوف التاريخ «توينبي» عن الحضارات متى تندثر ومتى يكتب لها البقاء، يمكن أن تضيء لنا الطريق فيما نحن الآن بصدد الحديث عنه، فلقد تناول «توينبي» بالتحليل أكثر من عشرين حضارة عرفها التاريخ، منها ما انقرض وزال، ومنها ما ثبت ودام، (وكانت حضارتنا نحن من الصنف الثاني) ومن تلك الدراسة استخرج القاعدة العامة، وهي التي أطلق عليها عبارة «التحدي والاستجابة»، فالحضارة المعينة قد تنشأ العوامل التي تعمل على هدمها، وعندئذ يكون الأمر بين ثلاثة احتمالات: الأول هو أن يكون التحدي أضعف جدا من أن يؤثر في قوة الحضارة المراد هدمها، فيزول التحدي وتبقى الحضارة، والثاني هو أن يكون التحدي أقوى جدا من أن تستطيع الحضارة المراد هدمها أن تقاومه، فتزول الحضارة ويبقى ما جاء ليتحداها، والثالث هو أن يكون التحدي بين القوة والضعف، فيفعل في الحضارة المراد هدمها فعل التطعيم الطبي، الذي من شأنه أن يوقظ في الجسم قوة المقاومة فيقاوم فيصح ويقوى ويعيش، وليس من شك في أن الأمة العربية يتهددها في هذا العصر ما يتحدى وجودها نفسه، ولست أعني بوجودها مجرد وجود لأفراد يأكلون ويتكاثرون، بل أعني وجودا فيه العزة والبأس الشديد، وعقيدتي هي أن التحدي هذه المرة هو من الصنف الثالث فيما ذكرنا من أصنافه، أي إنه من النوع الذي لا هو من الضعيف بحيث نتجاهله ولا هو من القوة بحيث يسحقنا، وإنما هو بين بين، أي من النوع الذي يمكن أن يوقظ فينا قوة المقاومة لو اشتدت بنا العزيمة.
لكن العزيمة القوية وحدها لا تكفي؛ إذ هي بحاجة إلى هدف تشتد من أجل بلوغه، وتلك هي علة العلل في حياتنا الحاضرة؛ لأنها حياة بغير هدف واضح، أو ربما كان لكثير منا هدفه الواضح، لكنه ليس الهدف الذي يمكن قبوله ليكون هدفا قوميا تماما، نعمل من أجله ونعلم أبناءنا من أجله ونفكر من أجله ونكتب الأدب وننشئ الفن من أجله، ولن يكون ذلك الهدف القومي واضحا، إلا إذا استطاع خيالنا أن يتصوره مجسدا في الأفراد، فماذا نريد للمواطن العربي أن تكون صورته؟ وعن هذا السؤال أجيب إجابة لا أتردد فيها، وقد عبرت عنها في مناسبات كثيرة سابقة، وهي أن يكون المواطن العربي الجديد ملتقى طبيعيا لموروثه من جهة ولجوهر الحضارة العصرية من جهة أخرى.
على أن هذه الصورة الثقافية الجديدة لا تتحقق لنا لمجرد ذكرها فيما نقوله وما نكتبه، فالدواء لا يشفي المريض لمجرد أن يكون المريض قد كرر اسمه ملايين المرات، إنما هو قد يشفيه إذا هو تجرعه ليسري في كيانه، كذلك إذا استهدفنا للمواطن العربي صورة جديدة كان لا بد من تنشئته على تلك الصورة، بالتعليم الخاص وبالتعليم العام، وأعني بالتعليم الخاص تعليم المدارس والجامعات. وأعني بالتعليم العام تعليم وسائل الإعلام كلها، وقنوات الثقافة كلها، وإنما يتحقق لنا ذلك لا بالتلقين المجرد، بأن يقول المعلم، أو المذيع، أو الكاتب للمتلقي: عليك بأن تكون في حياتك تجسيدا لثقافتين يلتقيان في شخصك هما كذا وكيت، بل لا بد - في أمثال هذه الحالات التي يراد فيها للإنسان أن يغير اتجاهه العام - من عملية التحليل والتأصيل، التي نكشف بها عن الجذر المبدئي الذي تلتقي عنده الثقافتان المذكورتان، لنبثه فيما نعلمه من مواد، وما نكتبه أو نذيعه من فكر وأدب وفن وإعلام.
وأما ماذا يكون ذلك الجذر المبدئي الذي نجعل نقطة فيكون بالتالي هو الأساس النظري الذي نقيم عليه البناء؟ فهو - فيما أرى، وقد يرى غيري شيئا آخر - أن نبدل ما هو قائم في نفوسنا الآن، من أن السكون لا الحركة، هو الأصل، أن نبدل ذلك بنقيضه، وهو أن الحركة هي الأصل، والسكون هو العرض الزائل، فنحن الآن في وقفتنا الثقافية العامة كمن يرى أن الجمود على صورة الحياة السلفية لا يحتاج إلى تفسير؛ إذ هو عندنا الوضع الطبيعي الذي لا يثير سؤالا، أما الذي يتطلب السؤال ويحتاج إلى تفسير، فهو أن ينادي أحدنا بوجوب أن نتغير، والذي نراه هو عكس ذلك، وهو أن نربي جيلا جديدا، يبني وجهة نظره على أساس أن التغير الدائب الذي لا ينقطع في كل أسس الحياة، بحيث تواكب عصرها دائما، إنما هو الوضع الطبيعي للأمور، فإذا طالب أحدنا بأن نتوقف ونجمد على صورة سلفت سألناه لماذا؟
إن موضع المأساة في الصورة التي رسمها الشاعر العربي من حمار مربوط برمته إلى وتد هو أن الحمار والوتد كليهما قد استسلما ورضيا بما أصابهما من تقييد للحركة، في حين أنه - كما قال ذلك الشاعر - «لا يقيم على ضيم يراد به» إلا الذليل، بل ما هو أذل من الذليل، ولست أجد ما أختم به حديثي هذا أكثر دلالة من صورة امرأة لفت جسدها بما يشبه عباءة سوداء، من رأسها إلى قدميها، رأيتها في إحدى العواصم الكبرى وفي شارع تجاري مزدحم من تلك العاصمة، وقد تعثرت في غطائها الأسود فوقعت بين الزحام، ثم أسرعت مقرفصة إلى ركن المدخل من محل تجاري قريب منها، وقبعت فيه وكأنها ترتجف داخل سوادها مما أصابها، وما كان يمكن أن يصيبها، فوثبت إلى ذهني الصورة التي رسمها الشاعر العربي في بيتين من شعره، ولم أجد هذه المرة عسرا في أن أعرف أين الحمار وأين يكون الوتد الذي ربط فيه الحمار برمته، لكني قلبي الحزين أنطق لساني بصيحة ملتاعة: متى يجيء اليوم - يا رب - الذي تكون فيه هذه المرأة نفسها رائدة من رائدات الفضاء؟!
الفصل الحادي عشر
ضمير مكتوم
عن حرية التعبير أتحدث
كنت ما أزال دون الثلاثين من عمري حين أخذت أجمع كل ما استطعت جمعه من «المدن الفاضلة» (الطوباويات) بادئا من «جمهورية» أفلاطون، فسائرا مع مراحل التاريخ الفكري مرحلة بعد مرحلة حتى جعلت آخر المطاف كتاب ه. ج. ويلز «يوتوبيا حديثة»، وكان نصيب الفكر العربي من تلك المجموعة كتاب الفارابي «آراء أهل المدينة الفاضلة»، وما زلت أذكر المتعة العقلية التي نعمت بها إبان الفترة التي انصرفت فيها إلى ذلك العمل؛ إذ وجدتني كلما انتقلت من «مدينة فاضلة» ابتدعها مفكر إلى مدينة فاضلة أخرى ابتدعها مفكر آخر في عصر آخر، وينتمي إلى شعب آخر، إنما أنتقل من حلم منسق البناء إلى حلم آخر، فللعقول أحلامها كما أن للنفوس أحلامها كذلك، وهذه الأخيرة هي التي يمارسها في نعاسه كل نائم، والفرق البعيد بين أحلام العقول وأحلام النفوس هو أن الأولى لا يستطيع بناءها إلا كبار الفلاسفة والمفكرين، في حين أن الثانية جزء من فطرة الإنسان، كل إنسان وأي إنسان، بل أظن أن هنالك من يقولون إن لبعض صنوف الحيوان أحلامها في فترات نومها، وأحلام العقل صادرة عن وعي وتفكير وروية وتدبير، وأما أحلام النفس في سباتها فأطياف تتجسد في رموز، وتتعاقب لا يربط الطيف السابق بالطيف اللاحق إلا ما يسمونه بقوانين «التداعي»، فالتشبيه يستدعي شبيه، والنقيض يستدعي نقيضه، والصورة المعينة في الحلم تجر وراءها صورة كانت قد تجاورت معها مكانا أو زمانا، أي إن أحلام العقل كما صورها أصحاب «المدن الفاضلة» من الفلاسفة والمفكرين إنما تبنى على أسس منطقية، وأما أحلام النيام فتتحكم في تتابعها المصادفات، أو ما يشبه المصادفات، وفضلا عن ذلك كله، فأحلام العقل تصور ما تصوره استباقا لمستقبل مأمول، وأما أحلام النفس فتستعيد لحظات من ماضيها، لتحقق في النوم ما استحال عليها تحقيقه في اليقظة من شهوات ورغبات.
جمعت - إذن - مجموعة من أحلام العقل عن مستقبل الإنسان كما يتمناه رجال الفكر على اختلاف العصور واختلاف الأمم، وكانت قد بدت لي ملاحظات سجلتها لنفسي، في المقارنة بين تلك الصور العقلية، ومن أبرزها وأوضحها أن تلك الصور أخذت - مع تعاقب العصور - تتدرج من «مدينة» فاضلة كما هي الحال في «الجمهورية» لأفلاطون، و«آراء أهل المدينة الفاضلة» للفارابي، إلى «جزيرة» فاضلة، كما نراها في «يوتوبيا» توماس مور، ثم إلى «كوكب أرضي» فاضل كالذي أراده ه. ج. ويلز في كتابه «يوتوبيا حديثة» مما يدل على أن الإنسان كلما اتسع بفكره الأفق، اتسع أمامه - بالتالي - ما يظنه المثل الأعلى في حجم الوحدة القومية، فبعد أن حسب اليونان الأقدمون، بل وحسب معهم فيلسوفنا العربي أبو نصر الفارابي أنه لا يجوز للوحدة القومية أن تزيد على مدينة واحدة؛ حتى يمكن لأبنائها أن يترابطوا في كيان عضوي متسق، أصبحت «الجزيرة» هي ذلك الحد الأدنى، ولا بأس في أن تتعدد الجزر البشرية، على أن تكون كل منها مستقلة بكيانها، ثم ازداد الأفق اتساعا في عصرنا الحديث، بحيث لم يعد يتصور صاحب اليوتوبيا الحديثة إمكان أن تتجزأ الإنسانية إلى شعوب، مبتورة الصلة بين شعب وشعب، ولو كنت أرجأت ذلك الجهد الذي بذلته في جمع ما أمكنني جمعه من «الطوباويات» عشر سنين؛ فربما كنت أضفت إلى ما جمعته، نموذجا جديدا فيه أثر العلوم الحديثة على تشكيل الجماعة البشرية، كالذي قدمه أولدس هكسلي في كتابه «عالم طريف» أو كالصورة الحزينة الساخرة التي رسمها جورج أورويل في كتابه المسمى «1984».
وكان مما استوقف نظري في تلك الطوباويات أنها تشترك كلها في وجوب أن يكون العمل الذي يؤديه كل مواطن نابعا من طبيعته هو، ومتفقا مع مزاجه هو، وانعكاسا لاستعداداته هو، وميوله هو، لا أن يكون المواطن كقطعة الحجر في يد البناء، يجذ من أطرافها ما أراد له شكل الجدار الذي يبنيه، فنحن إذا تركنا للمواطن أن ينمو وأن يعمل وأن يعبر عن طبيعته وقدراته، جاءت صور الحياة كلها تعبيرا عن المواطنين، كل فرد منهم فيما يقول أو يعمل، وبهذا يصبح مجموع ما يعبر به الأفراد عن ذوات أنفسهم هو نفسه ما يعبر به الشعب في مجموعه عما يصح أن يطلق عليه اسم «روح» ذلك الشعب.
إن أصحاب تلك الصور العقلية، الذين حاولوا بصورهم تلك، أن يرسموا لأنفسهم وللناس، صورا للحياة المثلى كما يرونها، قد اتفقوا جميعا على أن يحرص المجتمع المعين، في تربيته لأبنائه وبناته، على أن تنمو في كل فرد منهم طبيعة «الفنان»؛ إذ الأساس في طبيعة الفنان هو أن تكون العلاقة وثيقة ومباشرة بين ذات نفسه من جهة، وبين ما يصوغه في فنه من جهة أخرى ، كتلك العلاقة التي تراها قائمة بين رجل الموسيقى وألحانه، وبين الشاعر وشعره، وبين المصور ولوحاته أو الأديب وكلماته.
والفرق بعيد بعيد بين مجتمع أفراده يعملون، ويقولون ويعزفون ويرسمون وفق نماذج أمروا بالتزامها أو حتى وفق نماذج اختاروها هم من بين ما صنعه سواهم، ومجتمع آخر، بني على أساس يشبه تلك الصور التي قدمها رجال الفلسفة والفكر للحياة المثلى، من حيث إتاحة الفرصة لكل فرد أن يستوحي فطرته في اختيار ما ينتجه وكيف ينتجه، فنحن إذا ما فعلنا ذلك أصبح كل إنسان في حياته الخاصة أو العامة «فنانا» مبدعا، حتى وهو يؤدي الأعمال اليومية، التي نقول عنها إنها رتيبة «روتينية» لا ابتكار فيها ولا إبداع، وبقدر ما تجيء أوجه النشاط المختلفة في مجتمع ما، من علوم وصناعات وفنون وآداب، معبرة عن أصحابها حقا؛ يكون في مستطاعنا أن نصف ذلك المجتمع بما يميزه؛ لأن ما قد أبدعه أبناؤه قد صدر صدورا حرا عن عقولهم وقلوبهم.
ففي مستطاعنا - مثلا - أن ننظر إلى مراحل الفكر الإسلامي في عصور إبداعه فنقول عنه - بصفة عامة - إن القرن الأول الهجري ساده إيمان مطلق بغير وقوف عند مقومات ذلك الإيمان لتحليلها تحليلا منطقيا، وإن القرن الثاني الهجري سادته الدراسات العقلية التي من شأنها أن تعين على فهم القرآن الكريم فهما جيدا، وهي دراسات كانت في معظمها لغوية وفقهية، وإن القرن الثالث الهجري غلبت عليه الرغبة في الاطلاع على ما قاله أصحاب الثقافات الأخرى، وإن القرن الرابع الهجري ظهرت فيه نتيجة لذلك الاطلاع على ثقافات الآخرين، إذ امتزج فيه المنقول مع الأصيل، امتزاجا كاملا، أنتج ثمرات جديدة لا يشبهها شيء مما سبقها، وبالطريق نفسها نستطيع أن ننظر إلى تاريخ أوروبا الحديثة، فنصف كل مرحلة بما يميزها، فقد تميز فيها القرن السادس عشر بروح رومانسية قوية الخيال جريئة في مغامراتها نحو كشف المجهول من آفاق البر والبحر والسماء، وتميز القرن السابع عشر بعقلانية صارمة تفصل بين الفكر أو الطبيعة، فإذا ما انصب الإنسان بفكره على الطبيعة لدراستها واستخراج قوانينها، وجب الفصل الحاد بين ما هو «ذات» وما هو «موضوع» وتميز القرن الثامن عشر بحركة فكرية هدفها التنوير لينتهي الإنسان إلى ثورة على أوضاع سياسية وثقافية ذهب زمانها، وهي الثورة الفرنسية التي نعرفها جميعا، وتميز القرن التاسع عشر بنزعته «الحيوية» التي رفضت ما كان قائما في دنيا العلم قبل ذلك، من نظرة سكونية وآلية إلى الكون وظواهره إلى نظرة أخرى دينامية وحيوية، وتميز القرن العشرون بالتحليل، فمن جهة الأشياء أخذت الأجهزة العلمية التي لم يكن لها مثيل فيما مضى، أخذت تحلل الأشياء إلى أدق دقائقها، ثم انعكست هذه النزعة التحليلية إلى الإنسان وفكره، ومن تحليل العقل في عملياته الفكرية نشأ الأساس الذي قام عليه الكمبيوتر الذي لا نخطئ إذا جعلناه أبرز علامة تميز عصرنا الراهن.
ولماذا استطعنا أن نميز مراحل التاريخ الفكري بعضها من بعض، بما يصف كل مرحلة منها على حدة؟ سواء كان ذلك عند استعراضنا للفكر الإسلامي وهو في شبابه، أو كان في عرضنا للفكر الأوروبي بعد نهوضه من عصوره الوسطى؟
إننا قد استطعناه لأن الفكر في كلتا الحالتين جاء تعبيرا حرا لما اعتملت به النفوس، ولم يجئ إملاء من أجنبي أو غريب، وإلا فهل نستطيع مثل هذا التمييز بين مراحل التاريخ في جماعات النمل - مثلا - لأنه لا فرق في حياة النمل بين يومه وأمسه، إنها كائنات بغير تاريخ؛ لأنها تكاد لا تؤدي عملا إلا تكرارا لما حفظته في غرائزها، اللهم إلا هامشا ضيقا يترك لكل كائن حتى ليستطيع في حدوده أن يواجه المواقف المفاجئة.
وإني لأزعم راجيا أن أكون مخطئا فيما أزعم، فذلك خير عندي ألف مرة من أن يكون ما زعمت صوابا، أزعم بأن حياتنا نحن الفكرية، وقد اتجهت بخطوات سريعة خلال العشرين عاما الأخيرة - أعني منذ هزيمة 1967م، وبرغم النصر الذي أحرزناه سنة 1973م - أقول إن حياتنا الفكرية خلال هذه الفترة تسير بخطوات سريعة نحو النمط التكراري الذي لا يدع لنا فرصة واسعة للتعبير الحر الأصيل عن ذوات أنفسنا، فنحن في جزء كبير جدا مما نصنعه أو نقوله ونكتبه ننقل عن آخرين، فإما أن نعبر البحر بعقولنا لننقل عن الغرب فكره وصناعاته وفنونه ونظمه السياسية والإدارية، وإما أن نعبر كذا قرنا من الزمان، قافلين إلى سلف ننقل عنه الأفكار والنظم والحلول التي نواجه بها ما أشكل علينا، وفي كلتا الحالتين لا تجيء حياتنا «تعبيرا» عن معاناة حقيقية نكابدها لنقرر لأنفسنا بأنفسنا ما يثبت وجودنا من فكر وفن وأدب ونظم. وحتى لا يساء فهم ما أقوله لا بدل لي من تكرار ما قد عرضته في مناسبات كثيرة سابقة، من أن الدعوة هنا ليست دعوة لأن ندير ظهورنا وأن نصم آذاننا عما تركه لنا أسلافنا، أو عما يعج به الغرب من كل ما ذكرناه، بل الدعوة هي أن نملأ وعاءنا حتى حافته من رحيق السلف ومن نقيع العصر في الغرب الذي هو الصانع الأول لعصرنا، لكن هذا الوعاء المليء برحيق الأولين ونقيع الآخرين، إنما نشربه لنتمثله تمثلا يحيله إلى دماء تكون هي دماءنا، وبهذه القوة المستفادة نبدع الجديد ليضاف إلى حصيلة الإنسان.
وإنني لعلى وعي كامل بأن التعميم في أحكامنا عندما يكون الموضوع خاصا بجمهور عريض إنما هي أحكام معرضة للخطأ، فنحن إذ نقول عن الشعب المصري في هذه الفترة الزمنية التي يجتازها منذ ما يقرب من عشرين عاما إنه لا يعبر عن نفسه تعبيرا حرا صريحا يدل حقا على خلجات نفسه (وحديثي منصب أساسا على الحياة الثقافية بوجه عام)، فلا يفوتنا أنه لا بد أن يكون بين رجال الأدب والفن والباحثين في مجال الدراسة العلمية من علوم النفس والاجتماع، من يطالعنا بما هو حق وصدق، لكنني أشعر برغم ذلك أن الفجوة منفرجة بين ما نقوله ونذيعه ونكتبه عن أنفسنا وبين ما تضطرب به جوانحنا بالفعل من خواطر ومشاعر، بحيث إذا أراد مؤرخ في المستقبل البعيد أن يرسم عن عصرنا صورة مستندا إلى المنشور في الكتب والصحف، والمسجل في أشرطة التسجيل الصوتي، فالأغلب أن تجيء الصورة المرسومة بعيدة بعدا شديدا عما هو كائن في نفوسنا لا نقوله صريحا إلا للأقربين، ولا تقل لي إن أحدا لا يمنع أحدا من الإفصاح عن ذات نفسه؛ لأنه حتى لو كان الأمر كذلك فقد بات الخوف الذاتي كفيلا وحده بأن تكون هناك تلك الفجوة المنفرجة بين السر والعلن.
لقد ذكرت لك فيما أسلفته جانبا من أحلام الفلاسفة والمفكرين، في صورة المجتمع الأمثل كيف تكون، وكان من عناصر تلك الصورة المثلى أن يكون هناك بين الإنسان وما يعمله، تلك الصلة الحميمة المباشرة، التي تكون بين الفنان وفنه، لكي نضمن بذلك: أولا أن يكون كل إنسان سعيدا بعمله؛ لأنه تعبير حقيقي عن نفسه، وثانيا أن يجيء إنتاج العمل أجود ما يستطاع له أن يجيء، لكن انظر إلى حياتنا العملية من جميع أطرافها تجد الشائع هو أن يكون بين العامل وعمله نفور وكراهية، فكأن العمل كله تكليف وتسخير، فمنذ مراحل التعليم الفني والمهني كثيرا ما لا يوضع المتعلم حيث يريد أن يتعلم إلا بالمصادفة، أما القاعدة فهي أن يوضع حيث يراد له أن يكون.
وإذا كنت لأرسم صورة توضح على وجه التقريب ما أظنه قائما في حياتنا من حيث التعبير عما نفكر فيه وما نشعر به، قلت إن الأمر في ذلك أشبه بأسرة كبيرة تسكن بيتا من الطراز القديم الذي كان يخصص غرفة أذكر أنها كانت تسمى بغرفة «المسافرين»، وهي الغرفة التي كان الزائرون يستقبلون فيها، ولها بابها الخاص، بحيث يدخل الزائر ويقيم ما يقيم، ثم يخرج وهو لم يشهد من البيت إلا تلك الغرفة، ولم يسمع من أحاديث الأسرة ذاتها إلا ما يدور مع من يجالسه من أفرادها، أما الأسرة بكل أفرادها وبما تتحدث عنه أو ما تشعر به من يسر أو من عسر ومن الرضا أو من السخط؛ فلن يعلم الزائر من أمره شيئا، وهكذا نحن في جملة حياتنا الفكرية والشعورية ترانا قد خصصنا غرفة ل «المسافرين» الغرباء هي الكتب والصحف والإذاعة مرئية ومسموعة للغرباء أن يقرءوا وأن يسمعوا، لكننا قد طوينا في جوانحنا ما يسره بعضنا في آذان بعض إذا ما خلونا لأنفسنا.
هناك في حياتنا عمق باطن، وسطح ظاهر، ففي العمق ترانا صادقين مع أنفسنا مخلصين لهويتنا المصرية الصميمة مهما خدعتنا بعض الظواهر التي قد تدل على غير ذلك، فالمصري مصري بمجموعة من الثوابت التي لا يوهنها الزمن؛ فهو مصري بشعوره الديني العميق الغزير، فحتى وهو يسهو عن شعائر دينه يظل ضميره الديني على يقظته، وأعني بذلك إيمانه الراسخ بأن هذه الدنيا ليست كل شيء في حياته، فبعد الدنيا آخرة تكفل للعدل أن تقام له موازينه، فليكن من ظلم الدنيا وجورها ما يكون بحيث يثاب المعوج ويعاقب المستقيم، فهنالك آخرة خير من الأولى، وهناك من يعمل (في دنياه) «مثقال ذرة خيرا يره»، ومن يعمل (في دنياه) «مثقال ذرة شرا يره»، فالعدل مطلق. وكامل هذا الضمير الديني راسخ في نفس المصري، ولا أظن أن في العالم شعبا آخر يتساوى مع المصري في عمق هذا الضمير؛ لأنه ضمير نشأ مع نشأته، حيث لم يكن في العالم شعوب سواه، أو كاد الأمر أن يكون كذلك، ولم يكن عالم التاريخ المصري «بريستد» لاهيا بالكلمات حين جعل عنوان كتاب لعله أعظم ما كتب: «فجر الضمير»، مشيرا بذلك إلى الشعب المصري عند نشأته الأولى.
ومع الضمير الديني في المقومات الثابتة الدائمة من هوية المصري علاقته بأسرته وعلاقته بأرضه، وتلك هي الثوابت التي تكون من المصري عمقه الباطن الذي أشرنا إليه، والذي لم تنل منه عوامل الزمن، إلا أنه اليوم في حالة مكتومة الصوت نسبيا حتى ترانا فيما نسمع عنه أو نقرأ له، لا نرى منه إلا نبرات خافتة.
أما المسموع عنه في صوت جهير، والمقروء له، فمعظمه صادر عن «السطح» الظاهر، الذي لا تدري فيه أين الحق وأين النفاق، أين الصدق وأين الكذب، أين ما يعبر عن ذاته نفسه حقا، وأين ما أراد أن يتصيد به المنصب والراتب والرواج والازدهار، فما الذي حدث في حياتنا بحيث انقسم وجودنا إلى باطن وظاهر بينهما تلك الهوة السحيقة التي تفصل بينهما على هذا النحو الخطير؟ ما الذي أصابنا بحيث اختلف في حياتنا عمقها عن سطحها؟ ففي العمق ما زال المصري مصريا بضميره الديني اليقظان، وأدائه للواجب نحو أسرته ونحو وطنه، وأما على سطح السلوك فلم يعد المصري هو المصري الذي عرفه التاريخ الطويل، أو هكذا يخيل للرائي في الخارج، فهو يمكر بمواطنيه إذا اقتضت مصالحه مثل هذا المكر، وهو يجرف أرضه الزراعية التي كانت منذ الأزل موضع حبه وعزه، إذا كان ذلك التجريف يعود عليه ببضعة ألوف من الجنيهات، وهو يسطو على أصحاب القلوب الطيبة بطرق لا علم لهم بها، حتى لتتكدس بين يديه الملايين في غفلة الحوادث، ثم يسرب تلك الملايين إلى حيث لا ندري وهو يقفز إلى مواقع القوة والنفوذ دون أن يسلك إليها سبيلها المشروع، واختصارا فقد انفصل عقله المدبر عن قلبه المؤمن العابد، وأصابه من الانفصام ما أصابه، ولقد شاءت له روحه الفكهة أن تصور نفسه لنفسه في مرارة لاذعة كعهدنا به دائما كلما أراد أن يعالج أزماته بالمزاح الساخر، ومن ذلك هذا الحوار الآتي الذي اخترعه ليصور به ذلك الانفصام النفسي الذي أشرنا إليه، وهو حوار متخيل بين بقال وصبيه يوم جمعة قبيل الصلاة:
البقال :
هل خلطت الجير بالدقيق؟
الصبي :
نعم قد فعلت.
البقال :
وهل مزجت النشارة بالشاي؟
الصبي :
نعم فعلت.
البقال :
وهل وضعت الحصى في الفول؟
الصبي :
نعم فعلت.
البقال :
على بركة الله، اقفل الدكان، وتعال بنا إلى صلاة الجمعة.
وهكذا انحصر الروح الدين في شعائر العبادة بين الإنسان وربه، ولم يمتد ليشمل دنيا التعامل بين الإنسان والإنسان، فجاء تعبير المصري عن نفسه منقوصا، وانقسمت شخصيته على نفسها، فوجب التفكير والعمل على إعادة بنائه. لقد كان الدين للمصري طوال تاريخه، مدار الحياة وصميمها، لا بمعنى أن ينقطع للعبادة فيما يشبه صوامع الرهبان، وخلوات المتصوفة، بل بمعنى أن يجعل الدين متمثلا في القيم التي يراعيها وهو في حقله يزرع، وفي مصنعه يعمل، وفي دكانه يتاجر، كان الدين في حياته هو عصارتها وصفوتها وغذاءها ودماءها؛ إذ كانت روحه تسري في التعامل داخل الأسرة وخارج الأسرة مع الأصدقاء والزملاء وسائر من يتعامل معهم من المواطنين، كانت روحه تسري في دراسة الدارس وفي كلمات الكاتب، أيا كان موضوع الدراسة وهدف الكتابة، فليست روح الدين مقصورة على أن يكون الدين نفسه هو موضوع الدراسة أو هو هدف الكاتب، بل إن روح الدين يمكن أن يعمر قلب الباحث وهو يدرس علوم الصوت والضوء والكهرباء، ويمكن أن يسري مع الدماء في شرايين الكاتب وهو ينظم الشعر ويؤلف الموسيقى ويرسم اللوحات ويكتب الرواية والمسرحية والمقالة؛ لأن روح الدين إخلاص وصدق وضمير حي يهتدي ويهدي، أقول إن ذلك هو ما كان ينبغي أن يقوم عليه إيمان المصري، كما كان دائما، حين كان إيمان المصري ماثلا في البنيان يبنيه وفي الجدران والسقوف يزخرفها، وفي النحاس والخشب ينقشه ويحفره، وفي كل صنعة يصنعها بأصابع ماهرة تحركها قلوب مؤمنة.
لكننا نلحظ اليوم شيئا آخر في تصور المصري للحياة الدينية أو المتدينة كيف تكون؛ إذ يتصور أن تلك الحياة المتدينة إنما تعني أن يترك أعمال الدنيا بكل أنواعها العاملة المنتجة لينصرف إلى العبادة أو ما يتعلق بها، كأن الدين قد أصبح في حياتنا تمائم نتبرك بها، وكأن حقيقة الأمر هي: إما أن «تعمل» وإما أن «تتدين»، وكان ينبغي للمؤمن الحق أن يدرك أن إيمانه إنما هو مجسد في طريقة أدائه لعمله، أيا كان ذلك العمل من دراسة الناشئ في مدرسته ومعهده، إلى صناعة النجار والسباك والكهربائي، والكاتب والأستاذ ورجل القانون والمهندس والطبيب، فكل ضرب من ضروب العمل جسده هو حركات البدن التي تصاحب أداء العمل، وروحه هو الإيمان الديني بالقيم المثلى التي توجه تلك الحركة البدنية نحو الإجادة والإتقان وسائر جوانب الخير.
وبهذا وذاك معا مندمجين كان المصري يعبر عن نفسه تعبيرا حرا، أو هكذا نقرأ عنه ونستدل من أمجاده التي أورثنا إياها، فلما انفصل هذا عن ذاك في حياته الحاضرة لأمر ما، بات واجبا علينا أن نفكر مخلصين كيف يكون سبيلنا إلى إعادة البناء.
الفصل الثاني عشر
تلك هي القضية
روى لنا الأستاذ أنيس منصور، في مقالة جعل عنوانها «بلابل وغربان على أشجارنا» (في صحيفة أخبار اليوم بتاريخ 9 / 2 / 1985م)، روى عن رحلة للتنزه إلى الأقصر وأسوان، ذات شتاء في أواسط الستينيات. وكانت الرحلة بدعوة من الأستاذ أحمد بهاء الدين، وقد شملت الدعوة مع الأستاذ أنيس منصور، الأستاذين كامل الزهيري ورجاء النقاش، فلما بلغوا من رحلتهم مدينة أسوان، التقوا بالشاعر الروسي إيفنتوشينكو، فبينما كان الشاعر الروسي مستلقيا يستمتع بدفء أسوان، جلس رفقاء الرحلة يتحدثون بالعربية، فنهض لهم الشاعر الشاب ليسألهم: فيم تتحدثون؟ ثم قفز بهم إلى سؤال أعم، وهو: ما الذي يتحدث فيه الأدباء المصريون؟ ما هي قضيتكم؟ ما هي المشكلة التي تشغلون أنفسكم بها بحيث تقوم محاسبتكم أمام الشعب على أساس ما قدمتموه لتلك المشكلة من حلول؟ وهنا يصف لنا الأستاذ أنيس منصور حيرته وحيرة زملائه أمام أسئلة الشاعر الروسي، ويبين لنا في شيء من الأسى كيف كانوا وكأنما أخذتهم الصاعقة، لماذا؟ لأن أسئلة الشاعر الروسي قد جاءت لتوقظهم من سبات؛ إذ الكاتب في مصر إنما يكتب في غير قضية، وفي غير مشكلة، إنه لا يتأزم مع سائر الشعب بأزمة تلاحقه وتؤرقه، تطالبه بألا يستريح له جنب على مضجع إلا إذا وجد حلا لمشكلة الشعب التي هي مشكلته، أو التي ينبغي لها أن تكون كذلك، (وأنا هنا لا أنقل كلام الأستاذ أنيس منصور بحروفه، بل أكتب ما بقي منه انطباعا في نفسي مما قرأته له) ثم مضى الكاتب بعد أن وصف ذهوله وذهول رفقائه ليقول إنهم بعد فترة من ذلك الذهول أجابوا الشاعر على سؤاله فقالوا: إن قضيتنا التي تشغل أقلامنا هي «الاشتراكية الواقعية»، لكن الشاعر أسرع بالرد قائلا: ليس هناك شيء اسمه الاشتراكية الواقعية ... إلخ.
وكان واضحا مما كتبه الأستاذ أنيس منصور أنه هو وزملاؤه قد أدركوا عندئذ أن الكاتب في مصر - وإذا قلنا «الكاتب»، فكأنما قلنا «رجل الفكر والأدب» - إنما يكتب في غير قضية أساسية تكون في حياتنا الفكرية والأدبية بمثابة القطب من الرحى، فإذا كنت قد خرجت مما كتبه الأستاذ أنيس منصور بانطباع صحيح إذن فقد كنت على حق فيما أخذني من عجب تملؤه الدهشة من أن يكون ذلك هو الرأي في حياتنا الفكرية والأدبية على مدى مائة وخمسين عاما على أقل تقدير، عند ثلاثة من ألمع من يحملون القلم، وإذا كان ذلك هو ما يرونه فينا، إذن فالمسافة بعيدة بين ما يرونه وما أراه؛ وحتى لو كانوا جادين في إجابتهم على سؤال الشاعر الروسي حين سألهم: ما قضيتكم؟ فقالوا: هي الاشتراكية الواقعية! لا، يا سادة، إن لنا قضية رئيسية تبلورت في أذهاننا منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وكل ما في الأمر أنها لم تجد منا الجواب الحاسم الذي نلتقي عنده جميعا، وسأوضح فيما يلي تلك القضية الأساسية، التي لم يعرف تاريخنا خلال المائة والخمسين عاما الأخيرة كاتبا واحدا، إلا وقد جعلها مشغلته الأولى، سواء أكان ذلك عن طريق التناول المباشر الصريح، أم كان عن طريق التضمين غير المباشر؛ لأن طريق الأدب يحتم على الأديب ألا تجيء قضاياه في أدبه معلنة صريحة، ولقد كانت تلك المشكلة الرئيسية الأولى هي: ماذا يكون موقفنا من الغرب وقد اقتحم ذلك الغرب ساحتنا متمثلا في الحملة الفرنسية. تلك هي المشكلة «الأم» التي انقسمنا حيالها شيعا وأحزابا، ثم تولد عنها مشكلة كانت لها بمنزلة البنت من أمها، هي مشكلة الحرية، وأخيرا تولدت عن البنت مشكلات هي بمثابة الحفيدات، وكان من بينها مشكلة «الاشتراكية» التي جاءت ولادتها ضمن ما جاء من نتائج ثورة 1952م، وإذن فحين قال السادة للشاعر الروسي إن قضيتنا هي «الاشتراكية الواقعية» (كما وصفوها)؛ كانوا قد قدموا إحدى الحفيدات اللائي ولدتهن «الحرية» ومشكلة الحرية بدورها - كما أسلفنا - قد ولدتها لنا جدة كبرى، هي بحثنا عن موقف نتخذه إزاء «الغرب». أو قل إزاء «العصر»؛ إذ تكاد اللفظتان تكونان مترادفتين، ولو كانت القضية الجدة، ثم القضية الأم، قد وجدتا حلولا متفقا عليها منا جميعا، ولم يبق أمامنا إلا الحفيدات، لجاز للسادة أن يجيبوا الشاعر الروسي عن سؤاله، بأية حفيدة يختارون، سواء اختاروا الحفيدة «الاشتراكية» أم اختاروا سواها، لكن الموقف المشكل بطوابقه الثلاثة: الجدة التي هي موقفنا من الغرب ماذا يكون، وابنتها التي هي الحرية وبأي معنى وفي أي حدود نطالب بها، والحفيدة أو الحفيدات، التي من بينها مشكلة الاشتراكية التي وصفها الزملاء بالواقعية، أقول إن الموقف المشكل لا يزال قائما بطوابقه الثلاثة، وبالتالي فما يزال هو قضيتنا التي تشغل كل مفكر منا وكل أديب، ومن هذه الرؤية يكون السادة الأفاضل قد غابت عنهم الإجابة الصحيحة حين سئلوا عن قضية الفكر المصري والأدب المصري: ما هي؟ وكذلك يكونون قد ظلموا أنفسهم حين أخذتهم صاعقة السؤال، ظنا منهم أن مفكرينا وأدباءنا لا يصدرون فيما يكتبونه عن قضية، والآن فسبيلنا إلى شيء من التفصيل.
جاءت الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون، ووصلت إلى شواطئ الإسكندرية سنة 1798م، أي قبيل فاتحة القرن التاسع عشر بسنتين، وكان مع الحملة جماعة من العلماء الفرنسيين في تخصصات علمية مختلفة، فكان مما صنعه أولئك العلماء أن استدعوا كبار علماء الأزهر الشريف، جماعة بعد جماعة ليطلعوهم على عجائب العلوم الجديدة، من ذلك - مثلا - أن يوقفوهم صفا، مشبكي الأيدي جارا مع جاره، ثم يمسون الواقف في أول الصف بسلك مكهرب، فتسري رعدة الكهرباء في جميعهم، فأما هم فيأخذهم العجب، وأما العلماء الفرنسيون فيأخذهم الضحك، ولقد حدث يوما أن اغتاظ من تلك الألاعيب الصبيانية أحد الشيوخ، فقال لهم ما معناه: هل في علمكم الجديد ما يجعل إنسانا موجودا هنا موجودا في بلاد الغرب في وقت واحد؟ فأجابوا بقولهم أن ليس في علومهم ذلك لأنه محال، فرد هو قائلا: لكن ذلك ممكن في علومنا الروحانية.
وإنني لأنظر إلى تلك اللحظة التي قال فيها الشيخ ذلك الذي قاله للعلماء الفرنسيين على سبيل التحدي، أنظر إليها على أنها لحظة البدء في أحد طريقين اتخذناهما من ذلك الحين وإلى هذه الساعة التي أكتب فيها هذه الكلمات، فطريق منهما اختاره الرافضون للغرب، أي الرافضون للعصر وما أنتجه من علوم ترتب عليها ما ترتب من حضارة جديدة، وطريق آخر اختاره من أرادوا منا ألا تقفل أمام العصر الجديد أبوابنا ونوافذنا، وكانت نقطة البدء في هذا الطريق الثاني هي رفاعة رافع الطهطاوي ، فإذا أنت تخيلت نفسك واقفا في «مدرسة الألسن» التي أنشئت في عهد محمد علي، إبان ثلاثينيات القرن الماضي، إذن لرأيت موقف الفريق الثاني مجسدا في نشاط أعضاء تلك المدرسة العجيبة، التي قد تفوق في مغزاها الثقافي والحضاري، بيت الحكمة، الذي أنشأه الخليفة المأمون ببغداد في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) لماذا؟ لأن مهمة مدرسة الألسن كانت مزدوجة، فبينما «بيت الحكمة» كان مقتصرا على ترجمة الثقافة اليونانية إلى العربية، كانت مدرسة الألسن تعمل عملين: أولهما تحقيق عيون مختارة من التراث العربي الإسلامي ونشرها نشرا جديدا، وثانيهما ترجمة مجموعة مختارة من كتب الغرب (الفرنسية والإيطالية بصفة خاصة) إلى اللغة العربية، فكأنما لسان الحال فيما كنت لتراه إذا ألقيت نظرة على ما كان ينشط به طلاب مدرسة الألسن، برئاسة الطهطاوي، يصيح قائلا: لثقافتنا أن تنهض متكئة على ركيزتين، هما تراثنا من جهة، ونتاج العصر الجديد من جهة أخرى.
إذا غضضنا النظر عن فريق ثالث، ظهر فيما بعد ولم يزد على نفر قليل جاء متفرقا، رجلا بالأمس ورجلا في الغد، وكان الرأي عند ذلك الفريق الثالث هو أن نشتل شجرة الغرب في أرضنا شتلا يبقيها على حالها، ويتركها لترتوي من ماء النيل، ولتتلقى من سماء مصر شمسها وهواءها، وبذلك تصبح الشجرة وكأنها زراعة مصرية أصيلة، أقول إننا إذا غضضنا النظر عن ذلك الفريق الثالث «المستغرب»، لقلة عدده ولضعف أثره، وجدنا أنفسنا أمام جماعتين لكل منهما رؤيتها حيال هذا الغرب الجديد، فجماعة منها رافضة له بكل قضه وقضيضه، وأما الأخرى فتقبله قبولا مشروطا بضرورة مزجه بما ورثناه عن أسلافنا، مزجا يخرج لنا منه مواطن مصري، وعربي، جديد.
بدأ القرن الماضي - إذن - بهاتين الرؤيتين لما ينبغي أن يكون عليه موقفنا إزاء الغرب، فكان هذا الازدواج في الرأي، بمثابة القضية الأولى والأساسية في حياتنا الثقافية كلها، فمنذ ذلك اليوم وحتى هذه الساعة، ليست هي بالقضية التي يمكن للكاتب - أي كاتب وكل كاتب - أن يتجاهلها؛ لأنه حتى لو تعمد ذلك التجاهل لما استطاع؛ إذ هو مضطر أن يختار مادة قراءته، ودراسته، وكتابته، من الينابيع والمصدر التي يستمد منها التأييد والقوة في وجهة نظره، سواء أكانت هي وجهة النظر عند الرافضين للغرب أم كانت وجهة النظر عند القابلين، فإذا سئلنا: ما قضيتكم التي تشغل مفكريكم وأدباءكم؟ أفيكون شططا منا أن نجيب بأنها هي موقفنا من الغرب الجديد، وهي قضية بدأت معنا منذ تحدي ذلك الشيخ العلماء الفرنسيين بقوة علمه الروحاني بالقياس إلى علومهم الجديدة، متبوعا ذلك الموقف بموقف مضاد وقفه الطهطاوي بوجوب قبول الغرب ثم المزاوجة بينه وبين موروثنا. نعم، هي قضية بدأت معنا منذ ذلك الوقت البعيد، وما زالت إلى اليوم قائمة من حياتنا الفكرية والأدبية في صميم الصميم.
لكن تلك القضية، التي عددناها جدة كبرى، سرعان ما ولدت ابنة لها، فكانت تلك الابنة هي مشكلة «الحرية»، وإذا شئت فانظر إلى مشكلة الحرية هذه، على أنها قضية قائمة بذاتها، بحيث إذا سألنا الشاعر الروسي مرة أخرى ما قضيتكم؟ أجبناه: إنها الحرية وكيف نحققها كاملة لشعبنا، فذلك أصوب من أن أفزع لظني بأنه لا قضية عندي تملأ بحرارتها ساحة الفكر والأدب.
ولماذا جعلنا قضية «الحرية» في حياتنا وليدة القضية الجذرية الأولى، التي هي تساؤلنا عن موقفنا من الغرب الجديد كيف يكون؟ إننا فعلنا ذلك لأن قضية «الحرية» ثارت أول ما ثارت - من الناحية الفكرية - عند الطهطاوي، إثر عودته من باريس، وتأثره بما رآه هناك من حريات لم يكن عرفها في مصر لا قبل أن يسافر منها إلى باريس، ولا عقب عودته إليها، فكانت النتيجة اللازمة عن وجهة نظره بضرورة قبولنا للغرب الجديد هي أن يبشر بضرورة أخذنا بشيء من الحرية كما رأى القوم هناك يحيونها، ومنذ بدأ الطهطاوي دعوته إلى الحرية أخذت تلك الدعوة تتردد على أقلام الكتاب، لكن الذي يلفت النظر، ويستدعي هنا أن نلتفت إليه، هو أن مفهوم «الحرية» أخذ يزداد غزارة ويتسع رفعة جيلا بعد جيل من أجيال المفكرين والأدباء، على أنه إذا كان الموقف من الغرب قد كان الشرارة التي أشعلت الرغبة في الحرية عند من وقفوا من حضارة الغرب موقف القبول؛ فإن موقف الرافضين - بدوره - قد أدى بهم إلى أن يفهموا الحرية المنشودة على أنها «تحرر» من ربقة المستعمرين الذين جاءوا إلينا من ذلك الغرب.
نقول إن مفهوم الحرية قد أخذ يتسع ويعمق معنا على تتابع المراحل الزمنية، التي كانت في الوقت نفسه هي المراحل السياسية كذلك، فكانت كل مرحلة منها تتمسك بما كسبته المرحلة السابقة، ثم تضيف إليها طموحا نحو مزيد تسعى إلى تحقيقه، بحيث لو أردنا الآن أن نرسم تخطيطا يصور الأطوار التي اجتزناها في طريقنا إلى الحرية - أو قل إلى الحريات المنوعة الكثيرة - جاء الرسم شبيها بالعمارة الإسلامية، التي كان كل طابق علوي من البناء فيها، يوسع من رقعته عن الطابق الذي تحته.
كان رفاعة الطهطاوي هو أول بذر لبذور الحرية في تاريخنا الحديث، ففيه التقى الشرق والغرب على نحو صحي مقبول، ولعله كان هو صورة الالتقاء التي أقامت لنا نموذج الهدف الثقافي الذي نتغياه، فمن الكتب المدرسية للطهطاوي كتاب «المرشد الأمين للبنات والبنين»، وقد أورد فيه فصلا بعنوان «في الحرية العمومية والتسوية بين أهالي الجمعية»، يقسم فيه الحرية خمسة أقسام، أولها قسم للحرية الطبيعية التي يتمتع بها الإنسان في ضرورات حياته، كالأكل والمشي وما إلى ذلك، والقسم الثاني هو ما أسماه بالحرية السلوكية وهي التي يتمتع بها الإنسان داخل إطار الأخلاق، والقسم الثالث هو الحرية الدينية، وهي التي تكفل للإنسان حرية العقيدة والرأي والمذهب، بما لا يتعارض مع الدين، والقسم الرابع هو الحرية المدنية في التعامل مع الناس في حدود ما قد جرى به العرف، وأما القسم الخامس فهو الحرية السياسية التي هي ضمان الحريات الأربع السابق ذكرها؛ إذ إنها تتعلق بواجب الدولة في أن تصون لكل فرد من مواطنيها أن يتمتع بتلك الحريات الأربع.
ولا بد لنا من أن نلحظ بوعي مستيقظ لهذا الذي قاله الطهطاوي عن الحريات، فنلحظ - أولا - أنه منذ العنوان قد قرن الحرية بالمساواة، إذ لا تتحقق إحداهما إلا بالأخرى، وأن نلحظ - ثانيا - أنه عند ذكره الحرية السياسية لم يذكر كلمة عن وجوب مشاركة الشعب في حكم نفسه، فكأنه يكتفي بأن تكفل الدولة للمواطنين أن يتمتعوا بحرياتهم الأخرى. أما ممن تتكون الدولة وكيف تتكون فليس من شأن الشعب أن يكون له رأي فيه، ومعنى ذلك هو أن الولاء للحكم أمر مفترض ومفروض، ثم تجيء الحريات داخل هذا الإطار.
فلما ذهب جيل الطهطاوي ونضج الجيل الذي تلاه مغتذيا بغذائه اتسعت الحرية السياسية التي أخذ الرواد يطالبون بها عندئذ، فبدل التسليم بالولاء للحكم أيا كانت هويته، اكتفاء بأن يصون ذلك الحكم للناس حرياتهم الطبيعية والمدنية والدينية والسلوكية، نودي بمبدأ أن يكون الولاء للشعب، ولقد تمخضت تلك الحركة عن ثورة عرابي، فكانت أول من رفع الشعار القائل بأن مصر للمصريين، ولكنه شعار لم يكن يعني عند المنادين به إذ ذاك أكثر من أن يكون للمصريين حق في بلادهم، دون أن ينفي بذلك تمتع غير المصريين معهم - بل ربما قبلهم - بذلك الحق نفسه، أي إن مبدأ أن تكون مصر للمصريين عند أول المطالبة به لم يكن يتسع ليكون معناه: مصر للمصريين ولا أحد غير المصريين.
وانتهت الثورة العرابية بالاحتلال البريطاني، فاشتدت حرارة المطالبة بالحريات، حتى لقد تفرعت القيادات بتعدد الحريات وتنوعها، فهناك الشيخ محمد عبده وقد شغله تحرير العقيدة الإسلامية مما دخل فيها من خرافات بسبب الجهل السائد، وهناك قاسم أمين وقد انصرف إلى تحرير نصف الأمة - وهو المرأة - ليحررها من قيود اصطنعت لها من غير موجب يفرضه الدين، ومن غير داع يدعو إليه تقدم المجتمع وارتقاؤه، وهناك مصطفى كامل يوجه اهتمامه إلى التحرر السياسي أولا من المحتل، وهناك أحمد لطفي السيد ينادي بحريات الأفراد داخل مجتمع حر، إذ قد يتخلص المجتمع من المستعمر، ويظل الأفراد داخل وطنهم محرومين من حرياتهم، فأعلن أحمد لطفي السيد ألا يكون للحكومة سلطان إلا على ما ولتها الضرورة إياه، وهو ثلاث ولايات هي: ولاية البوليس، وولاية القضاء، وولاية الدفاع عن الوطن، وأما ما عدا ذلك من المرافق والمنافع، فالولاية فيها تكون للأفراد والهيئات الحرة ، وهنا أود للقارئ أن يتنبه إلى أن ذلك الذي دعا إليه أحمد لطفي السيد إنما هو جوهر المذهب السياسي الذي كان يطلق عليه اسم «الليبرالية»، ومن أهم أهدافه أن يكون للأفراد أكبر قدر ممكن من الحريات على اختلاف أنواعها، ومن تفريعاته المهمة تشديده على أن تكون السيادة للقانون لا للأشخاص، وأن الحاكم إنما يحكم بإرادة الشعب لصالح الجمهور كله، لا لصالح فئة معينة، أو لصالح فرد بذاته، وها هنا كانت دعوة أحمد لطفي السيد بأن تكون مصر للمصريين بمعناها الأوسع والأدق مما كان عليه حين رفع شعارها في الثورة العرابية، فأصبحت تتضمن ألا يكون لغير المصريين حق في مصر، وبالتالي فلا ولاية للأتراك ولا حقوق للجراكسة وغيرهم من الأجانب، وخلاصة الموقف الجديد بالنسبة إلى مفهوم الحرية هي أنه لن تكون للوطن حرية إلا إذا تحققت الحرية للمواطنين، ثم لا تتحقق الحرية للمواطن بأي معنى من معانيها، إلا إذا كفلتها حرية سياسية، ولن يكون للحرية السياسية معنى، إلا إذا اشترك كل فرد راشد في حكومة بلاده اشتراكا تاما وكاملا، وبهذا وحده تكون السلطة للشعب، لكن تلك الأهداف السياسية العليا تتطلب بادئ ذي بدء أن يتغير التعليم في طبيعته وأهدافه، فبدل أن يقام لإعداد موظفين يعملون في الحكومة ولها، يصبح الهدف من التعليم تنمية الحرية الفكرية عند الأفراد، وكلمة الأفراد هذه تشمل الإناث كما تشمل الذكور، ومن ثم وجب تأييد الدعوة التي كان قبل ذلك دعا إليها قاسم أمين بوجوب أن تتحرر المرأة من قيودها، إلا أن قاسم أمين وقف من ذلك التحرر عند «الحجاب» بمعناه المادي، أي حجاب الوجه، فاتسعت الدعوة عند أحمد لطفي السيد لتكون دعوة إلى رفع حجاب العقل والفكر كذلك، ومما يجدر ذكره هنا أنه حين صدرت مجلة «السفور» في العقد الثاني من هذا القرن، كان المقصود بالسفور هنا هو سفور العقل وحرية تعبيره عن نفسه، وكأنما سفور الوجه كان قد أصبح عندئذ قضية مفروغا منها، وهذه الجوانب كلها توضح لنا ما كان أعلنه أحمد لطفي السيد دستورا للجامعة عند إنشائها، وهو: «حرية التفكير والنقد على وجه الاستقلال، لا الحفظ والتصديق لكل ما يقال.»
بهذه الخطوات المتلاحقة عند الرواد في دعوتهم إلى الحرية، لم يقتصر الأمر على مجرد التوسع في معناها على صورة أفقية، بمعنى أن تزداد أنواعها عددا فحسب، بل اتسع أيضا على صورة رأسية، بمعنى أن يكون الفرد حرا من الباطن، كما هو حر من الظاهر، ومعنى الحرية من الباطن أن يكون كل فرد قادرا على التفكير الناضج، حرا في فكره، وحرا في التعبير عن ذلك الفكر.
وثارت مصر ثورتها سنة 1919م، عقب الحرب العالمية الأولى مباشرة، لتطالب بحريتها السياسية، لكن تلك الحرية السياسية المطلوبة على المستوى الرسمي سرعان ما لحقت بها دعوات مختلفة لحريات متنوعة تشمل مسالك الحياة جميعا، كما نرى فيما أنتجه رجال الفكر والأدب والفن والاقتصاد وغير ذلك من أوجه الحياة الشاملة، كان ذلك خلال العشرينيات والثلاثينيات، ثم نشبت الحرب العالمية الثانية، وأعقبت ما أعقبته من نتائج.
وجاءت ثورة 1952م لتوسع مطلب الحرية بحيث يشمل جوانب الحرية الاجتماعية التي لم تشملها كل الدعوات السابقة، وها هنا أعلنت الاشتراكية وما استتبعته من حقوق أعطيت للعاملين بكل فئاتهم وللمواطنين الذين لم يحسب لهم حساب في الدعوات السابقة.
ونعود بعد هذه الجولة إلى ما ذكره الأستاذ أنيس منصور عن نفسه ورفقائه عند التقائهم بالشاعر الروسي إيفنتوشينكو في مدينة أسوان خلال الستينيات، فسألهم الشاعر: ما قضيتكم يا رجال الفكر والأدب في مصر؟ فيروي لنا الأستاذ أنيس منصور في مقال أنهم شعروا بحسرة عميقة في مواطن نفوسهم؛ إذ شعروا بأنه لا قضية لنا، وإننا نفكر ونكتب خطفات متناثرات متفرقات لا تستهدف غاية محددة بذاتها، ومع ذلك فقد أجابوا عن سؤال الشاعر الروسي جوابا يسترون به قصورهم المظنون، فقالوا إن قضيتنا هي «الاشتراكية الواقعية»، فرد عليهم الشاعر الشاب بأنه ليس هناك شيء اسمه الاشتراكية الواقعية.
وقرأت للأستاذ أنيس منصور ذلك الذي رواه، فعجبت أن يكون جهاد إعلامنا في مجالات الفكر والأدب، الذي لم ينقطع خلال مائة وخمسين عاما على الأقل، والذي كانت قضيته واضحة نصب عينيه طوال تلك السنين والقضية كما وصفتها في موضع سابق من هذا الحديث، يمكن تصورها على صورها جدة وأم وحفيدة، فكانت في أساسها قضية موقفنا من الغرب كيف يكون، وتولد عنها جهاد متصل نحو تحقيق الحرية تحقيقا أخذت تتسع دائرته مع الأعوام، ثم تولد عنه في خطواته الأخيرة حفيدة هي قضية الاشتراكية، ضمن حفيدات أخريات، فاكتفى السادة بذكر إحدى حفيدات قضيتنا الشاملة وأنساهم الشيطان ما قد كان وما هو كائن من جهاد المجاهدين في سبيل القضية الجدة والقضية الأم، فظلموا أنفسهم - وظلمونا - وظلموا عشرات من روادنا الأعلام.
الفصل الثالث عشر
فكرة الأدب وأدب الفكرة
جاءتني الرسالة الآتية من الصديق الفاضل الأستاذ أحمد بهاء الدين، أرسلها من لندن، شفاه الله وعافاه، ورسالته تعليق على المقالة التي نشرتها في الأهرام بتاريخ 25 / 2 / 1985م، بعنوان «تلك هي القضية»، وهذه هي: قرأت كلمة الزميل الأستاذ أنيس منصور عن الحوار مع الشاعر الروسي المعروف إيفنتوشينكو، وقرأت مقالكم الذي جاء تعليقا على هذا الحوار، ويهمني أن أوضح لكم أمرين الأول: هو أني لم أكن داعيا للشاعر إيفنتوشينكو والزملاء الأصدقاء أنيس منصور، وكامل الزهيري، ورجاء النقاش إلى أسوان بصفتي الشخصية، ولكن بصفتي رئيسا لمجلس إدارة دار الهلال في ذلك الوقت، ولم يكن من حظي أن أسافر معهم، وبالتالي لم أكن موجودا، عندما سأل إيفنتوشينكو - كما قرأت في مقال الأستاذ أنيس منصور - ما هي القضية التي تشغل بال الكتاب المصريين، وأجابه من أجابه من الزملاء: إنها قضية الواقعية الاشتراكية.
الأمر الثاني: إنني أتصور أن السؤال كان في نطاق الأدب فقط، وليس سؤالا فكريا، كما علقتم في مقالكم، فإنني أذكر أن بعض نقاد الأدب كانوا مشغولين - في ذلك الوقت - بمذهب الواقعية الاشتراكية، كمذهب في الأدب، وليس كمذهب في الفكر بمعناه الشامل.
وهنا أستأذنكم في أن أضيف أني لم أفهم، ولم أعترف يوما حتى في مجال النقد الأدبي، بشيء اسمه الواقعية الاشتراكية، فإنني أجد أن إلحاق تعبير «الواقعية» بوصف مذهبي سياسي اجتماعي تناقض شديد يلغي المعنى تماما، فإذا انتقلنا إلى الدائرة الأوسع، التي انصب عليها مقالكم البليغ كالعادة وهي دائرة «الفكر»، فقد كانت عقيدتي - ولا تزال - أن السؤال الفكري الأكبر المطروح على العقل المصري والعقل العربي عامة، منذ أكثر من قرن هو بالضبط السؤال الذي طرحتموه، وهو موقفنا من العصر، سؤال هجس به خاطر رفاعة الطهطاوي، ومن قبله الجبرتي بعد أول زيارة له لمعامل البعثة العلمية الفرنسية، في أثناء حملة نابليون، وأثاره بجرأة ووضوح الشيخ محمد عبده ومن تبعه، وما زال السؤال مطروحا منذ أكثر من قرن دون إجابة، أو بالأحرى أن هناك إجابات شتى، ولكن دون إجابة تصبح محل اعتناق الكتلة الكبرى من مثقفينا وشعوبنا، وتسمح لنا بالانطلاق، وفي السنة الماضية وحدها، عقد ما يقرب من خمسة عشر مؤتمرا في العالم العربي، تحت عنوان «الأصالة والمعاصرة»، وهي كما ترى، تدور كلها حول محاولة الإجابة على هذا السؤال.
وقد أضيف أن العقل العربي يريد أن يواكب العصر بغير شك، ولكن البعض يخشى أن يكون في مواكبتنا للعصر، وقبولنا للتحدي ما يفقدنا هويتنا وتراثنا وأصالتنا، ومذهبي غير ذلك، ذلك أن الأساس الصميم والصحيح والنقي، من تراثنا وهويتنا، قادر على اقتحام العصر والاكتساب منه، دون أن يتأثر، وهذا بالضبط ما فعله عصر النهضة الإسلامية الأول، وبنى حضارة الإسلام وإمبراطوريته دون خوف ولا وجل.
أما الخوف الكامن في بعض النفوس، فسببه ما خلفته عصور الانحطاط والظلام والاستبداد، التي تلت ذلك، والتي لا صلة لها بمعدن تراثنا الأصيل إنما هي التراب الذي تراكم على هذا المعدن، فأطفأ لمعته، وأخفى جوهره، وخلط الإيمان بالخرافة.
وماذا نقول أكثر من قولة النبي
صلى الله عليه وسلم
منذ أربعة عشر قرنا: «اطلبوا العلم ولو في الصين.» وأي وصية أبلغ من هذه الوصية، في الانفتاح على كافة علوم العصر وفنونه، بكل الثقة في النفس، ثقة يعرفها من يشعر أنه ممسك بالأصل المتين والجوهر الثمين، ولا يعرفها المتعلق بالقشور الغريبة ، وبالفروع الطارئة.
انتهت رسالة الأستاذ أحمد بهاء الدين، وإني لأشكر له هذا الاهتمام وهذه السرعة التي رد بها ، فذلك وحده دليل على حدة وعيه وشدة يقظته للأحداث الثقافية في حياتنا، مما جعله منارة هادية، وأما دوري في هذا الموضوع؛ فأحسبه قد انتهى بما كتبته في مقالتي التي علقت بها على ما كنت قرأته للأستاذ أنيس منصور فيما رواه عن لقائه مع الزملاء للشاعر الروسي بأسوان في أواسط الستينيات، إلا أنني أود أن أذكر نقطتين وردتا في ذهني، في أثناء قراءتي لرسالة الأستاذ أحمد بهاء الدين، أما أولاهما فهي أنه أدار تعليقه على عبارة «الواقعية الاشتراكية»، مع أن العبارة كما وردت في مقالة الأستاذ أنيس منصور، وهو يذكر لقارئه ما كانوا قد أجابوا به على سؤال إيفنتوشينكو هي «الاشتراكية الواقعية»، فهذه العبارة تجعل الحديث منصبا على الاشتراكية، في حين جاءت عبارة الأستاذ أحمد بهاء الدين معكوسة، فجعلت موضوع الحديث هو «الواقعية»، وكان من نتائج هذا الاختلاف أن ربط الأستاذ بهاء الدين إجابة الزملاء ب «الأدب» لا ب «الفكر» بمعناه الشامل، قائلا إنه يتذكر بأن تلك الفترة (أواسط الستينيات) قد شهدت في دنيا الأدب اتجاها نحو «الواقعية».
وأما النقطة الثانية مما ورد إلى ذهني في أثناء قراءتي لرسالة الأستاذ أحمد بهاء الدين؛ فهي التفرقة بين ما هو «أدب»، وما هو «فكر»، ولا شك في أن بينهما فرقا، إلا أنه - فيما أعتقد - مغلف بكثير من الغموض عند أدبائنا ونقادنا معا، مما أدى بهم في أغلب الحالات إلى الظن بأنه لا أدب إلا في الشعر والرواية والمسرحية، وجمعوا هذه الفروع تحت كلمة «إبداع»، مما يوهم بأنه لا إبداع في دنيا الأدب، إلا إذا وقع الكلام تحت فرع من تلك الفروع، وهو ظن بالغ الخطورة؛ لأننا إذا أخذنا به أسقطنا من الأدب كل ما كتبه الأقدمون مما نسميه بالنثر الفني، فلا الجاحظ ولا التوحيدي ولا المعري (في نثره) ولا أضرابهم يكون لهم الحق في دخول عالمهم الذي هو وحده عندهم عالم الأدب، فاعتزمت - وأنا أقرأ رسالة الأستاذ بهاء الدين - أن أخصص ما يبقى لي من فراغ في هذه المقالة لعرض محاولة سريعة قد تساعد على إقامة شيء من التحديد الذي يضبط الفواصل بين ما هو أدب، وما هو فكر، وما هو علم. •••
لنترك الآن ما قد يطلق عليه اسم «الفكر» وعلى صاحبه اسم «المفكر»، ولنحصر انتباهنا بادئ ذي بدء، في «الأدب» من جهة، و«العلم» من جهة أخرى، فهما متضادان كامل التضاد في الخصائص الجوهرية لكل منهما، فما هو أدب لا يكون علما، وما هو علم لا يكون أدبا، ولعل أوسع اختلاف بينهما هو في أن العلم ينظر إلى موضوع بحثه وكأنه ليس في الوجود «إنسان»، في حين أن الأدب ينظر إلى موضوع بحثه وكأنه ليس في الوجود إلا الإنسان، إن العلم حتى وهو يبحث في جانب من جوانب الإنسان يتجاهل أنه إنسان، وينظر إلى الجانب الذي يبحثه وكأنه مجرد ظاهرة من ظواهر الطبيعة، فلا فرق في تشريح أعضاء الجسم بين أن يكون ذلك التشريح منصبا على جسم إنسان أو على جسم حيوان، ولا فرق في معامل علم النفس بين دراسة ردود الفعل - وأعني ما يسمونه في علم النفس بالأفعال المنعكسة - التي قد تكون، من إحدى وجهات النظر العلمية، هي الأساس الذي تبنى عليه عملية التعلم كلها، أقول: إنه لا فرق في معامل علم النفس بين أن تكون الكائنات موضوع الدراسة التجريبية آدميين أو من الفئران، وهكذا نرى أنه بينما العلم «يطبعن» الإنسان إذا كان هذا الإنسان موضوعا لبحثه (إذا صح لنا استخدام هذه الكلمة، بمعنى أن العلم يحول الظاهرة الإنسانية التي يجعلها موضوع تجاربه العلمية وأبحاثه، يحولها إلى مجرد ظاهرة طبيعية.) وأما الأدب فهو على عكس ذلك تماما، «يؤنسن» الطبيعة، مرة أخرى نقول (إذا صح لنا استخدام هذه الكلمة، لتعني أنه يحول الظاهرة الطبيعية في خياله إلى إنسان.) فكلنا يعلم كيف يتعامل الأديب مع أجزاء الطبيعة التي يختارها ليربط الصلة بينه وبينها، فترى الشاعر - مثلا - ينفخ من حياته هو حياة في الجبل أو النهر أو الزهرة أو القمر أو ما شاءت له نوازعه الشاعرة أن تختار من كائنات طبيعية ليعايشها، فهو في كل حالة من تلك الحالات لا يتصور إلا أنه إنما يخاطب كائنا حيا، يبادله شئونه وشجونه وخواطره ونشواته، وإنه لمن أجمل ما قرأته في كل ما قرأت من شعر عربي وغير عربي، عن طبيعة الشعر نفسه، وكيف أنه هو الذي يبث الحياة في الوجود بكل كائناته، ثم هو اللسان الذي تتحدث به الحياة إلى الحياة، بغض النظر عن اختلاف الكائنات الحية، وجميع الكائنات في قلب الشاعر وخياله إنما هي من الأحياء، أقول: إن من أجمل ما قرأته لشاعر في هذا المعنى هو ما ورد في قصيدة طويلة للعقاد، بعنوان «الحب الأول»، ومما يقوله في ذلك، هذه الأبيات الثلاثة:
والشعر ألسنة تفضي الحياة بها
إلى الحياة بما يطويه كتمان
لولا القريض لكانت - وهي فاتنة -
خرساء ليس لها بالقول تبيان
ما دام في الكون ركن للحياة يرى
ففي صحائفه للشعر ديوان
فتلك إذن هي أولى الخصائص، وأوسعها، مما نميز به بين الأدب في ناحية، والعلم في ناحية أخرى، فبينما العلم - كما أسلفت القول - «يطبعن» الأحياء ليجعلها عنده طيعة من الطبيعة، نرى الأدب - والشعر خاصة - «يؤنسن» الطبيعة حتى لكأن كل ما فيها إنس يخاطبهم ويخاطبونه.
وأول ما يتفرع لنا من تلك الخصيصة الشاملة، فارق هام بين ما هو علم وما هو أدب، فالعلم ينشد القوانين العامة للظاهرة التي يبحثها، فإذا كان موضوعه - مثلا - جانبا من جوانب النبات وكيف يمكن إنماؤه لينتج محصولا أوفر، فهو لا تهمه هذه الشجرة المعينة دون أخواتها، بل كل الشجر عنده سواء، ما دامت من نوع واحد، وفي ظروف واحدة؛ لأن المهم عنده هو استخراج القاعدة العامة المشتركة بين أفراد النوع المعين، ولذلك فهو خلال بحثه العلمي يسقط من حسابه كل المميزات الفردية التي تتميز بها كل شجرة على حدة ليستبقي ما هو مشترك وعام، وأما الأدب فهو على ضد ذلك تماما؛ إذ الأديب وهو يصور شخصية في رواية، أو في مسرحية، أو وهو يرسم موقفا معينا تتفاعل فيه عدة شخصيات، فهو إنما يبحث عن جانب التفرد الذي يجعل الشخص المعين فريدا بين سائر الأشخاص، أو الذي يجعل الموقف المعين متميزا، بما يبرز طبيعته دون سائر المواقف، وهكذا ترى أن الأدب - على عكس العلم - يسقط من حسابه ما هو مشترك وعام بين أفراد النوع الواحد، ليستبقي الجوانب التي تجعل من الفرد فردا فريدا، فبينما العلم يبحث عن الحقيقة العلمية في تعميمها وتجريدها، ترى الأدب يبحث عن اللحظات المشخصة المجسدة المتعينة المتميزة المتفردة.
وقد تصادفنا في الأدب حالات نقف أمامها حيارى: أهي تعميم كالذي يبحث عنه العلم؟ أم هي تفريد كالذي يصوره الأدب؟ ومن أهم الأمثلة على ذلك «الحكمة» حين ترد في بيت من الشعر أو في جملة من النثر الفني، فالحكمة بطبيعتها حكم عام، لكنها كذلك ضرب من الصياغة مما يندرج في الأدب، إلا أن الخاصية التي تجعل تعميم الحكم فيما هو «حكمة» لا ينفي عن القول طبيعته الأدبية ليدخله في زمرة القوانين العلمية؛ لأن الفرق هنا هو أن التعميم في الحكمة نابع من خبرة الأديب أو الشاعر، وليس هو نتيجة بحث موضوعي أجراه الباحث على أشياء خارج نفسه، فإذا قال زهير - مثلا - «رأيت المنايا خبط عشواء، من تصب تمته، ومن تخطئ يعمر فيهرم»، أو إذا قال المتنبي: «وإذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسم»، فكل منهما إنما ينضح بحكمته من خبرته، وفي ذلك ما يبعد به عن منهج العلم في استخراج تعميماته.
وكذلك هناك حالات في الأدب، نصادف فيها أقوالا تحتوي على ما يصح أن يكون من الحقائق العلمية، لكنك هنا أيضا، إذا دققت النظر في أمثال تلك الحالات وجدتها قد كسيت بما يربطها بخبرة الإنسان الخاصة، فتتميز بهذا عن مثيلاتها من التعميمات العلمية، خذ مثلا لذلك هذا البيت من قصيدة أبي العلاء المعري المشهورة التي مطلعها: «غير مجد في ملتي واعتقادي، نوح باك ولا ترنم شاد»، وأعني ذلك البيت الذي يقول فيه: «خفف الوطء لا أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد»، فقد تقول: أليست حقيقة كون أجساد البشر تتحلل بعد موتها فتعود ترابا من تراب الأرض، حقيقة يمكن هي نفسها أن يقولها العلم؟ والجواب هو: نعم، لكن انظر إلى قوله في أول البيت: «خفف الوطء»، أي إن الشاعر يخاطبك قائلا لا تطأ الأرض بقدميك في ثقل وغلظة؛ لأنك إنما تدوس على ما كان ذات يوم أجسادا بشرية، فهذه اللفتة الإنسانية هي التي خلعت على الحقيقة التي تشبه حقائق العلم روح الشعر، أو انظر إلى بيت آخر في القصيدة نفسها، يقول فيه: «والذي حارت البرية فيه حيوان مستحدث من جماد»، فها هنا كذلك قد تجد في البيت حقيقة هي نفسها مما يقوله العلم، وهي أن الكائنات الحية إذا كانت يخرج بعضها من بعض، فإن الخلية الحية الأولى، التي منها تسلسل سائر الخلايا - وبالتالي سائر الكائنات الحية - لا بد أنها قد استحدثت من جماد؛ إذ لم يكن سبقها إلا الجماد، لكن - مرة أخرى - انظر إلى أول البيت؛ إذ يقول فيه الشاعر ما يدلنا على «حيرة الإنسان» إزاء هذا اللغز الكوني العجيب، وهو أن تخرج خلية حية من جماد موات، فكذلك هنا جاءت تلك الإشارة إلى الإنسان ومشاعره لتخلع روح الشعر على حقيقة كان يمكن أن تندرج في زمرة الحقائق العلمية.
أظن في هذا الذي ذكرناه للتفرقة بين طبيعة العلم وطبيعة الأدب، ما يكفي، وننتقل الآن إلى أشد الأقسام غموضا، وأصعبها تحديدا، وهو ما نطلق عليه اسم «الفكر» ونطلق على صاحبه اسم «المفكر»، فما هو ذاك؟
هنالك مجموعة من المعاني لها طابع متميز، تقع وسطا بين الطرفين المتضادين اللذين هما العلم في طرف والأدب في طرف آخر، وتلك المجموعة من المعاني التي أشير إليها، لا هي من العلم ولا يمكن أن تكون؛ لأنها تستعصي على التعريف الدقيق الذي يحدد معالمها وحدودها تحديدا قاطعا، كالذي تخضع له مصطلحات العلوم، ولا هي كذلك تنتمي إلى الأدب؛ لأنها على درجة من التعميم والتجريد، مما يتنافى مع طبيعة الأدب التي تأخذ نفسها بالتخصيص والتفريد، ومع ذلك فتلك المجموعة من المعاني لها في حياة الإنسان من الأهمية والخطورة ما يجعلها هي وحدها - دون طرفي الأدب والعلم - التي يمكن أن تثار الحروب بين الدول إذا هي اختلفت في شأن يمسها، كما قد تنشب المعارك القاتلة بين الأفراد إذا دب بينهم خلاف في مجالها، فمن هذه المجموعة - على سبيل المثال - هذه المعاني: الحق، العدل، الحرية، المساواة، التقدم، الخير، الثقافة ... إلى آخر هذا القبيل إذا كان لهذا القبيل آخر، ويمكن تجميع هذه المعاني تحت اسم واحد شائع بين الناس هو: «القيم»، والقيم لا حصر لعددها، لكنها تندرج تحت ثلاثة رءوس هي: الحق، والخير، والجمال، فأما «الحق» فمعيار تقاس به معلوماتنا وعلومنا من حيث الصواب والخطأ، وأما «الخير» فمعيار يقاس به السلوك الذي نتصرف به في تعامل الإنسان مع الإنسان، أو مع مختلف المواقف، من حيث المشروعية أو نفيها، وأما «الجمال» فيقصد به ذلك المعيار الذي يقاس به درجة السواء أو النشاز في الأشياء، طبيعية كانت أو من صنعة الإنسان.
وعلى الرغم من أنه يستحيل أن تستقيم حياة لإنسان، منفردا أو مجتمعا، إلا إذا كان يملك قدرا من المقاييس التي تميز له بين ما يجوز وما لا يجوز في جوانب حياته، فإنه لا سبيل إلى اتفاق الناس على تعريفات محددة لتلك المقاييس التي هي «القيم»، فكل واحدة منها كأنها البئر الغزيرة الماء، يستطيع كل من شاء أن يغترف منها أي معنى أراد، ومن هنا كانت أهميتها، ومن هنا كذلك كانت خطورتها، لماذا؟ لأنه ما من تغير في حياة الإنسان، إلا وهو آخر الأمر مرتكز على استبدال قيمة معيارية بقيمة أخرى، فإذا أراد كاتب أن يدعو إلى «التقدم» فربما وجد بين الناس من يزعم له بأن التقدم المطلوب إنما يتحقق بالرجوع إلى الزمن الماضي في أوضاعه وأحكامه، فمن الذي يستطيع أن يفض الخلاف بين رجلين، كلاهما يريد التقدم، إلا أن أحدهما يراه في الماضي ويراه الآخر في مستقبل لم يصنع بعد؟ وقل شيئا كهذا في كل قيمة من تلك القيم المهمة جدا، الضرورية جدا، الغامضة جدا في حدودها ... وفي هذا الميدان العسير يكون «الفكر» والمشتغل بالدعوة إلى تغيير الحياة نحو الأفضل هو الفكر.
على أن تلك القيم عندما يعالجها المفكر، ابتغاء أن يغير من حياة الناس عن طريق تغيير ما هو قائم منها مما يعرقل حركة الحضارة، ليقيم مكانها بديلا آخر يمكن أن يكون أقوى دفعا للموقف الحضاري، قد يلجأ إلى وضعها في مركب فيه بعض صفات التركيب الأدبي، وعندئذ تجيء كتابته جزءا من الأدب أو في هوامشه، وكذلك قد يلجأ في عرضها إلى الاتجاه المضاد، فيقربها من دقة العلم، وعندئذ تجيء كتابته مطبوعة بطابع فلسفي، فمن أعلام الأدب من جاء أدبه مثقلا بنقد القيم، حتى يختلط الأمر على الناس فيقول بعضهم عن شعره - إذا كان شاعرا - إنه فلسفة وليس شعرا، كما هي الحال مع أبي العلاء المعري، وكذلك من أعلام الفلسفة من جاءت فلسفته في قالب يشبه الأشكال الأدبية، فيختلط الأمر على الناس أيضا، قائلين إنه أدب أكثر من فلسفة، كما هي الحال في بعض المحاورات الأفلاطونية، وعلى أية حال فكثير جدا مما ينتج في هذا المجال، يمكن أن نسميه بأدب الأفكار؛ لأنه متميز من أدب الشعر والرواية والمسرح.
على أن الشعر والرواية والمسرح، إذا جاء أدبها رفيع المستوى كتلك الآيات التي خلدت على طول الزمان، تحتم أن ينطوي كل ناتج منها على مضمون فكري، مضمر في ثناياه كالدر في أصدافه، وتكون مهمة الناقد الأدبي في هذه الحالة هي إخراج ذلك الدر الفكري المستتر، إلى علانية تراها الأبصار.
فعالم «الفكر» الذي هو عالم «القيم» بصفة أساسية؛ قد يعرض الفكرة المعينة في عناصرها العارية المجردة، وعندئذ تكون فلسفة، والفلسفة تقع مع العلم في امتداد واحد، نصف منه يكمل النصف الآخر، وشرح ذلك يطول وكذلك قد يعرض الفكرة في صورة من صور الأدب، كما فعل سارتر حين جسد بعض أفكاره في مسرحياته.
فلكل قطعة من الأدب الرفيع فكرتها، ولكل فكرة وسائل تتجسد بها في أدب رفيع.
القسم الثاني
إنسانية الإنسان
الفصل الرابع عشر
إنسانية الإنسان
ما الذي يجعل الإنسان إنسانا؟ سؤال يطرح نفسه على من يتوق إلى بلوغ ما يدنو به إلى الكمال؛ وذلك لأن لكل شيء في هذه الدنيا وظيفة يؤديها، وإنه ليحقق من كماله بمقدار ما يحسن أداءه لوظيفته التي خلق من أجلها، على أن ذلك الأداء إنما يجود أقصى جودته عندما يصدر فعله عن طبع لا تكلف فيه، وإذا أردت مثلا لذلك فانظر إلى الشمس كيف ترسل ضياءها، والوردة كيف تنشر أريجها، وإلى الطائر كيف يغرد.
وعلى هذا النحو يكون الإنسان الكامل، تجيء أفعاله انعكاسا لطبعه، فإذا ألقينا على أنفسنا السؤال الذي بدأنا به هذا الحديث، وهو ما الذي يجعل الإنسان إنسانا؟ كان ذلك بمثابة سؤال عن حقيقة النفس الإنسانية ما هي؛ لأن درجة الكمال في أفعالنا تتفاوت بتفاوت تصويرها للنفس وهي في حالة كمالها، ولكي نزيد هذا القول وضوحا، أقول: افرض أن أمامك ورقة رسمت عليها عدة دوائر، وأن هذه الدوائر لم ترسم على درجة متساوية من الدقة، ثم أردت أن ترتبها بحسب درجة الدقة في كل دائرة منها، فماذا أنت صانع؟ ما هو المعيار الذي تستخدمه في ترتيب تلك الدوائر؟ أليس معيارك في ذلك هو «تعريف» الدائرة كما يحدده علماء الرياضة؟ أي إن للدوائر صورة مثلى يستطيع الرياضي حسابها ومعرفة أبعادها؟ وعلى تلك الصورة المثلى تقاس الدوائر المرسومة أمامك على الورق، فالأكمل منها هو الأقرب إلى النموذج الرياضي، أعني أنه هو الأقرب إلى «تعريف» الدائرة.
وهذا المثل يوضح لنا القاعدة التي يجب أن تتبع كلما أردنا أن نعرف - بين أفراد نوع معين - أيها يكون أكمل من سواه، فالأكمل هو ما يكون أقرب إلى الصورة المثلى كما يتصورها العقل بالنسبة إلى النوع المعين الذي نكون بصدد الحكم على أفراده بما في ذلك الإنسان نفسه، فإذا سألنا عن مجموعة معينة من الناس، نريد أن نعرف ترتيب أفرادها في درجات كمالهم، كان لا بد لمن يريد الجواب الصحيح أن يكون على علم بحقيقة النفس وما يراد لها أن تكون عليه عندما تكون في صورتها المثلى، وعندئذ يسهل قياس المسافة التي يبعد بها أفراد تلك المجموعة ، أو التي يقتربون بها من ذلك النموذج.
إن هنالك طريقة يستخدمونها في مصانع الصلب، التي يصنعون فيها ألواحا من المعدن يراد لها أن تكون مستوية السطح استواء تاما، وتلك الطريقة هي أن يصبوا عنايتهم كلها على لوح واحد يصوغونه صياغة نموذجية من حيث استواء السطح، ليتخذوه بعد ذلك معيارا لغيره، وذلك بأن يطلى ذلك اللوح النموذجي بطلاء ملون، فإذا أرادوا التيقن من استواء غيره وضعوا هذا الأخير فوق النموذج، فإذا وجد أن الطلاء قد شمل السطح كله؛ كان مستويا، أما إذا وجد أن الطلاء قد أصاب مواضع دون أخرى؛ كان السطح غير مستو استواء كاملا، وهكذا يكون الدور الذي تؤديه الصورة المثلى بالقياس إلى سائر الحالات المفردة التي يراد لها أن تجيء على غرار تلك الصورة.
ونعود إلى سؤالنا الأول: ما الذي يجعل الإنسان إنسانا؟ فها هنا كما هو الحال في شتى أنواع الكائنات نبحث عن صورة مثلى للإنسان ليقاس عليها سائر الأفراد. وبادئ ذي بدء علينا أن نطرح من الوجود الإنساني تلك الجوانب التي يشترك فيها الإنسان وغيره من الكائنات الحية، فهو يشترك مع النبات والحيوان في عمليتي النمو بالاغتذاء، ثم التكاثر، نعم هي جوانب ضرورية لوجوده، لكن الذي يميزه من حيث هو إنسان شيء آخر يضاف إلى تلك الجوانب، فماذا عساها أن تكون؟ إن لكل كائن كماله الذي يلائم طبيعته؛ فكمال السمكة الذي تستطيع به السبح في الماء والتقاط غذائها منه، غير كمال الطير الذي يمكنه من الطيران في الهواء، ومن بناء أعشاشها حيث تبينها، وهذا وذاك يختلفان في صورة الكمال عما يكون للأسد والقط وهكذا، ولا يشذ الإنسان عن غيره في ذلك، فماذا عساها أن تكون صورة الكمال المنشودة في الإنسان، والتي إذا ما وقعنا على عناصرها المكونة لها، نكون قد وقعنا على المعيار الذي تقاس به إنسانية الإنسان، ثم يكون هو نفسه المعيار الذي تقاس به درجات التفاوت بين إنسان وإنسان؛ فليس الناس سواء كلهم في الجانب الإنساني منهم، حتى لقد قيل إن واحدا قد يساوي ألفا من الآخرين؟
وفي ذلك يقول مسكويه، الذي هو أقدر من كتب في فلسفة الأخلاق من أسلافنا (توفي 421ه/1029م) وذلك في كتابه «تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق»: إن للإنسان قوتين، إحداهما قوة عالمة، والأخرى قوة عاملة، فبالأولى يفكر الإنسان فيما يستدعي التدبر العقلي من شئون حياته، وبالأخرى يعمل لتنفيذ ما كان رسمه لنفسه بفكره، ولما كان لكل قوة كمالها الخاص بها، كان للإنسان وجهان من الكمال يسيران، فكمال في دقة التفكير وتسامي أهدافه، وكمال آخر في إتقان التنفيذ عند التطبيق، فعندما قال من قال عن الناس: إن واحدا منهم كالألف، فلا بد أن يكون ذلك الواحد الممتاز إما قادرا بفكره أن يبلغ ما يتطلب بلوغه ألفا من الآخرين، وإما قادرا بفعله أن يؤدي ما يحتاج أداؤه إلى ألف ممن عداه، وإما أن يكون امتيازه بالنسبة إلى الآخرين شاملا للجانبين معا: الفكر والفعل.
ويريد كاتب هذه السطور - بكل التواضع الذي تحتمله فطرة البشر - أن يضيف تصحيحا لهذا الذي قاله مسكويه، فالعقل بفكره في ناحية، ثم التنفيذ والتطبيق من ناحية أخرى، مهما افترضنا فيهما من درجة الكمال، لا يكفيان؛ لأن العقل بعلمه وفكره قد يخطط شيئا، لو أنه انتقل مباشرة إلى دنيا التنفيذ والتطبيق لأهلك الإنسانية جمعاء، ومصداق ذلك وارد فيما نسمعه اليوم من العلماء والخبراء على القوى النووية وما تستطيع أن تفنيه في مثل اللمح بالبصر، لا بد من ضوابط فيما بين الطرفين، وماذا تكون تلك الضوابط إلا الأمر الديني بما يشتمل عليه من قيم الأخلاق؟ فللعقل أن يفكر ما وسع قدراته أن يفكر، لكن الإنسان الكامل بما يكون مزودا به من قيم خلقية يقف رقيبا قبل البدء في مرحلة التنفيذ والتطبيق، ليحدد مجال الفعل بحيث تضمن لنا أن ما قد ارتآه العقل بقوة ذكائه، سيكون في صالح الإنسانية إذا ما تحول إلى عمل، وليس ذلك ما هو حادث بيننا اليوم؛ إذ تركنا العقل ينطلق بفاعليته الجبارة في مجال الكشف العلمي، ثم جاء الإنسان ليستغل تلك النتائج العلمية في الحروب وغيرها من ضروب التنافس دون أن يردعه الضمير الخلقي نحو سلامة البشر إلا قليلا، وأصبح العنف هو القاعدة في التعامل بين الفئات المتقاتلة، فيصيب في طريقه الشيطاني ألوف الأبرياء بعد ألوفهم، مما دعا كثيرين من رجال الفكر في الغرب إلى اتهام الحضارة القائمة بأنها حضارة عرجاء تسير على رجل واحدة، هي جانب العلم الذي يقفز قفزات الجبابرة بلا قيود، وأما الرجل الثانية التي غابت فأصيبت الحضارة لغيابها بالعرج فهي جانب الرادع الخلقي، فالعلم وحده قوة محايدة، لا شأن لها بالجانب الوجداني من الإنسان، وإذن فلا لوم على علم وعلماء فيما ينكشف للإنسان من أسرار الكون، وإنما اللوم واقع على قصور التربية الدينية وما تحمله في طيها من حاسة خلقية، فلو أن هذه الحاسة بثت في أنفس الناس لكان في ذلك صمام أمن يكفل للإنسانية ألا يصيبها من نتائج العلوم الإنسانية إلا حسناتها.
ونعود إلى الإطار الثنائي الذي قدمه مسكويه لنتصور على ضوئه كيف يجب للإنسان أن يكون، وهو إطار - كما أسلفنا - ذو طرفين: علم يحصل عليه العقل بفكره، وعمل يتمثل في عالم التطبيق، فنقول إن الإطار بهذه الصورة المفترقة تنقصه ضوابط الأخلاق التي تحصر نتائج العلوم عند تطبيقها فيما هو نافع للإنسان مأخوذة كلها وكأنها أسرة واحدة كبيرة، ومثل هذه الضوابط الخلقية يكفلها الدين، وهنا ينشأ أمامنا سؤال يريد الجواب المضيء، وهو: ما هي الصفات الأساسية التي تشتمل عليها تلك الضوابط؟ ولعله من المفيد أن نأخذ جوانب من قائمة «الفضائل» الأساسية الأربع، التي ذكرها بالتحليل والتفصيل «مسكويه»، في كتابه الذي أشرنا إليه فيما سبق، وهو كتاب «تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق»، وتلك الفضائل الرئيسية الأربع كان أخذها مسكويه بدوره من الفيلسوف اليوناني «أفلاطون» تراها مفصلة بإسهاب في الأربعة الفصول الأولى. محاورة «الجمهورية» وتلك الفضائل الأربع هي: الحكمة والشجاعة، والعفة، والعدل، ولماذا كانت هكذا؟ إنها جاءت نتيجة مباشرة لتحليل الإنسان إلى ثلاثة مقومات؛ فهو ذو عقل، وهو ذو وجدان، وهو ذو حاجات تتصل بالجسد، ولكل مقوم من هذه المقومات شكيمة توقفها عند الحد الملائم حتى لا تجاوز حدودها، فأما العقل فشكيمته أن يلتزم حدود «الحكمة»، وأحب أن ألفت النظر هنا إلى شيء في عبقرية اللغة العربية حين استخدمت كلمتي «عقل» و«حكمة»، فالعقل - لغة - معناه القيد، ونقول فلان معتقل، أي أنه مقيد الحركة، وأما «الحكمة» فهي مأخوذة من أن يكون الإنسان بعقله «محكوما» بحدود معينة، والقيود التي هي متضمنة في كلمتي «عقل» و«حكمة» إنما تشمل فيما تشمله أن تكون الأهداف من عملية التفكير أهدافا شريفة وصالحة.
وإذا كانت فضيلة الحياة العقلية (أو العلمية) هي أن تتصف بالحكمة حتى لا تطيش سهامها، ففضيلة الجانب الوجداني من الإنسان هي الشجاعة، فشجاعة الشجاع تكفل له ألا يخاف شيئا في سبيل الحق، وما أكثر ما تكون حماية الحق والدفاع عنه في وجه الباطل ثقيلة الأعباء، لا يقوى على حملها إلا الأقوياء بشجاعتهم وبصبرهم على المكاره التي يرجح أن يجدوها في طريقهم إلى الدفاع عن الحق، ولا عجب أن نجد «الحق» و«الصبر» مقترنين في الآيات الكريمة:
والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ، وبقي الجانب الثالث من مقومات الإنسان وهو جانب الحاجات الجسدية التي لا بد منها لإقامة الحياة، وهذه فضيلتها «العفة» التي تكتفي بإشباع الحاجة الجسدية على قدر ما هو ضروري للجسد بغير إفراط.
تلك هي مقومات ثلاثة، لكل مقوم منها فضيلته، لكن هنالك فضيلة لا تتصل بمقوم معين، ألا وهي «العدالة»، وإنها لتتحقق للإنسان إذا ما تحققت له الفضائل الثلاث السابقة، أي إنها «محصلة» تنتج من تلقاء نفسها، عندما يكون الإنسان «حكيما» «شجاعا» «عفيفا»، فعندئذ يصبح «عادلا» أعني متعادل الجوانب متزن الصفات. وجدير بنا في هذا الموضع أن نتذكر أن «العدل» اسم من أسماء الله الحسنى، فالله - سبحانه وتعالى - «عدل»، ويقول الشارحون إن المعنى المقصود هو أنه - تعالى - يوازن الكون توازنا لا يجعله يهدم بعضه بعضا.
الحكمة، والشجاعة، والعفة ، والعدالة، هي الصفات الرئيسية الأربع تكفل لصاحبها أن يستخدم حصيلة التفكير العقلي العلمي استخداما يعود على الإنسانية بأكبر نفع ممكن ، وألا يصيبها من جرائه إلا أقل ضرر ممكن، ولنلاحظ أن هذه الصفات الأربع أساسية بمعنى أن سائر الفضائل تتفرع منها، فإذا قلنا إننا نريد أن نضيف تصميما على الصورة التي رسمها مسكويه للإنسان الكامل، وأن هذه الإضافة تتوسط الطريق بين العلم في ناحية والعمل به في ناحية أخرى، وهي تتوسط الطريق بينهما لتأخذ العلم بالوجه الذي ينفع ولا يضر، قبل أن تتسلمه أيد غاشمة تطبقه بعين عشواء.
بدأنا حديثنا هذا بأن ألقينا على أنفسنا سؤالا عن إنسانية الإنسان في أي صورة من صور الحياة نجدها إذ سألنا: ما الذي يجعل الإنسان إنسانا؟ ثم سرنا في طريق البحث عن الجواب، منعطفين به هنا وهناك حتى بلغنا الهدف، فالإنسان إنسان بعقله، وبوجدانه، وبجسده، شريطة أن يلتزم كل من هذه الجوانب حدود فضيلته، وهي الحكمة للعقل، والشجاعة للقلب، والعفة للبدن، فإذا تحققت كان الإنسان وهو في أسمى درجاته، إنسانا يتسم بالعدالة التي هي وضع كل قوة من قواه في موضعها المناسب، وإن ذلك لينطبق على حياة الإنسان في صورتيها: الإنسان منفردا، والإنسان مجتمعا.
الفصل الخامس عشر
ويل للمعاصرين من المعاصرين
يشتد بي الحنين آنا بعد آن إلى الأحباء من أفراد أسرتي الذين انتقلوا إلى رحاب الله، فأسرع إلى المقبرة لأقرأ الفاتحة حيث يرقدون! وإن طريقي إلى هناك لينعطف من الشارع العام إلى المدخل المؤدي إلى ساحة المقابر، عند مسجد الإمام الليث بن سعد، وما انثنيت مرة عند ذلك المسجد إلا وطاف برأسي قول الإمام الشافعي عن «الليث» مقارنا إياه في الفقه بمعاصره الإمام مالك؛ إذ يقول الشافعي في تلك المقارنة: «الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به.» والليث فقيه مصري، عاصر مالكا، ولكنه لم يوافقه في مذهبه؛ إذ كان من رأي الإمام المصري ضرورة الجمع بين الرأي والحديث، وأرسل إلى مالك رسالة يبين له فيها وجهة نظره تلك، ويقول الخبراء في هذا الميدان إن رسالة الليث قد جاءت آية في الجودة، ودلت على غزارة العلم ودقة التفكير وعمقه، وعن مكانة الليث في الفقه قال الشافعي فيه عبارته التي أسلفناها.
وإذا كانت عبارة الإمام الشافعي في فقه الإمام الليث تطوف برأسي كلما انثنيت بطريقي عند مسجد الليث، فليس ذلك لما فيها من مقارنة في الفقه بين إمامين، بل لما قد ورد في آخر عبارة الشافعي من تعليل لكون الفقه الأجود يكون أقل شهرة من زميله الذي هو أقل جودة منه، وتعليل ذلك عند الشافعي، كما هو ظاهر في عبارته، أن مالكا وجد من أنصاره من ينشطون في إشاعة ذكره بين الناس، على خلاف ما لقيه الليث من أصحابه، الذين ربما عرفوا له قدره العظيم، إلا أنهم التزموا الصمت، ولماذا اهتممت أنا بهذا الجزء من عبارة الشافعي حتى رسخ في ذاكرتي ليطوف بذهني كلما جاءت مناسبة لذلك؟ الجواب هو أن الإمام الليث «مصري» وأصحابه الذين قدروه ثم كتموا تقديرهم في صدورهم هم «مصريون» على الأغلب، فقام في نفسي سؤال، وما زال السؤال قائما، وهو: أيكون من خصائص المصري أن يكتم أنفاس مواطنه المصري، حتى لا ينبه له ذكر، اللهم إلا أن يجد هذا المصري المسكوت عنه، أهلا من ذويه الأقربين، فيتولون ذكره بالذيوع كلما سنحت لهم فرصة لدق الطبول؟ أقول إنه سؤال أقمته في نفسي، وما زال قائما، لكثرة ما أجد من شواهد في حياتنا العلمية والأدبية تدل كلها - أو قل معظمها - على ميل شديد فينا نحو «كبس» من بدرت فيه البوادر التي تدل على امتياز، وكثيرا ما ينبه ذكر المصري النابه على أيدي الغرباء، أو على أيدي المصريين أنفسهم، ولكن في جيل بعد جيل معاصريه.
ونحن إذ ندير حديثنا في هذا السياق على مصر وأبنائها، فما ذلك إلا لأنها هي حياتنا وهي موضع اهتمامنا الأول، وإلا فظاهرة التنافس بين المتعاصرين تنافسا يبلغ بهم حد الحسد والحقد بعضهم تجاه بعض؛ ليهدم بعضهم بعضا، إنما هي ظاهرة تمس الطبيعة البشرية ذاتها، ولا ينفيها أن تجد بين الناس ضروبا من التعاون؛ وذلك لأن الأساس المبدئي في حياة الإنسان هو أن يحيا أولا، وأن يسعى نحو أن تكون حياته أقوى ما تكون حياة ثانيا، فإذا وجد التعاون في أمر من أموره أدعى إلى تحقيق وجوده وجودا قويا دخل مع غيره في عقد التعاون، أما حيث لا يكون الأمر كذلك كان المبدأ عنده هو التنافس الذي لا يرحم. أقول إن تلك النزعة «الحاسدة» جزء من طبيعة الإنسان، لكن يعود فيختلف إنسان عن إنسان في تلك النزعة من حيث القدرة على إلجامها بالتربية وبتسليط «العقل» على شراسة الفطرة ليخمد أوارها.
وفي هذا المعنى أود أن أسوق إلى القارئ شيئا مما كتبه أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، فيما أسماه ب «الطب الروحاني» (وهو ضمن ما ورد في مجموعة «رسائل فلسفية» جمعها وحققها بول كراوس) والمقصود بعبارة «الطب الروحاني» عند أبي بكر الرازي هو تحليلات لطائفة من الصفات الحميدة، ومن الصفات الذميمة، ليبين كيف تقوى الروح بالأولى، وتضعف بالثانية، يقول الرازي في التنافس والتحاسد بين أبناء المجتمع الواحد في العصر الواحد ما خلاصته:
إننا نرى الرجل الغريب حاكما في بلد ما، متحكما في أهله، ومع ذلك فلا يكادون يحسون نحوه بكراهية، أما أن يحكمهم رجل من أهلهم، فالأغلب أن تنصب عليه الكراهية مع أنه قد يكون أرأف بهم من الحاكم الغريب، وسر ذلك هو محبة الإنسان لنفسه، مما يجعله تواقا إلى أن يكون سباقا لسواه من أبناء قومه، «فإذا رأى الناس أن من كان بالأمس منهم، قد أصبح اليوم سابقا لهم، مقدما عليهم، اغتموا لذلك وصعب واشتد عليهم سبقه إياهم، ولم يرضهم منه تعطفه عليهم ولا إحسانه إليهم.» (تلك عبارة بنصها من كلمات الرازي) ويمضي المفكر الإسلامي بعد ذلك ليقول ما معناه إن الناس إذا ما ارتفع من بينهم رجل إلى مرتبة الحكم، لا يرضيهم منه إلا شيء واحد، وهو أن يزول عنه ذلك السبق، وأما المالك الغريب - يقول الرازي - فمن أجل أنهم لم يشاهدوا حالته الأولى، لا يتصورون قصورهم في كمال سبقه لهم وفضله عليهم فيكون ذلك أقل لغمهم وأسفهم، ثم يعقب الرازي على هذه النزعة الفطرية في الإنسان فيقول إنه لا بد من التغلب عليهم بالاحتكام إلى «العقل»؛ لأنه إذا كان في مقدور الإنسان أن يعتصم بعقله في مقاومة «اللذائذ» فكيف والحسد لا لذة فيه؟ ومما يمحو الحسد عن النفس - هكذا يقول الرازي - «أن يتأمل العاقل أحوال الناس، فإنه سيجد أن حالة المحسود عند نفسه، خلافها عند الحاسد، فالإنسان لا يزال يستعظم الحالة، ويتمنى بلوغها، حتى إذا بلغها لم يسر بها، إلا مديدة (تصغير مدة) يسيرة، بقدر ما يستقر فيها ويتمكن منها ويعرف بها، ثم تسمو نفسه إلى ما هو فوقها، إنه عندئذ يصير بين هم وخوف، خوف من النزول عن الدرجة التي بلغها، وهم لما يتمنى بلوغه.»
معذرة فقد أطلت الوقوف عند عبارة أبي بكر الرازي؛ فلقد أردت أن أستعين به أمام القارئ لأضمن اقتناع هذا القارئ بصحة ما زعمناه عن الإنسان إذا ما أرخى العنان لفطرته، من أنه يكره أن يرى واحدا من أهله قد سبقه في مدارج الصعود إلى قمم النبوغ، في حين أنه لا يشقيه أن يعلم مثل هذا الصعود في إنسان غريب، وربما صعب على القارئ أن يتصور الصدق فيما قاله الرازي؛ لأن الرازي أدار حديثه على من يملك بلدا ويحكمه، والحق أننا قد خبرنا في أنفسنا كم نكره أن يتولى الحكم فينا غريب عنا، ولكن لكي يقترب القارئ من رؤية ما عناه الرازي - وهو حق لا شك فيه - فليجعل مدار الحديث نبوغ النابغ في شعر أو فن أو فكر أو أي فرع شئت من فروع الحياة العقلية والثقافية، ولينظر عندئذ إلى نفوس المتنافسين في الميدان الواحد - هل يملؤها حب لمن نبغ - أو تملؤها كراهية؟ وإن هذه الكراهية لتزداد حدة كلما نقصت قدرة الناس في بلد ما على احتكامهم إلى «العقل» فيما يقولون وما يفعلون.
وللشاعر الإنجليزي العظيم ت. س. إليوت، الذي كان من حسن حظنا أن شاع ذكره بين القراء العرب في عصرنا، والشعراء من هؤلاء القراء بوجه خاص، وذلك بفضل طائفة قليلة من نقادنا ودارسي الأدب الإنجليزي المعاصر فينا . أقول إن لهذا الشاعر العظيم كتابا في النقد الأدبي، جمع فيه عدة فصول متفرقة، منها فصل خصصه لهذه الفكرة التي نعرضها هنا، وهي المنافسة الحاسدة الحاقدة التي يغلب أن تستبد بالمعاصرين إذا ما تولوا بالنقد معاصريهم؛ ولذلك يميل «إليوت» إلى إهمال ما يقوله معاصر عن معاصره، مدحا كان ذلك أو قدحا؛ لأنه في كلتا الحالتين مغرض على الأغلب المرجح ولا تكون للنقد قيمته إلا إذا جاء في عصر تال لعصر الناقد والمنقود معا.
وإذا نحن أردنا مثلا لذلك من تاريخ الأدب الإنجليز (والمثل من عندي وليس مأخوذا من كتاب إليوت)، وثب إلى ذهني ما قد حدث لأعظم شاعر عرفته إنجلترا، وهو وليم شكسبير، فكلنا يعرف كيف ظهر ذلك العملاق في دنيا المسرح وكأنه الشهاب اللامع، ولم يلبث أن استقطب كل الأضواء في شخصه وما يقدمه على المسرح، فشد الانتباه من الملكة ونبلائها فنازلا إلى جمهور الناس، وكانت المفاجأة لافتة للأنظار بصفة خاصة لأن الرجل لم يكن قبل ذلك السطوع إلا سائس جياد النبلاء الذين يقصدون إلى المسرح، فما هو إلا أن فزع رجال الأدب المسرحي المحترفون من أساتذة الأدب في الجامعات، وكان من أبرزهم «مارلو» و«ناش» و«جرين»؛ فأخذوا يملئون الدنيا بنقدهم الساخر، يبثون فيه ازدراءهم لمن اقتحم ميدانا لم يؤهل له، فنتج عن ذلك النقد المر أن سقط شكسبير لفترة طويلة من حساب التاريخ الأدبي، برغم احتفاظه بإقبال المشاهدين لمسرحه حتى آخر عهده به، وفي هذه المناسبة أود أن ألفت الأنظار إلى وجوب التفرقة بين حالتين فيما يختص بالمسرح، إحداهما حالة المسرح الذي يجتذب الجمهور دون أن يدرجه مؤرخو الأدب في صفحاتهم، والثانية حالة تجيء فيها المسرحية أدبا أولا، يرصده التاريخ الأدبي سواء مثلت تلك المسرحية أو لم تمثل، وأقبل عليها الجمهور أو لم يقبل، وخير مثل يوضح ذلك هو ما قد شهدته المسارح في مصر من مسرحيات اشتد عليها إقبال المشاهدين، فيما قبل توفيق الحكيم، لكنها لم تكن لتظفر بكلمة واحدة عند من يؤرخ للأدب العربي الحديث ، إلى أن ظهرت مسرحية «أهل الكهف» للحكيم، فغدت أدبا يحتم على الناقد وعلى الدارس والمؤرخ جميعا أن يحسبوا حسابها فيما يكتبون، والذي حدث لشكسبير على أيدي معاصريه هو أنهم وإن لم يستطيعوا أن يصرفوا عنه اهتمام الجمهور بكل طبقاته نجحوا في أن يسقطوه من حساب التاريخ الأدبي، ولبث أمره على هذه الحالة ما يقرب من قرن كامل، حتى قيض الله له ناقدا ألمانيا يكتشفه، فيكشف عنه غبار الزمن بكل ما فيه من حسد المعاصرين وحقدهم، فإذا شكسبير هو من هو اليوم، حتى لقد قال عنه أصحاب الرأي من أبناء وطنه أيام أن كانت بريطانيا تحكم الهند إن شكسبير في انتماء بريطانيا إليه، أهم من إمبراطورية الهند في احتلال بريطانيا لها.
والأمثلة لا تقع تحت الحصر والعدد، إذا أردت أمثلة لما يقترفه المعاصرون من إثم معاصريهم، وقد يتاح للزمن بعد ذلك أن يصحح آثامهم، ولكنه كذلك قد يغفل فتضيع موهبة الموهوب في التراب مع رفاته، وإن الإنسان ليأخذه العجب كيف جرؤ المعاصرون لعبقريات تطير بأصحابها إلى أجواز السماء أن يحاولوا إطفاء تلك الشموس الساطعة، كيف جرؤ أهل أثينا على مهاجمة سقراط حين ضاقت به صدورهم، فحاكموه وأعدموه، مع أن الرجل لم يصنع بمواطنيه سوى أن يفتح أعينهم لتشهد النور! كان الناس بمن فيهم أدعياء العلم، يملئون أشداقهم بألفاظ ضخمة، كل في ميدانه، فرجل القانون يتشدق بالعدل، ورجل الأخلاق ينادي بالفضيلة، وصانع الفن أو قائد الحرب أو القابض على زمام الحكم لا يشكون في دقة معرفتهم بالفن أو بالحرب أو بالحكم، فإذا بسقراط في حواره معهم على النحو الذي نعرفه جميعا يفضح جهلهم بما ظنوا أنفسهم يعلمونه أكمل العلم وأوضحه.
كنت قد وقعت يوما على مجموعة خطابات خاصة كتبها عالم النفس الذي يعرفه اليوم حتى رجل الشارع، وهو «فرويد» صاحب النظرية المعروفة في التحليل النفسي، أقول إنني كنت قد وقعت على خطابات أرسلها فرويد إلى أحد أصدقائه أيام أن كان فرويد عضوا في هيئة التدريس بجامعة فيينا بالنمسا (في النصف الثاني من القرن الماضي).
وأذهلني أن أجد فرويد يشكو إلى صديقه في خطاب بعد خطاب من أن الجامعة تضطهده ولا تريد أن ترفعه إلى درجة الأستاذية بها، فانظر إلى رجل يعد الآن رابع أربعة كبار، هم صناع هذا العصر من الناحية الفكرية، انظر وقد تعمد معاصروه من زملائه أن يخمدوا شعلته حتى لا تتوهج، وقريب من هذا المثل ما حدث في حالة الفيلسوف البريطاني «ديفيد هيوم» الذي هو بغير شك في طليعة الطليعة من فلاسفة بريطانيا (عاش في القرن الثامن عشر)، فهو أيضا قد حورب في عصره على صورة تثير فينا الدهشة، فمن ناحية حرمت أقسام الفلسفة في جامعة أكسفورد على طلابها شغل أنفسهم بمؤلفاته؛ لأن أساتذتها لم يروا فيها قيمة تذكر، ومن ناحية أخرى حورب في حصوله على كرسي الأستاذية في جامعة أدنبره باسكتلندا (وهيوم اسكتلندي)، وأظن أن الذي فضلته عليه الجامعة من زملائه يومئذ هو آدم سمث، صاحب المؤلف المشهور في مادة «الاقتصاد السياسي»، (وكان الاقتصاد يوصف دائما بكلمة «السياسي» فيما قبل عصرنا) مع أن الأستاذية المطلوبة كانت لفلسفة الأخلاق، وعلم الرغم من أهمية آدم سمث، الذي يعرفه كل دارس للاقتصاد حتى اليوم، فلا أظن مؤرخا واحدا يؤرخ للفكر البريطاني يتردد لحظة في ترجيح هيوم على آدم سمث من حيث عمق الأثر، لا في بريطانيا، بل وفي عالم الفكر في كل أرض بها للفكر حياة.
أمثلة لا تعد ولا تحصى لما يكيد به المعاصرون لمعاصريهم، مما يدعو إلى التفهم والتسامح، حين نتجه بأبصارنا إلى حياتنا نحن المعاصرة في جوانب الفكر والفن والأدب، فإن نظرة واحدة سريعة، تتعقب بها ما يسمونه ب «المعارك» الثقافية، سواء كان ذلك في الجيل الماضي، أو في هذا الجيل الحاضر، لتكفي للدلالة على أنها حياة ملطخة بالدماء نابا ومخلبا، هي حياة سادها الإجحاف وندر فيها الإنصاف، وحتى إذا رأيت أحد الأعلام في تلك الميادين قد ظفر بما يستحق من ثناء وتمجيد، فسوف تدرك بعد الفحص الدقيق المتأني أن لذلك الموقف علة، وقد تكون هذه العلة هي ما قام به ذلك العلم من ضروب النشاط الاجتماعي التي لا شأن لها بمجال إنتاجه الثقافي، لكن لها الشأن كل الشأن بجذب انتباه الجمهور، وكذلك قد تكون العلة فيما يؤديه من أجله أنصاره، لقتل من أرادوا قتله، أكثر مما هو للإشادة به حقا وتمجيدا حقا.
وأعود بذاكرتي إلى مرحلة الشباب، وقد كنت في شبابي متابعا لكل ما يحدث في حياتنا الثقافية، سواء أكانت ذات صلة بموضوع تخصصي أم لم تكن. أعود بالذاكرة إلى تلك الأيام فأذكر ليلة كنت أذاكر فيها دروسي وقد تقدم الليل، وإذا بصوت بائع الصحف يدوي في الشارع، فيحطم جدران السكون، مناديا بالعدد الخاص من جريدة «السياسة الأسبوعية» الذي خصص نفسه للاحتفال بتنصيب أحمد شوقي أميرا للشعراء، فهرولت إلى بائع الصحف لأظفر بالعدد الذي كان موعد ظهوره هو صباح اليوم التالي، ولما عدت إلى مكاني من مسكني آثرت أن أنفق بقية الليل في قراءة ما نشره الكاتبون عن شوقي، وكان أول ما اخترت أن أقرأ له هو المازني: فإذا أول جملة يستهل بها الكاتب مقالته، كما أذكرها حتى اليوم هي: «ليس شوقي بشاعر ولا شبه شاعر»؛ لأن الشاعر إما أن يكون شاعرا، وإما ألا يكون شيئا، ولا وسط بين الطرفين.
ولم يكن هذا الرأي جديدا علينا كل الجدة، فمنذ عدة سنوات قبل ذلك الموعد كان العقاد والمازني يسعيان جهدهما في النقد الأدبي ليخرجا أحمد شوقي من زمرة الشعراء، وكتابهما «الديوان» يشتمل على كثير مما كتباه لهدم شوقي (ولهدم المنفلوطي أيضا)، ولقد كنت في شبابي وما بعد شبابي متأثرا بهما في هذه النظرة، مشايعا لهما في الحكم، لكنني أدخلت لنفسي تعديلا أساسيا في فهم الشعر وتقويمه، وليس هذا مكان الحديث في ذلك، ولكنه مكان أسأل فيه: هل يعقل أن يقال عن شوقي وعلى ألسنة أقدر النقاد في عصرهم إن شوقي لا هو شاعر ولا شبه شاعر؟ إلى هذا الحد يبلغ ظلم المعاصرين للمعاصرين؟!
ولقد كان ظلم المعاصرين للعقاد أقسى وأفدح، ولست أنسى ساعة قابلت فيها ناقدا مرموقا، أعفي نفسي من ذكر اسمه، «وكان ذلك سنة 1964م وبعد وفاة العقاد بقليل»، فكان حكم ذلك الناقد على العقاد أنه «لم يقدم شيئا»، وأنه «بغير قيمة أدبية على الإطلاق»، وأذكر أني أجبته في هدوء قائلا: إن هذه الأحكام الشاملة لا تنفع أحدا، وخير لك ولنا أن نتناول العقاد في ميادينه المختلفة، واحدا واحدا؛ فنحكم عليه شاعرا (وله عشرة دواوين) ونحكم عليه كاتبا سياسيا، ونحكم عليه كاتبا لتراجم الأبطال، ونحكم عليه ناقدا أدبيا، وهكذا، فعندئذ قد نجد أن الحكم على العقاد في ميدان معين ليس هو بذاته الحكم عليه في ميدان آخر، ولكن إلى هذا الحد يبلغ ظلم المعاصرين للمعاصرين.
ومن أظلم ما يحارب به المعاصرون معاصريهم في حياتنا نحن، هو أن يوجه الناقد إلى خصمه أحد سهمين، أو أن يوجه إليه السهمين جميعا؛ فهو يرميه إما بالكفر - والعياذ بالله - وإما أن يرميه بتهمة الخيانة للوطن والعمالة للأعداء، وكثيرا ما يرميه بالتهمتين معا، ولست أريد المقارنة بيننا وبين سوانا من الشعوب - والمتقدمة منها بوجه خاص - لكنني أشعر الآن بفائدة أن أنبئ القارئ بأنه يندر جدا أن يقع على إحدى هاتين التهمتين موجهة من ناقد إلى كاتب أو مفكر، أما نحن فأهون وأسرع ما يلجأ إليه الناقدون الحاسدون هو قتل العدو بهاتين التهمتين ارتكانا إلى حقيقة يعرفونها جيدا، وهي ضعف القدرة النقدية عند الجمهور المتلقي، وبالتالي كان من العسير عليه أن يفرق بين الصواب والخطأ فيما يكيله الناس بعضهم لبعض من تهم في المجال الثقافي بصفة عامة، وأقل ما يقال في تعليل ذلك هو أن الجمهور كثيرا ما يسمع الأحكام ويصدقها دون أن يكون قد قرأ سطرا واحدا مما كتبه المتهم في عقيدته أو في وطنيته.
إبان الخمسينيات أصدر مؤلف مصري كان معروفا - على الأقل بسبب ارتفاع مناصبه - كتابا يبين فيه أثر الاستعمار في حياتنا الفكرية، ولقد رضي له ضميره بأن يوجه تهمة خيانة الوطن والخروج على الدين معا إلى ثلاثة رجال - هم: طه حسين، وعلي عبد الرازق، والفقير لله كاتب هذه السطور - أقل ما يقال فيهم إنهم بذلوا كل ما يستطيعونه من جهد في إثراء الحياة الثقافية وترشيدها، وبعد ذلك فمن حق من شاء أن يقول عن أحدهم أو عن جميعهم إنهم أخطئوا في هذا وفي ذاك مما عرضوه من أفكار، أما أن يقال عنهم إنهم عملاء للمستعمر، وإنهم مارقون على دينهم فذلك - في الحق - مما يشكك في نزاهة المؤلف، أكثر مما يشكك في قيمة هؤلاء الرجال، ولكنه ظلم المعاصرين للمعاصرين.
على أن أفتك سلاح يحارب المعاصرون به معاصريهم ليس هو قذفهم بمخالفة الدين وخيانة الوطن؛ لأن ذلك لا ينطلي إلا على السذج، وإنما هو سلاح الإهمال والصمت عمن يريدون إخماد أنفاسه حتى يموت، وذلك فيما يبدو هو ما صنعه أصحاب الفقيه المصري الإمام الليث بن سعد، الذي قال عنه الإمام الشافعي عبارته التي أسلفت ذكرها، والتي رسخت في ذاكرتي منذ عرفتها، وهي تقفز إلى ذهني كلما مررت بمسجد الليث: «الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به.» ترى كم ليثا في حياتنا المعاصرة خذله معاصروه؟!
الفصل السادس عشر
عين فتحة عا
معذرة إذا كنت قد اخترت لهذا الحديث عنوانا يعود بالذاكرة إلى عهد الكتاتيب، ولكن عذري في اختياره مع كل ما فيه من خروج على المألوف هو كثرة ما يدون بيننا اليوم من أحاديث غاضبة عن «العلمانية» - هجوما أو دفاعا - وسواء أكان المتحدث مهاجما أم كان مدافعا، فكلاهما ينطق اللفظة مكسورة العين، وكأنها منسوبة إلى «العلم»، مع أن حقيقتها هي العين المفتوحة، نسبة إلى هذا «العالم» الذي نقضي فيه حياتنا الدنيا، ولو كان المخطئون هم من أبناء هذا الجيل فقط؛ لقلت إنها جهالة تضاف إلى جهالات، لكن موضع العجب هو أني سمعت رجالا من ألمع الرجال الذين هم في الحقيقة ممن ينتسبون إلى الجيل الماضي، وقد امتد بهم الأجل ليقطعوا شوطا من مرحلة هذا الجيل - مد الله في أعمارهم وبارك لهم في أيامهم - ولست أدري كيف جاز لهم الوقوع في خطأ كهذا، وكلنا يعرف أن جيلنا الماضي كان على كثير من صحوة الضمير العلمي، الذي يدفع أصحابه إلى المراجعة والتثبت من صحة ما يقولونه أو يكتبونه؟ أو قل إن رجال الجيل الماضي كان لهم من تلك الصفات قدرا ملحوظا، وبينهم وبين أبناء هذا الجيل في ذلك مسافة من السبق لا تخطئها عين، كما أنها تستوقف الانتباه لتعليل حدوثها، ولقد ورد في القاموس الوسيط الذي أخرجه مجمع اللغة العربية بالقاهرة عن كلمة «علمانية» (الجزء الثاني، ص630) ما يلي: «العلماني نسبة إلى العلم (بفتح العين وسكون اللام) بمعنى العالم، وهو خلاف الديني أو الكهنوتي.»
ولو كان الفرق في المعنى بين أن تكون «العلمانية» مكسورة العين أو مفتوحة العين فرقا يسيرا يمكن تجاهله؛ لقلنا إنه خطأ لا ينتج ضررا كبيرا، ولكن الفرق بين الصورتين في نطق الكلمة فرق لا يستهان به، مما يستوجب الوقوف والمراجعة.
إنني كلما قرأت لكاتب في هذه الأيام كتب ليهاجم العلمانية وهو يشتعل بالغضب، أراني - دون قصد مني - قد تذكرت قصة قصيرة لسومرست موم، خلاصتها أن شابا من هواة الفن في بلد ما كان شديد الإعجاب بفنان إسباني، حتى لقد قرر السفر إلى إسبانيا ليلتقي به، فلما وصل إلى حيث يعيش الفنان وعرف سبيله إلى مسكنه، ضغط على زر الجرس، وفتح له الباب، فقال للخادم الذي فتح له الباب: لقد جئت للقاء سيدك، فأدخله وأجلسه في غرفة استقبال الزائرين، وكان من مجلسه ذلك يستطيع رؤية الهابط على سلم الدار من طابقها الأعلى إلى طابقها الأرضي، فلما أن رأى السيد على درجات السلم رأى شيخا وقورا، ابيضت لحيته، ودبت في جسده شيخوخة واضحة المعالم، فأخذ الشاب يتفرسه بنظراته من بعيد، هامسا لنفسه ما يؤكد له بأن هذا الوقار كله، وتلك الجبهة العريضة الوضاحة الوضاءة، وشعره الأبيض الطويل الذي تهتز ذوائبه على عنقه وفوديه، كلها تدل على أن ذلك الفن الرفيع الرائع الذي عرفه له وهو هناك في بلده، لا بد أن ينضح به مثل هذا الجلال الوقور والهدوء الساكن، والحكمة التي يكاد ينطق بها كل ما أراه في هذا الرجل، حتى إذا ما التقيا وتلاقت كفاهما بالتحية، وجلسا في صمت دقيقة أو دقيقتين قال الشاب للشيخ: كم تملؤني السعادة إذ أراني جالسا في حضرة فلان الفنان العبقري العظيم. فأجابه الشيخ في هدوء أخطأت يا ولدي. ففلان الفنان يسكن في البيت المجاور لبيتي.
وهكذا كلما قرأت لكاتب في هذه الأيام يهاجم العلمانية؛ إذ تكون في ظنه مكسورة العين، منسوبة إلى العلم، تمنيت لو أني رأيت ذلك الكاتب جالسا أمامي، لأقول له شيئا يشبه ما قاله ذلك الشيخ للزائر الشاب: لقد أخطأت الطريق يا صاحبي، فالذي تسدد إليه سهامك، ليس هو العدو الذي ظننته، ولكن بينه وبينه فارقا صغيرا في الملامح، كبيرا في حساب الحقائق، فهذا الذي تهاجمه مكسور العين، وعدوك الحقيقي مفتوحها، كان ذلك الخلط بين صديق وعدو هو عذري في اختيار العنوان لعله يشد انتباه القارئ، فيرهف الأذن و«يفتح العين».
وما هي «العلمانية» بفتح العين؟ لا أظن أن لهذه الكلمة وجودا في اللغة العربية قبل عصرنا الحديث، لكنها كلمة ترجمنا بها - في عصرنا - كلمة مقابلة لها في اللغات الأوروبية، والكلمة هناك لها عند القوم أهمية وتاريخ، على عكس الحال عندنا، فقد كان ينبغي ألا تكون لها أهمية، وهي بحكم الأمر الواقع ليس لها عندنا تاريخ، أما أهميتها وتاريخها هناك فلأن عصورهم الوسطى (التي هي الفترة الواقعة بين القرنين الخامس والسادس عشر من التاريخ الميلادي) شهدت لرجال الدين سلطانا رفعوا به مثلا أعلى أمام الناس، يتمثل في حياة الرهبان، فالزهد في الدنيا لا الإقبال عليها هو ما ينبغي للإنسان الكامل أن يهتدي به، وذلك لأن عقيدتهم تسمح لهم بأن يفصلوا بين الأرض والسماء، بين الدنيا والآخرة، وفي الأولى تكون السيادة للقيصر، وفي الثانية يكون الأمر لله، ولما كان الغض من الدنيا وقيمتها ينتهي بالضرورة إلى إهمالها إهمالا يخف به وزنها في أعين الناس، وبالتالي تقل الرغبة فيما يؤدي إلى الارتقاء بشئون الحياة فيها، فلا يكون علم ولا يكون عمل - إذا جاز لنا مثل هذا التعميم الجارف - فكان من أبرز ما تميزت به النهضة الأوروبية التي نفرت لتقضي على هذا الوخم كله أن هب الناس وكأنهم أرادوا أن يعبوا الحياة النابضة في أجوافهم عبا، لم يتركوا طريقا للمغامرة إلا سلكوه في نشاط محموم، فمنهم من أقلع بالسفن في بحار الظلمات ليكشف عنها ظلماتها، ومنهم من اخترق آفاق الأرض اليابسة التي كانت تتناثر إلى مسامعهم أخبارها دون أن يروها، وكأنها أرض يراها النائمون في أحلامهم، ومنهم العلماء الذين اتجهوا بأبصارهم نحو السماء يتعقبون أجرامها في مسالكها، بل ومنهم الفلاسفة الذين أصروا على أن يغوصوا بتأملاتهم في طبيعة الإنسان ذاتها، ليروا ذلك العقل المتستر في عظام الجمجمة كيف يعمل، وتلك المشاعر كيف تسري رعشاتها في الجوانح، فنتج عن هذا كله بعث هو الذي خلق لهم أوروبا الحديثة كما نعرفها، ومن هنا ارتفعت صيحة «العلمانية» كأنها تقول: عليكم بهذا العالم، عليكم بهذا العالم، لا تهملوه!
فما لنا نحن بهذا كله، وليس في عقيدتنا ما يدعونا إلى إهمال هذا العالم؟ بل العكس هو الصحيح، فقد أمرنا بأن نحتفل بالدنيا وكأننا نعيش فيها أبدا، وأن نعمل للآخرة كأننا منتقلون إليه غدا، ما لنا نحن بذلك كله، والدنيا في عقيدتنا هي الفرصة التي أتيحت لنا ليبلونا الله تعالى فيها أينا أحسن عملا؟ إن صيغة الحياة للأوروبي في عصوره الوسطى يمكن إيجازها كما يلي: إما الدنيا وإما الآخرة ولا اجتماع بينهما، فمدينة الأرض شيء مبتور الصلة بمدينة السماء، وأما صيغة الحياة عندنا فيمكن إيجازها فيما يأتي: لا بد للحياة الدنيا أن تمارس على أن تظل الآخرة هدفا أسمى، فكلتاهما خير، ولكن الآخرة خير وأبقى، والآخرة خير من الأولى، فهل هناك - إذن - في حياتنا وعقيدتنا ما يدعو إلى صيحة تقول: عليكم بهذا العالم فلا تهملوه؟! فإذا كنا قد رأينا أنفسنا وقد أهملناه بالفعل، وغفونا عنه، فأخذ منا الضعف والهزال والفقر والجهل، حتى أمسك الطغاة برقابنا، فإن ذلك لم يكن ناشئا عن عقيدة تحول بيننا وبين هذا العالم، بل كان لأسباب حضارية، وهذه الأسباب هي التي يجب أن نقلعها من أرضنا اقتلاعا.
تلك هي العلمانية، التي لم تكن تحتاج منا إلا أن نفتح لها العين، فإذا هي جزء من حياتنا، ومقوم جوهري من مقومات تاريخنا في فترات عزه ومجده، فمن الذي يحاربه أولئك الذين ركبوا جيادهم، وحملوا قسيهم ورماحهم؛ ليقاتلوا «العلمانية» حتى يقتلوها؟ أيحاربون عصر الرشيد والمأمون، الذي نشطت فيه الحياة الدنيا بقوة نبضها، والتي هي في الوقت نفسه الزهرة الحضارية والثقافية التي نشير إليها حين نريد أن نقول للناس: انظروا كيف ازدهرنا؟
ولست أبالي إذا كان في صدور الدعاة إلى «العلمانية» (بفتح العين) في أيامنا غل يخفونه وراء ستارها؛ لأنهم إن كانوا كذلك، فلنحاربهم في أشخاصهم، ولا نحارب الدعوة إلى الاهتمام بالعالم، لأن العالم هو مسرح العمل والنشاط وموطن الحضارات، وإلا فأين تريدوننا أن نقيم للحضارة على أرضنا قائمة؟
وإذا كانت مقاومة من يقاوم العلمانية بفتح عينها مصيبة، فالمصيبة أعظم فيمن يقاومونها بكسر العين؛ لأن عينها إذا كسرت، كانت الإشارة عندئذ إلى العلم وإلى الحياة التي تقيمها العلوم، فهل يرضيكم - أيها السادة - أن نزرع أرضنا بغير علم، وأن ندير مصانعنا بغير علم، وأن ننشئ مدارسنا وجامعاتنا لغير العلم، وأن نعد عدتنا العسكرية بغير العلم؟ هل يرضيكم - أيها السادة - أن نمحو أسماء العلماء من تاريخنا، فلا يكون فيهم بعد اليوم جابر بن حيان ولا الخوارزمي ولا ابن الهيثم ولا ابن النفيس؟ وإذا رأيتم في هؤلاء وأمثالهم مواضع فخر لأنهم رجال أقاموا للعلم قوائمه، فلماذا لا تريدون لأحفادهم المعاصرين أن يعيدوا سيرتهم الأولى؟ لا، محال أن يكون هذا هو ما تبتغونه، ومحال أن تكون سهامكم موجهة إلى العلم في حياتنا، وإذن فماذا يبقى للعلمانية - إذا كسرت عينها - لتحاربوه، ومرة ثانية أقول إنني لا أبالي أن يكون في صدور الدعاة إلى العلمانية بكسر عينها، شر مكتوم يريدون به حياتنا الدينية، على افتراض جاهل منهم بأنه إذا كان علم فلا دين! فقد ذهبت عن الناس غفلة استبدت بهم حينا طويلا من الدهر في بلادنا وفي بلاد الغرب كذلك حين لعب الشيطان بعقولهم فأوهمهم أن لا مصالحة بين علم ودين، فإذا قام أحدهما غاب الآخر، ذهبت عن الناس هذه الغفوة لأن الإنسان إنسان بدينه وبعلمه معا، وارجع إلى كتاب الله الكريم وإلى حديث رسوله - عليه أفضل الصلاة والسلام - وانظر في كم موضع يأتي الحض على العلم، بل إننا لنعرف ذلك جيدا، ونعيده ونكرره فيما نكتبه وما نذيعه في الناس، فقل لي بالله: من ذا الذي يحاربونه أولئك الذين يحاربون العلمانية وهي مكسورة العين؟ على أنني أود أن أضيف هنا أنه لا وجود في لغتنا - قديمها وحديثها معا - لهذه الكلمة، فدورانها على الأقلام - إذن - هو وهم يضاف إلى وهم، ليكتنف حياتنا وهم مركب.
إن الحياة الفكرية كما عاشها أسلافنا كان معظمها يدور حول محور نعرفه جميعا ونريده جميعا، ونعلمه لطلابنا، ونتحدث عنه في محاضراتنا، ونعرضه في مؤلفاتنا، وذلك المحور هو محاولة التوفيق بين العقل والنقل - كما كان يقال - أما العقل فكان المراد به هو ما ورد في الفلسفة اليونانية التي نقلوا الجزء الأكبر منها إلى اللغة العربية، وأما «النقل» فكان المراد به قريبا جدا مما نطلق عليه اليوم اسم «التراث»، ولكن أهم ما كانوا يقصدون إليه في «المنقول» هو الشريعة، فكان السؤال عندهم هو هذا: هل هناك تعارض بين ما جاء في شريعة الإسلام من جهة وما ورد في الفلسفة اليونانية من جهة أخرى؟ ولم يكونوا ليجيبوا عن سؤالهم هذا إجابة عشوائية، بل جاءت إجابتهم - أو قل إجابة الكثرة الغالبة منهم - نتيجة دراسة تحليلية دقيقة، وخلاصتها هي أنه لا تناقض بين الطرفين، فما تقوله الشريعة بلغتها هو هو نفسه ما تقوله الفلسفة اليونانية بلغتها، أعني أن الشريعة والفلسفة قد تضع كل منهما ما أرادت أن تقوله في مفاهيم تتناسب مع سياقها، لكننا إذا ما حللنا تلك المفاهيم عند هذه وعند تلك، وجدنا الحق واحدا بينهما، ولا غرابة فالحق لا يتعدد.
فإذا أردنا اليوم أن نصنع في حياتنا الفكرية صنيع أسلافنا؛ فكيف يكون ذلك؟ الإجابة عندي واضحة وضوح الشمس الساطعة، وهي أن تدور حياتنا الفكرية على المحور نفسه الذي دارت عليه حياة أسلافنا، وأعني النظر في موروثنا نظرة الدارس الفاحص، وأن ننظر فيما عند الثقافات الأخرى، لا سيما ما يكون منها عند صناع الحضارة الحديثة في عصرنا نظرة الدارس الفاحص كذلك، لنرى كيف يكون التوفيق بين الطرفين، إذا كان ذلك التوفيق ممكنا وحيثما وجدناه ممكنا، إن «أوروبا» بالنسبة إلى أسلافنا كانت هي اليونان القديمة، وثقافة أوروبا في ذلك العهد أيضا كانت هي ما عرفه أهل اليونان من فلسفة وعلم (وكان لهم أدبهم، لكن العرب غضوا عنه النظر)، فهل يتغير الموقف في جوهره، إذا كانت أوروبا قد مدت أجنحتها عبر الأطلسي، ليصبح الغرب هو أوروبا وأمريكا معا، ثم إذا كان لهذا الغرب في صورته الجديدة علوم ظهرت في صورة جديدة، تغاير علوم اليونان الأقدمين، وإذا كان له فلسفة حديثة قد لا تكون شبيهة كل الشبه بفلسفة اليونان الأقدمين؟ لست أظن أن شيئا في الموقف - مأخوذا بجوهره - قد تغير، وإذن يكون انتهاجنا نهج أسلافنا هو أن نلتمس صيغة ثقافية جديدة، نجمع فيها رحيقا إلى رحيق في إناء واحد.
فإذا كان هذا الجمع بين الرحيقين هو نفسه ما يطلقون عليه اسم «العلمانية» بعين مفتوحة، فأهلا بها، وإذا كان هو ما يسمونه بهذا الاسم بعين مكسورة، فمرحبا بها، إن الأسماء لا تسكنها العفاريت فأخشاها، إنني أخشى أو لا أخشى ذلك الذي تسميه تلك الأسماء، إذا وجدت في المسمى ما أخشاه، فهل أخشى أن يكون هذا العالم الجديد موضوعا لاهتمامي، في علومه وفي آدابه وفي فنونه، وفي كثير من نظمه. إن حياة الحي هي أن يتفاعل مع ما يحيط به، أخذا وعطاء، فما الذي يخيفني من العلمانية، فتحت عينها أو كسرت، إنه بفتحها تكون دعوة إلى الاهتمام بعالمنا الذي نعيش فيه، وبكسرها تكون دعوة إلى العلم، وكلتا الدعوتين معلنتان في عقيدة الإسلام وشريعته.
لست ألزم أحدا بأن يستعين في حياته الفكرية بالعادات التي نشأت أنا عليها في حياتي الفكرية، ووجدت فيها عونا كبيرا في زيادة الوضوح وحسن الفهم، ومن تلك العادات أن أطالب نفسي، إذا وجدتني أمام فكرة فيها بعض الغموض، بالبحث عن شخص بعينه أو موقف بعينه، يجسد تلك الفكرة المراد توضيحها، وكثيرا ما أوفق في ذلك فتتحول الفكرة المجردة إلى إنسان معين أعرفه وأعرف خصائصه ومميزاته، فينزاح عن الفكرة المجردة تجريدها، وعن الفكرة الغامضة غموضها، فمن الذي أراه - يا ترى - يجسد لنا بشخصه المتعين ذلك الضرب من اللقاء بين تراثنا ومنتجات عصرنا في دنيا الفكر؟ إن أول من يرد إلى خاطري كلما ألقيت علي هذا السؤال: هو طه حسين، فإلى جانب مؤلفاته ذات القيمة الكبرى، أرى في شخصه ما هو أهم منها فيما نحن الآن بصدد الحديث فيه، وأعني بذلك طريقته في الجمع بين موروثنا وروح عصرنا، أما موروثنا فلا أظن أحدا يجادل في سعة إلمامه بذلك الموروث، إلماما فيه الدقة وفيه الفهم، وأما روح العصر فظاهر في منهجه وفي رؤيته وتصوره، والآن فلنعد إلى موضوعنا لنسأل: هل كان طه حسين «علمانيا» بفتح العين أو بكسرها، من الناحية التي يراها المهاجمون بلاء يشين من صاحبه، إنه رجل كان موفور الحظ في العلم، وشديد الميل إلى التفاعل مع عالمه، فهل تدرجه هاتان الصفتان فيما يراه المتشنجون حقيقا بأن يقاوم حتى يزول.
وأسوق مثلا آخر لرجل جمع في شخصه الحسنيين، وربما كان أبعد من طه حسين عن إثارة القلق، وهو الشيخ مصطفى عبد الرازق، فهو الآخر يلم بالموروث إلماما يجعل ذلك الموروث على أطراف أصابعه، وهو في الوقت نفسه يحيط بأهم ما دار في عقول علماء الغرب، في ميدان تخصصه، وهو لم يضع هذا إلى جانب ذاك، كما نضع مصوغات الذهب إلى جوار مصوغات الفضة في صندوق، بل مزج الجانبين في نفسه وتكون له من المزيج منهج ورؤية وتصور. فهل هذه الوقفة المتزنة تدرجه في «علمانية» مفتوحة العين أو مكسورتها، بالمعنى السيئ الذي يهاجمه المهاجمون؟ إنني - حقا وصدقا - لا أدري ، ولقد أنباني من أنباني أن كاتبا مصريا من هؤلاء المجاهدين قد ذكرني في صحيفة عربية، أعني صحيفة مما يصدر في بلاد الخليج ، فقال عني إنني واحد من هؤلاء العلمانيين، وليتني أسمع منه ما يوجهني إلى موضع الخطأ مني لأصححه، أهو أني ألممت بأطراف من موروثنا وبأطراف من نتاج العصر ومزجت الجانبين معا في صيغة واحدة؟ لو كان الأمر كذلك، إذن فهو تشريف لا أستحقه ومكانة لا أدعيها.
إننا إذا عدنا بالذاكرة إلى المناخ الفكري في عصورهم الوسطى، لرأينا أن النموذج المجسد الذي يوضح ذلك المناخ، والذي كان هو نفسه النموذج الذي جاءت نهضة أوروبا لتطيح به وتقيم مكانه نموذجا آخر، هو الراهب الزاهد، ومن هنا انبثقت الدعوة عند النهضة إلى «علمانية» تفتح الآفاق واسعة لينفتح للناس أمل في مستقبل جديد، وحدث بالفعل أن انبثق للأوروبيين في نهضتهم نموذج بشري آخر، هو الذي وضعناه فيما أسلفناه، وقد يدهش الأخوة المهاجمون لما يسمونه بالعلمانية إذا عرفوا أن ذلك النموذج الجديد الذي ولدته النهضة الأوروبية ليحل محل الراهب الزاهد كان من أهم ما يتميز به في بناء ثقافته الجديدة العودة إلى الأدب الكلاسي عند اليونان الأقدمين! والعجيب الذي يلفت النظر هو أنهم اعتبروا إحياء الأدب الكلاسي ذلك «رومانسية» تثير الخيال في مبدعاتهم الجديدة، فالعلماني بالمعنى الذي عرفه أصحابه لا يعني التنكر للموروث، بل العكس هو الصواب؛ لأن إحياء ذلك الموروث يتضمن عدة معان يكون العلماني علمانيا بها، فهناك جانب الانتماء، وهناك جانب الخروج من صوامع الرهبان.
ليس في كل ما قدمته إليك هنا دفاع عن أحد ولا هجوم على أحد، ليس فيه تشيع لمذهب وتنكر لمذهب، وإنما قصدت إلى هدف واحد، هو أن يكون المدافعون عن «العلمانية» بيننا، والمهاجمون لها، أكثر حرصا على أن يتثبتوا ليعلموا عن أي شيء يدافعون أو يهاجمون.
الفصل السابع عشر
سلطان الكلمات
وعلم آدم الأسماء كلها (سورة البقرة)، يذكر ابن جني هذه الآية الكريمة في سياق حديثه في الجزء الأول من كتابه «الخصائص»، ثم يجيء في تعليقه هذا التساؤل: وماذا عن الأفعال والحروف من مفردات اللغة؟ وكتاب «الخصائص» هذا، أي خصائص اللغة العربية، يكاد ينفرد وحده في التراث العربي كله ، من حيث تناوله للغة العربية تناولا هو أقرب ما يكون لما يصح تسميته ب «فلسفة» اللغة، دون أن يورد المؤلف في كتابه الضخم هذه الصفة لما يكتبه، فلعلك تعلم أننا حين نضيف اسم «الفلسفة» إلى أي جزء من أجزاء المعرفة، كأن نقول - مثلا - فلسفة التاريخ، فلسفة العلم، فلسفة الفن، فلسفة السياسة، فلسفة اللغة، فإنما نعني البحث عن المبادئ الأساسية العامة، الكامنة وراء مجموعة القواعد والقوانين الخاصة بالموضوع الذي نتحدث عنه، فاللغة - مثلا - لها قواعد تضبط استعمالها استعمالا صحيحا كقواعد النحو وقواعد الصرف وقواعد الاشتقاق، وهكذا، فيكون السؤال هو: ما هو المبدأ أو المبادئ التي انبثقت منها تلك القواعد؟ فإذا وقع الباحث على ذلك المبدأ، أو على تلك المبادئ، كان ذلك هو ما يؤلف «فلسفة» اللغة، وكتاب «الخصائص» لابن جني هو أوفى ما عرفه الفكر العربي في هذا السبيل، وكان من بين أسئلته المطروحة ذلك السؤال الذي أسلفت لك ذكره، والذي جاء تعليقا على الآية الكريمة
وعلم آدم الأسماء كلها ، وماذا عن بقية مفردات اللغة من أفعال وحروف؟
ولعل ما دعا ابن جني إلى سؤاله هذا هو أن تكملة الآية الكريمة تدل دلالة واضحة على أن المقصود ب «الأسماء» هو أسماء الكائنات العينية على اختلافها؛ إذ تقول الآية الكريمة:
وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة ، وكلمة «عرضهم» تدل على أن المسميات بتلك الأسماء تشمل الكائنات العاقلة، والذي عرض على الملائكة بعد أن علم الله آدم الأسماء كلها هو مسميات تلك الأسماء، ليطلب منهم أن ينبئوه بأسمائها، فإذا كانوا لا يعلمونها ويعلمها آدم - عليه السلام - كان ذلك بمثابة البيان عن بعض العلة التي لا تجعل الملائكة أحق بالخلافة ممن استخلفه الله سبحانه وتعالى، فقد اختص الله آدم بتعليمه ما لم تعلمه الملائكة، فإذا كان الذي علمه آدم - عليه السلام - هو «الأسماء» فهنا يجيء سؤال ابن جني: وماذا عن الأفعال والحروف؟ وعند قراءتي لهذا الجزء من أقوال ابن جني علقت عليه في مذكراتي، بكل التواضع الذي لا يسمح لي بأن أجعل لنفسي قدرا أكثر من قدري، وكانت خلاصة تعليقي هي أن ابن جني قد نظر إلى المسألة من زاوية علم النحو، ولما كانت مفردات اللغة - من هذه الزاوية - تنقسم ثلاثة أقسام: اسم، وفعل، وحرف، فقد حق له أن يطرح سؤاله عن الأفعال والحروف ماذا كان شأنها، إذا كان الله سبحانه وتعالى قد علم آدم - عليه السلام - «الأسماء كلها»؟
لكن السؤال لم يكن لينشأ لو أن ابن جني نظر إلى الموقف من زاوية «منطقية» لا من زاوية «علم النحو»، فمن زاوية المنطق الخالص يمكن اعتبار كل كلمة من كلمات اللغة «اسما» له مسماه الخاص به، فالفعل «يكتب» - مثلا - هو اسم يطلق على نشاط حركي نعرفه جميعا إذا ما رأينا كاتبا ممسكا بقلمه، يحركه على الصورة التي نعرفها عن الكتابة. ولولا أن أبناء اللغة المعينة قد تعلموا في لغتهم ماذا يطلقون على تلك الصورة الحركية من ألفاظ لما فهم بعضهم عن بعض حين يستخدم المتكلم اللفظة الدالة على فعل الكتابة. فلا فرق بين أن يعرف أبناء اللغة العربية - مثلا - أن يكون اسم الأداة المعينة هو «قلم» وبين أن يكون اسم الصورة الحركية المعينة هو «يكتب»، وكذلك قل في «الحروف»، فالحرف دال على «علاقة» معينة بين الأشياء، فإذا قلنا إن الكتاب «على» المكتب، كانت كلمة «على» في هذه الجملة مشيرة إلى «العلاقة» بين الكتاب والمكتب، ومرة أخرى أقول إنه لا فرق بين اسم نسمي به كتابا واسم آخر نسمي به علاقة معينة بين ذلك الكتاب وغيره من الأشياء، على أن قولي هذا لا ينفي ما يكون بعد ذلك من فوارق بين النوعين من أنواع اللفظ من حيث الطبيعة المنطقية لكل منهما على حدة، والمهم هنا أن ألفاظ اللغة جميعا، أسماءها وأفعالها وحروفها، هي - من زاوية ما - أسماء كلها، برغم ما هنالك من اختلافات بين الحقائق الواقعية التي يسميها كل نوع منها.
فإذا كانت الآية الكريمة تنص على أن الله سبحانه وتعالى علم آدم «الأسماء» كلها، فهنالك وجه بأن تفهم على أنه - سبحانه - قد علمه «اللغة» بكل مقوماتها، فضلا عن تعليمه «طبائع» الأشياء التي تشير إليها تلك الأسماء؛ إذ الأسماء بغير معرفة مسمياتها تفقد دلالاتها، وإنه لمما يرجح لنا أن نأخذ الأسماء على أنها تعني مقومات اللغة جميعا، كما قد تعني كذلك الاستعداد الفطري لتعلم اللغة، وهو استعداد يميز بني آدم دون سائر الأحياء، أقول إنه مما يرجح لنا هذا الفهم الأوسع أن مفردات الأسماء، مهما بلغ عددها، لا تتضمن عملية «التفكير»، أو «العقل»؛ وذلك لأن عملية التفكير إنما تبدأ حين نربط اسمين أو أكثر برباط يجعل منهما جملة تحمل حكما ما، أي تحمل فكرة ما، فإذا نطقت بلفظة «كتاب» وحدها، وبلفظة «مكتب» وحدها، فلا جملة هناك، وبالتالي فلا فكرة، أما إذا ربطت الاسمين برباط دال على علاقة بينهما فنقول - مثلا - الكتاب على المكتب، فقد أصبح عند السامع صورة متكاملة يمكنه أن يتصرف على أساسها إذا أراد، وقل هذا في كل فكرة عند إنسان.
ولقد طال بي التمهيد الذي أردت به أن أهيئ ذهن القارئ لما قصدت إلى عرضه، والذي قصدت إلى عرضه هو بدوره مستمد من آيات قرآنية كريمة، وأعني الآيات التي أشارت إلى ما أراده الله سبحانه وتعالى من أن يكون لبعض الأسماء «سلطان»، قال تعالى في سورة يوسف:
ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ، وقال تعالى في سورة النجم:
إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ، وقال تعالى في سورة الأعراف:
أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان ، فهذا كله قد يعني فيما يعنيه أن الإنسان ربما استخدم اللغة على نحو يجعلها بغير «سلطان»، أي بغير قوة، وقوة اللغة إنما تكون في دلالتها، وفيما تثيره تلك الدلالة عند السامع من نزوع نحو أن يؤدي عملا ما، فألفاظ اللغة، مفردة أو مركبة في جمل، تتفاوت تفاوتا بعيد المدى بين من يستخدمونها، من حيث قدرتها على التعبير من جهة القائل وعلى التعبير من جهة المتلقي، وإنني لعلى عقيدة بأننا إذا ما درسنا حالة اللغة وطرائق استعمالها في أمة معينة، إبان عصر معين من عصور تاريخها، استطعنا أن نستدل على مقدار النشاط الإيجابي المنتج في حياة تلك الأمة، من صور اللغة التي استخدمها أبناؤها فيما كتبوه، وذلك لأن طريقة استخدامك للغة في محاولة التفاهم مع الآخرين، تحمل في طيها الدلائل على مقدار «القوة» الكامنة فيها، وأعني بتلك القوة قدرتها على استحداث التغير عند من يتلقونها، وهذا التغير قد يقف عند حد الاستنارة العقلية، وقد يتعدى تلك الاستنارة إلى ما يترتب عليها من ضروب الفعل.
وفي هذه المناسبة أروي عن بحث علمي كنت قد اطلعت على تفصيلاته وأفدت منه فائدة كبيرة، وهو بحث تجريبي قام به أستاذ علم الاجتماع في جامعة هارفارد، أراد به الباحث أن يعرف مدى الارتباط بين المادة التي يقرؤها أطفال المدارس في مطالعاتهم المقررة وبين ما يكون عليه المجتمع، ازدهارا أو ذبولا، عندما يكون هؤلاء الأطفال قد أصبحوا هم الرجال والنساء الذين على عواتقهم تقوم تبعات الحياة، فالارتباط الذي بحث عنه الباحث، وهو بين اللغة المقروءة في عهد الطفولة وبين ما يصيب المجتمع من تقدم أو تأخر، بعد ذلك العهد بنحو ثلاثين عاما، وكانت الطريقة التي اتبعها الباحث في دراسته تلك هي أن اختار من التاريخ الأوروبي فترات ازدهار وفترات انكماش، ثم ارتد بالسنين في كل فترة من تلك الفترات المختارة نحو ثلاثين سنة ليستعرض بالتحليل العلمي الدقيق ما كان يقرؤه أطفال المدارس عندئذ، وما هو إلا أن خرج من بحثه بنتائج فيها من الصواب رجحان حاسم، ومؤداها أن الارتباط قوي بين القراءة الحاثة بمضمونها على روح النشاط والابتكار والطموح، وبين ما يظهر بالفعل في حياة الناس العملية من تلك الصفات، بعد فترة القراءة لهؤلاء الأطفال، بمدة يصبحون بعدها هم الممسكين بالزمام في حياة المجتمع.
للكلمات كل هذا السلطان على عقول البشر؛ لأن الكلمات هي نفسها الأفكار، لا انفصال فيها بين مبناها ومعناها، وأقول ذلك لأني أعلم الخطأ الشائع بأن الكلمات كالأوعية الفارغة، التي قد تأتي لها المعاني فتملؤها، أو لا تأتي فتظل فارغة، أبدا ليس هذا هو حقيقة الأمر، فالكلمة تحتوي على معناها كما تحتوي الزيتونة على زيتها، أو كما تحتوي الوردة على أريجها، إذا فصلنا الزيت عن الزيتونة لم تعد زيتونة، وإذا فصلنا العطر عن الوردة لم تعد وردة، والذي يحدث - تقريبا - هو أن الزيتونة تترجم نفسها إلى زيت والوردة تترجم نفسها إلى عطر؛ وهكذا الحال في الكلمات ذات السلطان أو ذات القوة الدلالية حين تترجم نفسها إلى عمل، لولا أن الزيتونة والوردة تفنيان بعملية التحول كما تفنى دودة القز في شرنقة ثم في خيوط الحرير، فأما الكلمات فتظل محتفظة بسلطانها، لتتحول إلى عمل مرة ومرة وألف مرة، ما وجدت في الناس من يستجيبون لسلطانها، لكن هناك ما يشبه الكلمات وليس منها لأنها كلمات خاوية تستعصي على عملية التحول من حالة اللفظ إلى حالة العمل؛ لأن جوفها خواء ولا أشبه جوفها الفارغ هذا بجوف الطبلة كما تعود كثيرون أن يفعلوا؛ لأن تجويف الطبلة الفارغ هو أمر مقصود فيها لتؤدي وظيفتها حين يقرعها الطبال، وأما الكلمات الجوفاء فتصنع في نفسها ما لا يراد لكلمات اللغة أن تصنعه؛ إذ أريد بتلك الكلمات دائما أن تكون مثقلات بالفحوى، الذي من شأنه في الحالات السوية أن يغير من المتلقي قليلا أو كثيرا، ونحن هنا إنما نعني - بالطبع - كلمات اللغة حين تبنى في جمل؛ لأنها وهي مفردات، تشبه المادة الخام قبل تصنيعها.
رسالات السماء كلمات، ورسالات المصلحين من البشر كلمات، والعلوم كلمات، أو هي رموز كالكلمات، مبدعات الشعراء والأدباء الناثرين كلمات، لكن الكلمات في تلك الحالات كلها إنما هي من ذوات السلطان، تجيء وفيها من القوة ما يدفع الناس دفعا إلى مجاهدات ومغامرات، ومنشآت تنسج خيوطها بعضها مع بعض لتصبح آخر الأمر هي ثقافة الإنسان وحضارته، وبين الثقافة والحضارة ما بين الروح والجسد ، فالحضارة منشآت تراها الأبصار وتمسها الأيدي أدت إليها ثقافة تسري فيها بقيمها وأذواقها ومعتقداتها سريان الروح في الجسد، فترى الجسد ناشطا بفعلها ، لكنك لا تراها، فإذا سألتني: ومتى تكون جملة الكلمات ذات سلطان على الناس؟ أجبتك بقولي: انظر إليها كم تحرك بها الناس نحو أن يغيروا ما بأنفسهم ليغير لهم الله ظروف معاشهم، فإذا وجدت الجملة قد وقعت بكلمات على صمم، فقل عنها إنها قد كانت - لأمر ما - كالهباء يسقط على الأجساد فلا تحسه الأجساد، فالكلمات بنتائجها، وأذكر أن ابن جني الذي حدثتك عنه وعن كتابه في خصائص اللغة العربية منذ حين، أذكر أنه قد فرق لنا بين «القول» و«الكلام»، بأن القول تتحرك به الشفاه، سواء أكان له أثر يدوم في حياة الناس أم لم يكن، وأما «الكلام» فهو من الأصل اللغوي نفسه الذي منه جاءت لفظة «كلم» (بتسكين اللام) وهو الجرح، والمكلوم هو الجريح، فالكلام هو الذي يحز الجلود حزا ليدوم له في حياة الناس أثرا، وليترتب عليه - بالتالي - فعل يغير من صورة تلك الحياة.
وهنا أشعر بضرورة التنبيه إلى أن مجموعات الكلمات ذوات السلطان في تغيير الحياة، ليس كلها من نوع واحد، ففيها ما سلطانه مباشر على ما يراد استحداثه وتغييره، وهذه هي العلوم، أو ما يدور مدارها من ضروب الكلام الذي تنصب دلالته على دنيا الواقع انصبابا مباشرا، ولكن منها كذلك ما يفعل فعله بطريق غير مباشر، وتلك هي مبدعات الأدب أو ما يسير مسارها؛ لأن العمل الأدبي كقصيدة الشعر أو الرواية، غايته هي أن يترك عند المتلقي «انطباعا» من شأنه أن يميل به على المدى القصير أو المدى البعيد نحو أن يكون لنفسه «اتجاها» معينا نحو الحياة وأوضاعها، ولكي أزيد الواضح وضوحا بمثل أقدمه أقول: قارن مهندسا في تخطيط المدن وهو يجري تغييرات جغرافية على بعض شوارع القاهرة، قارنه بأديب يكتب عن سلوك القاهريين نحو مدينتهم ليتبين القارئ مقدار ما يكنه أهل القاهرة من ولاء نحو مدينتهم، فبينما المهندس يغير بعلمه ما يريد تغييره على أرض القاهرة في مدة يعرف حسابها، ترى الأديب - إذا كان موفقا - يعرض على قارئه صورة يرسمها في روايته - مثلا - لحياة الناس كما تقع فيتأثر القارئ بما قرأ، ويختزن في نفسه ذلك الأثر لينضاف إليه أثر ثان من عمل أدبي آخر، وأثر ثالث ورابع، فتنسج من هذه التأثرات «حالة» وجدانية، قد يشتد بها ضيقا فيتحرك ضميره ليغير من سلوكه نحو مدينته، فكلمات العلم عند المهندس وكلمات الأدب عند الأديب، كلتاهما من ذوات السلطان، إلا أن الأولى تفعل فعلها - كما أسلفنا - مباشرة، والثانية تؤدي عملها مرورا بأنفس القراء وتحولها التدريجي نحو «اتجاه» جديد.
وربما يكون من المفيد في توضيح الصورة العامة التي أود لها أن ترسخ في الأذهان أن أقول: صور لنفسك هذا العالم الذي نحيا بين جنباته وكأنه صفحتان منشورتان بين يديك، إحداهما هي الكون بكل ما فيه من كائنات والأخرى هي مجموعة الكلمات التي أثبتها الإنسان على طول تاريخه في كتب وصحف وما شئت أن يكون مضافا إليها مجموعة الألفاظ التي تدور بها الأحاديث بيننا، فعلى يسارك أشياء وظواهرها، وعلى يمينك رموز لغوية أو ما يشبهها من رموز العلوم. ثم وجه إلى نفسك هذا السؤال: متى أحفل ومتى لا أحفل بما هو موجود في هذه المجموعة الضخمة من المركبات اللفظية التي تملأ الصحف والكتب وتجري على ألسنة الناس أحاديث يتبادلونها بعضهم مع بعض؟ فبماذا تجيب عن سؤالك هذا؟ أما أنا فأجيب لك عنه، وأقول إن المعول فيما أحفل به وما لا أحفل به هو مقدار علاقة المركب اللفظي الذي على يميني بالأشياء وظواهرها (وبينها الإنسان نفسه) التي على يساري فإذا وجدت في دنيا اللفظ كلمات بث فيها سلطان تقوى به على تثبيت الصالح وتغيير ما عداه حتى يصلح احتفلت بها لأنها هي الأداة الفعالة التي أسلح نفسي بها عند مواجهتي لأجزاء العالم الذي أعيش فيه، أما إذا وجدت في دنيا اللفظ مركبات لا تقوى على أن تغير لي شيئا أو على أن تثبت لي ما أريد له أن يثبت؛ أدرت لها أذنا صماء إلا أن أجريها في ساعات اللهو دردشة ألغو بها مع من ألغو في ساعات السمر.
ولكن لماذا قلت كل هذا الذي قلته؟ فعلت ذلك لأثير في نفسك - أيها القارئ - شيئا من الخوف كالخوف الذي ثار في نفسي من أن يكون بين العلل الكبرى التي أدت إلى كثير من مواضع النقص في حياتنا أن إحدى الصفحتين في دنيانا، وهي صفحة المركبات اللفظية التي نكتبها ونقرؤها لا تمس الصفحة المقابلة لها، وأعني عالم الأشياء وظواهرها إلا مسا رقيقا، فبحر الألفاظ منبسط فسيح نسبح فيه ونبلبط في لهونا وجدنا معا، وعالم الأشياء وظواهرها قائم هناك على يسارنا لا نغير منه إلا القليل، ولا تغضب أيها القارئ لهذا القول ولا تقذفه متسرعا بتهمة التشاؤم؛ لأنني لو كنت متشائما ليئست وتركت القلم في علبته، لكنني أكتب وأتحمل الصدمات.
أراد الله تعالى للإنسان أن «يقرأ» أولا ليجيء إيمانه على ضوء ما قرأه إيمانا بصيرا، وذلك رمز يراد به أن تكون للمعرفة منزلة أولى حتى يكون الإيمان إيمان العارفين، فالكلمات ذوات السلطان هي كالمصابيح ويجيء الإيمان الصحيح على هداها، فإذا رأينا من يعكس ترتيب الخطوات أدركنا أنه قد ضيع على نفسه نور المعرفة وقوة الإيمان معا، ولم يبق له إلا طيبة قلبه، وليكن واضحا أنني قصدت بهذا الترتيب الأولوية المنطقية لا الأسبقية الزمنية، بمعنى أنني قد أبدأ مع طفلي الصغير ببث روح الإيمان في قلبه، أملا أن يعود في المرحلة المناسبة من عمره فيعمل على كسب المعرفة التي يقيم عليها صرح إيمانه، ولقد روى لنا التاريخ الأوروبي قصة صدام نظري عنيف حدث في أوروبا عند لحظة من أولى لحظات التحول مما يسمى في تاريخهم بالعصور الوسطى إلى ما يسمى في تاريخهم أيضا بالعصور الحديثة، وأعني بها تلك المعركة الفكرية التي دارت بين «أبيلار» وخصومه، والتي تتلخص في قول هؤلاء الخصوم بأن الإنسان لكي يعرف لا بد له أن يؤمن أولا. فكانت صيحة أبيلار هي أن العكس أصوب إذ لا بد للإنسان من أن يعرف أولا لكي يؤمن مستندا في إيمانه إلى عقل مستنير.
وكان أول ما نزل من القرآن الكريم هو قوله تعالى:
اقرأ ، ولعل في ذلك ما يتضمن وجوب أن تكون المعرفة الصحيحة أساسا للإيمان الصحيح، ويبقى أن نسأل: معرفة ماذا؟ فنجيب على هدي القرآن الكريم: معرفة خلق السموات والأرض وما بينهما، وهنا أعود بك إلى ما صورته لك من صفحتين واسعتين منشورتين بين يديك: صفحة الكلمات من جهة، وصفحة الكون وكائناته من جهة ثانية، والحياة المثلى هي أن تكون الكلمات موصولة بالكون ليكون لها على الأشياء سلطانها.
الفصل الثامن عشر
شيء من روح العصر
كان حديثنا أجمل ما يكون الحديث وأنفعه، تضافرت فيه الفكاهة والجد، ثم الجد والفكاهة، لم نقطب له الجباه، ولم نزم له الشفاه، تفتحت لنا فيه جوانب الموضوع وتفريعاته من تلقاء نفسها، كأنما هو دفتر نشر بين أيدينا، وأخذت تقلب ورقاته أصابع خفية، ونحن نطالعها صفحة بعد صفحة بغير عناء، لم ينفعل خلاله أحد في أحد، ولم يغضب أحد من أحد، برغم ما اتسعت به هوة الخلاف في الرأي بيننا، وقد جرى حديثنا كالكرة يتلقفها لاعب من لاعب، متجهة في حركتها نحو هدف تصيبه آخر الشوط، فكلماتنا كانت تنساب من شفاهنا هادئة خافتة سلسة، لا شد فيها ولا جذب، ولا ضغط على حرف هنا ولا ارتفاع لحرف هناك، وكأنه لم يكن طي حروفها قضية فكرية ضخمة، أثيرت بيننا ولبثت مدارا لحديثنا.
ولقد ألقت تلك القضية الضخمة بثقلها بين أيدينا، حين بدرت من أحدنا لفظة «التخلف» يصف بها حياتنا في مصر، فأسرع سائل منا إلى السؤال: وما مقياسك فيمن تقدم ومن تخلف؟ أين هو الموقع الذي يقترب منه المتقدم ويبعد عنه المتخلف؟ فما هو إلا أن تفرع بنا الحديث بحثا عما نجيب به عن هذا السؤال، وكلما تقدمنا بالتحليل خطوة تفجرت لنا على الطريق انحناءات وثنايا لم تخطر لنا أول الأمر، فهل يكون الفارق بين متقدم ومتخلف في هذا العصر مقدار ما يملك من علم، أو مقدار ما يملك من سلاح، أو هي نقطة واحدة تلتقي عندها قوة العلم وقوة السلاح معا؟ بمعنى أن من ازداد علما في عصرنا ازداد في الوقت نفسه قدرة على ابتكار السلاح الأحدث والأقوى، ولاحظ أنني أكرر عبارة «في هذا العصر»؛ لأن معيار التقدم والتخلف لم يكن هو نفسه المعيار في كل العصور، بل كان لكل عصر مناخه الثقافي الخاص، الذي يوحي بالفارق بين الحالتين ماذا ينبغي له أن يكون، ولكننا هنا ندير الحديث حول عصرنا ومقاييسه في درجة التحضر ارتفاعا وانخفاضا.
ولم تكن قوة العلم وقوة السلاح وحدها ما قد عرضناه معيارا للتقدم والتخلف، بل تزاحمت أمامنا المعايير أشكالا وألوانا، وكلها وارد، فهنالك من يجعل المقياس مستوى العيش، أو مقدار الطاقة المستهلكة، على اختلاف أنواعها: بترولية، أو كهربائية، أو ذرية، أو غيرها، على اعتبار أن مقدار الطاقة المستهلكة مؤشر يبين اتساع النشاط الصناعي وغزارته، وهناك من يقول ومن يقول ... آراء مختلفة لكنها ليست متعارضة في أغلب الحالات؛ لأنها في الحقيقة متشابكة بعضها مع بعض على نحو يجعل الرأي منها تترتب عليه بقية الآراء، لكنك لا تعدم أن يصادفك رأي يتفرد بشذوذه، فلا هو يترتب على غيره، ولا هو من شأنه أن يلد لنا رأيا، كأن تجد من الناس من يقول إن التقدم معناه السير إلى الوراء.
استغرق هذا النقاش فيما يصلح أن يكون معيارا للتقدم والتخلف وقتا طويلا، حتى رسونا جميعا على مرفأ ارتضيناه، هو أنه ما دامت العصور المختلفة قد تباينت في معاييرها؛ فينتج عن ذلك وجوب أن يكون لعصرنا معياره الخاص المتوائم مع حضارته وثقافته، وهذا بدوره يستتبع أن نبحث في هذا العصر نفسه عما ينفرد به - نسبيا - دون سائر العصور؛ فإذا وقعنا عليه، كان لدينا بذلك أساس متين نقيم عليه المعيار، لكن هذا الجانب من موضوع الحديث، وأعني خصائص عصرنا، ما نكاد نفتحه حتى تنفتح أمامنا متاهات هيهات لنا أن نعرف أين تبدأ وأين تنتهي، ولم يكن في وسعنا إلا أن نختار خصيصة واحدة من خصائص العصر، التي لا تجد بين الناس إنسانا يعجز عن أن يذكر لك بعضها عفو الخاطر.
وسادت بيننا لحظة صمت، كان كل منا يدير فكره يقع لنا على المميز الذي نختاره مدارا لما بقي لنا من حديث، وكان أن فتح الله على كاتب هذه السطور بفكرة صادفت قبولا، هي فكرة وجد فيها الزملاء نقطة التقاء لعناصر كثيرة وهامة من مقومات هذا العصر، وهي في الوقت نفسه ليست شائعة ولا مألوفة بين الناس، مع أنها - في الحق - تضرب في أعماق الحياة العصرية حتى جذورها، وهي فكرة تبدأ من صفة تميز منهج البحث العلمي في عصرنا، ثم تمتد تطبيقاتها لتشمل ميادين أخرى واسعة ومتباينة، فمنها ما يمس الأدب والفن، ومنها ما يمس السياسة وغيرها.
فلقد كان المألوف في كل مناهج البحث العلمي خلال العصور السابقة جميعا أن تتميز الفكرة العلمية بصدقها صدقا مطلقا، لا تشوبه من عوامل الشك شائبة، ويكفي أن نضرب مثلين في سرعة وإيجاز، وهما موقفان في تاريخ الفكر، كان لكل موقف منهما أثره البعيد العميق لعدة قرون جاءت بعده. أولهما هو منهج الفكر العلمي كما صاغه أرسطو قديما، ولبثت له السيادة من بعده نحو عشرين قرنا، أي إنه امتد من عهد اليونان القديمة حتى النهضة الأوروبية في نحو القرن السادس عشر، وذلك هو «المنطق» الأرسطي، الذي كان عند أسلافنا العرب شرطا لا بد من توافره فيمن يعد من جماعة المثقفين، ويندر جدا أن تجد فقيها أو لغويا أو عالما في ميدان الرياضة والفلك والكيمياء وغيرها، أو عالما في الطب، أو فيلسوفا، لم تكن دراسته لذلك «المنطق» ركنا أساسيا في بنائه العلمي؛ لأن ذلك المنطق الأرسطي كان هو «منهج» البحث العلمي خلال تلك القرون، وإن الدارسين لهذا الميدان ليعلمون مدى الدقة التي روعيت في ذلك المنهج حتى تجيء النتائج التي يصل إليها الباحث العلمي في موضوعه مضمونة الصواب.
والموقف الثاني الذي أسوقه من تاريخ الفكر هو موقف فلاسفة «المنهج» في مطلع النهضة الأوربية إيذانا بفاتحة عصر علمي جديد، وكان على رأس هؤلاء «ديكارت»، والدارسون في هذا الميدان - أيضا - يعرفون مدى العناء والدقة التي أراد بها الفيلسوف لمنهجه أن يكون هاديا إلى ما هو صحيح من المعرفة صحة مطلقة ، لا موضع فيها لشك، وكان محور ذلك المنهج الجديد وجوب أن يبدأ الباحث طريق سيره من فكرة يثبت صدقها ثبوتا قاطعا لكونها بسيطة لا تقبل التحليل من جهة، ولكون الإنسان من جهة أخرى يراها في دخيلته رؤية مباشرة، ولا بد لي في هذا السياق من الحديث أن أشير إلى أن «الغزالي» - قبل ديكارت بأكثر من خمسة قرون - قد عرض منهجا قريبا جدا من المنهج الديكارتي، وذلك في كتابه «معيار العلم»، من حيث أن تكون نقطة البدء في طريق السير عند الباحث العلمي أفكارا بسيطة لا تقبل التحليل، ويستنبطها الإنسان في طوية نفسه، فيراها رؤية مباشرة ويسميها الغزالي أفكارا «أولية»، ولكن كل هذه المناهج - كما ترى - منصبة على دنيا الأفكار التي تتوالد أو لا تتوالد داخل الدماغ، دون أن يكون شأنها بالدرجة الأولى انطباقها على عالم الأشياء والظواهر والحوادث، ولهذا نشأ في عصر النهضة الأوروبية كذلك منهج آخر يساير تلك المناهج الذهنية، ويغطي عالم الظواهر الطبيعية، على أن هذا وغيره يجعل المدار الأساسي هو إثبات ما هو صحيح بحكم البينات والشواهد.
وجاء عصرنا بلفتة جديدة في منهج البحث العلمي، خلاصتها أن يكون الأساس الأول في قبول فكرة ما على أنها علمية هو قابليتها لأن يحاول الباحث «تكذيبها»، وذلك لأن الاكتفاء بأن تكون نتائجنا صحيحة من حيث استخراجها من أفكار سبقتها، لا يضمن لنا في كثير أو قليل أنها ذات صلة بدنيا الواقع، فأنت تستطيع أن تستدل أوهاما من أوهام استدلالا تراعي فيه كل قواعد المنطق، فما الذي يفرق لنا بين فكرة موصولة بالواقع، وفكرة أخرى تولد في الأذهان وتقضي حياتها كلها، وكأنه لا واقع هناك يعيش فيه الذي يفرق لنا بين هذه وتلك، هو محاولة «التكذيب» بما نجريه عليها من تجارب علمية، فيكون ذلك بمثابة مصفاة لا ينفذ من ثقوبها تلك الأفكار التي هي أوهام، تبيض وتفرخ داخل الرأس ، حتى تصبح عالما زاخرا بكائناته الذهنية، فيقضي صاحبها سنوات عمره في ظلالها ناعم البال وهو لا يدري أنه إنما يقضي عمره في واد وموكب الحياة في واد آخر.
ذلك هو المبدأ المنهجي الذي تركز عليه الانتباه في عصرنا، ولما كان لكل عصر مناخ عام، في ظله تترابط أطراف الحياة كلها، سواء استطاعت أبصارنا العابرة رؤية تلك الروابط أو لم تستطع، كان لا بد أن نجد لهذا المبدأ العصري ما يصله بجوانب الحياة الأخرى، وأول ما يسترعي انتباهنا من تلك الروابط هو علاقة ذلك المبدأ المنهجي في البحث العلمي، والمبدأ الديمقراطي في الحياة السياسية، فكون الحقيقة العلمية لم تعد «مطلقة» كما كان الظن في الماضي، بل هي نسبية وقابلة للتصحيح، مضافا إلى ذلك افتراضنا المبدئي عن إمكان أن تكون خلوا من الصواب الذي يدرجها في مجموعة «الحقائق»، كل ذلك سرعان ما ينعكس في رؤية الناس لصاحب السلطان فهو - كالفكرة المرشحة لأن تكون فكرة علمية - إنسان فيه ما في البشر من قابلية الوقوع في الخطأ، وعلى هذا الأساس وجبت مراجعته ومساءلته وتصحيح أخطائه، فإذا لم يكن قابلا لهذا كله، لم يكن أمام الناس بد من إبعاده، تماما كما هي حالنا إزاء الأفكار المطروحة علينا، لنضيفها إلى الحقائق العلمية إذا كانت ثابتة الصدق أو نرفضها إذا تبين فيها الخطأ، إنه لضرب من المحال - أو قل إنه أمر يتعذر وقوعه - أن يظهر في عهود الحكم المطلق في مجال السياسة منهج في مجال العلوم يجعل الأولوية لافتراض الخطأ في الفكرة المعروضة حتى يثبت صوابها، فقبول الناس لحاكم مطلق غير خاضع لرقيب منهم أو حسيب يغلب أن يستتبع قبولهم كذلك ما يقال لهم متسترا بستار اللغة العلمية، وإنهم ليقبلون الأفكار التي يقدمها إليهم الحاكم المطلق، يقبلونها على أنها هي الأخرى صادقة صدقا مطلقا.
إننا إذ نقول عن عصرنا هذا إنه قد بدل في حياته العلمية منهجا بمنهج فكأننا قلنا كذلك - بصورة ضمنية - إن الناس في موقفهم من الحاكم قد بدلوا - كذلك - أساسا بأساس، فعلينا الآن أن نسأل عن طبيعة التغير الذي طرأ على النظرة العلمية المعاصرة لنرى تبعا لها طبيعة التغير الذي طرأ على صورة العلاقة الجديدة بين الشعب وحكومته، وهو تغير يقتصر - بالطبع - على من يحيون حياة فيها علوم ومناهجها، مبدعة وأصيلة، لا منقولة ومحفوظة.
ولعله كان من أهم ما حدث من تغير في وقفة العلم في عصرنا هو أن الباحث العلمي في ظاهرة معينة، محاولا أن يخلص إلى قوانينها، بعد أن كان سلفه يبحث عما هو «يقين» مثل يقين الرياضة تماما، قد أصبح يبحث عما هو «محتمل» الصواب؛ لأن يقين الرياضة لا يكون إلا في الرياضة أو ما يشبهها من ضروب الفكر، وأما الظواهر الطبيعية فلا تجيء قوانينها إلا في صورة احتمالية، لكنها ليست هي «اليقين» على كل حال، لماذا؟ لأن ما هو يقيني يقينا مطلقا - في العلوم الرياضية أو غيرها - إنما استمد يقينه ذاك من كونه لا يضيف معرفة جديدة يلتزم بصدقها بالنسبة إلى واقع الدنيا، وإنما هو يكتفي بتحليل معنى ما إلى عناصره الداخلة في تكوينه، لا بحكم الأمر الواقع، بل بحكم «التعريف» الذي اصطلح عليه أصحاب الشأن في مجال معين؛ فحين نقول في الرياضة - مثلا - إن «1 + 1 = 2»؛ فنحن نحلل ما نقصد إليه حين نستخدم عدد «2» تماما، كما يقول: إن الأعزب هو من لم يتزوج، فمصدر «اليقين» في هذه الحالة وكل ما يشبهها، إنما هو ما كنا قد اتفقنا عليه من «تعريف» وتجيء الجملة بعد ذلك لتفصح عما هو مضمر في المصطلح وفقا لتعريفنا له، فإذا قلنا عن الجملة التي من هذا النوع، إنها مبتدأ وخبر، كان الخبر فيها هو نفسه المبتدأ.
وأما في مجال العلوم الطبيعية؛ فالأمر فيها غير ذلك؛ إذ لا بد للخبر أن ينبئنا بشيء جديد عن المبتدأ (إذا جاز لنا استخدام مصطلحات النحو في هذا المجال) وما دام الموقف فيه إضافة خبر «جديد» على طبيعة الضوء - مثلا - أو طبيعة الصوت، أو طبيعة سمك القرش أو ما شئت من ظواهر الطبيعة وكائناتها، فأنت معرض للخطأ؛ لأنك مضطر إلى استخلاص الحقيقة التي تعرضها من «متوسطات» تحصل عليها من العينات التي تخضعها للبحث العلمي. ولقد جاءت «أجهزة» البحث في عصرنا (وهي من أهم ما خلع على عصرنا طابعه المميز) جاءت تلك الأجهزة لنزداد بها دقة في مقاييسنا التي نجريها في بحوثنا العلمية، فإذا أردنا - مثلا - قياس درجة الحرارة في مريض، أو قياس ضغط الدم أو ضربات القلب، واستخدمنا في ذلك الأجهزة الملائمة، وجدنا أولا أنه كلما ازداد الجهاز دقة تغير الرقم الذي يعطيه عن الظاهرة التي يقيسها، وثانيا أننا إذا قمنا بعملية القياس عدة مرات على الحالة الواحدة خرجت لنا أرقام بينها اختلافات يسيرة، فلا يكون أمامنا إزاء هذا إلا أن نستخرج «متوسطات»، وإذا قلنا «متوسطات» فكأننا قلنا إن الحقيقة التي نقدمها قائمة على «احتمال» الصواب بدرجة ما، لا على «يقين» ذلك الصواب، وكيف يكون الأمر في هذا «يقينا» إذا كان الجانب الكمي فيه لا بد أن يتغير قليلا مع اختراع أجهزة أكثر دقة؟
وماذا يعني هذا كله بالنسبة إلى موضوعنا؟ إنه يعني أن نظرة الإنسان المعاصر إلى «الحقيقة العلمية» قد دخل عليها وجوب المراجعة المستمرة، مع استمرار الزيادة في دقة الأجهزة العلمية، مما زحزحها عن منزلة «اليقين» التي كانت تحتلها فيما مضى، وبالتالي قد انعكست هذه النظرة على ميادين أخرى غير ميدان العلوم، كالنظم الاجتماعية وصور الحكم، فما قد كان منها يوصف باليقين المطلق، أخذ يتواضع ليصبح معترفا له باحتمال الخطأ وبضرورة مراجعته وتصحيحه تبعا لذلك.
وفي هذا السياق، الذي نريد فيه أن نربط ديمقراطية السياسة باحتمالية القوانين العلمية - في عصرنا - كما كان الحكم المطلق فيما مضى، قد صاحبته نظرة علمية تجعل الصواب مطلقا للقوانين العلمية، قد يتبادر في أذهاننا سؤال يقول: لكن كيف نربط صورة الحكم في عالم السياسة بصورة المنهج في دنيا العلم مع أننا نعلم أن منهج العلم واحد عند جميع من ينتجون علما، في حين تتعدد صور الحكم السياسي بين غرب وشرق في أوروبا وأمريكا، فضلا عن تعدد صوره في سائر بلدان العالم؟ والجواب هو أنه لما كانت نسبية العلم وما فيها من بعد عن تصور اليقين الرياضي تستتبع وجهة نظر تتلاءم معها في دنيا السياسة كذلك وأعني أنها تستتبع النظام الديمقراطي في الحكم، بدل نظام الحكم المطلق، فقد نتج عن ذلك ما نراه من تمسح أشد البلاد طغيانا في نظام حكمها في اسم «الديمقراطية»، حتى أصبح الناس في حيرة أين تكون الديمقراطية بمعناها الصحيح، إذا كان الجميع يدعونها، برغم ما بين الدول المختلفة من تباعد في صورة الواقع؟
وليس انعكاس الوقفة العلمية الجديدة على ميادين الحياة الأخرى مقتصرا على المجال السياسي وحده، بل انعكست تلك الوقفة الجديدة على الجانب الثقافي بكل معانيه، فلقد كان الرأي السائد إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى هو أن ثمة معيارا واحدا للثقافة الرفيعة، ألا وهو ثقافة الغرب، وأما ما دونها من ثقافات الشعوب الأخرى فهي تكون متقدمة أو متخلفة بمقدار قربها أو بعدها بالنسبة إلى معايير الثقافة الغربية. ولكن ذلك كله قد تغير، خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية، وما ظفرت به الشعوب في آسيا وأفريقيا من استقلال وحرية، وعندئذ ارتفع في عالم الثقافات مقياس جديد، هو «نسبية» الأحكام بحيث لا يجوز الحكم على ثقافة معينة بمعايير ثقافة أخرى، فلكل ثقافة معاييرها التي تحكم عليها، وكما تساوت الدول في هيئة الأمم المتحدة من الناحية السياسية (إلا في مجلس الأمن حيث يكون لبعض الدول حق النقض دون بعضها الآخر)، فكذلك تتساوى من الناحية الثقافية في «اليونسكو».
وإذا أردت أن تنتقل بالحديث، من «الثقافة» بوجه عام، إلى الأقسام الفرعية التي منها تتألف الثقافة بمعناها العام، كالفنون والآداب؛ وجدت النتيجة عينها ماثلة أمامك، وأعني «نسبية المعيار»، وما تستتبعه تلك النسبية من حرية للفنان أو الأديب، ومن ثم تفجرت الصور الكثيرة التي تراها في كل جنس من أجناس الفن والأدب، فالفن التشكيلي اتجاهات وتيارات يختلف بعضها عن بعض اختلافات واسعة، وكذلك قل في الشعر والرواية والمسرح وفي الموسيقى، وتستطيع أن تضيف في هذا التشعب والتنوع الفكر الفلسفي في عصرنا بمختلف مذاهبه وتياراته.
ها هنا قال زميل من الزملاء الذين اجتمعوا على حوار تديره الصداقة واحترام الفكر وكرامة العقل، قال ذلك الزميل: أظن الوقت قد دنا من لحظة انصرافنا، لكنني أرغب في رجاء أوجهه إلى فلان، على غرار ما يقوله المذيع أو المذيعة لمن يجري معه الحديث، عندما يبلغ ذلك الحديث ختامه: هل لديك ما تلخص به هذا كله في جملة واحدة قصيرة تريد لها أن ترسخ في عقول الشباب؟ قلت: نعم، فإني أقول لشبابنا: إن المتزمت صاحب الأفق الضيق الذي يزعم الحق المطلق لما يقوله هو دون سائر القائلين، لم يعد له في عصرنا مكان.
الفصل التاسع عشر
يوم الثقافة العربية
عدت من إجازة الصيف (1984م) لأجد خطابا من الأستاذ الدكتور محيي الدين صابر، المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. وقد بدأ خطابه بالعبارة التالية: «يسعدني أن أنقل إليكم قرار المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم منحكم الجائزة التقديرية للثقافة العربية، وهي أرفع جائزة تقديرية لدى المنظمة، وأول جائزة تقديرية تقدمها لشخصية فكرية عربية متميزة.
وإني إذ أهنئ سيادتكم على هذا التقدير الذي أنتم أهل له، أشيد مع المنظمة العربية بالعطاء الكبير المبدع الذي أغنيتم به الثقافة العربية، ونهلت منه أجيال من أهل العلم والثقافة في الوطن العربي، وكان نعم العمل الطيب والعطاء الخير ...» وحدد للاحتفال بتقديم الجائزة في مدينة تونس اليوم العشرون من شهر ديسمبر سنة 1984م، ولبثت لا أعلم عن طبيعة تلك الجائزة شيئا، مكتفيا بقيمتها الكبرى، التي هي كونها قرارا إجماعيا ممن يمثلون الدول العربية كافة على أنه إذا كانت مصر لم تشارك في ذلك القرار لظروف معلومة لنا، فقد ظفرت منها قبل ذلك بجائزتين من جوائز الدولة، إحداهما كانت تشجيعية سنة 1960م عن كتابي الذي ظهر في ذلك الحين «نحو فلسفة علمية»، والأخرى كانت «تقديرية» سنة 1975م في مجال الأدب، والحمد لله رب العالمين.
وجاء اليوم الموعود فكان أول سؤال تلقيته هو من مراسل وكالة أنباء الشرق الأوسط؛ إذ كنت لا أزال في المطار أنتظر حقائبي وهو: بماذا تعلق على هذه المبادرة؟ فأجبته قائلا ما معناه: إنها دليل عملي على صدق ما كنت قد كتبته تحت عنوان «العروبة ثقافة لا سياسة» (في الأهرام بتاريخ 27 / 9 / 1979م)، واستطردت شارحا بأن العربي عربي بثقافته التي هي تعبير عن رؤيته ووجدانه قبل أن يكون عربيا لأي سبب آخر، ومضيت في توضيح هذه الفكرة لمراسل وكالة الأنباء لأبين له كيف يلتقي العرب جميعا حول محور ثقافي واحد، أساسه اللغة العربية وما تنطوي عليه تلك اللغة من دلالات تتفرع عنها، فليست اللغة مجموعة من رموز كرموز الرياضة مثلا، مجردة عارية تتفق على مدلولاتها كل شعوب الأرض، بل اللغة مشحونة بالقيم التي بثت فيها خلال العصور التي استخدمت فيها، ومن مجموعة تلك القيم المبثوثة في ألفاظ اللغة العربية يتكون وجدان الأمة العربية، وأضرب لك مثلا يوضح لك ما أريد: فلقد كنت ذات يوم أقارن عبارة وردت في إحدى حكايات «ألف ليلة وليلة» أقارنها بترجمتها الإنجليزية، فوقفت عند جملة يدعو فيها أحد لآخر قائلا له: «أكثر الله خيرك.» فترجمها من ترجمها إلى الإنجليزية من رجال الأدب عندهم، بما معناه «أكثر الله من إيرادك.» مع أن الفرق كبير بين زيادة «الخير» وزيادة «الإيراد»، فالإيراد يمكن حسابه، لكن إضافة «الخير» إليه تكسبه بعدا مباركا يستعصي على الحساب، وهكذا أستطيع أن أورد لك مئات الأمثلة من اللغة العرية في مفرداتها وفي تراكيبها مما ينطوي على أبعاد روحية ونفسية وخلقية على نحو لا نراه في ترجماتها إلى لغات أخرى. فماذا ينتج عن ذلك بالنسبة إلى أصحاب تلك اللغة إلا أن يتطبعوا بوقفة ثقافية متميزة؟ وإذا كان أمرها كذلك، أفلا تكون تلك الوقفة الثقافية المشتركة بين العرب مرتكزا قويا يرتكز عليه انتماؤهم إلى قومية واحدة؟ على أن الأمر في هذا السبيل لا يقتصر على اللغة وما توحي به إلى أصحابها، بل إن بين العرب روابط أخرى ثقافية تتمثل في اجتماعهم على فلسفة أخلاقية معينة ومتميزة واجتماعهم على تذوق فني معين ومتميز وغير هذا، وذلك من جوانب الحياة الأخرى مما يحتم علينا نتيجة هي أن «العروبة» نمط ثقافي ذو خصائص يمكن تحليلها وتبيانها، والعربي عربي بانخراطه في ذلك النمط الثقافي، وليكن بعد ذلك ما عساه أن يكون من ضروب الاختلاف بين عربي هنا وعربي هناك.
واختياري لأول جائزة رفيعة المستوى في مجال «الثقافة العربية» إنما هو دليل قاطع على ما كنت زعمته في مقالة «العروبة ثقافة لا سياسة»، والذي نشرته منذ خمس سنوات، ثم أخذت أكرر فكرتها بصور أخرى فيما بعد ذلك، ولقد كان مما رأيته ذا مغزى بعيد، وربما يكون قد جاء عفوا ومصادفة، لكن ذلك لا يغير من قوة المغزى، أن رياسة المجلس التنفيذي للمنظمة العربية في ذلك الحين كانت لأخ ليبي، وأن مهمة تقديمي يوم الاحتفال بالجائزة أسندت إلى أخ سوري، فإذا كانت زاوية الاختلاف قد انفرجت بين مصر من ناحية وليبيا وسوريا من ناحية أخرى؛ فما ذلك إلا في مجال السياسة وحدها، وأما عندما انتقل الموضوع إلى دنيا «الثقافة العربية» فهنالك اختفت المسافة التي كانت تباعد بين ضلعي الزاوية حتى أصبح الضلعان خطا واحدا، فالليبي والسوري وسائر الأعضاء الممثلين للدول العربية الأخرى اختاروا للجائزة العربية مصريا! ومن ذا يجحد تلك الرابطة الفكرية والوجدانية بين أبناء الوطن العربي كله من أقصاه إلى أقصاه؟! إن صاحب القلم يكتب في المغرب فيقرأ له من هم في المشرق، يكتب الكاتب من الجزائر أو من تونس - مثلا - فيطالع كتابته القارئون في العراق وفي عمان، ويعزف الموسيقي على أوتاره في مصر فيطرب لأنغامه العربي من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، ومن ذا لا يستشعر الصدق في شعر أحمد شوقي الذي أنشده عن «العروبة» من حيث هي وحدة واحدة، تفرح معا، وتحزن معا، استمع إليه يقول:
كان شعري الغناء في فرح الشر
ق وكان العزاء في أحزانه
قد قضى الله أن يؤلفنا الجر
ح وأن نلتقي على أشجانه
كلما أن بالعراق جريح
لمس الشرق جنبه في عمانه
وهكذا قل في كل كاتب وكل شاعر وكل عازف وكل مغرد بالغناء، وكل فنان على اختلاف ألوان الفن، الإنتاج يتم في موضع يختاره الإلهام من الوطن العربي، والتلقي يكون في ذلك الوطن العربي كله دفعة واحدة؛ فحياتنا الثقافية لم تعرف التجزؤ والانقسام، لا قديما ولا حديثا، برغم ما قد يحدث بين الدول من خلاف ربما بلغ حد الصراع وحد القتال، إننا أمة واحدة في الثقافة، وبالثقافة هل رأيت عربيا واحدا يرضى ألا يكون المتنبي أو المعري شاعره؟ إنه لمن أقوى علامات الانتماء القومي أن يشعر الأفراد بالفخر لكونهم مع شاعر عظيم أو فنان نابه، أو مفكر موهوب، في وطن واحد، وهنا لا بد لنا من التفرقة بين أن تعرف لشاعر معين - مثلا - عظمة قدره وهو من أبناء أمة أخرى غير الأمة التي تنتسب إليها وبين أن تشعر ب «الفخر» نحوه، فالعربي المثقف يعرف لشكسبير قدره لكنه لا «يفاخر» به أحدا، لكنه إذ يعرف قدر أبي العلاء المعري فإنه يضيف إلى تلك المعرفة شعورا بالفخر أنه هو والمعري منتميان إلى أمة واحدة، وبناء على هذا المقياس - وهو مقياس قوي على بساطته - تستطيع أن ترى وحدة الأمة العربية في ثقافتها وبثقافتها، حين ترى أبناءها يفاخرون الغرباء بمن ينبغ من العرب - قديما أو حديثا - بغض النظر عن موضع ولادته في أي قطر كان ذلك الميلاد من أقطار الوطن العربي الكبير، وإذا كان شعور الإنسان بالفخر دليلا على انتمائه إلى الوطن الذي يجمعه مع من يفخر به، فكذلك يكون شعور الإنسان ب «الخجل» من شائنة اقترفها إنسان آخر يجمعهما معا وطن واحد؛ لأن مرتكب الشائنة إذا كان من أهل غير أهلنا ذممناه ذما لا يخالطه «خجل»، وأما مرتكب الشائنة من أهلنا فنذمه ونخجل بسببه أمام الآخرين، ومن هنا ترى العربي من أي قطر كان يهتم ذلك الاهتمام الخاص بما يقوله أو ما يفعله ذوو الشأن في قطر عربي آخر؛ لأن شعوره بالقوة التي يفاخر بها، وشعوره بالخذلان الذي يخجل له، مرهونان كلاهما بكل ما يحدث في أرجاء الوطن العربي الكبير.
وجاء يوم الجائزة التقديرية للثقافة العربية في اليوم العشرين من شهر ديسمبر 1984م، فلم أملك إلا أن أكون صادقا في الكلمة القصيرة التي استوجب الموقف أن أرتجلها ارتجالا، فلقد كنت أعلم من قبل أنني سألقي محاضرة عامة في اليوم التالي ليوم الاحتفال، ولكنني ظننت أن برنامج الاحتفال لم يشتمل على كلمات تلقى، أقول إنني لم أملك إلا أن أكون صادقا فيما قلت عن «أمتي» العربية، حتى في تلك الكلمة الموجزة المرتجلة، وذلك لأنها «أمتي»، وإني لأعرف ما لأمتي العربية الإسلامية من عظمة ومجد، لكنني كذلك لا أغمض عيني عما يعتورها من أوجه القصور والتقصير بالنسبة إلى عصرنا الذي نعيش فيه حياتنا، ولقد آثرت في معظم ما كتبته أن أعزف لأمتي على أوتار الغضب، ومن هنا جاءت دهشتي حين علمت بنبأ الجائزة، فلو كنت ممن اختاروا فيما يكتبونه عن أمتنا العربية طريق الإعلان عن عظمتها ومجدها - وإنها حقا لجديرة بمن يعلن لها عن ذلك - لكان من الجائز أن يقول قائل عن ذلك التكريم الذي كرمتني به أمتي العربية إنهما طرفان تحابا فأخذا يتقارضان الثناء، فالكاتب يمدح والأمة تكافئ! لكن أمري لم يكن كذلك في الكثرة الغالبة مما كتبته؛ لا لأني أجهل جوانب تلك العظمة وهذا المجد، بل لأني كنت أشد حرصا على إبراز مواضع التقصير لعلنا نلحق بمواضع الريادة من ركب الحضارة كما عودنا التاريخ وعودناه، لقد جاء الشطر الأعظم من كتابتي أقرب إلى لذعات الضمير تريد للأمة أن تصحو بوعي أشد يقظة لما حولها، كانت قيثارتي التي عزفت عليها من غضب وكان لحنها من نار! إنني لم أكتب سطرا واحد ليكون لي مصدر رزق أعيش منه وأحيا به! بل كتبت ما كتبته بصدق المؤمن الذي عاهد نفسه ألا يتملق أحدا في الحق! ومع ذلك فقد يخطئ الهدف، لكنه عندئذ يكون خطأ بريئا من الخبث والخسة وموت الضمير، فقدمت لي الأمة العربية جائزتها الرفيعة لأول مرة في تاريخ المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، فعاهدتها على رءوس الأشهاد أن أرد لها ذلك الفضل العظيم، بالمضي فيما كنت ماضيا فيه أكثر من خمسين عاما، وهو أن أكون لها ذلك الضمير اللاذع الذي كنته، وأن أظل عازفا لها على القيثارة التي عزفت عليها طوال تلك السنين وإنها - كما قلت عنها - لقيثارة من غضب وإن لحنها لمن نار .
وكان اليوم التالي لاحتفال الجائزة موعدا للمحاضرة العامة المقرر إلقاؤها، وقد اخترت لها أن تكون عن الخاصة الرئيسية التي أراها مميزة لجوهر الثقافة العربية، لكنني كنت أستهدف بها أن يتبين من خلال الصورة المعروضة وجه القصور في تلك الثقافة إذا ما واجهنا بها العصر الحاضر بظروفه الجديدة دون أن نضيف إليها ما تقتضي هذه الظروف إضافته! وفي قاعة كبيرة مدرجة المقاعد مزدحمة بالحاضرين أخذت ألقي في أنفاس هادئة حديثا أصور به الملامح التي أردت تصويرها، وكان محورها الرئيسي هو أن العربي مهيأ بحكم رؤيته التي طبعته بها طبيعة الصحراء - والصحراء هي بيت العربي من الخليج إلى المحيط - ولا ينفي ذلك أن تتناثر على ذلك الامتداد الصحراوي العظيم مساحات خضراء هنا وهناك، بما في ذلك وديان الأنهار، أقول إن العربي مهيأ بحكم تلك الطبيعة الصحراوية لأن يتعلق بما هو ثابت ودائم ومطلق؛ إذ هي صفات توحي بها الصحراء، وأما ما هو متغير وزائل من الكائنات والأحداث التي تمر عابرة فوق ذلك المسرح السرمدي الصامد، فهي عند العربي ضرورات عيش لا تستحق أكثر من أن تنزل من نفسه منزلة متواضعة، وبمقدار ما يكون الشيء أو الموقف مؤديا إلى خلود الثابت الدائم المطلق تكون قيمته.
وعلى هذا المرتكز أقيم الفكر العربي في شتى جوانبه، بل وأقيمت كذلك تصورات الأدب والفن، ففي كل هذه المجالات التي تولد فيها الحياة «الثقافية» وتنمو وتثمر ثمارها، يحرص العربي على أن يكون في خلفية فكره وإبداعه مبدأ له ثبات ودوام، وانظر إلى كلمة «مبدأ» نفسها لتدرك حقيقة ما تعنيه، فالمبدأ «لغويا» هو حيث يبدأ السير لمن يريد لنفسه الحركة، وهكذا أيضا تكون «المبادئ» في حياة الفكر والإبداع، فلا يصح فكر عند العربي إلا إذا انبثق من «مبدأ» ولا يسمو إبداع في أدب أو في فن إلا إذا كان وراءه «مبدأ » يستند إليه، ولعلك قد رأيت أو سمعت علماء العرب إذا ما عرضوا فكرة أو حكما في مسألة أخلاقية أو أدبية أو غير ذلك؛ كيف يحرصون على أن يتعقبوا «إسنادها» إلى الأصل الذي تستند إليه، أي المبدأ الذي ترتكز عليه أو تنبثق منه، فذلك واضح في الأحكام الشرعية وفي الأحكام اللغوية، وهو أيضا قائم في مجال الإبداع الأدبي، وإن يكن يحتاج إلى شيء من التحليل ليظهر في وضوح، فقد كان الشاعر يقاس إلى نماذج القدماء إذا أراد الناقد تحديد رتبته بين الشعراء، فتلك الرتبة تعلو أو تنخفض بمقدار ما اقترب الشاعر أو ابتعد عن نماذج الشعر القديم، ومن هنا جاء مبدأ «عمود» الشعر، وذلك حين أخذ الشعراء فيما بعد ينحرفون عن تلك النماذج، فأقيم عمود الشعر أمام أبصارهم ليحتذوه، وليس ذلك العمود بمقتصر على أن يكون للقصيدة وزن وقافية - كما هو شائع بين نقاد الأدب في يومنا هذا - بل هو يمتد ليشمل صفات أخرى كذلك واجبة، وأظنها تبلغ في عددها سبعا، ذكرها المرزوقي في مقدمته التي قدم بها شرحه لديوان الحماسة لأبي تمام.
وإنك لتلحظ فرقا واضحا بين الفلاسفة العرب الأقدمين وبين فلاسفة أوروبا ابتداء من اليونان القديمة؛ إذ ترى الفلاسفة العرب لا يقيمون بناءاتهم الفلسفية وكأنهم يقيمونها من إبداع عقولهم، بل هم يرتكزون في عملهم على «نصوص» يبدءون منها، فهنالك النصوص الإسلامية من جهة (وأعني القرآن الكريم بصفة خاصة)، ثم هناك النصوص التي ترجمت بها الفلسفة اليونانية من جهة أخرى، ومن هذه الأصول يبدأ الفيلسوف العربي سيره الفكري.
لكننا إذ نقول عن العربي إنه مهيأ للاستناد في تفكيره إلى «مبدأ» أو أصل يتصف بالثبات والدوام؛ فلا بد أن يرد إلى أذهاننا تساؤل وهو: ألم يكن مفكرو اليونان كذلك يقيمون بناءاتهم الفكرية على «مبادئ»؟ وإذا كانوا قد فعلوا، فما الفرق إذن بين عربي ويوناني في هذه الخاصة؟ وهنا سرعان ما نجد الجواب الذي يفرق بين الحالتين، فبينما يكون المبدأ عند اليوناني من افتراض العقل حتى لقد تتعدد المبادئ بتعدد الفلاسفة في العصر الواحد، يكون المبدأ عند العربي إما وحيا في مجال القصيدة، وإما موروثا من الآباء في سائر المجالات، مما لا سبيل فيه إلى اختلاف بين مفكر ومفكر آخر من أبناء العصر الواحد.
وها هنا نأتي إلى أهم نقطة نريد إبرازها في طبيعة الرؤية العربية لنبني عليها نتيجتنا الختامية، وتلك هي أن تاريخ الفكر البشري قد شهد ثلاثة أنماط ثقافية، أحدها هو ما ظهر أساسا في الشرق الأقصى وهو نمط طابعه الإدراك الصوفي المباشر، وثانيها هو ما ظهر عند اليونان (وفي الغرب بعد ذلك) وطابعه الإدراك العقلي الذي يستند إلى استدلال للنتائج من المبادئ، وأما ثالثها فهو ذلك الذي نرى أنه قد تميزت به الأمة العربية، وهو الاشتمال على نوعي الإدراك في وقت واحد، فهو قادر على الرؤية الوجدانية المباشرة، ومن هنا كان إيمانه الديني وكان نبوغه في الشعر، وهو بنفس الدرجة قادر على الإدراك العقلي الذي يستدل النتائج والأحكام من النصوص التي بين يديه، وتاريخ الفكر العربي شاهد على وجود كلتا القدرتين وجودا بلغ ارتفاعه ذروة العبقرية، ففي مجال الإدراك الصوفي ظهر متصوفة من أعظم ما شهد العالم في هذا السبيل، وفي مجال التفكير العقلي ظهر من العلماء أعلام خالدون، وعلى أساس اجتماع القدرتين في الكيان العربي استطاع المسلمون العرب في عصور مجدهم أن يأخذوا عن الطرفين المتناقضين؛ فأخذوا عن الهند وأخذوا عن اليونان، وتمثلوا هذا وذاك معا، حتى انصهر في ثقافتهم وكأنه جزء أصيل فيها.
وننتقل الآن إلى النتيجة الختامية التي استهدفت الوصول إليها منذ بدأت حديثي، فها هو ذا عصر جديد نعيش اليوم فيه، وهو عصر قائم بصفة أساسية على العلم بالطبيعة، وهو علم لم يظهر ظهورا يجعل له الغلبة والسيادة إلا في القرون الأربعة الأخيرة، وكان ذلك في أوروبا وحدها؛ لأن تلك القرون الأربعة ذاتها بالنسبة إلى الأمة العربية كانت هي عصر الظلام، فماذا نحن صانعون بأنفسنا الآن؟ ونحن نهم بوثبة النهوض؟ هل نرى أمامنا من سبيل سوى أن نقبل على العلم بالطبيعة في كل خطوة من خطواتنا على طريق الدراسة والاستنارة؟ لقد كانت كل طاقتنا العلمية خلال العصور منصبة على النوع الاستدلالي الذي لم تكن الدنيا تعرف سواه، وحتى في الحالات القليلة التي ظهر فيها بين القدماء علماء في الطبيعة، مثل جابر بن حيان في الكيمياء نراه - برغم أن موضوعه هو جانب من ظواهر الطبيعة - نراه يصوغ فكره على القالب الاستدلالي الشائع في عصره، بأن يأخذ عن القدماء مقدمات يضعها لتكون هي نقطة البدء، كما فعل جابر بن حيان حين أقام علمه الكيميائي على أساس العناصر الأربعة التي وردت عند أرسطو في كتابه عن «الطبيعة».
ولو كنا ممن يتعذر عليهم اتخاذ طريق المنهج العقلي في شتى صوره لقلنا إننا معذورون الآن إذا كنا نعرض عن البحث في حقائق الواقع الطبيعي بالمنهج الذي يناسبها، لكننا - كما أسلفنا - قد احتوينا القدرتين معا في كيان ثقافي واحد. قدرة الغرب كما تمثلت عند اليونان، وقدرة الشرق كما تمثلت في الهند وفارس، فإذا كان العقل اليوناني قد عرف كيف ينتقل بواسطة شعوب أوروبية أخرى من منهج الاستدلال القديم إلى منهج البحث الاستقرائي لظواهر الطبيعة، بحيث يصبح المنهجان معا قطبين تدور حولهما رحى الفكر العلمي بطرفيه، فماذا يمنعنا نحن من حركة انتقالية مماثلة لا سبيل إلى دخول عصرنا إلا عن طريقها؟ ولكي أرد على دهشة قد تأخذ قارئا فيسألك لماذا يقول هذا الرجل ما يقوله ونحن ندرس في جامعاتنا كل العلوم الطبيعية بمناهجها التي يشير إليها؟ أقول: المطلوب هو أن يتسع النطاق بمنهج العلم ليصبح هو نفسه طريقة النظر عند جمهور الناس، في كل مشكلة تعترض لهم على طريق الحياة الجارية.
وهكذا لم تكن الجائزة التقديرية للثقافة العربية - التي تشرفت بها - ولن تكون لتحول بيني وبين أن أبين ما قد أصبح في تلك الثقافة من قصور وتقصير بالنسبة إلى العصر القائم، فحقها وواجبها معا يحتمان عليها أن تبلغ في عصر المنهجين ما بلغته في عصر المنهج الواحد، من قدرة وعظمة وريادة ومجد.
الفصل العشرون
خطاب من مجهول
فضضت الغلاف فخرجت لي منه رسالة من صفحة ونصف صفحة من القطع الكبير، كتبت بإنجليزية جيدة، مضروبة على الآلة الكاتبة في أحرف نظيفة، لكنها خلت من توقيع كاتبها، كما خلت من تاريخ إرسالها ، ولما كنت قد فقدت اللمح بالبصر السريع، الذي كان في مستطاعه بنظرة خاطفة أن يدرك شيئا يدلني على طبيعة المادة المكتوبة؛ فقد أزحت تلك الرسالة جانبا حتى تأتيني اللحظة المناسبة التي أستجمع فيها كل ما عندي من قوة التركيز، وقدرة على الصبر، في استعمال العدسات الكاشفة، فلست ممن يهملون الرسائل قبل التيقن من أنها تستحق الإهمال.
وعدت إلى الرسالة بعد يومين، وقد كنت رجحت لنفسي أنه من ذلك النوع من الرسائل العجيبة التي يأمرك فيها كاتبوها أن تنسخ منه خمس نسخات ترسلها إلى خمسة أشخاص، وإلا أصابك السوء، وفي جميع تلك الحالات لا أتردد لحظة في تمزيقها وإلقائها مع المهملات، ولقد علمت من بعض أصدقائي أنهم في حالات كهذه يأخذون بالأحوط، ويفعلون ما أمروا أن يفعلوه، نعم، كنت ظننت أن الرسالة التي جاءتني هي من هذا النوع العجيب؛ لأني كنت استطعت قراءة أول جملة فيها، وهي التي تقول: «هذا خطاب جاد، من رجل جاد وصادق.» إلا أن الرسالة لو تحقق لي أنها من ذلك النوع الذي أشرت إليه، كانت الأولى في نوعها التي جاءتني بالإنجليزية، وفي مثل هذه الصياغة الجيدة، والطباعة النظيفة، لكنني حين قرأتها وجدتها أبعد ما تكون عما ظننت.
بدأت الرسالة المجهول كاتبها بما تكون ترجمته إلى العربية ما يلي: هذا خطاب جاد، من رجل جاد وصادق، إلى أستاذ جاد وصادق وبحاثة، ولقد تركت خطابي بغير توقيع، لأنني أرتاب في أن يكون بريدك مراقبا، فينكشف أمري، وهو ما لست أريده. «إنك تحاول جاهدا أن تقول إننا إذا أردنا لأنفسنا البقاء، مشاركين في حضارة العالم بما نضيفه إليها «كما كان شأننا في الماضي» فلا بد لنا من مزج تراثنا، أو - على الأقل - من تطعيمه بثقافات الآخرين، وبثقافة الغرب على وجه الخصوص، فإذا لم أكن أخطأت الفهم عنك، فأنا مؤيدك في حملتك ابتغاء التجديد، لكنني في حيرة، كيف يمكن تحقيق هذا الحلم؟ إن تراثنا إسلامي في الأساس ...»
وهنا أخذ صاحب الرسالة يضرب لي الأمثلة ليقول لي بها ما معناه أنه إما إسلام وإما ثقافة هذا العصر وحضارته، أما أن يتلاقى الاثنان فضرب من اجتماع نقيضين لا يجتمعان. والأمثلة التي يسوقها، بعضها يدخل في باب «العقائد»، وبعضها الآخر يقع في باب «الشريعة»، وعنده أن هذا وذاك معا لا يتسقان مع العلوم المأخوذ بها في هذا العصر، فكيف يكون التوفيق؟ ويذكر الكاتب في رسالته أنه مسلم، ربي على أن يكون قوي الإيمان بإسلامه، لكنه لم يعد يرى كيف يتحقق له ذلك، ويظل آخذا بأسباب الحياة مع العصر في حضارته وفي ثقافته، وهو ما يراه ضرورة لا مندوحة له عنها.
ولعل هذه الحقيقة الأخيرة عن صاحب الرسالة هي التي دفعته إلى الحرص بأن يبقى مجهول الهوية حتى لا يتعرض للأذى، ومهما يكن من أمره فلقد شعرت شعورا قويا بعد قراءة تلك الرسالة، بوجوب الرد عليها؛ لأن محور الخطأ عنده، موجود عند كثيرين غيره، ممن لا يستطيعون توضيح موقفهم بمثل ما استطاع صاحب الرسالة توضيح موقفه، وأعني بذلك المحور تلك الفكرة الباطلة التي كأنما أصحابها يريدون أن يقولوا: إما إسلام وإما هذا العصر بكل علومه وتقنياته، وهي فكرة شاعت حتى أصابتنا بما يشبه الشلل، ولقد سبق لي في مناسبات كثيرة أن قاومتها؛ لأنني أومن بأنه لو كان المسلمون في قوتهم الأولى، مع هذا العصر وظروفه، لكانوا هم الذين أقاموا حضارة العصر وظروفه، لكانوا هم الذين أقاموا حضارة العصر وثقافته، بكل هذا الذي نراه حولنا من اختراق للآفاق، فليس في كل مقومات عصرنا الأساسية شيء يأباه الإسلام عقيدة وشريعة، والآن فلننظر إلى الأمر نظرة قريبة وفاحصة.
وعلى سبيل التمهيد، أوجه الخطاب إلى صاحب الخطاب، بعد أن أحيطه علما بما قد لا يعلمه عن البريد ومراقبته، وهو أنه لم يحدث قط أن فتح لي خطاب ليراجعه رقيب، وربما كانت إشارة صاحب الخطاب في ذلك إلى فترة زمنية غير الفترة التي نعيش في ظلها اليوم، وأنتقل إلى موضوعنا فأقول: إن خطابك يا صاحبي، باللغة الإنجليزية الجيدة التي كتب بها، يدل على أنك ضالع في الثقافة الإنجليزية إلى حد بعيد، فإني أوجه إليك هذا السؤال: اختر لنفسك من تشاء من رجال الثقافة في بريطانيا، بحيث تراه مجسدا بشخصه لروح هذا العصر الذي نعيش فيه، ثم افترض أن من اخترته قد أسلم، فما الذي يتغير في موقفه «العصري» بسبب إسلامه؟ وأرجوك أن تأخذ سؤالي هذا مأخذ الجد، فلقد بدأت خطابك معلنا أنك رجل «جاد وصادق»، وتأمل سؤالي في روية وأناة، فإذا وجدت أن المثقف العصري الذي اخترته لن تنتقص عصريته تلك مقدار شعرة بسبب إسلامه، كان معنى ذلك أنه لا تعارض بين عقيدة المسلم وبين رؤية عصرية يتخذها لنفسه، من ذا تريد أن تختار من رجال الثقافة المعاصرين في بريطانيا؟ هل توافق على اختيار علمين كانا صديقين ولكنهما اختلفا اتجاها، وأعني أولدس هكسلي وتشالز سنو؟ فأولهما نزع منزع الصوفية الشرقية، والثاني فاضل بين العلم والأدب في حياة الإنسان، فجعل الرجحان للعلم، وقد كان هو نفسه عالما وأديبا في آن معا! إذا وافقت على هذا الاختيار المزدوج، الذي يسمح لنا بشيء من المقارنة المفيدة، وإذا فرضنا أن الرجلين قد أسلما، فكيف تتأثر رؤيتهما «العصرية» بإسلامهما؟ نعم إن أساس العقيدة الدينية يتغير بالطبع، لكنهما لن يجدا في عقيدة الإسلام ما يحول أيا منهما دون أن يأخذ في دنيا ثقافته بما أخذ، فإذا فرضنا أن جانبا من أهم جوانب الرؤية عند أولدس هكسلي هو ارتيابه في أن يكون هذا التقدم السريع للعلوم يخدم حياة الإنسان، إلى الحد الذي جعله يصرخ بأن العلم يجب أن يقف في وثباته عند حد، وإذا رأينا أنه نزع إلى حياة المتصوفة نزوعا قويا، فهل يجد في عقيدة الإسلام ما يصده عن تلك الرؤية وما يرده عن هذا النزوع؟ ثم انظر إلى صديقه تشارلز سنو في إعلائه من شأن العلم على الأدب «وهو - كما قلنا - مرموق في العلم وفي الأدب معا.» فهل يجد في عقيدة الإسلام ما يستنكر عليه هذا الإعلاء للعلم على الأدب؟ إن المسلم بإسلامه يؤمن بأن الله أحد، وبأن الله صمد، وهذا التوحيد هو صميم الرسالة الإسلامية، فهل تقف عقيدة التوحيد حائلا بين المؤمن بها وبين الرؤية العصرية؟
والآن فاعكس الاتجاه، واختر من شئت من المسلمين الذين عرفوا بتشربهم للثقافة الغربية، وانظر في عمق إلى ما قد طرأ عليهم من تغير بسبب تلك الثقافة، ثم قل لي بعد إمعان النظر إذا كان إسلامهم قد اهتز، لا، بل إني لأجد نقيض ذلك تماما، وهو أن التزود بثقافة الغرب من شأنه - على الأرجح - أن يفيد صاحبه في عمق نظرته إلى الإسلام، عمقا قد يؤدي به إلى فهم لا يتاح مثله لمن لم يتسع أفقه بمقارنة الثقافات بعضها ببعض، فكثيرون جدا هم علماء الإسلام في عصرنا هذا، الذين نالوا درجاتهم العلمية في جامعات الغرب، ولم يكن ذلك ليؤثر فيهم إلا بأن ازدادوا بإسلامهم وعيا ولإسلامهم فهما، وذلك كله لأن الإسلام وثقافة العصر ليسا نقيضين، وإنما تجيء الثقافة إلى إسلام المسلم فتلقى فيه رحابة صدر وحسن قبول، ومن أين يأتي التناقض والإسلام أساسا رسالة أخلاق، وثقافة الغرب والمعاصرة - أساسا - ثقافة عصبها علوم، والذي بين الأخلاق والعلوم إنما هو أن تضاف تلك إلى هذه، لا أن يصطرع الطرفان، وإنني لأجد المعنى غزيرا في قول الإمام محمد عبده، عندما زار إنجلترا، بما معناه: لقد تركت في بلدي إسلاما بغير مسلمين، وجئت هنا لأجد مسلمين بغير إسلام، فالإسلام مبادئ أخلاقية، قد يتخلق بها الإنسان إذا أحسنت تربيته، دون أن يكون في عقيدته مسلما، والعكس وارد أيضا، وهو أن يكون الإنسان بعقيدته محسوبا على الإسلام دون أن يعلو بتربيته إلى ممارسة المبادئ الأخلاقية التي يدعو إليها الإسلام.
وننتقل مع صاحب الخطاب - بعد هذا التمهيد الطويل - إلى الخطأ الأساسي في محور التفكير عنده، مما أدى به إلى الحيرة التي عبر عنها في خطابه، ثم إلى ما بعد الحيرة من اهتزاز في العقيدة، وذلك الخطأ الأساسي عنده - كما أراه - هو في الخلط بين رسالة «الأخلاق» ورسالة «العلم» خلطا جعله يتوقع من الأولى أن تتحدث إليه باللغة التي تتحدث بها الثانية، ولو أنه فرق التفرقة الواضحة بين المجالين، لما وجد ما يدعو إلى حيرة، فضلا عن أن يجد ما يدعو إلى التشكك في العقيدة، فالعلم تجريبي، يصحح نفسه بنفسه عصرا بعد عصر، والعقيدة التي تحمل في طيها رسالة خلقية، مطلقة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وإن تغيرت مواقف تطبيقها، وإذا لجأ العلم إلى «رموز» تضبط له معانيه؛ كانت هي رموز الرياضة أو ما يشبهها، وأما إذا لجأت عقيدة الأخلاق إلى رموز توضح معانيها، كانت هي رموز البلاغة في التصوير والتوضيح. وأقول ذلك لأنك - والخطاب موجه إلى صاحب الخطاب - قد أردت - في الأمثلة التي سقتها - أن تفهم لغة العقيدة الأخلاقية على الأساس الذي تفهم به لغة الفيزياء والكيمياء، فوقعت في حيرتك وما هو بعد الحيرة.
وتسألني متعجبا: كيف يمكن الجمع بين التراث - والإسلام أساسه - وبين حضارة هذا العصر وثقافته، ثم تسمي ذلك المطلب «حلما» لا سبيل إلى تحقيقه، فهل ترى - على ضوء ما أسلفناه - استحالة أن تجتمع «أخلاق» من هنا إلى «علوم» من هناك؟ فمفتاح الطريق إلى الصواب هو هذه التفرقة، فالعلم علم كائنة ما كانت عقيدة من يتلقاه، تلقته اليابان بعقيدتها البوذية، فكان منها ما كان، وتلقته اليهودية والمسيحية متمثلتين في أشخاص المتدينين بهما في الغرب فلم تحل العقيدة الدينية دون أن يقيم هؤلاء من صروح العلم ما أقاموه. إن في الولايات المتحدة كل صنوف العقائد، وبقيت لكل ذي عقيدة عقيدته، مع اشتراكهم جميعا في روح علمية واحدة، فلماذا تراه حلما بعيد التحقيق أن تنهض أمة إسلامية فتضيف علما إلى دين؟
لقد كتبت منذ عدة أعوام فصلا قصيرا بينت فيه أن حضارة الإسلام حضارة أخلاق في أساسها، وقد أقمت ما كتبته على سورة «الفجر» من الكتاب الكريم، وأراني الآن مشدودا إلى إعادة بعض ما ورد في ذلك الفصل، وهدفي هو أن صاحب الخطاب إذا اقتنع بالفكرة، سهل عليه بعد ذلك أن يرى إمكان الجمع بين إسلام المسلم وعلم العصر الحاضر؛ إذ لا تناقض - كما قلنا - بين «أخلاق» و«علوم» تضاف إليها دون أن نقع في الازدواجية التي أشار إليها صاحب الخطاب، قائلا إنها ازدواجية تقتضي من صاحبها حتما ضربا من النفاق!
وهذا هو بعض ما ورد فيما كتبته في الفصل الذي أشرت إليه:
إن الخاصة التي ميزت الحضارة الإسلامية من سائر الحضارات هي أنها أدارت رحاها حول محور «الأخلاق»، فإذا كانت حضارات أخرى قد أرست قواعدها - في المقام الأول - على «الفن» أو على «العلم» أو غير ذلك من أسس كالزراعة أو التجارة أو الصناعة، فإن الحضارة الإسلامية قد اختارت «الأخلاق» أساسا لها.
على أننا في هذه التفرقة لا يفوتنا أن الجوانب كلها قد تجتمع في كل حضارة على الإطلاق، وذلك بمقادير تتفاوت هنا وهناك، لكننا هنا؛ إذ نميز حضارة معينة بخاصة ما، فإنما نريد أن تكون تلك الخاصة - أكثر من سواها - ركيزة أولى يقام عليها البناء، وبناء الحضارة الإسلامية ركيزته «الأخلاق».
قف معي لحظة نتأمل فيها هذه الآيات الكريمة من سورة «الفجر»:
ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد * وثمود الذين جابوا الصخر بالواد * وفرعون ذي الأوتاد ، فأول ما يلفت النظر للوهلة الأولى، بل يلفته للوهلة الثانية والثالثة والعاشرة، هو أن هذا العدد القليل من الآيات الكريمة قد أوجز لنا القول إيجازا بليغا، في ثلاث حضارات سبقت ظهور الإسلام - ضمن ما سبقه - وهي حضارات ثلاث تشابهت كلها في أنها جعلت «الفن» أساسا لصروحها، وإن اختلفت بعد ذلك في نوع الفن الذي اختارته كل واحدة منها، فقوم «عاد» الذين عاشوا حضارتهم فيما هو الآن الجزء الشمالي من الجزيرة العربية، كانت براعتهم في فن بناء المدن وأقاموا مدينة «إرم» على نحو يذهل خيالك ذهولا إذا قرأت شيئا من تفصيلاته، كما ذكرها المؤرخون، فهي مدينة قوامها قصور شوامخ من ذوات الطوابق، وكانت طريقتهم في بناء الطوابق العليا أن يقيموها على «عمد»، والعمد بدورها تقام على أسطح الطوابق السفلى، لا على الأرض، فكانت تلك العمد تبدو للقادم من بعيد وكأنها غابة كثيفة من جذوع الشجر، وصدق الله العظيم في وصفها بأنها
إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد .
وأما قبيلة ثمود، فقد عاشت هي الأخرى في منطقة قريبة من موطن «عاد»، وكان مقرها واديا صخريا، أوشكت حياة النبات وحياة الحيوان ألا تجد لها فيه موردا للنماء، فدارت براعتهم - أعني قبيلة ثمود - على فن النحت بصفة أساسية، وحتى بيوتهم نحتوها في صخور الجبال، كأنها الكهوف. وأخيرا يأتي ذكر فرعون وما اختارته حضارة مصر من فن يقيمون به المسلات والمعابد، التي ترتفع ك «الأوتاد» فليس هو فنا في بناء المدن، كما رأينا عند «عاد» ولا هو فن النحت بالصورة التي رأيناها عند «ثمود»، بل هو فن ينصب على المعابد وملحقاتها، وفيها ما فيها من قوائم ذات جبروت وشموخ.
هي إذن حضارات قامت على «فنون» ولم يكن في ذلك ما يعاب لولا أنها قرنت فنونها تلك بطغيان، أعني أنها أقامت فنا عظيما في ذاته، لكنها لم تدعمه بأخلاق التعاطف بين الإنسان والإنسان، فكان القوامون على تلك الحضارات هم من قال عنهم الله سبحانه وتعالى في سورة «الفجر»:
الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد ، ثم نقرأ في ختام سورة «الفجر» أمثلة من أخلاق السلوك التي أعوزت حضارات الفنون السابق ذكرها، فهم لم يكونوا يكرمون اليتيم، ولم يكونوا يطعمون المسكين، وكانوا يأكلون التراث أكلا لما، ويحبون المال حبا جما، وإذا أردت أن تضع تلك السيئات في مصطلح عصرنا، فقل إن تلك الحضارات لم تعن بإقامة التكافل الاجتماعي بين الناس، ولا هي عنيت بتنظيم «التأمينات» التي يطمئن بها أبناء الشعب على حياتهم وضرورات عيشهم.
من ذلك ترى «والخطاب موجه إلى صاحب الخطاب» أن الإسلام إنما هو جاء ليسد هذا النقص الخطير، وهو أن يقام مجتمع على ظواهر حضارية خالصة، دون أن يعنى بما يجب أن تكون عليه حياة الناس ، من تعاون وعزة نفس، وتلك هي مهمة «الأخلاق»، ومن هنا كانت الأخلاق هي أعمق الأسس التي بنيت عليها حضارة الإسلام، وعلى هذا الضوء نفهم قول رسول الإسلام - عليه الصلاة والسلام - أنه بعث ليتمم مكارم الأخلاق.
ونعود الآن إلى القضية الأساسية التي طرحها صاحب الخطاب في خطابه، وهي عن الدعوة إلى وجوب الدمج العضوي الذي ينبثق منه كيان حضاري ثقافي متكامل، يجمع بين تراثنا - ومداره أخلاقيات الإسلام - وروح العصر الحاضر - ومداره العلوم وما يترتب عليها من تقنيات - فهل ما يزال صاحب الخطاب يرى أن الجمع بين علوم حديثة من هناك، وأخلاق إسلامية من هنا ضرب من أحلام الحالمين؟ لا، بل إني لعلى اعتقاد متين بأن مثل هذه الإضافة لو استطعناها على الوجه السليم جاءت بمثابة إضافة تحدد دورنا الرئيسي في بناء حضارة العصر.
وقد تتساءل: أوليس لأصحاب حضارة العصر «أخلاق»، ربما كانت هي التي قصد إليها الشيخ محمد عبده حين قال عن القوم هناك إنهم مسلمون بغير إسلام؟ سؤال وجيه، والإجابة عليه هي أن أخلاقهم في صورتها الظاهرة قد لا يؤخذ عليها شيء في معظم الحالات، لكنها مقامة على أساس «المنفعة»، وهو أساس قد يبنى عليه الخير للإنسان تسعا وتسعين مرة، ثم تجيء المرة المائة كارثة قد تمحو الحضارة كلها محوا كالذي نراه الآن والعالم كله على شفا حفرة من نار! وتصحيح الوضع هو أن نستبدل بأساس «المنفعة» في البنية الأخلاقية أساسا آخر هو التعاطف بين الناس، وذلك هو ما جاء الإسلام ليرسي قواعده، فإذا كانت حضارة العصر، كما لخصها الدكتور ليفس، أستاذ الآدب في جامعة كيمبردج والناقد الذي أشهره نقده الأدبي في عالم الفكر الحضاري بصفة عامة، أقول: إذا كانت حضارة العصر كما قال عنها ليفس قائمة على «أخلاق بنتامية وتقنيات علمية» (وبنتام هو الفيلسوف الذي رد الأخلاق إلى منفعة)، فإن الصيغة الثقافية التي ندعو إليها هي: أخلاق التكافل والتعاطف مع تقنيات العلم، فهل ترى هذه الصيغة ضربا من الأحلام؟
ولقد ضربت في رسالتك «والخطاب موجه إلى صاحب الخطاب» ثلاثة أمثلة مما يدعو إليه تراثنا، تستشهد بها على استحالة الصيغة الحضارية التي ندعو إليها، فأرجوك أن تراجعها بينك وبين نفسك، لترى: أولا أنها مما يسهل جدا فهمها على أنها رموز تعني ما تعنيه. وثانيا أنها كما هي واردة في تراثنا، فهي واردة بذاتها في تراث شعوب الغرب، فأين موضع الغرابة إذن؟ وإذا كنت لم أذكر أمثلتك هنا إلا بالإشارة؛ فذلك لأني حريص على ألا أحدث في أذهان القراء بلبلة لا تنفع وقد تضر.
ولقد ختمت رسالتك يا أخي بسؤال عجيب، إذ سألت: من ذا الذي يجرؤ على معارضة وحي إلهي أو حتى على مناقشته؟ وأجيبك: أن من آمن بوحي إلهي، فهو بحكم ذلك الإيمان نفسه لا يخطر له أن «يعارض» أو أن «يناقش»، لكن إيمانه يوجب عليه أن «يفهم» مضمون الوحي الذي آمن به، ليهتدي بهديه وهو على وعي وبصيرة، وبالله يكون التوفيق.
الفصل الحادي والعشرون
كانت بالأمس شجرة خضراء
ولدت بالريف ونشأت فيه خلال السنوات الخمس الأولى، أو ما يقرب منها، ثم أخذت أعاوده كل عام في إجازة الصيف، وربما أضيفت إلى الصيف فترات أخرى من فصول أخرى إذا اقتضت ذلك ظروف الحياة. وكان بي شغف شديد لقضاء بضعة أيام عند أقارب في قرى مجاورة، ممن يملكون أرضا يزرعونها، ولست أنسى تلك النشوة الغامرة التي كانت تملؤني إذا ركبت النورج وهو يدور دائرته ليدرس القمح، وكان لأسرة الأقارب صغار في مثل سني؛ فكنا نمرح معا ونلهو، نشترك في أشياء وأنفرد وحدي بأشياء، فما كنت أحبه ولا يحبونه أن أصعد السلم الخشبي إلى سطح بناء صغير ذي غرفتين، كانت إحداهما مخزنا لأدوات منوعة من فئوس ومحاريث وما إليها، وكانت الأخرى جرنا يخزن فيه التبن والدريس، وأما سطح ذلك البناء فكانت تعلوه كرمة تظله، وعلى ذلك السطح المفروش بكرمة العنب كنت أستلقي على كليم هناك، وأظل وحدي ساعات تطول أحيانا ما طالت ساعات الضحى، أو ساعات العصر، وقد تقصر إذا أراد الجمع رواحا مبكرا، وأما ما كنت أشترك فيه مع أندادي من الصغار، فهو الجلوس تحت شجرة كثيفة الظل لكثافة فروعها وأوراقها، وكانت قريبة من ذلك البناء الصغير الذي أشرت إليه.
كان رب الأسرة على شيء من الجهامة والعبوس ، ولم يكن يوجه كلماته إلى أبنائه الصغار إلا وهي مشحونة بما يشبه الغضب، أما أنا فقلما توجه إلي بحديث، وإذا فعل ألبس شفتيه ابتسامة حتى يفرغ من حديثه المختصر، ثم يعود فيخلع تلك الابتسامة المصنوعة عن شفتيه، ولم أكن قد بدأت زيارتي الموسمية لتلك الأسرة إلا بعد أن كان الرجل قد تزوج زوجته الثانية وأنجب منها طفلين، وكانت الزوجة الأولى هي قريبتي، وأبناؤها هم الصغار الذين كنت أرافقهم سارحا إلى الغيط وعائدا إلى الدار.
فلما جاوزت العاشرة حدث أن انقطعت عن تلك الزيارة بضع سنوات، ثم عدت إلى زيارة - لعلها كانت الأخيرة - وأنا في نحو السادسة عشرة، فكان أول ما وقع عليه النظر تلك الشجرة التي كنا نفترش ظلها الكثيف، وإذا بالشجرة ترقد على الأرض قتيلة وقد جفت حتى أصبحت حطبا ينتظر المنشار أو الفأس، ليؤخذ منها قطعة قطعة بمقدار ما تتطلب النار من وقود. لبثت شاخصا ببصري إلى الحطبة الباقية، فسألني الأنداد: ما لك؟ قلت فيما يقرب من الهمس المكتوم: إنها كانت بالأمس شجرة خضراء!
وكان رب الأسرة قد أخذ منه المرض مأخذا، اصفر وجهه واصفر بياض عينيه، يجلس صامتا معظم وقته، فإذا رأى ما يستوجب التوجيه، قاله في صوت عال ومرتعش، ولبث بعد ذلك فترة تلحظه خلالها وكأنه يلتقط أنفاسه من رئتيه التقاطا، ولا أدري لماذا احتقرت في ذاكرتي لحظة حاول فيها غلام أن يمر مع بقرتين دفعة واحدة، على معبر ضيق فوق قناة صغيرة من قنوات الصرف فتزاحمت الأجساد الثلاثة، حتى كادت إحدى البقرتين تقع، وهنا صاح الرجل صيحة غريبة خلته بعدها قد جمد منه النفس، وكانت العبارة التي نطق بها في تلك الصيحة أغرب في كلماتها منها في قوتها وارتعاشها؛ إذ قال: «يا شيخ سقها مكلوبة»، فوجدت نفسي عندئذ قد انصرفت باهتمامي إلى لفظ «مكلوبة» الذي اشتقه الرجل من كلمة «كلب»، وهو اشتقاق لم أكن سمعته قبل ذلك ولا سمعته بعد ذلك، وسواء أكان جائزا في اللغة أم غير جائز، فقد أحسست عندئذ - وما زلت أحس - أنه كان لفظا معبرا أقوى تعبير عن ضيق الرجل بمرضه وبالخطأ الذي رآه في آن معا، وكان الرجل إذ ذاك قد أنجب من الزوجة الثانية خمسة أبناء وبنات، أضيفوا إلى خمسة سواهم من الزوجة الأولى، وبعد أن رأيته آخر مرة بسنوات قليلة توفي وقيل إن تكاليف علاجه قد أثقلت الأرض بالديون، فذهب بعضها وفاء لتلك الديون، وقسم الباقي على عشرة من أبنائه وبناته ومعهم زوجتان، فخرجوا جميعا من الصفقة وهم فقراء، بعد أن كانت أسرتهم تعد بين من سترهم قدر من الغنى! فلما سمعت ذلك، قلت لمن نقل إلي النبأ، ولعله لم يفهم ما قلته: لقد كانت بالأمس شجرة خضراء!
ذلك كله تاريخ عشت أحداثه، ومن تلك الأحداث ما رسخ في الذاكرة الواعية، ومنها ما اختنق مع مر الزمن، ولكن هذه التفرقة بين ما رسخ وما اختنق إنما هي تفرقة على مستوى العقل وهو في وعيه، وأما إذا ما كان نوم وأحلام فلا تدري من أي القسمين يختار اللاوعي ما يختاره، ليجسده كيفما شاء في رموز يبدعها لغايته، وإذا أنت حين تذكر ما ارتسم لك في الحلم، أمام لوحات وأحداث لفقها الخيال من هنا ومن هناك، ومن ذلك ما رأيته منذ قريب؛ إذ رأيت خليطا عجيبا من أشياء، يتوسطها في ضوء ساطع جذع شجرة مخرطا في شرائح متجاورة، وقد جف الخشب وتآكلت أطرافه؛ فما إن صحوت في أثر ذلك الحلم، حتى قفز إلى ذهني شيئان معا: تلك الشجرة التي رأيتها في الماضي البعيد ملقاة على الأرض في موات الحجر بعد أن كنت عرفتها أغنى ما يكون الشجر فروعا وأوراقا وخضرة وظلا، وطالب جامعي معين، فرغ من إجازة الماجستير، ويعد نفسه للدكتوراه، فما الذي قرن هذين الشيئين معا؟ لم أجد عسرا في افتراض رابطة بينهما، أما أن يكون ذلك الافتراض صحيحا أو غير صحيح فيما يتصل بتأويل الحلم كله، فأمر ذلك مرهون بتعقب سائر التفصيلات في الصورة التي رأيتها، ولم يكن في وسعي أن أستعيد الصورة في وضوح لأتقصى تفصيلاتها، ولماذا أفعل؟ إن الرابطة التي افترضت وجودها بين الجذع المهلهل المقطع المنخور لبابه، والطالب الذي جاءني ليستمد مني هداية في موضوع بحثه إذا استطعت له هداية كافية وحدها للوقوف عندها، فلم يدر بيننا الحديث إلا قليلا حتى تبين لي أن المسكين يوشك أن يكون عاجزا كل العجز عن قراءة سطر واحد في لغة أجنبية، ودع عنك أن يفهم ما قرأ، وأراد أن يخفف عن نفسه فداحة الهول، فقال إن موضوعه متصل بالفلسفة الإسلامية، فهو - إذن - ليس بحاجة إلى غير اللغة العربية من لغات، كيف ذلك - يا ولدي - والفلسفة الإسلامية لم تكن جسما قائما وحده ومعلقا في الفضاء؟ إنها قالت وسمعت ما قاله الآخرون ومزجت قولها بقول سواها لتخلص إلى نتيجة فيها ما في الكائنات الحية من أخذ وعطاء، إنني على كل حال لم أعلق له بشيء مما عساه أن يحمله على يأس، بل اتخذت حياله موقف التشجيع. لكن هل كان في وسعي بعد أن أنهى الطالب زيارته، إلا أن أستعيد بالذاكرة نماذج ممن عرفتهم في مجال الدراسة العليا من قبل؟ بل هل كان في وسعي إثر تلك الزيارة إلا أن أنظر إلى التعليم كله عندنا اليوم، الجامعي منه، وما دون ذلك من درجات؟ لأقارن ماضينا بحاضرنا، إلا أن المقارنة بين ماض وحاضر قمينة أن تقدم لي في الحلم ذلك الجذع المهلهل المنخور، الذي كنت عرفته قبل ذلك شجرة خضراء.
إن أحدا لا يحق له أن يلوم أحدا في هذه المأساة، فالقادة في ميدان التعليم عندنا يبذلون جهد الجبابرة في إخلاص وتضحية ليس بعدهما عند إنسان من مزيد، لكن ماذا يصنع الجهد والتضحية والإخلاص إذا ما طلب من المسئول أن يزحزح الجبل بذراعيه؟ لقد بلغ الخطب من الفداحة حدا لم يعد بعده من علاج الكارثة إلا كارثة مثلها، على غرار ما يقال عن الحديد أنه لا يفله إلا حديد مثله، وأنا أشير بذلك إلى انصراف التلاميذ وأولياء أمورهم إلى جهود ذاتية في المنازل لتغنيهم عن المدرسة أو المعهد يأسا من المدرسة والمعهد ، ولقد أفلحت الحيلة في تحقيق «النجاح»، لكنها أوقعتنا في شر عظيم، هو حرمان المتعلم من جانب التربية بكل محتواها؛ فضلا عن أن التعلم قد تحول مع المتعلم إلى مقطوعات متفرقات يصوغها المدرس الخاص بمهارته وخبرته ليتحقق النجاح للدارس، فقضى بذلك على قدرة الابتكار قضاء مبرما، اللهم إلا من شاء له الله أن تكون في فطرته موهبة لا يستطيع نظام التعليم إطفاءها.
إن العبء ثقيل، لكن ثقله هذا لا يمنع الأمل في أن يجد علماؤنا وخبراؤنا طريقا للعلاج، فيبينون لنا أين نبدأ السير وفي أي اتجاه نسير؟ لكنني أتساءل تساؤل القلب المخلص لا تساؤل العقل العارف، إذا كان جانب كبير من ذلك العبء يرجع إلى ضخامة العدد وقلة الموارد وضعف الوسائل من أبنية ملائمة إلى هيئة للتدريس صالحة، فلماذا لا نستخلص من ذلك الجيش الجرار من التلاميذ والطلاب نسبة مئوية تتعادل مع قدراتنا، فنقتصر عليها في تكملة الطريق بعد المرحلة الابتدائية، وأما المجموعة الباقية فتخرج إلى الحياة للعمل، ولا سيما ونحن ننشر الآن ضربا من التعليم يجمع بين الدراسة والعمل، إن أبناءنا جميعا هم أبناء وطن واحد لا نميز بين اثنين منهم إلا بدرجة التفوق، فالعشرة في المائة المتفوقة وحدها هي التي تدخل الدراسة الثانوية بكل أنواعها، فالجامعة لمن يصلح لها من هؤلاء. أليس ذلك خيرا من غرق السفينة بكل ركابها؟
ومع ذلك، فلأعد بحديثي إلى طالب الدكتوراه، الذي بلغ ما بلغه من درجات السلم التعليمي، وهو لا يعرف لغة أجنبية - أو يكاد - ولا يحسن حتى لغته العربية - أو يكاد - ولست أذكر اللغة الأجنبية لتكون وساما يزدان به صدر الطالب، بل لأن ذلك باب لا يمكن الدخول إلى دنيا العلم على اختلاف ميادينه، إلا إذا كان ذلك الباب هو أحد مسالك الطريق، وإذا شئت فانظر إلى دراسة تكون من أخص خصائص حياتنا الفكرية كالأدب العربي - مثلا - ثم راجع كبار من لمعت أسماؤهم من دارسيه على مستويات الدراسة العليا، ولست أظنك واجدا فيهم واحدا بلغ ما قد بلغه إلا وقد أتيح له أن يراجع ما قاله علماء الغرب في هذا الميدان أو ذاك، وأما مدى إلمام الطلاب - حتى في مرحلة الدراسة العليا - باللغة العربية ذاتها، فحسبك منه أن تطالع رسالة واحدة مما يتقدمون به، فماذا لو كانت دراسة الدارس تقتضي مراجعة المراجع العربية القديمة؟ فهل عرفت الآن لماذا قفز إلى ذهني شيئان معا كأنهما مرتبطان برباط وثيق، حين استيقظت من حلم رأيت فيه جذعا لشجرة أصابه موات وقد كنت عرفته من قبل وهو شجرة خضراء!
لست أعرف في مصر مؤسسة واحدة أصابها كل ما أصاب التعليم الجامعي من تدهور وضعف، فإذا أردت أن ترسم خطا بيانيا يصور ذاك التعليم منذ نشأته حتى اليوم، فأغلب ظني أن الخط المرسوم سينحدر بك انحدارا مطردا، فلقد حاولت مع نفسي أن أتصور المسار متمثلا في أساتذة وأعمال تمت على أيديهم، وحصرت انتباهي فيما أعرفه معرفة على كثير من الدقة والوضوح، تاركا ما لست أعرفه بكل تلك الدقة وهذا الوضوح. فوجدت في المراحل الأولى للجامعة رجالا يستحيل أن يؤرخ لحياتنا العلمية دون ذكرهم؛ لأنهم هم الذين كانوا معالم على الطريق، كما وجدت لهؤلاء الرجال أنفسهم آثارا علمية مما يستحيل كذلك أن تصور مسيرة حياتنا العلمية والثقافية، متجاهلا تلك الآثار من مؤلفات علمية وغيرها؛ لأن هذه كانت هي نفسها التي صنعت لنا تلك المسيرة التي أردنا تصويرها، ثم انتقل ببصرك من هؤلاء الرجال وما خلفوه لنا، إلى المرحلة الحاضرة من حياة الجامعة نجد طموح الطامحين، ربما كان أشد مما كان عند السابقين وأقوى، لكنه طموح يريد أن تتحقق له الغايات بالمعارك أكثر مما يتحقق بالجهد العلمي، وقد يكون ذلك الأسلوب الجديد في النبوغ العلمي راجعا في جزء كبير منه إلى عوامل المعيشة وقسوتها، فأصبحت صورة الموقف هي: إما أن أحيا وإما أن أحيي العلم، فترجح كفة الحياة على كفة العلم ، ومن الذي لا يعذر المضطر؟ وعلى من لا يرى صدقا في هذا الوصف الموجز لما هو قائم، فليتفضل بذكر ما يراه فيما ننتجه اليوم من مؤلفات الجامعيين وأعمالهم العلمية، بحيث يضطر مؤرخ الحركة العلمية اضطرارا أن يذكره؛ لأنه كان هو الذي صنع تلك الحياة، وإذا كان ذلك كذلك (وأرجو مخلصا أن أكون قد أخطأت التقدير والتصوير) أفلا تكون هي الشجرة التي كانت بالأمس خضراء فأصبحت اليوم حطبة يابسة؟ إنني لمن أشد الناس إيمانا بمصر وأبنائها، ومن أقوى الناس يقينا أن مثل هذا المجد الذي طال تاريخه ما طال لمصر تاريخها، لا يفنى ليتحول إلى رماد بسبب جيل أو جيلين اشتدت فيهما وطأة الحوادث على الناس حتى بدلوا خصالا بخصال، فكما أن المجد لا يشيده أصحابه في يوم وليلة، فكذلك لا تستطيع الحوادث أن تفنيه في ليلة ويوم، لكنني أغالط نفسي إذا زعمت أن روح التعاون الأسري التي عهدها الزمن الطويل رابطة بين المصري والمصري، لم يتحول جزء كبير منها في زماننا هذا إلى شيء يقرب من غدر المصري بالمصري، أو على أقل تقدير قلة المبالاة بين المصري وأخيه، إلا حيث لا نفع ولا ضرر، وأغالط نفسي إذا زعمت أن روح الإتقان - لوجه الله وتمام الصنعة - وهي الروح التي عرفت في المصري ربما أكثر جدا مما عرفت في سواه لم تصبها ظروف الحياة في أيامنا بضربة ارتج لها كيانها، بحيث أصبح العامل المصري وأعني كل صاحب عمل يؤديه يكاد يتوهم بأنه إنما يثبت مهارته بالتراخي والإهمال فيما هو صالح عام أكثر جدا مما يثبتها بالإخلاص في إتقان عمله، ومع ذلك فهو حريص على أن يتلو قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه؛ لأن الإيمان الديني قد تحول في عصرنا ليكون تلاوة تسمعها الآذان ولا تلبي دعوتها الجوارح، ولكنني في الوقت ذاته أغالط نفسي كذلك، إذا زعمت أن تلك السيئات التي استحدثتها ظروف الحياة الراهنة وقسوتها، هي المصري في حاضره، قلبا وقالبا، وجوهرا وأعراضا، باطنا وظاهرا، ولأي مصري شاء أن ينظر إلى نفسه من الباطن، ويقيني أنه إذا فعل وجد في طويته ضميرا يعذبه ويؤرقه، وقلبا مؤمنا مخلصا يتمنى لهذه المرحلة المليئة بالضعف والأنانية والغدر واللامبالاة أن تزول، ليعود المصري مصريا كما عرفته مصر وسائر الدنيا في تاريخه الطويل.
ومثل هذه المرحلة المنكوبة بظروفها، هي ما يجتازه العالم كله اليوم، وأظنني قد تناولت هذه الظاهرة التاريخية الغريبة بالتحليل والتعليل في مناسبة سابقة، لا أذكر موضوعها. بينت فيها كيف يمر العالم الآن في مرحلة انتقالية بين ثقافتين وبين حضارتين؛ فثقافة وحضارة كانتا قد استقرتا بحياة الناس حتى الحربين العالميتين الأخيرتين، ثم حضارة وثقافة ينتظر لهما أن تتكاملا لتستقرا بعد حين، وأما في هذا النصف الثاني من القرن العشرين فالعالم مضطرب اضطراب من يتحول من نظام قديم إلى نظام جديد، ولا عجب - إذن - أن نرى الفواصل الفارقة بين ما هو حق وما هو باطل في كل ميدان من ميادين النشاط البشري، قد انبهمت معالمها، فما نقول عنه اليوم إنه حق قد نعود إليه غدا لنتهمه بالبطلان، وما نصفه اليوم بأنه خاطئ قد نرحب به غدا على أنه الصواب الذي لا شبهة فيه، فليس الناس على يقين ثابت أي نوع من الحكومة هو الأفضل؟ وأي نوع من نظام التعليم هو الأكمل؟ وأي نمط من النشاط الاقتصادي هو الأنفع؟ إن لهم في كل يوم جوابا يختلفون به عن جواب الأمس، وسوف يستبدلون به غدا جوابا آخر، وحسبنا مقياسا لاضطراب المعايير في المرحلة الراهنة أن نجد كل هذا العنف في تعامل الناس بعضهم مع بعض، فلم تعد الألسنة ولا الأقلام تكفي لعرض وجهات النظر، فحل محلها رصاص وقنابل وصواريخ وخطف وسلب ونهب وتعذيب وتشريد، ومما يضحك ويبكي معا أن مرتكبي هذا العنف بشتى صوره هم في الحقيقة «مخلصون» لقضاياهم «العادلة» وليس بينهم وبين من ينزلون عليهم صنوف العذاب شيء من عداوة لأشخاصهم، ولذلك تقرأ لهم ما يصرحون به من أنهم يقترفون الظلم بضحاياهم ليحققوا للدنيا عدالة أعمق جذورا وحياة أدوم بقاء.
في هذه المرحلة الانتقالية التي تجتازها الدنيا بأسرها - ومصر قطعة من دنياها - غمضت الصلة بين الوسائل والغايات، ولم نعد ندري دراية المستيقن ماذا نعلم في المدارس والجامعات، ولماذا نعلمه وكيف نعلمه؟ ماذا ينتج المنتجون وإلى أين يذهبون بإنتاجهم؟ ماذا يرسم رجال الفن؟ وماذا يكتب أصحاب القلم؟ ونحو أي الأهداف يتجهون بنفوسهم وبأفكارهم وبما يبدعونه من الآداب في شتى صورها؟ شيء من الضباب يحجب الغايات ويسد طريق الرؤية الواضحة البعيدة المدى، ومن هنا حدث انفصام بين تصورات الذهن من جهة والوسائل المتاحة، من جهة أخرى، وتلك التصورات الذهنية بغير معطيات الحقائق الواقعة تكون تصورات جوفاء، وكذلك حقائق الواقع إذا لم تستقطبها تصورات الذهن تصبح وكأنها عمياء لا تدري إلى أين تتجه.
قلت لنفسي: إذا سلمنا بأن هذا الوصف صحيح لحياة الناس في عصرنا؛ فأهم منه أن نبحث عن طريق الخلاص. إن شيئا كالذي ذكرته من غموض الرؤية، ومن الانفصام بين الوسائل وغاياتها هو ما قد يعلل لنا لماذا تحولت أسرة أقاربي من غنى مستور إلى فقر، ومن يدري؟ لعل النذير الذي أرادت به الأقدار أن توقظ تلك الأسرة من غفلتها كان في الشجرة التي باتت حطبا يابسا توقد به النار، بعد أن رأيتها في عزها قوية ظليلة خضراء، وإذا كانت قوانين الحياة تأبى على الحطب اليابس أن يرتد شجرة كالتي كانت، فكيف ترى السبيل؟
وأجبت نفسي عن سؤالها قائلا: السبيل واضح لمن يريده، وهو أن نزرع شجرة جديدة ننتقي بذرتها ونتولاها بالرعاية، وما أسرع أن تكر السنون، فإذا نحن مرة أخرى مع شجرة سامقة كثيفة الأوراق الخضر، تفرش لنا الأرض بظلها، كتلك التي كانت بالأمس شجرة ظليلة خضراء.
الفصل الثاني والعشرون
سبع سنابل
كنت أعلم يومئذ أن الرجل قد أكمل عمره ثمانين عاما منذ أربعة أيام. إنه جاري، وقطعنا معا في ظل الجوار الحسن حينا طويلا من الدهر، لم يحدث بيننا قط خلالها ما يعكر صفو الود، وربما ساعدنا على ذلك أننا إذا ما التقينا جعلنا اللقاء خالصا من أجل قضايا الفكر المحايد وما يتفرع عن تلك القضايا من مسائل تستحق النظر؛ لأنها كثيرا ما كانت مما يمس حياتنا الثقافية مسا مباشرا، إنني لا أزعم أن «الصداقة» كانت هي الرباط الذي يصل بيننا؛ لأن الصداقة الحقيقية تقتضي أن تسقط الحواجز بين الصديقين ليعيشا معا في رحب واحد، وكأنهما روح واحد في جسدين، وأما العلاقة بيني وبين جاري فلم تكن كذلك؛ إذ قصرناها على جانب واحد مشترك بيننا، هو جانب الفكر وما يلزم عنه، ثم يظل كل منا بعد ذلك عالما مغلقا بالنسبة إلى الآخر.
ومع ذلك، فقد كنا على تشابه شديد في الخلق وفي وجهة النظر، كلانا منطو على نفسه إلى حد كبير يكاد الواحد منا إذا ما أجبرته الظروف أن يلتقي مع آخرين، أن يكون كالظل يتحرك في غير صوت، وكالظل كذلك بغير كثافة كالكثافة التي تكون للأجسام، إن كلينا يتحقق له وجوده وهو منفرد، وكلانا مطمع سهل لمن تعود التغذي بلحوم البشر، وهم - يا سبحان الله - كثيرون.
نعم، كنت أعلم يومئذ أن صاحبي قد أكمل من العمر ثمانين عاما، وتمنيت أن أقيم له لقاء مختصرا بسيطا هادئا، ولا أقول «احتفالا»، لكنني كنت على يقين أنه يموت في جلده إذا ما تعرض لمثل هذا اللقاء، مهما بلغ من الاختصار والبساطة والهدوء، ولماذا تمنيت ذلك؟ تمنيته لأني شعرت أن عدد الثمانين في أعوام العمر، ليس كأي عدد آخر! فالأعوام لا تتساوى في رحلة العمر، بل إن بينها ما يشبه «المحطات» في طريق السفر، يحسن الوقوف عندها، فعند الحادية والعشرين التي هي سن بلوغ الرشد يستحيل ألا تسري في الشاب هزة كأن أحدا يوقظه قائلا له: لقد أصبحت منذ اليوم - يا ولد - رجلا بين الرجال، وعند بلوغ الأربعين محطة أخرى، يستحيل ألا يسمع فيها صوتا داخليا يحذره: إنك يا صاحبي لم تعد شابا!
وعند الستين محطة ثالثة، إذا لم يستيقظ لها صاحبها من تلقاء نفسه أيقظه قانون «المعاشات» إذا كان موظفا في الدولة، وأما محطة الثمانين - بالقياس إلى سابقاتها جميعا - فلها شأن آخر، تحركت له قلوب الشعراء الذين كتب لهم أن يعيشوا ليبلغوها، وذلك لأن الثمانين «بوابة» يدخلها الداخل وكأنه قد أصبح على مشارف الأعراف (في مراحل الصعود عند دانتي)، عجيبة هي تلك المشاعر التي يخفق بها القلب عند بالغ الثمانين، وهي مشاعر قد يختلف فيها محور الاهتمام عند الأفراد المختلفين، لكنها تندرج جميعا تحت عنوان واحد، هو أن السيرة قد بدأت الفصل الأخير من روايتها، وأما الاختلافات في محاور الاهتمام بين الأفراد، فهي في أن يتعقب أحدهم ما يطرأ على أعضاء بدنه من ضعف، كذلك الشاعر الذي ينبئنا في بيت من شعره بأن الثمانين قد أحوجت سمعه إلى ترجمان ليسمعه ما يقوله المتحدثون؛ لأن أذنه وحدها وبغير عون يعينها لا تستطيع السمع! بينما يتعقب آخر ما قد يطرأ على «نفسه» من تحولات عند الثمانين كالشاعر الذي أنبأنا في بيت من شعره بأنه قد سئم تكاليف الحياة، ولم يجد في ذلك عجبا؛ لأن من يبلغ الثمانين من عمره لا بد أن يكون قد أصابه السأم، وشاعر ثالث قد تجرد - وهو ينظر من ذروة شيخوخته - تجرد من حالاته هو، سواء أكانت تتصل بأعضاء البدن أم كانت تتعلق بأطوار النفس، أقول إنه تجرد من حالات شخصه هو لينظر نظرة أرحب أفقا، فكان كالذي سأل نفسه عن جوهر الاختلاف بين هذه الشيخوخة التي هو فيها، وبين ذلك الذي كان يسمى شبابا، ما طبيعته؟ فكان الجواب عنده - في إيجاز نافذ - هو أن الشباب قادر، ولكنها قدرة تنقصها المعرفة، بينما الشيخوخة عارفة، لكنها معرفة تنقصها قدرة العمل، وما كان أكملها من حياة لو عرف الشباب مع قدرته، أو لو قدر الشيوخ مع ما قد جمعوه من معرفة وخبرة.
محطة الثمانين في طريق السير تغري بالوقفة الطويلة المتأملة، ولهذا تمنيت لو أني دبرت لقاء أحتفل فيه بجاري عندما أكمل تلك المرحلة، لولا أني كنت على يقين من عزوفه عن كل هذا البهرج الذي يفرح له معظم الناس، ومرت بعد اليوم المشهود أربعة أيام، فقلت لنفسي وأنا أهم بعزيمة من يريد أن يصنع شيئا قبل أن تفلت لحظته: سأطرق الباب على هذا الرجل، وأفاجئه بزيارة، وسأتعمد للزيارة أن تطول، لأتحدث إليه في هذه المناسبة الفريدة الموحية، وماذا في وسعه أن يفعل إزاء المفاجأة إلا أن يستقبلني بوداعته التي عهدتها فيه؟ وهذا هو الذي كان.
نحن الآن جالسان في غرفة المكتب من منزله، تأخذنا الربكة الخفيفة التي تحدث عند بدء الزيارة، عندما تكون زيارة مفاجئة وغير مألوفة على وجه الخصوص، فلما هدأت النفس منه ومني، قلت له: أتعرف يا فلان ماذا ورد إلى ذهني الآن وأنا أستحضر بلمحة سريعة صحبتنا الطويلة في دفء هذه الجيرة المباركة التي جمعتني بك، فتعلمت منها ما تعلمت؟ قال: ماذا؟ قلت إن الذي ورد إلى ذهني هو قوله تعالى في كتابه الكريم:
كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة ، فلقد بارك الله لك في حياتك حتى لقد غزر حصادها، وأفاد بها الألوف من العارفين بفضلك، إني لأذكر تلك اللحظات البعيدة، حين كنت يائسا من أن تنمو شجرة حياتك حتى تثمر، وأذكر كيف كنت أعجب لهذا القول منك؛ لأنك كنت تبدي اليأس في اللحظة نفسها التي تدأب على العمل فيها دأبا لم يعرف السأم والملل والتعب، وكنت أسألك: إذا كنت باذلا لهذا الجهد فكيف تكون يائسا؟ ولكنك - بتوفيق الله - مضيت تعمل لا تبالي موجة اليأس في جوفك، وها هو عملك، كما ترى بعينيك ويرى ألوف الناس معك، قد باركه الله ورعاه، حتى عاد بالخير الكثير
كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة .
قال صاحبي: وفي أي شيء رأيت مثل هذا الحصاد الوفير عندما رأيتني؟ قلت: رأيته في «حكمة» السنين، فهنالك من يقطع مشوار عمره وكأنه عاش يوما واحدا يتكرر كل صباح، فلا تنضج له معرفة نضجا تتحول به أشتات المعارف إلى خبرة، أو قل إلى «رؤية»، أو إلى «حكمة». أما من أراد لهم ربهم خيرا، فهم يستقطرون من المعرفة رحيقها، كما يستقطر من الورود عطرها، وفي ذلك الرحيق تكون «الثقافة» في صميم صميمها، وفيه كذلك ما يستحق أن يسمى بحكمة الحكماء.
جاء حديثي هذا مثيرا للتواضع عند صاحبي، فتوجه بعينيه نحو قدميه ولبث على صمته وسكونه لحظة، ثم قال: لقد عهدتك حريصا على معاني الكلمات وحدودها، فماذا قصدت إليه من «الحكمة» التي أكرمتني بنسبتها إلي وما هي «الحبة» التي كنت بذرتها، فزادني الله من فضله فضلا، وأخرج لي من الحبة سبع سنابل في كل سنبلة منها مائة حبة؟ فأجبت صاحبي عن سؤاله بقولي: أما عن الشطر الثاني من السؤال، فقد كانت الحبة التي بذرتها في مطلع شبابك هي إخلاصك لعقلك إخلاصا دفعك إلى ذلك الدأب الذي لم يفتر معك طوال تلك الأعوام الطوال، التي امتدت بك من العشرين إلى الثمانين، وكان مظهر ذلك الإخلاص على وجهين، أولهما حب لتحصيل المعرفة بلغ حد النهم، وأما الوجه الثاني فهو إصرارك على ألا ترضى عن فكرة إلا إذا عقلتها، وأما ما عدا ذلك فالأفكار إما مرفوضة لبطلانها، وإما معلقة تنتظر التوضيح والتدليل أمام العقل، تلك يا سيدي هي الحبة التي بذرتها فبارك لك الله فيها، حتى أنبتت لك ما أنبتته من حصاد غزير، والفضل والحمد لله، ذلك هو جوابي عن الشطر الثاني من سؤالك، وأما شطره الأول الذي سألتني فيه عما كنت أعنيه بصفة «الحكمة» التي نسبتها إليك؛ فأنت أعلم مني بهذا الضرب من الكلمات الهامة في حياة الناس العقلية والخلقية والوجدانية، حيث تكون الكلمة منها قوية التأثير دون أن تكون واضحة المعنى ذلك الوضوح القاطع الذي نراه - مثلا - في مصطلحات الرياضة، فنحن إذا قلنا لفظ «مثلث» أو «مربع» كان المعنى مقطوعا به عند المتكلم وعند السامع معا، وما هكذا تكون الحال إذا تحدثنا عن «الحب» و«الخير» و«الحرية» و«الجمال» و«الكرامة». وإن صفة «الحكمة» لهي أقرب انتماء إلى هذه المجموعة، منها إلى مجموعة المصطلحات العلمية، في الرياضة أو في غيرها من العلوم، وعندئذ يكون تحديد المعنى المراد بها أمرا يحتاج منا إلى بحث وتحليل، ورجائي لك يا سيدي أن تبدأ أنت بطرح ما تراه في معنى «الحكمة» التي كثيرا ما يوصف بها نضج الشيوخ، إن الغموض الذي يحيط بمعاني تلك المجموعة الهامة من الكلمات التي أشرت إليها لا يعيبها؛ إذ هو غموض يتكافأ مع أهميتها في حياة الإنسان، فتصبح الواحدة منها وكأنها البئر التي يغترف منها كل من شاء أن يغترف، فيجيء محصوله منها بمقدار ما اتسع دلوه وازدادت قدرته. إنني منصت لما تقوله عن «الحكمة» وما تراه في معناها.
قال صاحبي: إن فكري ليتجه أول ما يتجه إلى الآية الكريمة التي تقول:
يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ، وقد أردت يوما أن أبحث عما قاله الأئمة في تفسيرهم ل «الحكمة»، فوجدت الآراء في ذلك مختلفة، ولكني بعد قليل من إمعان النظر في مواضع الاختلاف وجدته اختلافا ظاهريا، وأما جوهر المعنى فقد بدا لي أن جميع الآراء متفقة عليه، وذلك المعنى - كما رأيته - هو أن يجتمع فيمن يوصف بالحكمة جانبان، هما: المعرفة من ناحية، والعمل بتلك المعرفة من ناحية أخرى، وواضح من ذلك أن تحصيل العلم وحده يجعل من صاحبه عالما، ولكنه لا يجعل منه حكيما، وكذلك المهارة العملية إذا توافرت لعامل، وظلت عنده مهارة لا تستند إلى معرفة المبادئ التي يستند إليها العمل، تجعل من صاحبها عاملا، لكنها لا تجعل منه حكيما، فالشرط الذي يجب توافره للحكمة هو الجمع بين المعرفة العقلية ثم العمل بها في مجال التطبيق وفي مجال السلوك، هذا هو ما أراه نقطة التقاء بين مختلف الآراء، لكن أصحاب تلك الآراء يختلفون بعد ذلك في تحديدهم للمعرفة، فبماذا تكون تلك المعرفة التي يراد أن يجيء العمل على أساسها؟ فالإمام مالك يجعلها الفقه في دين الله والعمل به، والإمام الشافعي يجعلها معرفة بسنة رسول الله، أو هي عنده - بتحديد أكثر - الأحكام التي أوحي بها إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - فيما لم يرد أحكامه في القرآن الكريم، ويجعلها ابن عباس معرفة بالحلال والحرام، وهنالك من هو أكثر تعميما في هذا السبيل، فيجعل المعرفة التي هي إحدى الركيزتين في «الحكمة» علما بالشريعة في جميع أحكامها، ولعلك ترى معي أن الاختلاف في الآراء مقصور على تحديد الموضوع الذي يشترط للمعرفة أن تكون معرفة به، أما في جوهر الحكمة وحقيقتها فلا اختلاف في تحليلها إلى عنصرين لا بد أن يجتمعا معا فيمن يوصف بالحكمة، وهما - كما أسلفنا - المعرفة بالموضوع ثم العمل بها، وذلك هو «الخير الكثير» الذي يؤتاه من شاء له الله أن يؤتى الحكمة. على أنه ينبغي ألا يفوتنا أن «الصواب» في المعرفة وفي الفعل معا، شرط متضمن، فليس من المعرفة بمعناها الصحيح ما هو خطأ، وليس من الفعل الذي هو خير ما هو ضلال، وقد أوجز الطبري هذا المعنى عند تفسيره الآية الكريمة، حين قال ما معناه: إن الله سبحانه يؤتي من يشاء من عباده الإصابة في القول والإصابة في الفعل، وإن في ذلك لخيرا كثيرا.
ولما فرغ صاحبي من هذا العرض الجميل الجليل المفيد، نظر إلي وكأنه يسأل بنظرته: ماذا تقول في هذا؟ فقلت: هذا رائع يا سيدي، رائع، لكنني ما زلت أرى أن اللفظة من تلك الألفاظ الغنية المثقلة بمضموناتها الخصبة إنما هي - بسبب عمقها - كالبئر التي يدلي فيها بدلوه من شاء أن يدلي، ثم تخرج الدلاء مليئة بما هو متفق مع الاتجاه الذي يتوخاه المستقي، فالتحليل الذي قدمته يا سيدي لبيان معنى «الحكمة» إنما هو جانب من عدة جوانب في حقيقة «الحكمة»، وذلك الجانب الواحد هو ما تخرج به الدلاء من البئر إذا كان أصحابها من فقهاء الدين، لكن انظر إلى فيلسوف مسلم هو «ابن رشد»، حين نظر في آية كريمة أخرى وهي التي تقول:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ؛ تره قد أخرج لنا معنى ل «الحكمة» يتفق مع رؤية فيلسوف، وذلك أنه رأى الآية الكريمة وكأنها قد جمعت ثلاث طرق للإقناع، وهي طرق ثلاث يعرفها دارسو الفلسفة جيدا، أولاها طريق «الحكمة» التي هي طريقة الفكر الفلسفي، وخلاصتها ألا يتقيد العقل في سيره إلا بما يفرضه ذلك العقل على نفسه من فروض تقتضيها عملية التفكير، وتلك لا تصلح إلا للصفوة من العلماء الذين أخذوا أنفسهم بمنطق العقل الخالص، وتتلو تلك الطريقة في المنزلة البرهانية طريقة «الجدل»، بالمعنى الذي يعرفه له دارسو الفلسفة، وهو أن يسمح بأن يكون ارتكاز الفكر على شيء أخذه صاحب ذلك الفكر مأخذ التسليم، كأن يكون عقيدة معينة آمن بها، ومنها يبدأ العقل في استخراج دلالاتها، وتلك كانت طريقة من يسمونهم في الفكر الإسلامي ب «المتكلمين» أو «علماء الكلام» (والكلام الذي هم علماؤه هو كلام الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم)، وأخيرا تأتي الطريقة الثالثة التي هي «الموعظة»، وهي طريقة تعتمد على ضرب الأمثلة وعلى الخطابة، لا على الخطوات الاستدلالية، كما يعرفها علم المنطق، وهذه الطريقة الثالثة هي التي تناسب جمهور الناس، ومن هذا الفهم للآية الكريمة من ابن رشد ترى أنه عندما نظر فيلسوف إلى مفهوم «الحكمة» عند ورودها في القرآن الكريم خرج لها بمعنى فيه لفتة الفيلسوف، وأظن أن الدرس الذي نخرج به نحن هو أن الكلمة المعينة عندما تكون غنية بمضموناتها لا يسهل ولا يجوز تحديد معناها بجانب واحد من جوانبها الكثيرة؛ لأن كل جوانبها بغير حذف هو معناها.
قال صاحبي: لقد أصبت في هذه الإضافة التي أضفتها، وهي إضافة تفتح أمامنا بابا يوصلنا إلى فهم لمعنى «الحكمة» أدق وأضبط؛ لأنه يضم تحت جناحيه عددا كبيرا من المجالات المختلفة التي نستعمل فيها كلمة «الحكمة» استعمالا صحيحا، فنحن نقول - مثلا - «حكمة الشرق» و«حكمة لقمان» و«حكمة المعري» و«حكمة الشيوخ»، وهكذا، وكلها معان لا يجوز إغفالها إذا أردنا لأنفسنا فهما أصح، وإنما أردت بالفهم الذي هو أدق وأضبط وأكثر شمولا أن نفهم «الحكمة» على أنها الوقفة العاقلة التي تلتمس وراء الكثرة البادية رؤية واحدة توحد تلك الكثرة في اتجاه واحد، بمعنى أن يمر على الإنسان - مثلا - خلال حياته خبرات كثيرة ومختلفة، فهو يلتقي بألوف الأفراد من الناس، لكل فرد منهم فكره ومزاجه ودرجة علمه بحقائق الأمور ، وهو يصادف خلال حياته ألوف المواقف التي تتطلب منه التصرف بما يناسب كل موقف يصادفه، وهو يسمع آراء، ويقرأ أفكارا، ويكابد مشاعر الفرح والحزن والغضب والرضى والحب والكراهية ، كل هذه الكثرة الهائلة تنصب في وعائه لتتسق أو لتتنافر، فإذا استطاع أن يستخلص من هذا كله مبدأ أو مبادئ، وأن يكشف مستعينا بتلك المبادئ القواعد التي تتحكم في مجرى الأحداث وفي تشكيل الإنسان، ثم إذا استطاع فوق ذلك كله أن يميز فيما يراه من كثرة وتنوع أين الصحيح فيها وأين الخطأ، كان ذلك هو ما يسمى بالحكمة وكان الرجل به حكيما. «الحكمة» في شعر زهير وفي شعر أبي العلاء المعري وغيرهما كانت هي النظرات النافذة في حقيقة الإنسان وطباعه، بحيث جاءت حكمة البيت الواحد من شعر هؤلاء الحكماء تكثيفا لعدد ضخم من الخبرات الجزئية التي يمكن أن تصادفك في تفاعلك مع الآخرين.
ولعلك - يا أخي - عندما أثرت بيننا بلباقتك الماهرة الماكرة موضوع «الحكمة» ليكون مدارا لحديثنا هذا، كنت تعني على وجه التحديد حكمة الشيوخ المزعومة، لتذكرني بالثمانين وقد بلغتها.
وحتى لا أفوت عليك تحقيق الهدف؛ أقول إن معناها قد اتضح أمامنا الآن، فإذا توافرت للشيخ حكمة، كان ذلك لأنه استطاع أن يستخلص من خبراته الماضية التي لا تقع تحت العد والحصر وجهة نظر على أساسها يفرق لنفسه ولغيره بين الحق والباطل، وبين الصحيح والفاسد، على أن يكون مفهوما أن تلك النظرة الحكيمة المكتسبة، إنما تنحصر حدودها في شئون الحياة اليومية الجارية، فلا تجاوزها إلى ميادين لا يكون فيها القول إلا للعلم لا للحكمة، وفي هذه المناسبة أقول إن لمحة مرت ذات يوم بخاطري عن العنوان الذي وضعه «القفطي» لكتابه «إخبار (بكسر الألف) العلماء بأخبار (بفتح الألف) الحكماء»، قد يلفت أنظارنا إلى أن هنالك فرقا بين «العلماء» و«الحكماء»، فعلم العلماء منصب على «الظواهر» لاستخراج قوانينها، وحكمة الحكماء تنظر إلى الغايات.
فلما بلغت مع صاحبي هذا المدى، هممت بالانصراف خاتما لقاءنا بقولي: ألم أقل لك يا سيدي إن الله سبحانه قد بارك لك في حياتك لإخلاصك لفكرك ولصدقك مع نفسك ومع الناس، فازددت مع الأعوام بركة على بركة، ونعمة على نعمة،
كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة ؟ فقل الحمد لله رب العالمين.
الفصل الثالث والعشرون
إرادة تأمر وعقل يأتمر
جاءتني رسالة من طالب في إحدى كليات الهندسة، وهو يقول عن نفسه في صدر رسالته إنه «يدرس علوم الإلكترونيات والكهرباء، وهي علوم - كما تعرفون- حديثة ومتطورة بدرجة عالية بحيث نستطيع القول إن حضارة اليوم مبنية عليها.» فلما قرأت رسالة الطالب إلى ختامها وجدتها مثلا واضحا لرسالة تجمع الجيد والرديء في صفحة واحدة؛ أما الجيد فهو ما نحمد الله عليه، وواضح أن صاحب الرسالة هو من خيرة الشباب في جامعاتنا، ومن هنا يشتد أسانا عندما نجد الجانب الرديء من رسالته يشير إلى اهتزاز خطير في منهج التفكير، كما يشير إلى قراءة متسرعة لما يقرؤه صاحب الرسالة، بحيث لا يرسخ في ذهنه مما قرأه إلا صورة مشوهة ممسوخة، وتكون هي الصورة التي يقيم عليها أحكامه بعد ذلك.
بدأ صاحب الرسالة رسالته بقوله إنه يتابعني فيما أكتبه، فبعضه يصادف عنده القبول والرضا، وبعضه الآخر لا يلقى عنده إلا الرفض، وقد لا يعلم الطالب صاحب الرسالة، أن أسعد ما يسعدني من طلابي هو أن أجد فيهم مثل هذا العقل الناقد الفاحص، الذي يعرف كيف يميز القمح من الشعير، حتى وإن اجتمع الصنفان واختلطا في وعاء واحد، وإن أشقى ما يشقيني من هؤلاء الطلاب هو أن أراهم يعبرون على المادة المقروءة مرور الغافلين، فالصواب أمام أعينهم وأذهانهم كالخطأ، وما هو مقطوع بيقينه لا يختلف عندهم عما هو موضع شك ويحتاج إلى مراجعة وتحقيق، ولهذه الخصلة في طباعي، أعجبني من صاحب الرسالة ما يرويه عن نفسه إزاء ما أكتبه، من أنه يقبل ويرفض، فلا هو ممن يقبلون المكتوب كله برغم ما قد يكون فيه من حسنات.
وكان مما لقي عنده القبول مما أكتبه - كما يقول - هو تلك الدعوة التي ما أنفك داعيا لها، وهي أن يصاغ العربي الجديد في صيغة ثقافية، تضمن بها أن يجيء ذلك العربي الجديد عربيا ومعاصرا في وقت واحد وبنظرة واحدة، وبعد أن يقرر لي ذلك عن نفسه، ينتقل خطوة فينبئني بأنه أراد تطبيق تلك الدعوة على شخصه. إلى هنا والنية طيبة، والاستجابة محمودة، فماذا يطمع كاتب أن يحققه في قرائه أكثر من أن يأتيه النبأ من قارئ بأنه قد هم بتحقيق الدعوة في شخصه؟ لكن هذا الشعور بالرضا لم يكد يسري في النفس بأطراف أوائله، حتى انعكس عندما وقعت عيني على الجملة التالية في رسالة الطالب، وفيها يقول إن ما قد هم بتحقيقه من دعوتي في شخصه: «لا يكون إلا بأن يجمع بطرفي العلوم الوجدانية والعلمية، كل إلى جوار الآخر ...» آه! لقد زلت القدم من مهندسنا الصغير، وارتدت فرحتي به لتصبح شكا في قدرته على أن يحقق شيئا مما قال إنه قد هم بفعله، فهنالك من أوجه الزلل ما قد يبدو للعين الغشيمة أنه زلل خفيف، مع أن العين التي دربتها خمسون عاما في تربية الشباب وتعليمه، قد ترى في تلك الزلة الخفيفة مظهرا خطرا يمس التكوين العقلي في الصميم، إن مهندسنا الصغير قد تخيل أنني أدعوه إلى ما قد عبر عنه في جملته التي أسلفت ذكرها، وإنه لضرب من المحال أن أكون في كل ما كتبته قد أشرت إلى شيء اسمه «علوم وجدانية»؛ لأن المعنيين ينقض أحدهما الآخر، فإذا كان «علم» فلا وجدان، وإذا كان «وجدان» فلا علم، فأين يا ترى قد اتجه الطالب في بحثه ليجد كتابا فيه «علوم وجدانية»؟ ثم انظر إلى قوله إنه سيضع «العلوم الوجدانية» بجوار «العلوم العلمية»! فهل يعرف الطالب أن ثمة علوما غير علمية، بحيث يتحوط في عبارته فيصف أحد النوعين من العلوم التي اعتزم أن يجاور بينها في رأسه بأنه «علوم علمية»؟ إنه إذا كانت قطرة واحدة من ماء المحيط تكفيني لأعرف منها ملوحة الماء في المحيط كله، فعبارة واحدة كهذه، بما فيها من سذاجة شديدة في استخدام الألفاظ، لتكفيني للحكم على «الفصيلة» التي يندرج فيها الطالب صاحب الرسالة، من بين فضائل طلاب العلم، وعندما أشرت إليه فيما أسلفته بقولي عنه إنه لا بد أن يكون من خيرة الشباب في جامعاتنا، فذلك لأني رأيت فيه بشائر الطموح العلمي وإخلاص الرغبة في تثقيف نفسه، وحسن النية في تحقيق الأهداف السامية، وهذه كلها صفات لا يكثر وجودها اليوم في شبابنا الجامعي، مما يغرينا بالأمل في سهولة توجيهه إلى جادة الطريق، وجادة الطريق يا صاحبي في مجال العلم والمعرفة إنما تكون في ضبط المعاني، وفي تكوين الحاسة الهادية في تمييز السليم من الفاسد في الألفاظ الدالة على تلك المعاني، كالصراف المدرب في تمييز العملة الصحيحة من العملة الزائفة.
وأود للطالب صاحب الرسالة أن يعلم بأن «العلوم» حين تنقسم فروعا وجب أن يكون كل فرع من تلك الفروع «علما» تتوافر فيه الشروط الأساسية في كل تفكير علمي، ومن حقنا طبعا أن نقسم العلوم بحسب موضوعاتها فنقول: علوم رياضية، وعلوم طبيعية، وعلوم اجتماعية، وعلوم شرعية، وهكذا، لكن تقسيما كهذا حين نقيمه على أساس «الموضوع» لا ينفي أن يكون بين الأقسام كلها جانب مشترك، هو الذي يجعل العلم علما بغض النظر عن موضوعه، والجانب المشترك هو «المنهج» المتبع في البحث، ولولا أن صاحب الرسالة طالب جامعي، لما استطردت في هذا الجزء من الحديث، ولو كان قد تشرب من موضوع اختصاصه العلمي، ألا وهو - كما أنبأنا في خطابه - علم الإلكترونيات والكهرباء، أقول إنه لو كان قد تشرب من موضوع دراسته منهاجه ودقته؛ لانعكس ذلك المنهاج وهذه الدقة في طريقة استخدامه للكلمات، وكان عندئذ يجد في نفسه ما ينفر من عبارات كالتي استخدمها في قوله: «علوم وجدانية» و«علوم علمية».
ثم أنتقل مع صاحب الرسالة إلى نقطة أهم، وردت هي الأخرى في عبارته التي ذكرناها نقلا عنه، وهي أنه حين أراد أن يتقمص الدعوة إلى الصيغة الجديدة، الصيغة التي نريد لها أن تدمج في صلبها تراثا ومعاصرة في وقت واحد، ظن أن الأمر في ذلك لا يعدو أن يضع شيئا يقرؤه في كتب التراث «بجوار» (وهذه هي الكلمة التي استخدمها) بجوار شيء يتعلمه من علوم العصر، وعلى وجه التخصيص يتعلمه مما يدرسه في كلية الهندسة، وإنني، وإن كنت لا أدري كيف يكون هذا «التجاور» لصنوف المعرفة في رأس الدارس، فليس هو ما يحقق الهدف المطلوب في بناء الصيغة الثقافية الجديدة للمواطن العربي، وعلى سبيل التشبيه أقول: انظر كيف يتغذى الكيان العضوي لأي كائن حي. فانظر إلى الشجرة - مثلا - وهي تمد جذورها في الأرض، تتحسس العناصر الملائمة فتمتصها دون سواها مما لا ينفع في غذائها ونمائها، وكذلك تمتص الماء المطلوب لترتوي، فهل هي تفعل ذلك لتوضع العناصر المغذية عنصرا إلى جوار عنصر وتجيء شربة الماء لترص مع تلك العناصر في صف واحد، أو أنها تتمثل هذا كله تمثلا تختفي معه العناصر المأخوذة من تربة الأرض، وهي إذ تختفي فإنما تختفي ظاهرا لتتبدى في الأوراق وخضرتها، وفي الأزهار، وفي الثمار؟
إنك يا صاحبي تأكل في غذائك أرزا ولحما وخضرا وخبزا وفاكهة ليتحول ما يتحول من هذا كله إلى دماء تجري في شرايينك فتكون لك الصحة التي تحيا بها وتدرس وتفكر.
وشيء كهذا تماما هو المطلوب إذا نحن اغترفنا من تراثنا واغترفنا من نتاج العصر، لننسج ما اغترفناه نسيجا حيا في رءوسنا وفي مشاعرنا وفي مواقفنا السلوكية جميعا، ولكي أضرب لك أمثلة مجسدة على هذا الذي نريده استعرض معك بعض ما صنعناه بالفعل، وجاء محققا للصيغة الجديدة المنشودة، خذ - مثلا - من دنيانا الأدبية مسرحيات أحمد شوقي، وتوفيق الحكيم، أو روايات نجيب محفوظ، ثم حاول أن ترسم - في أي عمل من تلك الأعمال - خطا فاصلا يجعل ما أخذه هؤلاء الأدباء من التراث في ناحية، وما أخذوه من الغرب في ناحية أخرى، فهل تستطيع؟ لم يكن في تراثنا الأدبي الشكل المسرحي، ولا الشكل الروائي، في الإبداع الأدبي، فأخذ مبدعونا تلك الأشكال من الغرب، ثم ملئوها بمضمون من حياتنا نحن، فهذه قصة الحب بين قيس وليلى، وهذه قصة أهل الكهف، وتلك قصة الحياة المصرية كما تطورت خلال ثلاثة أجيال، لكن المضمون الحيوي الذي ملأنا به الشكل الأدبي المأخوذ من الأدب المعاصر في الغرب، قد اندمج مع الشكل بحيث أصبحنا أمام كائن عضوي واحد.
وخذ مثلا آخر، من دنيا العلوم الطبيعية هذه المرة، وهو ما يحاوله علماؤنا في مراكز البحوث المختلفة من إيجاد حلول لبعض مشكلاتنا، فكيف نستزرع مساحات معينة في الصحراء؟ وماذا يمكن الإفادة منه في صنوف الأعشاب التي تنبت في أرضنا؟ وأي الأساليب أفضل في معالجة المرضى بأمراض توطنت في شعبنا؟ وهكذا، إنها مشكلات في حياتنا نحن لكننا تعلمنا من علوم العصر كيف نجري عليها الأبحاث العلمية التجريبية لعلنا نجد لها حلولا مناسبة، فإذا ألقيت نظرة إلى واحد من هؤلاء العلماء وهو قائم بعمله العلمي، فأنت عندئذ إنما تنظر إلى تراث ومعاصرة تجسدا في إنسان؛ لأن ذلك الإنسان الباحث مليء في داخله بعقيدة دينية ولغة عربية وأعراف وتقاليد، ولم يمنعه شيء من ذلك من أن يكون عالما؟ وإذا شئت فانظر إلى أحد العلماء في الميدان الذي أسميته أنت ب «العلوم الوجدانية» (!) انظر إليه وهو يحلل نصا في وثيقة تاريخية أو أدبية أو فلسفية، أو أثرية أو غير ذلك، فسوف يدهشك أن ليس في الموقف ذرة من «وجدان»، إنما هو تحليل علمي موضوعي لا نختلف في جوهره عن تحليل الأجسام المادية إلى عناصرها الأولية، وهو موقف مما يمكن أن يقال عنه إنه قد دمج تراثا إلى معاصرة.
والأمثلة في هذا السبيل لا تنتهي؛ لأننا - بالفعل - قد سرنا على الطريق شوطا بعيدا، لولا أن شكوانا ما تزال قائمة، من أننا في معظم الحالات «ناقلون» ولم نضف بعد إلى علوم العصر ما يشار إليه على أنه إضافة عربية ذات شأن، ومع ذلك فقد بقي أمامنا في صنع الصيغة الجديدة جانب هو أشد الجوانب عسرا، ثم هو هو نفسه الذي نعنيه أول ما نعني حين ندعو إلى صيغة ثقافية جديدة، وذلك الجانب الذي أعنيه هو أن ننشئ في أنفسنا «رؤية جديدة»، «وجهة نظر» جديدة أهم ما فيها انتهاج المنهج العلمي السليم حينما كان الموضوع الذي بين أيدينا موضوعا موكولا إلى العلم، ولنتذكر جيدا هنا أن العلم وموضوعاته إنما هو «جزء» واحد من حياة الإنسان، وهنالك غيره أجزاء كثيرة أخرى، ربما كانت أهم منه، لكنها على أية حال لا تنتمي إليه، وإذا نحن أخذنا بالعلم في مجاله أخذا جادا؛ تحتم علينا ألا نلقي بالا لما يناقضه، كما أشار إلى ذلك الإمام الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال».
ونعود إلى رسالة الطالب المهندس، فقد ورد فيها أنه حين حاول التطبيق على شخصه في الجمع بين شيء من تراثنا وما يدرسه هو من علوم العصر، بدأ بقراءة صفحات عن أبي حيان التوحيدي، وهي صفحات عرض فيها أبو حيان العلاقة بين «ذكاء» الإنسان و«إرادته»، ويعيد الطالب في خطابه نموذجا لما قرأه عند أبي حيان التوحيدي، ثم يشعر بالعبث فيما يطالعه فيلقي به، ولا أدري أين ألقى به، ليعود إلى علومه الهندسية وهي العلوم التي تبنى عليها حضارة العصر كما قال، ويسأل في دهشة بما معناه: أهذا هو ما تريدنا أن نتزود به إلى جانب علوم عصرنا؟
فوجدتني أحق منه بالعجب! إن ما نقله عن أبي حيان التوحيدي عن العلاقة بين ذكاء الإنسان وإرادته، وكيف أنه إذا اشتد الذكاء ضعفت الإرادة، إنما هو من أروع ما يكتبه كاتب، قديما أو حديثا، عربيا أو غربيا، عن الإنسان وفطرته، وقبل أن أعرض هنا مضمون الفكرة التي قدمها أبو حيان التوحيدي فأحدثت القرف والغثيان عند صاحبنا المهندس الصغير (فهو على وشك التخرج) لا يسعني إلا أن أعبر عن أساي وحسرتي كلما وجدت شبابنا الجامعي وحتى الصفوة من ذلك الشباب عاجزا عن القراءة إلى الحد الذي يجد بين يديه كنوزا من كنوز العقل البشري، فيختلط عليه الأمر بين اللآلئ والحصى!
إنني عندما قرأت الاقتباس الذي نقله الطالب في خطابه عن التوحيدي ليبرر لي قرفه وغثيانه؛ تذكرت من فوري أن الفكرة نفسها، التي تضمنها ذلك الاقتباس، قد وردت عند «ج. ك. تشسترتون» (توفي 1936م عن اثنين وستين عاما )، وهو أديب إنجليزي يضعه قومه في منزلة عليا من تاريخهم الأدبي، كتب الرواية، لكن مكانته العظيمة استمدت من أدب المقالة عنده، وفي إحدى مقالاته تلك بسطت الفكرة نفسها التي بسطها أبو حيان التوحيدي، والتي أصابت ولدنا المهندس بالنفور، ولقد كنت حين صادفت الفكرة عند «تشسترتون» قد تملكني روعتها ونفاذها وصدقها، حتى ترجمتها إلى العربية لأحفظها عندي بين أعز ما أعتز به من مطالعات، فلما قرأت الاقتباس الحياني في رسالة الطالب، لم أضيع دقيقة واحدة بعد أن فرغت من قراءة الخطاب وقمت لأحاول البحث عما كنت ترجمته عن الأديب الإنجليزي العظيم، ولن أذكر هنا كم ضاقت الدنيا أمامي، حين أخفقت جهودي في العثور على الترجمة، نعم، لقد طالت بيني وبين كتابته الأعوام، لكنني ما زلت أذكر شكل الورقة التي كتبت عليها النص المترجم، أذكرها في وضوح كأنني كتبتها نهار أمس، لكن ماذا يجدي هذا كله أمام مكتبة اختلطت أوراقها، وبصر ضائع لا يكاد يفرق بين ورقة وكتاب؟
لكن الفكرة عند الأديب الإنجليزي هي هي بعينها وبكل تفصيلاتها وحذافيرها الفكرة التي أوردها أبو حيان التوحيدي في المقتبس الذي أرسله إلى الطالب المهندس، ليقيم به الدليل على «تفاهة» تراثنا، وماذا تقول تلك الفكرة؟
يتفق الأديبان معا - العربي والإنجليزي الحديث - على أنه إذا اتسعت المعرفة عند إنسان، واشتد به الذكاء كان بذلك أميل إلى الوقوف عند الأفكار، يحللونها قبل أن يقيموا عليها عملا في دنيا العمل، فما من فكرة مما هو متداول بين الناس، ويظنونه بسيطا وواضحا ومفهوما، إلا وتلك الفكرة نفسها عند من اتسعت معارفه ومداركه واشتد ذكاؤه؛ فاشتدت تبعا لذلك قدرته على التحليل، أقول إن الفكرة نفسها التي رآها عامة الناس بسيطة وواضحة إنما تبدو على حقيقتها لأصحاب المعرفة الواسعة والقدرة على التحليل كثيرة العناصر مركبة التكوين، وليست بكل الوضوح الذي ظنه بها السذج الأبرياء، فماذا يترتب على هذا الفرق بين النظرتين؟ يتوقف عليه أن من قلت معرفته وضعفت قدرته على تحليل فكرة ما، طالما هو لا يرى من تلك الفكرة إلا جانبا واحدا، فإنه يندفع نحو العمل على أساسها. في حين أن العارف الذكي القادر لعلمه بأن تلك الفكرة معقدة بكثرة تفصيلاتها؛ فهو يتردد كثيرا قبل المغامرة بعمل يقيمه على أساسها، وبعبارة أخرى نقول: إن العاجز في جانبه العقلي سريع الإرادة نحو تنفيذ الأفكار التي يحسها واضحة وهي على كثير من الغموض، وأما صاحب القدرة العقلية فالإرادة عنده بطيئة لتردده بين أن يعمل أو لا يعمل بناء على فكرة معينة ليس هو على يقين من نتائجها.
وعلى هذا الفرق بين النمطين من الرجال، تسهل الزعامة على الصنف الأول؛ لأن الزعامة مرهونة بالإرادة، والإرادة عنده سريعة الأداء لتوهمه وضوحا في رؤية النتائج، لكنها - أي الزعامة - تصعب على الصنف الثاني؛ لأنه لا يريد أن ينتقل إلى دنيا العمل إلا بعد أن تتضح له النتائج مقدما، ومثل هذا الوضوح يتطلب منه وقفة طويلة للبحث والتحليل، وبصرف النظر عن الزعامة من يستطيعها ومن لا يستطيعها يمكن التوسع في الفكرة بحيث نقول بصفة عامة إن النجاح في الحياة العملية كثيرا ما يكون لأصحاب المعرفة القليلة والإرادة القوية، قبل أن يكون لأصحاب المعرفة الواسعة والإرادة المترددة، فالنسبة بين العقل والإرادة كما ترى نسبة عكسية، تقل المعرفة فتشتد إرادة التنفيذ، وتتسع المعرفة فتضعف الإرادة بالتردد.
تلك هي خلاصة الفكرة عند أبي حيان التوحيدي (في القرن الرابع الهجري) وعند «ج. ك. تشسترتون» في عصرنا، وهي التي أصابت صاحبنا الطالب المهندس بالقرف من التراث؛ ولذلك صمم على أن يهجره، ولم يكن قد خطا فيه إلا مقدار أصبع من قدم.
وربما سألني الطالب صاحب الرسالة: وبماذا ينفع الناس هذا الكلام؟ وهنا نجيبه قائلين: إنه كلام يلقي الضوء على ما غمض من طبيعة الإنسان فيزداد الناس علما بأنفسهم، وبالتالي فهم يزدادون مهارة في التعامل بعضهم مع بعض، أم أن هذا في ظنك حصاد قليل؟ وما دمنا نتحدث الآن عن طبيعة الإنسان، وكيف تنطوي تلك الطبيعة على «تغالب بين الذكاء والإرادة» (وهذه عبارة التوحيدي) فيحسن بنا أن نقف دقيقة أخيرة عند هذين الجانبين : الإرادة والعقل؛ لنحدد على شيء من الدقة نوع العلاقة القائمة بينهما، لأهمية هذا التحديد في مواقف كثيرة جدا من حياتنا العملية، ومن أهمها ما ينبغي أن تكون عليه الصلة بين رجال السياسة ورجال العلم، فالإرادة «رغبة» من صاحبها في تحقيق هدف معين يبتغيه لنفسه، لكنها لا تشتمل في ذاتها على «معرفة» الوسائل التي بها تتحقق تلك الرغبة، فيأتي أهل العلم ليحددوا بعلومهم المختلفة - كل عالم منهم في مجاله - ماذا تكون وسائل التحقيق في الهدف وكيف نعالج تلك الوسائل لكي توصلنا إلى ما كنا أردناه، فرجال السياسة، من حيث هم، في مجموعهم، يعكسون الرأي العام، يريدون للأمة أن تبلغ غايات معينة، فهم يريدون «مثلا» أن تزال الأمية، وأن يكون لكل مواطن فرصة للعلاج الطبي، وألا يقل متوسط الدخل للمواطن عن كذا من الجنيهات في السنة، هم يريدون، لكن ليس من شأنهم أن يقولوا كيف يكون السبيل إلى تحقيق ما يريدون؛ لأن ذلك من شأن العلماء في تخصصاتهم المختلفة، فالرغبة الأولى من الرغبات التي ذكرناها، هي من شأن علماء التربية والتعليم، والرغبة الثانية من شأن علماء الطب، والرغبة الثالثة من شأن علماء الاقتصاد، وهكذا يتبين لنا كيف تجيء «الإرادة» في حياة الإنسان أولا، ثم يجيء «العقل» (متمثلا في العلوم) ليخدم الإرادة فيما اتجهت إليه. ثم لا بد لنا من إضافة خطوة ثالثة وأخيرة، وهي أنه إذا ما وضع العلم خطته فهو وحده لا يملك التنفيذ، فتعود القوة المريدة مرة أخرى لتعين في أن تتحول الخطة العلمية إلى عمل، فالإرادة هي بمثابة من يأمر أولا والعقل العلمي بمثابة من يأتمر في بيانه كيف يكون الوصول، وأخيرا يتعاون الجانبان في مجال العلم، فإذا سئلنا - على هذا الضوء - على أي نحو ينبغي أن تكون العلاقة بين الجامعات والمجتمع، كان الجواب واضحا، وهو: المجتمع يعلن عن مشكلاته ورغباته والجامعات تعرض الحلول العلمية لتلك المشكلات ولتحقيق هذه الرغبات، ثم يتعاون الجميع على إخراج الخطة النظرية إلى حيز الوجود.
الفصل الرابع والعشرون
كلمة حق عن هذا الجيل
للآباء أحيانا طريقة يتحدثون بها إلى أبنائهم كلما أرادوا أن يشحذوا فيهم الهمة والطموح، وهي أن يتحسسوا فيهم مواضع الضعف فيضخموها، وأن يسكتوا عن مواضع القوة التي يعرفونها في أبنائهم ، فلا يذكرونها ظنا منهم أن ذلك أدعى إلى استثارة هؤلاء الأبناء إلى مزيد من الجهد وإلى ارتفاع بدرجة الطموح، لكن انظر إلى أولئك الآباء أنفسهم إذا ما ساقت لهم المصادفات من يقول عن أبنائهم ما قالوه هم لأبنائهم من تضخيم لمواضع الضعف وسكوت عن مواضع القوة، انظر إليهم كيف يجيبون بجواب يقلبون فيه الرأي سكوتا عن الضعف وإظهارا للقوة؛ فهم عندئذ يبرزون للمهاجم الغريب ما قد أغمض عنه العين من قدرات أبنائهم لائذين بالصمت عما فيهم من عجز وتخاذل، وشبيه بهذا الموقف من الآباء نحو أبنائهم موقف المصري عندما يشدد كلمات النقد التي يوجهها إلى مواطنيه، حتى إذا ما سافر إلى خارج وسمع نبرة نقد من غريب انبرى له موضحا ومصححا، وليس في هذا كله شيء من تناقض؛ لأن التناقض لا يكون إلا إذا حكمنا بالكذب على شيء هو نفسه الذي كنا بالأمس قد حكمنا عليه بالصدق، وأما ما نحن صانعوه حين ننقد أبناءنا في مواضع قصورهم غاضين أبصارنا عن مواضع قدرتهم؛ فإنما نحن نتحدث عن جانب ونسكت عن جانب آخر، ومن حق المتكلم أن يختار ما يتحدث عنه من الجانبين، وربما اختار لحديثه الجانبين معا.
وإنني لأعلم عن نفسي كم أهاجم هنا وكم أدافع هناك، فهنا أصطنع موقف أولئك الآباء في الجانب الذي يهاجمونه من أبنائهم، وفي الجانب الذي يلتزمون عنه الصمت، وهناك أقلب الأسطوانة فلا يتحرك لساني أو قلمي إلا بما أعرفه عن أبنائي من قدرات ومواهب ساكتا عما هو غير ذلك، ومرة أخرى أقول إنه لا تناقض في موقف كهذا ولا كذب، بل هو الصدق في الحالتين، فإذا قيل: لكنه صدق وليس هو «كل» الصدق؛ كان الشفيع في ذلك هو حب الوالد لأبنائه والرغبة البصيرة في أن يراهم من الموكب الحضاري في طلائعه.
أقول هذا تمهيدا للرد على خطاب جاءني من السيد أحمد عبد العزيز أحمد متسائلا في مرارة عن جيله هذا ما الذي أصابه ليجعله جيلا مسطحا ممسوح القسمات حتى ليتعذر على الفاحص أن يقع له على سمات تميزه، ولماذا امتلأ الجيل الماضي بالعمالقة بينما خلا هذا الجيل منهم، فلم يكونوا إلا مجموعة من أقزام. فشعرت - عندما قرأت الخطاب - أن واجب الحق يقتضي أن أقول كلمة الصدق فيما تعودت أن أغمض عنه العين غالبا، ولا أهتم بذكره إلا قليلا معتذرا لنفسي عن ذلك بأن جانب القوة في هذا الجيل هو جانب مكسوب، فإذا كان لنا كفاح لنتجه به نحو الجانب المفقود؛ فالمقارنة بين الجيلين إذا تنزهت عن الأغراض الخاصة إنما تدلنا على أن لكل جيل حسناته التي يتفوق بها على الجيل الآخر، ففي الحياة الثقافية - بصفة عامة - كان الكاتبون الأعلام «قارئين أكثر منهم كاتبين»؛ إذ الكثرة الغالبة مما كتبوه إنما هي عروض جيدة لما قرءوه. ولقد قرءوه من كتب التراث آنا ومن ثقافات الغرب آنا آخر، وكان لهم في ذلك فضل كبير، لكنه فضل من يمهد الأرض للبناء، والبناء هو الإبداع الذي يأتي أصحابه بجديد غير مسبوق لا في صفحات التراث ولا في صفحات الغرب، وجاء هذا الجيل ليجد الأرض ممهدة يبني مبدعاته، ولذلك غلبت عليه وسيلة الرواية والقصة والمسرحية بعد أن كانت تلك الوسيلة نادرة الظهور عند الجيل الماضي، والفرق واضح - بالطبع - بين الحالتين، فبينما كانت أصابع الجيل الماضي مشغولة بتقليب الصفحات للأخذ عنها، ترى أصابع هذا الجيل مشغولة بالنبض الحي تحسه في أبناء الشعب أينما كانوا على اختلاف أعمالهم وتفاوت درجاتهم، وهكذا استبدلوا بكتب الجيل الماضي مطالعة لحياة البشر.
وكانت تلك الخطوة نحو الإبداع عند أبناء هذا الجيل لتكون نقلة بنا نحو ما هو أفضل وأبعد تقدما، لولا أن خالطها ما قيدها وأنقص من قيمتها، وذلك أن أبناء هذا الجيل قد أحاط بهم ما ملأ آذانهم بضرورة توكيد المصري لذاته، وإلى هنا والدعوة خيرة ووطنية ومقبولة، لكن الأمر لم يقف بهم عند هذا الحد المعقول المقبول، بل تجاوزه ليملأ آذان أبناء هذا الجيل بإضافة ليست محققة الصواب، وهي أن توكيد الذات يقتضي بالضرورة كراهية الآخرين، وهي كراهية تقتضي بالضرورة - كما أفهموهم - أن يتنكروا لما عند أولئك الآخرين من فكر وأدب وفن، فإذا أضفنا إلى ذلك الموقف اللاثقافي واللاحضاري، بل واللاأخلاقي واللاوطني أيضا، إذا أضفنا إليه جانبا آخر هو أنه حتى لو لم يكن عند أبناء هذا الجيل تلك الكراهية وما تقتضيه في ظنهم من رفض لثقافة المكروه لوجدوا في أنفسهم ما يسد عليهم طريق الاتصال بتلك الثقافات الأخرى، بل ما يسد عليهم كذلك طريق الاتصال بالثقافة العربية ذاتها، وهي في عيونها ومصادرها، وذلك لضعف القدرة اللغوية فيما يختص باللغة العربية ولانعدام قدرتهم - تقريبا - في اللغات الأجنبية فنتج عن ذلك أن أصبحوا - إذا استثنينا ترجمات شائهة في معظم الحالات - مغلقين في أبراج مصمتة لا يكادون يعرفون شيئا مما يعج به الغرب من فكر وأدب، اللهم إلا أسماء مؤلفين وعناوين لكتب يخطفونها خطفا من هنا وهناك ليوهموا الناس بأنهم إذ يزدرون الغرب وثقافته؛ فذلك إنما يفعلونه عن علم ودراية، فانتهى بهم هذا الشذوذ كله إلى نتيجة غريبة، وهي أنهم لما كانت لبعضهم مواهب الإبداع فقد أبدعوا، لكنهم كذلك كانوا فقراء فكر للأسباب التي قدمناها فجاء ما أبدعوه محدود القيمة إذا كانت القيمة هي أن يدوم نتاجهم لتقرأه أجيال بعد أجيال كما هي الحال في البديع إذا جادت خامته. وكما كان الأدباء الأعلام في جيلنا الماضي يكتبون عما قرءوه أكثر جدا مما يكتبون ما أبدعوه، وبذلك جاءت كتاباتهم وكأنها خالية من حياة الناس على أرضنا، فكذلك كان شأن الدارسين أعلاما وغير أعلام؛ إذ كانوا ينشرون دراساتهم، فإذا هي قد اتخذت موضوعات من أقطار الدنيا في هذا العصر أو فيما سبق من عصور، وكأن مشكلات مصر الآن ليست من شأنها ولا من أخصاصها، فكان يندر أن يجد الشاب القارئ الدارس كتابا عربيا حديثا في أي موضوع حيوي يعرض له ويريد أن يزداد به علما، فكان الشاب منا كلما عرض له موضوع جديد ورغب في القراءة عنه؛ اتجه رأسا إلى البحث عنه في مظانه من المؤلفات الأجنبية؛ إذ كان أمرا مفروغا منه ولا يحتاج منا أن نسأل عن كتاب عربي حديث في موضوعنا، ولكن انظر الآن إلى ما ينتجه الدارسون في هذا الجيل في شتى الموضوعات الجديدة، فما من ميدان إلا وقد صدرت فيه عدة مؤلفات لعلمائنا والدارسين من أبنائنا، فهذه - إذن - نقطة محسوبة بغير أدنى شك لصالح هذا الجيل على سابقه. فالفكرة التي كان الدارس من أبناء الجيل الماضي يكتفي في عرضها بمقالة في مجلة أو صحيفة أصبح الدارس من أبناء هذا الجيل لا يرضيه فيها إلا كتاب.
لكننا وقد أنصفنا هذا الجيل، فاعترفنا له بأنه أكثر من سالفه لجوءا إلى الإبداع في الأدب وإلى إفاضة القول في الدراسات العلمية وما يشبهها، فليس من حقنا أن نتجاهل حقيقة صارخة في المقارنة بين الجيلين في هذا المجال، وتلك الحقيقة الصارخة بوضوحها هي أنه إذا رأينا هذا الجيل في دنيا الأدب «أكثر» إبداعا؛ فهي كثرة عددية. ولقد عوض الجيل الماضي عن ضيق المجال الإبداعي بارتفاعه في جانب الإجادة، وما زلنا نجد في هذا الجيل الحاضر نفسه أو شوامخه ليسوا من أبنائه، بل هم ممن ينتمون إلى الجيل الماضي، وشاء الحظ الحسن للأدب العربي أن يمتد بهم الأجل، بارك الله لهم في حياتهم وأطال أعمارهم، ليظلوا منارات تشهد بقوة ضيائها أنهم أبناء جيل أخلص وأجاد.
وهذه المقارنة نفسها بين الجيلين في دنيا الأدب قلة جيدة فيما مضى وكثرة معظمها هزيل فيما هو قائم حولنا اليوم، أقول إن هذه المقارنة نفسها تصدق كذلك على مجال الدراسات البحثية، بمعنى أنه إذا كان دارس الجيل الماضي تكفيه المقالة أو سلسلة المقالات في عرض دراسته بينما دارس اليوم يلجأ إلى وسيلة «الكتاب»، فلقد اقترنت القلة الكمية عند الجيل الماضي - أحيانا كثيرة - بقوة الفكرة المعروضة وأصالتها، في حين أن مثل تلك القوة وهذه الأصالة هما في كتب أبناء هذا الجيل أندر من الكبريت الأحمر كما يقال، وإذا شئت فقارن أعوام العشرينيات بأعوام السبعينيات - وبينهما نصف قرن - فبينما كان العمل الفكري أو الفني يصدر عن صاحبه ليشق أمام الناس دربا جديدا غير مطروق، وغالبا ما يكون الدرب الجديد مصحوبا بنوع من الحرية جديد. تبحث في نتاج السبعينيات عن أمثال تلك الضربات الخلاقة؛ فلا تجد منها إلا ما هو أقل من القليل، فإذا طالبتني بشرح ما أعنيه بالضربات الخلاقة أجبتك بأنها الضربات التي من شأنها أن تغير طريق السير المعتاد المألوف ليصبح أمام الناس معيارا جديدا ووجهة نظر جديدة.
لقد قرأت منذ فترة قصيرة عرضا موجزا وسريعا لواحد من ألمع من يحملون العلم في أيامنا هذه يذكر فيه - على سبيل المفاخرة بهذا الجيل الذي هو أحد أبنائه بل أحد أفذاذه - وكأنما أراد أن يقول ما معناه: انظر إلينا وقارن ما تراه فينا من براعة وقدرة ونبوغ في شتى المجالات، بما قد كان قائما في الجيل الماضي، ولست أريد هنا أن أذكر الأسماء التي ذكرها من أبناء عصره هذا حتى لا أسيء إلى أحد إساءة غير مقصودة بالطبع، ولكنني أذكر الأسماء المقابلة لها من أبناء العشرينيات، والتي لم يذكرها الكاتب في عرضه الموجز السريع، فقد كان في الشعر أحمد شوقي، وكان في الموسيقى سيد درويش، وكان في الدراسة الأدبية طه حسين، وكان في الكتابة السياسية الدكتور هيكل، وكان في الشعر والنقد والكتابة السياسية العقاد، وكان في فن النحت محمود مختار، وكان في فن التصوير محمود سعيد، وكان في الاقتصاد طلعت حرب، وكان الأدب المسرحي على وشك الظهور على يدي توفيق الحكيم، والأدب الروائي على وشك القفزة العالية بعد البدايات التي ظهرت، ولقد جاء بتلك القفزة نجيب محفوظ، وكان محمد عبد الوهاب وأم كلثوم قد بدآ السير على طريق العبقرية في عالم الموسيقى والغناء. تلك كانت أسماء العشرينيات وهي التي تقابل السبعينيات التي فاخر بها الكاتب اللامع في عرضه الموجز السريع.
ولعل هذا الموضع من سياق الحديث هو الفرصة المناسبة للكلام عن الشعر الجديد الذي هو - بغير شك - من ملامح هذا الجيل، وبادئ ذي بدء أشعر بضرورة أن أدفع عن نفسي اتهاما كثر دورانه على الألسنة، وهو أني عدو لهذا الشعر الجديد عداوة مطلقة غير مقيدة بالضوابط والشروط، وهو اتهام غير صحيح، فقد حدث سنة 1957م «بعد العدوان الثلاثي عام 1956م بقليل» أن شرعت لجنة الشعر في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، «هكذا كان اسمه في ذلك الحين ولم تكن قد أضيفت إليه بعد العلوم الاجتماعية». أقول إن لجنة الشعر عندئذ وكنت عضوا فيها وكان العقاد مقررها شرعت في جمع كل ما كان الشعراء قد أبدعوه بمناسبة العدوان الثلاثي لنشره في مجموعة واحدة أولا، ولإجازة من تراهم اللجنة في المراتب الثلاث الأولى، وانقسمنا نحن الأعضاء لجانا ثنائية، كل لجنة تنظر في الشعر المجموع كله لاختيار الثلاثة الأوائل مرتبين، الأول منهم فالثاني فالثالث. وكان معي في لجنتي الثنائية المرحوم علي أحمد باكثير، ووقع اختيارنا للجائزة الأولى على قصيدة من الشعر الجديد «أظنها كانت للأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي، لكن أسماء أصحاب الشعر كانت سرية لا يعرفها أعضاء اللجان الفاحصون.» وجاء يوم انعقاد اللجنة بكامل أعضائها لعرض أسماء المرشحين، فأولا كان مما يلفت النظر أن جميع اللجان الثنائية قد اتفقت في ترشيحاتها على الثاني والثالث. وهذا الاتفاق - في رأيي - هام جدا للباحثين في فلسفة الجمال الفني، وللقائمين على النقد الأدبي؛ لأنه دليل شديد الرجحان على أن مقومات الجودة في مبدعات الأدب والفن أمور موضوعية موجودة في الأعمال ذاتها، وليس الأمر كله موكولا إلى الأذواق الذاتية التي لا ضابط لها، وثانيا عندما دارت المناقشة على من يكون أول الفائزين؛ كنا نحن وحدنا «أعني لجنتنا الثنائية» الذين خرجنا على إجماع بقية اللجان الثنائية. فبينما اجتمع رأي الجميع على شاعر معين؛ كان ترشيح لجنتنا الثنائية لقصيدة من الشعر الجديد، وهنا نشأ الخلاف، وهو الخلاف الذي اشتهر فيما بعد في دوائرنا الأدبية عن رأي العقاد في الشعر الجديد من حيث إنه يدخل في اختصاص لجنة النثر وليس لجنة الشعر، ولقد طلبت أن يثبت رأيي في محضر الجلسة - ولمن شاء أن يراجع ذلك المحضر - وهو أن الشعر الجديد لا يرفض رفضا قاطعا وبلا قيد، وإنما يرفض في حالة واحدة فقط، وهو أن يكون خاليا من أي «شكل» يمكن تقنينه إذا أردنا هذا - بالطبع - إذا كان المضمون ذا خصائص تؤهله لأن يكون شعرا. وذلك هو رأيي إلى هذه الساعة.
ونعود إلى هذا الجيل وشعره الجديد، فأقول إن الخصوصية الحميمة التي تربط قصيدة الشعر الجديد بصاحبها، هي في ذاتها امتياز يحسب حسابه إذا أردنا المقارنة بين جديد وقديم، لا سيما في العالم العربي بصفة خاصة، حيث شعور الفرد بفرديته ينقصه الشيء الكثير. ومن وسائل اكتمال تلك الفردية المنقوصة في بلادنا أن يجيء شعر الشعراء نموذجا في التفرد قد يحتذيه الآخرون، لكن هذه الخصوصية الحميمة التي أشرنا إليها لا يجوز أن تكون على حساب الجوانب الأخرى، التي منها قوة اللغة وسلامتها، ومنها عظمة الموضوع الذي امتلأت به نفس الشاعر فأجراه في قصيدة من شعره، فهذان جانبان يكفلان للشعر أن يدوم جيلا بعد جيل، وعندي أن قابلية العمل الأدبي للدوام هي من أهم المعايير التي يمكن للناقد الأدبي استخدامها في تقويمه للشعر الذي ينقده، وقابلية الدوام هذه هي الغائبة - فيما أرى - عن الشعر الجديد، حتى ما هو جيد منه، والكلام هنا - بالطبع - هو على سبيل الحكم العام الذي لا ينفي وجود ما يستثنى منه.
ومن الشعر أنقل إلى الفن التشكيلي رسما ونحتا، ولقد كان من حسن حظي أن كنت لمدة عشر سنوات على الأقل «1958-1968م على ما أذكر» في لجنة المقتنيات الفنية التي كان من عملها أن تزور ما يقيمه رجال الفن من معارض لاختيار ما هو جدير بالاختيار لتقتنيه الدولة، فكانت تلك عندي فرصة ذهبية تتيح لي مسايرة الحركة الفنية مسايرة مسئولة، ولقد أفدت من الزملاء أعضاء اللجنة - وكانوا جميعا من مبدعي الفن أو على الأقل من كبار نقاده - وكنت أحرص على أن أسبقهم إلى مكان العرض بنصف ساعة أو نحوها؛ لأكون لنفسي رأيا خاصا على مهل قبل أن أتأثر بآراء الزملاء ، وكان ذلك مني امتحانا لنفسي لأرى هل أقترب أو أبتعد في الرأي عن المختصين في الفن إبداعا ونقدا، فكنت - بحمد الله - أنجح في هذا الامتحان؛ إذ أراني قد اخترت منفردا ما يجيء رأي الجماعة ليقع على ما كنت وقعت عليه، نعم كانت فرصة نادرة لي، أتاحت لي فرصة المتابعة، فكان يذهلني حقا تلك الخصوبة الفنية الرائعة، وتلك المحاولة المخلصة الجادة في أن تجيء مبدعات الفن حاملة للروح المصرية في عمق أعماقها، فإذا أقمنا مقابلة بين الجيلين كان الرجحان لهذا الجيل، لا من حيث الكثرة وحدها، بل كذلك من حيث القيم الفنية العليا، مع اعترافنا بالأفذاذ النابغين من أبناء الجيل الماضي.
ولقد جاءت تلك النزعة الدافعة لصاحبها نحو أن يكون ذا شخصية متفردة بخصائصها ليكون الفرد فردا متميز الملامح والصفات دون سواه، وهي النزعة التي نراها ونحسها في مجال الشعر الجديد، وفي مجال الفن التشكيلي الجديد على حد سواء، والتي يحاول بها كل شاعر على حدة أن تكون له رؤياه الخاصة به وأن تكون له كذلك طريقته الخاصة في استخدام اللغة استخداما جديدا، كما يحاول كل فنان في مجال الفن التشكيلي أن يخاطب المشاهد بلغة الألوان والخطوط، أقول إن تلك النزعة المميزة لشعراء هذا الجيل ومبدعي الفن فيه إنما جاءت انعكاسا للموقف السياسي كله لمصر المعاصرة «ولغيرها من أشباهها» من حيث جهادها في سبيل حريتها الضائعة واستقلالها المفقود، ومن حيث إرادتها لأن تسترد هويتها بكل خصائصها التي تميزها والتي تنفرد بها دون سائر الأقطار.
والحق الذي لا مراء فيه هو أن أبناء هذا الجيل أشد إيمانا بحرية الإنسان - فردا كان أو مجتمعا - من أبناء الجيل الماضي، نعم، إن أولئك كانوا دعاة حريات متنوعة في السياسة وفي الأدب وفي دنيا المرأة وغير ذلك، لكن هذا الجيل قد جاء ليضيف أبعادا جديدة إلى معنى الحرية المنشودة، يهمنا منها في سياق هذا الحديث روح المغامرة كما هو واضح في هجرة الشباب المصري لا بالمئات ولا بالألوف بل بالملايين كسبا للرزق والتماسا لظروف تمكنهم من إظهار قدراتهم في شتى الميادين، وذلك ما قد تحقق لكثيرين منهم بالفعل، وإنه لمن الإنصاف للدولة في مصر خلال هذا الجيل أن نقول إن تلك الروح المغامرة الطموح في شبابنا ربما جاءت نتيجة مباشرة للأجهزة الكثيرة التي أنشئت لتحريك المواهب عند الموهوبين، فوزارتا الثقافة والإعلام كانتا في هذا الجيل شيئا جديدا لم يعرفه الجيل الماضي، فإذا أردنا تلخيصا لما تؤديه هاتان الوزارتان في حياتنا قلنا إنهما تتعقبان شرائح المجتمع كلها لتقدم لكل شريحة منها زادها الثقافي المناسب الذي من شأنه أن يوقظ فيها الوعي بذاتها وبوطنها، فإذا لم تكونا قد بلغتا في ذلك كل ما كنا نتمناه، فقليل الزاد خير من العدم على كل حال، فقد أصبح للطفولة مكانها من الوعي القومي بعد أن لم يكن، كما أصبح مثل ذلك للمرأة وللشباب وللعامل ولغير هؤلاء جميعا من مجموعات المواطنين، وكان مما ساعدنا على تلك اليقظة الشاملة - بالطبع - أجهزة جديدة أمدنا بها العلم الجديد، وفي مقدمتها الإذاعة مسموعة ومرئية، فضلا عن أجهزة من نوع آخر أقمناها نحن على أرضنا، فسرعان ما ترددت أصداؤها في كياننا الثقافي بكل جوانبه، ومن أهمها الأكاديميات التي أنشأناها: أكاديمية الفنون وأكاديمية العلوم والبحث العلمي، ثم أكاديميات أخرى لم نعطها هذا الاسم، لكنها تفعل فعلها، منها: المجلس الأعلى للثقافة والمجالس القومية المتخصصة.
أفبعد هذا كله يصح أن يوصف هذا الجيل بأنه خال من أية سمات تميزه؟ لكن هذا لا ينسينا الفوارق البعيدة بين الجيلين، وهي فوارق تجعلهما أقرب إلى أن يكونا ضدين من أن يكونا تسلسلا طبيعيا في مجرى حياة واحدة، ففي الجيل السابق - كما أسلفنا - قلة نسبية في الإبداع، لكنها قلة فيها الأفق الرحب والإجادة، وفي الجيل الحاضر كثرة نسبية في الإبداع، لكنها كثرة فيها الهزال وضيق الأفق، فهل يصح لنا - يا ترى - أن نتوقع من التفاعل المستتر بين هذين الضدين أن ينتج لنا كيانا ثالثا فيه من الأولين ما عرفوا به من إتقان وتجويد وفيه من الآخرين كثرة المواهب المبدعة وروح الحرية المغامرة تطبيقا لحركة التاريخ المثلثة الخطى عند هيجل؟
إن هذا ما أتوقع حدوثه في مستقبل حياتنا الثقافية بعد فترة لن تطول بإذن الله.
الفصل الخامس والعشرون
قوة الساحر
رأيته وقد انكب بجذعه كله على سطح مكتبه، في يده قلم، وأمامه أوراق مرصوص بعضها فوق بعض في انتظام، تراها بنظرة سريعة فتظنها مجموعة من أوراق اللعب! إذ كانت أوراقه المرصوصة شبيهة بأوراق اللعب (الكوتشينة) حجما وتساويا وانتظاما، وذلك حين ترص بحيث تتطابق أطرافها، وهكذا رأيته منحنيا بصدره على أوراقه، منصرفا إليها بكل وجوده، حتى لقد لبثت جالسا فترة طويلة، ولم يكن بيني وبينه إلا بضعة سنتيمترات، ومع ذلك لم يشعر بأن أحدا في الغرفة سواه، تحرك قلمه على الورقة العليا، بما لست أدري ماذا؟ لكنني رجحت ألا تكون الحركة قد كتبت على الورق شيئا، بل هي أشبه بالحركة والقلم «يشطب كلمات كانت مكتوبة»، ثم نقل الورقة العليا من مكانها، ليضعها في أسفل، واتجه باهتمامه إلى الورقة التالية، لكنه هذه المرة لم يطل الوقوف، وأجرى قلمه بحركة «الشطب» التي رأيتها منه في الورقة الأولى، ونطق لنفسه في صوت مسموع ووجهه لم يزل متجها نحو أوراقه فقال: خلاص! لم يبق إلا أربعة.
أسمعته صوتي لأول مرة منذ دخلت الغرفة، سائلا: أربعة ماذا تلك التي بقيت؟ فحرك رأسه حركة المذعور، وسألني بدوره: أأنت هنا ولم أشعر بك؟ منذ متى جئت؟ قلت: منذ دقائق، ولم أرد أن أخرجك مما أنت فيه؛ لأنني ألقيت تحية عند دخولي، ولم أسمع عنها جوابا، لكنك لم تنبئني عن الأربعة التي لم يبق سواها، فما هي تلك الأربعة؟ فضحك بقهقهة مفتعلة عرفتها فيه، وقال: لا ولا حاجة! ومضت بعد ذلك أعوام، لم نكن خلالها في بلد واحد، ولا كانت حياتنا متشابهة، فقد كان له طريق وكان لي طريق آخر، لكن المصادفات من شأنها أحيانا أن تصنع المعجزات.
فقد حدث لي في البلد الذي اغتربت فيه أن التقيت بمن لم تكن تربطني به رابطة إلا مصريتنا، فجرى بيننا حديث لا هدف له ولا موضوع فيه، وإذا بذلك الرفيق العابر، يقص لي عن صاحبنا ذاك غرائب من حياته ونوع طموحه، فورد في كلامه عنه، أنه منذ كان في أولى درجات المناصب، أعد لنفسه أوراقا سجل فيها قوائم بأسماء الموظفين معه في وزارة واحدة، الذين يعلونه منصبا ويحولون - بالتالي - بينه وبين الذروة التي كان يستهدف بلوغها، وإنه في الحق لرجل شديد الذكاء، فكان لا يكف لحظة عن التفكير في أولئك الذين يقفون في طريق صعوده، فيفكر لكل واحد منهم على حدة، كيف يزيحه، فالناس تختلف ظروفهم وتختلف معادنهم، ولهذا كانت الطريقة التي تزيح زيدا من مكانه ليست هي بالضرورة الطريقة التي تزيح خالدا، وقد عرف صاحبنا لكل منهم طريقته التي تناسب ظروفه وتلائم معدنه، وهنا عادت بي الذاكرة إلى ذلك الصباح الذي سمعته فيه يقول لنفسه، وهو منكب بجذعه على رصة الأوراق التي كانت أمامه: خلاص! لم يبق إلا أربعة.
فما سمعت قصة الرفيق العابر، حتى وثبت إلى ذهني مسرحية ريتشارد الثالث لشكسبير، فالشبيه يدعو شبيهه، وإلا فكيف تعيد لي الذاكرة شيئا كنت قرأته قبل ذلك بما لم يكن يقل عن ثلاثين عاما؟ كان ريتشارد الثالث هذا مشوه الخلقة منذ ولادته، فهو يحمل على ظهره قتبا ضخما، التوت به الفقرات التواء شديدا، ولذلك تدلت ذراعاه بما جعله أقرب في تكوينه إلى الشمبانزي، وفوق ذلك كانت ساقاه معوجتين، فكان بهما عرج ظاهر، ولم يكن لفترة طويلة من عمره وليا لعرش بلاده، فكان هنالك ملك، وكان حق ولاية العرش بعد ذلك الملك يتسلسل في عدة رجال، ربما كانوا ثلاثة على التوالي، فجعل ذلك الأمير الشائه همه الأول هو كيف يزيح أولئك الذين يشغلون طريق الصعود إلى العرش، حتى إذا ما عرف لكل منهم طريقته، انصرف بجهده نحو الملك نفسه ليطيح به، وإني لأذكر جيدا كيف جاءت فاتحة المسرحية نجوى يتحدث بها ريتشارد إلى نفسه في حسرة وأسى، ثم يختم النجوى بتصميم على أن يعوض تشويه جسمه بشيطانية ذكائه، ففي نجواه أخذ يقول كلاما كهذا: لقد شاء الله ألا يسوي لي جسدا كما سوى سائر الأجساد، فلم يرد لي أن أغازل صورتي في المرآة كما يفعل العاشقون، وكيف لي أن أخطر مختالا أمام الغانيات كما يختال الشباب، لقد جئت إلى الدنيا قبيح الشكل منقوص الأعضاء غليظ القسمات، أحدب الظهر أعرج الرجلين، وإني لأسمع الكلاب يعلو نباحها كلما رأتني وأنا أحجل أمامها في كساح ظاهر، وكان خليقا بشبابي أن يضطلع بالمهام الجسام، ولكن ها أنا ذا لا أجد ما أزجي فيه فراغي سوى أن أرقب ظلي مطروحا أمامي، يقصر مرة ويطول أخرى، فأندب حظي، لكن لا! إنه إذا كان حظي هو هذا الجسد المحروم من مغازلة الحسان؛ فسأعرف كيف أشق طريقي، ولأبدأ بالولي الأقرب إلى العرش بعد الملك، إن أول جزء من اسمه هو «جورج»، إذن فلأنشر في حاشية الملك نبوءات ورؤى قالها العرافون، مؤداها أن يحذر الملك من رجل اسمه يبدأ بحرف «ج»، ولتنزل علي لعنة السماء إذا لم أره سجينا بعد حين لا يطول. كلام كهذا بدأت به مسرحية ريتشارد الثالث، يتحدث به ريتشارد هذا إلى نفسه. ولقد نجحت خطته، وتربع على العرش كما أراد.
قلت لرفيقي العابر: إنه لم يكن على صاحبنا من حرج في أن ينشد لنفسه منازل القوة، فتلك هي فطرة الإنسان لمن يستطيعها، لكن الحرج كل الحرج في أمرين: أولهما هو أن صاحبنا قد استباح لنفسه أن يحكم بالموت خنقا لا شنقا على من جعلهم العدل وسوء حظهم معا يقعون في طريق طموحه وصعوده، وأما ثانيهما فقصة شرحها طويل مع طول تاريخها؛ إذ هي قصة بدأت سطورها الأولى منذ ما قبل الملك مينا الذي وحد الوجهين، القبلي والبحري، تحت سلطان واحد، فمنذ ذلك العهد الموغل في القدم والمصري قد رتب درجات الصعود ترتيبا يجعل مناصب السلطة والنفوذ ترجح كل ما عداها من ضروب القوة، فقد كان يستطيع أن يجعل القوة المنشودة قبل سواها هي قوة العقل، أو أن يجعلها قوة المال، أو أن يجعلها قوة السلاح، أو أن يجعلها قوة الإيمان، أو أن يجعلها قوة الأخلاق، أو أن يجعلها غير هذا كله، فضروب القوة كثيرة، وكلها مطلوب بدافع من فطرة الإنسان، إلا أن ثقافات الشعوب المختلفة قد اختلفت في ترتيبها تبعا لأهميتها عند هذا الشعب أو ذاك، ولو أنك درت ببصرك لتنظر إلى شعوب عصرنا - مثلا - لوجدتها متباينة فيما جعلته بين ضروب القوة أسبقها وأولاها بالكفاح، إلا أن المصري ثابت على عقيدته، وهي أن قوة السلطة والنفوذ أرجحها جميعا، في سبيلها قد ينفق صاحب المال ماله، وقد يفرط صاحب العلم في قيمة علمه، وهكذا، فإذا كنا قد سلمنا لصاحبها بالحق في أن يعلو بطموحه إلى ذروة الذرى؛ فنحن لم نكن لنعطيه ذرة من حق في أن يحقق أهادفه متسلقا على رقاب البشر، أما إنه اختار قوة السلطة والنفوذ دون سائر القوى؛ فليس العيب في ذلك عيبه وحده؛ لأنه صنيعة شعب، ولقد أسلفت لك أن عبادة السلطة والنفوذ هي جزء حيوي من ثقافة شعبنا منذ أول تاريخه.
سألني الرفيق العابر قائلا: ما لي أراك تقرن السلطة والنفوذ كأنهما وجهان ليد واحدة، مع أنهما معنيان مختلفان، فما الذي تعنيه بكلمة «النفوذ»؟ فقلت له: إنما أعني يا صاحبي نفوذ المسمار من الجدار، فأنت وأنا وهو وهي وهما وهم وهن، كلنا قد يعترض الجدار طريقنا، فنعلم أنه نهاية الطريق التي لا حيلة لنا فيها، وأما المسمار فالجدران لا تكون نهايته، بل ربما كانت هي بداية وجوده، لأنه سينفذ خلال إسمنتها وزلطها وحديدها إلى حيث يريد، وعادة ما يكون صاحب السلطة قادرا بحكم سلطته على أن ينفذ خلال العقبات نفاذ المسمار في الجدار، ومن أجل هذا الاقتران المألوف بين الجانبين، اعتدت أن أجمع بينهما في جملة واحدة، وإني لأجد الشبه قريبا بين هذا النوع من القوة، وبين قوة السحر وقدرة الساحر. فدهش الرفيق العابر لهذه المقارنة العجيبة، وسألني: كيف كان ذلك؟ فقلت له مجيبا: نعم، انظر إلى الساحر باحثا عن حقيقة ما يؤديه، تجده في جميع حالاته يلتمس النتائج من غير مقدماتها، أو قل إنه يأتي بالشيء المطلوب من غير مصادره، أو هو يحاول تعليل الأشياء بغير أسبابها، تلك هي طبيعة السحر وحقيقته، فمثلا إذا كان المطلوب شفاء مريض من علته، فإن الطريق العلمي هو أن نلتمس الشفاء في دواء يكون بينه وبين جراثيم المرض صلة، وأما الطريق السحري فهو أي شيء إلا أن تسعى إلى مقاومة الجرثومة بما يفتك بها على ضوء تجارب العلم في هذا السبيل، صحيح أن الساحر هو أيضا يريد مقاومة المرض، لكنه يتخذ لذلك ما شاء له خياله من تمائم أو بخور، أو تمتمة بما لست تدري وما إلى ذلك من وسائل، وبعد هذا فانظر إلى أساليب الطموح الصاعد عند القادرين، تجدها قريبة جدا مما يلجأ إليه الساحر، وذلك لأنه إذا كانت الوسيلة الطبيعية لتحقيق الطموح هي «العمل» جعله القادرون شيئا آخر غير العمل، وقد رأينا مثلا يوضح هذا فيما يلجأ إليه ريتشارد الثالث في مسرحية شكسبير المسماة بهذا الاسم، في ارتقائه عرش بلاده، وفيما لجأ إليه صاحبنا في بلوغ مأربه.
إنه ليكفيك أن تكون صاحب سلطة ونفوذ، ليكون لك الحق في أن تضع نفسك حيثما أردت أن تضعها، فإذا قلت إنك «عالم» ردد معك الصدى بأنك شيخ العلماء، وإذا اخترت لنفسك أن تكون «أديبا» ردد معك الصدى بأنك فيما زعمته لنفسك، ولقد كان ذلك في حياتنا فارقا هاما يميز صاحب الثقافة بأي جانب من جوانبها، حين يكون مثقفا وصاحب منصب، وحين يكون مثقفا وكفى، فأولهما يشبه المحصن بدروعه، لا تنفذ إليه سهام المقاتلين، والثاني يشبه من دخل حومة النزال عاريا إلا من ثقافته. إنني يا صاحبي أراك وكأنك في شك من صدق ما أقوله. مما يذكرني بالزائر الغريب في «يوتوبيا» توماس مور، حين رأى موكبا يسير في الطريق ركب السائرون في صفوفه بحسب أقدارهم، فلحظ الزائر حول أعناق الرجال في الموكب سلاسل ذهبية تتفاوت حجما، فكلما تقدم الصف كانت السلسلة أكبر، فلما سأل جاره في حشد الناس الذين وقفوا على جانب الطريق يتفرجون: ما هذه السلاسل الذهبية حول الأعناق؟ أجاب الرجل: إنها الدالة على قدر الرجل في مدارج العظمة. وعاد الزائر إلى سؤال جاره: وماذا يحدث لو نزع نازع إحدى هذه السلاسل من صاحبها؟ هل يخرج من الموكب ليقف مع جمهور الناس على جانبي الطريق ؟ فأجابه الرجل بقوله: نعم هو ذاك. فعلق الزائر: أيكون الفرق - إذن - بين إنسان وإنسان في القدر هو سلسلة ذهبية تلتف حول العنق ... وهكذا يا صاحب، ضع المناصب عندنا موضع السلاسل الذهبية في جزيرة توماس مور، تجد أساس التمييز عندنا بين إنسان وإنسان، حتى في مجال الثقافة، ولقد رأيت بنفسي كيف يرشح بعض من يرشحون لأرفع جوائز الدولة، فإذا بمبررات الترشيح عند من رشحوه هي مناصبه العليا التي شغلها، فإذا أردت صبغة مختصرة تصور لك الموقف، على غرار «كوجيتو» ديكارت، قلت لك إن الصبغة عندنا هي: أنا مهم بمنصبي؛ إذن أنا من العلماء (أو من الأدباء أو ما شاء صاحب الشأن أن يختار)، ولا غرابة أن كنا نسمع أيام شبابنا ما لم نكن نفهمه حق الفهم؛ إذ كان الساخرون يفرقون في جماعة المثقفين، بين الرسميين وغير الرسميين، فللأولين صحاف الطعام كلها، حتى إذا ما شبعوا، كانت البواقي لغير الرسميين، وفيم العجب؟ تلك يا صاحبي هي طبيعة الإنسان، فإما جاءت تربية سليمة لتهذيب تلك الطبيعة، وإما بقيت على خشونتها وغلظتها، فالفكرة العجفاء يقدمها «المهم» يرجح بها الميزان، والفكرة نفسها يقدمها الهزيل تهبط بها كفة الميزان، وكما يقول المثل عند غيرنا: إن نكات الملوك تهز السامعين بالضحك، وكما يقول المثل عندنا: إن رأي السلطان سلطان الآراء.
سلطة النفوذ أو نفوذ السلطة قيمة من قيم الحياة البشرية، ذلك حق لا ريب فيه، وليس في الأمر ما يعيب الساعي بحياته نحو ذلك الضرب من ضروب القوة، ولكن المسألة هنا - كما هي في الأمراض النفسية كلها - مرهونة بالاعتدال، أما إذا بولغ في تلك القيمة، فها هنا يكون المرض، إنه لا بأس في حياة الناس العادية أن يكون للخيال نصيب منها، بل لا بد أن يكون للخيال نصيب في حياة الإنسان؛ لأنه هو الذي يعين الإنسان على مجاوزة زمانه ومكانه لينطلق إلى حيث يشاء له خياله أن ينطلق، وإلا أصبح - كأي حيوان - مقيدا بقيود لحظته الحاضرة وبقيود موقع قدميه من الأرض، إن الحيوان لا يستطيع أن يرسم لنفسه صورا لما «ينبغي» أن يكون، ليحاول بعد ذلك أن يجعل تلك الصور المثلى تحل محل ما هو كائن بالفعل في دنيا الواقع، وبهذا يظل الحيوان حبيس واقعه لأنه لا يملك «الخيال»، والإنسان وحده دون سائر الكائنات هو المكرم بخياله؛ فيتوسل به إلى تصور حياة أفضل من حياته، أقول إنها لنعمة كبرى أن كان للإنسان قدرة على «الخيال»، لكن هب إنسانا أغرق في الخيال حتى بعدت حياته عن الواقع وما فيه، أفلا نقول عنه عندئذ إنه مريض بعلة نفسية، ونعرضه على طبيب لعلاجه؟
وهكذا قل في جوانب كثيرة جدا من حياة الإنسان؛ إذ تكون صفة معينة مطلوبا لها أن تكون قائمة لتستقيم للإنسان حياته، ولكن ذلك إنما يكون بالقدر الذي يتلاءم مع الصحة النفسية أو الصحة الجسدية، ثم تنقلب مرضا إذا بولغ فيها، وكذلك الحال في دنيا «القيم»، فقد تكون الصفة المعينة «قيمة» معترفا بها، بل وربما اشترطنا وجودها، حتى إذا ما انحرف بها صاحبها عن قدرتها، كانت مرضا أو ما هو في حكم المرض، وذلك هو ما أقوله عن سلطة النفوذ، فهي «قيمة» تستحق أن يسعى إليها الراغبون فيها، على أن يكون ذلك في حدود التناسب الصحيح الذي تصح به الحياة، أما أن تكون السلطة المتسلطة هي القيمة الأولى بين القيم، ثم أن تكون كذلك تسلطا مطلقا لا تحده حدود، ولا تردعه قوانين؛ فذلك هو المرض الذي يقتضي أن يعالج أصحابه أملا في الشفاء.
إن السلطة النافذة بصاحبها خلال الصعاب، نفاذ المسمار في حجر الجدار هي في حياتنا قيمة القيم، هي القيمة العليا التي لا تعلوها قيمة أخرى، فكل ما عداها يجيء بعدها في الترتيب، ولقد شهدت حياتنا أمثلة كثيرة لأصحاب الثراء - والثراء قيمة - كيف يشترون مواقع السلطة بمالهم، وشهدت حياتنا أمثلة كثيرة لأصحاب العلم - والعلم قيمة - شهدتهم حياتنا وهم يقذفون بالعلم وراء ظهورهم ليسرعوا إلى مقاعد السلطان إذا لاحت لهم منها أصبع تشير، كم أستاذا عظيما من أعلام الجامعة، أغلق خلفه رفوف المراجع العلمية وأبواب المعامل، وأخذ ذيل ردائه بين أسنانه، وهرول بكل عزمه، إذا هو نودي أن تعالى لتظفر بهذا أو بذلك من مناصب الإدارة، وما أسهل عليه عندئذ أن يقول: إنها الخدمة الوطنية تنادي ونحن نلبي النداء، وكأن إثراء العلم ليس خدمة وطنية وإنسانية معا، وكأن تعليم الشباب لحياة الوطن في جيله القادم ليس خدمة وطنية وعلمية وإنسانية في آن واحد، لكن لا وألف مرة لا، فهي السلطة ونفوذها يا صاحبي، إنها في حياتنا قيمة القيم، ليس فوقها قيمة سواها.
وإذا كنا لا نرى عند سوانا تلك اللهفة كلها على السلطة، أفلا يكون من حقنا أن نسأل لماذا كانت تلك هي حالنا في تقويم القيم؟ لقد أشار «هيجل» في فلسفته للتاريخ إلى أن مراحل التطور بالنسبة إلى «الحرية» كانت ثلاثا: في المرحلة الأولى، عندما كان الشرق هو على رأس الحضارة، لم تكن الحرية إلا لشخص واحد، هو الحاكم، وأما ما دون ذلك فقد كانوا جميعا يمنحون من الحرية ما يقضي به الحاكم، إذا شاء أعطاها وإذا شاء استعادها، وأما المرحلة الثانية في سير التطور التاريخي، فقد أصبحت الحرية حقا لفئة قليلة، وبقية الناس عبيد لهؤلاء، ثم جاءت المرحلة الثالثة والأخيرة وهي أن أصبحت الحرية حقا لكل الناس في بعض الشعوب، وإني لأتساءل: أيكون التعليل لتلك اللهفة المجنونة على السلطة في حياتنا هو أننا لم نبلغ بحق تلك المرحلة الثالثة التي بلغتها بعض الشعوب، وأن الحرية إن هي في واقع الأمر إلا امتياز يتمتع به من ظفر بشيء من السلطة، وأن حريته إنما تكون على قدر ما ظفر، لست أدري.
أم يكون التعليل شيئا آخر، قائما على أساس فكرة أخرى غير فكرة «هيجل» التي ذكرناها، وذلك أن شهوة السلطة تتعالى مع الإنسان بحسب درجة ارتقائه وتحضره في ثلاث درجات أيضا: أدناها أن تتجه تلك الشهوة بصاحبها نحو التسلط على بني قومه أنفسهم، وأوسطها أن يعف المتسلط عن ممارسة شهوته تلك مع بني قومه، لكنه يصب عذابها على من استطاع أن يتحكم فيهم من أبناء الشعوب الأخرى، وأعلاها أن يكف المتسلط عن الاتجاه بسطوته نحو أحد من البشر، سواء أكان من مواطنيه أم كان من الغرباء، ثم يتجه بقوته تلك نحو «الطبيعة» كما شاء وبما استطاع، فيملي عليها سلطانه بأن يكشف عن أسرارها ويعرف قوانينها، فيلجمها ويستخدمها في صالح البشر، وإذا كان ذلك كذلك؛ فهل نقول إننا ما زلنا من تلك المراحل الثلاث عند أدناها.
وإذا كنا كذلك وأدعو الله ألا نكون، يظل السؤال قائما: لماذا؟ وفي هذه الحالة يسهل علي الجواب، وهو أن أيسر السبل لتحقيق أهداف الإنسان هي أن يلجأ نحوها إلى قوة الساحر التي قوامها التماس النتائج من غير أسبابها، والمتسلط يمكنه «بشخطة» واحدة أن يظفر من المشخوط فيه بما أراد، وإذا كانت قوة الساحر هي أهون السبل في تحقيق المنافع، فإن أصعبها هي قوة العلم، فما الذي يضطرنا إلى ركوب الصعب، إذا كان السهل ممكنا؟ ومن ذا يبيع سمسما مقشورا، بسمسم غير مقشور، كما قال ابن المقفع؟
الفصل السادس والعشرون
نريدها صحوة واعية
إخلاصي للقارئ، ورغبتي الشديدة في أن أكون صادقا معه في كل حرف أكتبه ليقرأه، يجعلانني أشركه معي في الحيرة إذا كنت في حيرة، وفي الشعور بطمأنينة اليقين، إذا كنت على يقين، بل أشركه فيما هو أخطر من ذلك. فإذا كنت أعلم أنني لست أقف - في موضوع ما - على أرض ثابتة، بمعنى ألا أكون على معرفة مقطوع بصوابها في ذلك الموضوع، لكنني في الوقت نفسه أشعر بأن لدي لمحات عنه؛ بدت لي وكأنها صحيحة، وأنها إذا صحت كانت لها أهمية لي وللناس، بادرت بتحذير القارئ منذ الأسطر الأولى، ليكون على حيطة فيما يأخذ عني وما يدع، وما أكثر ما لقيت العنت بسبب ذلك، إذ يتخذ خصومي من ذلك الصدق سلاحا يسددونه إلى صدري، فيقولون: انظروا إلى رجل يكتب فيما لا يعرفه وإنه ليعترف بذلك علنا.
وإنما قدمت حديثي هذا بهذه الكلمات لأني أشعر إزاء موضوعي بشيء من الحيرة، ورأيت أن أشرك القارئ معي في حيرتي، لكي نسير معا بعد ذلك خطوة خطوة ، فهو وأنا بمثابة اثنين أرادا السير في غابة، لم يسبق لهما أن اخترقاها، فهما لا يعرفنا عن دخائلها شيئا، ومع ذلك فهما يشعران بالرغبة في اختراقها ولا يدريان على سبيل اليقين ماذا عساهما مصادفين من عقبات.
وأبدأ من البداية فأقول إنني «أحس» خللا في حياتنا الراهنة، وأنا - كما يعلم القارئ عني - معني بالجانب الثقافي من تلك الحياة، قبل عنايتي بأي جانب آخر، فلا أنا من رجال الاقتصاد؛ لأعرف كيف يجيء المال وكيف يذهب، وأكتفي من كل ذلك بأنني «أعيش» - بحمد الله - في غير عسر ولا ضيق، ولا أنا من رجال السياسة الذين جعلوا منها سلما للصعود (أو للهبوط كما تشاء لهم الخطوط) بل إني منذ خرجت من مرحلة المراهقة وضبابها، ألفيت نفسي مشدودا إلى ذلك الشيء الغامض الذي يسمونه «ثقافة» مضافا - بالطبع - إلى مهنة أرتزق منها، وكانت تلك المهنة لحسن الحظ ذات صلة أو صلات وثيقة بما يسمى ثقافة، ألا وهي مهنة التعليم، وإذا قلنا التعليم فقد قلنا بالضرورة العلم وتحصيله، بل والمشاركة في إنتاجه وفي الإضافة إليه بقدر المستطاع، وكان ذلك هو طريقي في الحياة منذ عرفت نفسي، فإذا بدأت بقولي إنني أحس خللا في حياتنا الراهنة؛ كنت أقصد بذلك أول ما أقصد الجانب الثقافي من تلك الحياة، وبذلك الإحساس الغامض نفسه أجدني وكأني أرى النقيضين يلتقيان معا، ففي تلك الحياة صحوة لا شك في وجودها، وفيها كذلك نقص في الوعي لا شك في وجوده أيضا، فما حقيقة حياتنا إذن؟ ومصدر سؤالي هذا هو أنه إذا كانت صحوة فلا بد أن يصحبها ويحيط بها وعي، وإذا كان الذي هناك هو غيبة للوعي أو لجانب منه فكيف جاءت الصحوة؟ وبأي معنى جاءت؟ لم يبق أمامنا إلا أن نقول إننا حين استيقظنا لم تكن اليقظة كاملة، ومع اليقظة المختلطة بظلال من بقايا نعاس يجيء القصور في الوعي.
ذلك كله هو ما أحسه، وأعني بذلك أني أشعر به شعورا مبهما لم ينتقل معي إلى مرتبة المعرفة العقلية الواضحة، وذلك هو أول الوعي ، ومن هذه البداية أريد القارئ أن نتعاون معا على اكتساب الرؤية الواضحة، وأول ما نبدأ به هو أن نبحث من أي نوم جاءت اليقظة؟ والجواب الذي أقترحه لأني لا أرى جوابا سواه هو أن فترة النوم التي نشير إليها عندما نقول عن أنفسنا إننا «صحونا» هي الثلاثة القرون التي سبقت الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798م، أي قبل بدء القرن التاسع عشر بعامين، وهو رأي قد لا يأخذ به آخرون، وموقفي من هؤلاء هو موقف المتسائل المتعجب: من أين يا ترى يريد هؤلاء أن يبدءوا اليقظة المصرية أولا والعربية ثانيا؟ إنني اذكر أن الفصل الأول من «الميثاق» الذي كنا أصدرناه في أوائل الستينيات قد خصص لدحض هذه الفكرة، فكرة أن ما قبل الحملة الفرنسية كانا نعاسا ثقافيا، زاعما أن الأزهر كان في القرن الثامن عشر في حركة علمية نشيطة؟ فأردت أن أقطع الشك بيقين ورجعت إلى ما استطعت الرجوع إليه من مصادر، باحثا عن العلماء الذين اضطلعوا بذلك النشاط، من هم، وماذا أنتجوا من فكر «جديد»، فوجدت قوائم بأسماء يتلوها أسماء، ومع كل اسم لم أجد من ضروب النشاط العلمي إلا شروحا وتعليقات وملخصات لمؤلفات القدماء، ومعنى ذلك أن علماء القرن الثامن عشر درسوا ما كان هناك من تراث، لكنهم لم يضيفوا إليه جديدا، فإذا رأينا شيئا جديدا دخل في حياتنا منذ أوائل القرن التاسع عشر، كان ذلك الجديد هو بداية اليقظة الثقافية، وكانت البداية التي يحق لنا أن ننسب إليها تحريك العقل بنشاط جديد، هي قدوم الحملة الفرنسية ومن صحبها من مجموعة العلماء.
ومن تلك البداية سرنا في خطوات تصيب وتخطئ، فكان ما كان من تعليم أخذ يتسع ويتنوع، ومن إحياء للتراث القديم بدأناه منذ الطهطاوي، ومن ترجمة عن اللغات الأوروبية، وسفر للبعثات العلمية المصرية إلى أوروبا واستدعاء لعلماء الغرب ليشاركونا فيما كنا بصدد إنشائه من جوانب حضارية وثقافية، وما يتفرع عنها من ألوان النشاط، تلك - إذن - كانت الصحوة وما سبقها من فترة ركود، وحتى إذا نحن لم نتفق على بداية تلك الصحوة من أين جاءت وكيف جاءت؛ فذلك في الحقيقة لا يهم كثيرا فيما نريد عرضه هنا؛ لأننا على أية حال متفقون على أن يقظة عقلية بدرت معنا بوادرها منذ أوائل القرن الماضي، لكن موضع الأهمية هو ما قد صحب تلك اليقظة من «وعي»، فإذا نحن أخذنا هذه الكلمات بما كان يجب أن تعنيه، قلنا إن اليقظة لا يكون لها معنى إلا إذا كان الوعي جزءا من معناها، وهنا تبرز أمامنا المفارقة الغريبة التي أردت أن يشاركني القارئ في حل لغزها، وهي أن يقظتنا آلت إلى حالة لا يحيط بها من شعلة الوعي ما يتناسب مع عمرها الذي جاوزت به قرنا ونصف قرن.
وكأني بصديقي القارئ الذي يصحبني في رحلتي الذهنية هذه يسألني ما هذا «الوعي» الذي تتحدث عنه، لقد فهمنا عن الصحوة أنها اليقظة جاءت بعد النعاس، فماذا تريد بالوعي الذي تراه خافت النور، وكان ينبغي له أن يتوهج؟ وعن سؤاله أجيب جوابا بسيطا واضحا، وهو أن ذلك الوعي المطلوب يشبه ما يحدث للإنسان عند استيقاظه، فالحواس تعمل عملها بعد أن كانت مقفلة الأبواب، العين ترى بعد أن كانت مسدلة الجفن معطلة الوظيفة، والأذن تسمع، والأنف يشم، والجلد يحس ما يلمسه، وكذلك يعمل العقل بعد أن كان قد انطوى على نفسه، فيقصر نشاطه على الباطن وحده كالأحلام ومعها القليل من الإدراك الذي يظل واعيا، واختصارا نقول إن وعي المستيقظ من نومه يشبه فتح نوافذ الغرفة فيتدفق فيها النور؛ وكذلك الحال فيما نحب أن يكون عليه الوعي الثقافي؛ فيصبح معناه أن نكون على دراية بما يحدث حولنا في سائر أنحاء العالم، وأن نكون على فهم صحيح ودقيق بما يقال لنا وما يقدم إلينا من كلمات المتكلم أو الكاتب، والذي «أحسه» في حياتنا الثقافية الراهنة هو أنها يقظة قليلة الوعي، ونريد لها أن تكون يقظة واعية، فكأن أعيننا تنظر ولا ترى، وآذاننا تنصت ولا تسمع، وعقولنا تنشط بالحركة ولكنها لا تفكر. وإليك مزيدا من إيضاح.
الوعي الذي كنا نتوقع له أن ينمو وتشتد حدته معنا بعد أن نفضنا عن أنفسنا وخم النعاس هو - في بساطة - القدرة على إدراك الحقائق المحيطة بنا واستيعابها، ثم الاستجابة بالفكر والسلوك الملائمين لما أدركناه واستوعبناه. إننا باليقظة وحدها قد نحقق الشطر الأول، ولكننا بالوعي نحقق الشطر الثاني كذلك، وعلى ضوء هذا التوضيح - وهو على أية حال وجهة نظر - أعيد طرح القضية التي هي موضوع هذا الحديث، والقضية هي أني أحس في حياتنا الثقافية العامة نقصا جوهريا يصيبها بالعرج ويتلخص في أننا ربما نكون قد حققنا جانب اليقظة إلى حد معقول، بمعنى أننا ندرك إدراكا كافيا حقائق محيطنا، لكننا في حالة تقرب من الشلل فيما يختص باستجابتنا الذكية لتلك الحقائق بالفكر والسلوك الملائمين.
وليست هذه الاستجابة الملائمة للظروف المحيطة والتي هي جوهر الوعي مقصورة على الإنسان دون سائر الكائنات الحية، بل إنها ليست مقصورة على الكائنات الحية دون سائر الكائنات، والمسألة في الفروق بين هذه وهذه وتلك، هي مسألة تفاوت في الدرجة أولا، ثم ينفرد الإنسان آخر الأمر بخاصية تميزه في هذا المجال، وهي أنه حين يعي ما يحيط به يعرف أنه واع، في حين تكون بقية الكائنات واعية ولا تعرف أنها كذلك. إن مقياس الحرارة الترمومتر إذا ما وضع في محيط على درجة معينة من الحرارة استجاب لمحيطه ذاك بارتفاع عمود الزئبق فيه حتى يتعادل مع الحرارة المحيطة به. وقطعة الحجر تلقيها في مكان ما يتميز بخصائص معينة كشدة الحرارة أو شدة الرطوبة لا بد أن يستجيب لتلك المؤثرات بما يتناسب معها، فإذا انتقلنا إلى عالم الأحياء من أبسط مراحل النبات فصاعدا إلى عالم الحيوان بدرجاته المتصاعدة في التراكيب؛ وجدنا استجابة الكائن الحي لمحيطه ذات فاعلية إيجابية واضحة، فهو لا يلتقي بالموقف الذي يتلقى العوامل الخارجية دون أن يكون له حيلة فيها ، بل تراه يبذل من جانبه جهدا إيجابيا يبحث له عن العوامل التي تضمن له البقاء والنماء والتكاثر، حتى إذا ما وصلنا في مدارج الارتفاع بالوعي إلى مرحلة الإنسان؛ وجدنا ذلك الوعي قد بلغ حدا بعيدا من الدقة التي لا تكتفي بأعضاء الجسد في الاستجابة الملائمة للظروف المحيطة، بل إنها لتمد من قدرات تلك الأعضاء إلى آماد بعيدة، وذلك باختراع الأجهزة التي تساعدها على ذلك، فإذا كانت العين تبصر إلى مسافة معينة؛ جاء المجهر «الميكروسكوب» فزاد لها من ضخامة الكائنات الصغيرة التي لم تكن العين لتراها وهي مجردة فتراها، وكذلك جاء المنظار المقرب «تلسكوب»، فأتى بالأجسام البعيدة إلى بؤرة الإبصار. وهكذا قل في الأذن حين يقف سمعها عند حد معين فيجيء لها الراديو والرادار لتسمع بهما دبيب النمل في شتى أرجاء الأرض، ورفيف الطير في أجواز الفضاء، وانظر إلى ذلك الجهاز الذي أطلقوه منذ لا أدري كم من الأعوام حتى جاوز ذلك الجهاز لا حدود الأرض وحدها بل جاوز حدود المجموعة الشمسية كلها فيما أظن، وهو يرسل إليهم الرسائل عما يمر به من أجرام الكون، ومع هذا الاتساع الهائل فيما أصبح الإنسان يدركه عن الحقائق المحيطة به اتسعت قدراته على الاستجابة بالفكر وبالسلوك الملائمين. وبمقدار ما ازداد به الإدراك وازدادت كذلك القدرة على الاستجابة، تكون غزارة الوعي.
ولا يكون إدراك الإنسان للحقائق المحيطة به ثم الاستجابة لها على صورة ملائمة، لا يكون ذلك وعيا إذا بقيت تلك العوامل المدركة متفرقة فرادى لا يربطها الرباط الذي يجعل منها وحدة متصلة الأطراف. فقد يعلم قروي كل شيء عن قريته وأهلها ثم يقف عند هذا الحد لا يجاوزه، فلا يكون بذلك الأفق الضيق والنظرة المحدودة على وعي بالوطن المصري، دع عنك أن يتسع وعيه ليشمل انتماءه العربي والإسلامي والإنساني بصفة عامة. وليس هذا الكلام كلاما من قبيل الإنشاء بالمعنى الساخر لهذه الكلمة في استعمالها المألوف؛ كلا، بل إن ذلك الأفق الضيق إنما ينعكس انعكاسا مباشرا على السلوك، فما لم يضع ذلك القروي قريته في وطن يشملها ويشمل غيرها ثم يضع ذلك الوطن بدوره في قومية عربية، وهكذا تظل تتسع به الدائرة؛ فلن تنضبط له الموازين التي يحكم بها على شئون قريته ذاتها. وإني لأذكر في هذا السياق حوارا دار بيني وبين صديق طبيب كانت له مكانته الرفيعة في عالم الطب - وكان ذلك منذ سنوات ربما بلغت العشرين - وكان موضوع حديثنا منصبا على الأساس الذي يجوز للطبيب أن يحدد عليه أجره على عمله. وبالطبع لم تكن أجور الأطباء عندئذ قد طارت إلى ما يشبه الأرقام الفلكية التي نعاني منها اليوم! فقال صديقي ذاك «رحمة الله عليه» إن الطبيب حر في تقدير أجره؛ لأنه حر في المكانة التي يريد أن يضع نفسه فيها، وللمرضى بعد ذلك حريتهم كذلك في الإقبال عليه أو في الإدبار عنه، فعارضته في رأيه ذاك قائلا: إنه لمن دواعي ذلك الإنسان ووقوعه في الخطأ أن يحكم على الأشياء والمواقف وهي منزوعة عن ظروفها ومحيطها، فليس الطبيب ومريضه حقيقتين مجردتين عن المكان والزمان، بل هما مواطنان مصريان، يعيشان معا في هذه الفترة الزمنية التي نعيش فيها، ففي هذه الظروف المحددة؛ نستطيع أن نجري عملية حسابية اقتصادية اجتماعية، يكون فيها من دقة الحساب العلمي درجة كبيرة، فنعلم في هذه الظروف المحسوبة كم يكون مستوى الدخل في المتوسط، وبالرغم من أن الأفراد يزيدون عن ذلك المتوسط حينا وينقصون حينا، إلا أنه يظل مع ذلك مرجعا ضابطا نلجأ إليه لنعرف متى يكون في تقدير الطبيب لأجره شطط ومتى لا يكون، ونحن في حديثنا هذا إنما نتحدث عن «الوعي»، ونقول إنه مرهون بإدراك الإنسان لعوامل محيطة، ثم الاستجابة الملائمة لتلك العوامل، فلست أراه طبيبا «واعيا» ذلك الذي يعلم أن متوسط دخل المصري خمسون جنيها في الشهر - مثلا - ثم يجعل أجر كشفه على المريض خمسين جنيها، ففي هذا خلل واضح في علاقة الأجزاء بالكل الذي يحتوي على تلك الأجزاء، والخلل الواحد في البناء لا بد أن يستتبع في جدران البناء شقوقا وشروخا حتى ينهار البناء كله على رءوس ساكنيه.
نعم، إنه يستحيل الحكم على شيء معين، أو على موقف معين أو على فكرة معينة إلا بعد نسبتها إلى الكل الذي يحتويها هي وغيرها في جسم واحد، والآن فلأضرب مثلا لذلك أقيمه على مساحة أوسع من مساحة الطبيب ومريضه، وهو مثل أقارن فيه بين مواطن أمريكي ومواطن مصري، وكيف يمكن قياس «القيمة» الواحدة المعينة من زاويتين مختلفتين: الأمريكي من زاوية بيئته، والمصري أيضا من زاوية بيئته، فمن الفروق الواضحة بين الحالتين أن في أمريكا أرضا واسعة وسكانا قليلين بالنسبة إليها، وأن في مصر أرضا ضيقة، وأعني الجزء المسكون وسكانا كثيرين بالنسبة إليها، ذلك من حيث المكان، وكذلك نرى - من حيث الزمان - أن المواطن الأمريكي قصير التاريخ، ثلاثة قرون تقريبا، وبالتالي فهو لا يحمل فوق ظهره إلا قليلا جدا من قيود التقاليد، في حين أن المواطن المصري طويل التاريخ، ستون قرنا، وبالتالي فهو مقيد بتقاليد لا حصر لعددها، ومعنى ذلك أننا إذ ننظر إلى الأمريكي في مكانه وزمانه وإلى المصري في مكانه وزمانه كذلك؛ نرى في الحالة الأولى إنسانا لا حدود في أرضه الفسيحة تحد من حركته ونشاطه ومغامراته. ثم لا قيود من تقاليده تحرم عليه ضروبا من ذلك النشاط. فنتج عن ذلك أن انبثق للأمريكي من واقعه الذي يعيشه مبدأ يتواءم مع تلك الحياة، وهو مبدأ النجاح بالمعنى الذي حدده الأمريكي لهذه اللفظة، وهو مقدار المال الذي عاد به نشاطه ومغامراته، ولأن أمريكا «الولايات المتحدة» أصبحت هي الذروة في البناء الحضاري في عصرنا، ومصداقا للقاعدة الحضارية التي صاغها ابن خلدون في مقدمته؛ فقد هبط المعيار الأمريكي على سائر أقطار الدنيا هبوط الماء من قمة الجبل إلى سفوحه، حتى أصبح النجاح في الحياة بالمعنى الأمريكي معيارا شائعا في سائر الشعوب، وأصبحنا نحن في مصر نقيم معيار الملايين وتحصيلها كسبا حلالا أو نهبا حراما هو مبدأ من أهم المبادئ التي على أساسها نحكم بالنجاح في الحياة وجودا وعدما.
لكن النجاح بذلك التعريف الأمريكي جاء نتيجة طبيعية انبثقت من مكان مطلق فسيح الأرجاء يسمح بالنشاط المغامر، ومن زمان قصير لم يطل حتى الآن أكثر من ثلاثة قرون؛ فلم يفرز في طبائع الناس هناك قيودا تعرقل سرعة الحركة. وأما في مصر أو ما تقرب ظروفه من ظروف مصر؛ فالإطار المرجعي الذي كان ينبغي أن تنبثق منه مبادئنا الأساسية هو على نقيض الإطار المرجعي في الولايات المتحدة؛ إذ المكان المعمور فيها محدود المساحة، والزمان وراءنا طويل مما كثرت منه تقاليدنا، وينتج عن ذلك وجوب ألا يكون المليونير هو النموذج الأصيل، بل إن ذلك النموذج في حياتنا كان ينبغي أن يكون صاحب العمق النفسي الذي يتمثل في مقاييس داخلية أكثر مما يتمثل في حسابات مصرفية، وتلك المقاييس الداخلية ثقافية كلها، وعلى رأس القائمة فيها عمق الإيمان الديني وصدقه وإخلاصه، بما يتضمنه ذلك الإيمان من خلافة الله في الأرض لتعميرها بالعمل، مستعينا بقوة العلم ومضاء العزيمة، وما يترتب على ذلك الإيمان كذلك حتما من رؤية خاصة إلى الكون ومصدره بصفة عامة، وإلى الإنسان وقيمة سلوكه بصفة خاصة.
على هذا النحو يكون إدراكنا لظروف محيطنا كما تكون استجابتنا في مواءمتها لتلك الظروف، فمن هذا المنظور نرى التفصيلة الواحدة من تفصيلات حياتنا لا يحكم عليها وهي مفردة، بل لا بد من اتساقها مع النسيج العام حتى يحكم عليها بالصلاحية والقبول، ولو أن صديقي الطبيب الذي كنت أحاوره في حرية الطبيب أو عدم حريته عند تحديد العلاقة بينه وبين مريضه قد نظر إلى المسألة من هذا المنظور؛ لأدرك الإطار المرجعي الذي على أساسه يكون الحكم، إنه إذا قيل إن في الولايات المتحدة عددا ضخما من أصحاب الملايين؛ لكان أول ما يرد إلى خاطري هو أن ذلك قد جاء نتيجة طبيعية للظروف الخارجية التي منها يتكون مسرح النشاط البشري، إلا إذا ثبت العكس في الحالات التي جاءت فيها الملايين إلى أصحابها بطريق غير مشروع، أما في مصر فإذا قيل لي إن فيها الآن عددا ضخما من أصحاب الملايين؛ فإن أول ما يرد إلى خاطري هو أن أفردا داسوا أفرادا آخرين بصورة ما إلا في الحالات التي يثبت فيها العكس، وهو أنها جاءت إلى أصحابها بطريق الإنتاج. وها هنا أيضا يجيء حكمي هذا على أساس النظر إلى النسيج العام وهل من طبيعته أن يفرز المليونير، أو أن المليونير فيه أقرب إلى الورم الذي أنتجه المرض.
لقد صحونا حقا منذ أكثر من قرن ونصف قرن، بمعنى أننا أيقظنا في أنفسنا وسائل الإدراك لما حولنا في بلدنا وفي سائر العالم، لكننا لم نلحق ذلك الإدراك باستجابة ملائمة، فنتج أن ظلت صحوتنا بغير وعي يصاحبها، فلا نحن اتسقنا بأفكارنا وسلوكنا مع حقائق الواقع على مستوى العصر في العالم كله، ولا نحن اتسقنا بتلك الأفكار وهذا السلوك مع حقيقة الواقع المصري.
الفصل السابع والعشرون
أستاذ يحلم
عرفته منذ أعوام طوال امتدت بنا معا ما امتد الجزء الأكبر من هذا القرن العشرين، لكننا برغم ما بيننا من روابط الزمن والنشأة والزمالة وتشابه المراحل والأهداف، كنا على مزاجين مختلفين، فهو جاد مجتهد حريص على وقته بكل دقائقه وثوانيه، وأما أنا فقد كنت كثيرا ما أمزج الجد بالمزاح، والعمل بالراحة، فلا عجب أن غلبت عليه جهامة القسمات، حتى ليكاد الناس لا يرونه إلا عابسا بغير داع يدعوه إلى العبوس، وكنت أنا على خلافه، باسط الأسارير، مبتسما، أتصيد من الأحداث والأقوال ما يبعث على الضحك لأضحك ملء الشدقين، لكن اتفاقنا على سيرة واحدة في الحياة العملية، وخطوات واحدة، وأهداف واحدة، واهتمامات علمية واحدة؛ جعل اختلاف المزاج بيننا انقباضا وانبساطا يزيدنا ارتباطا أكثر جدا مما يباعد بيننا.
ولقد كان موضوع حديثنا مساء الأمس حلما رآه وأخذ يرويه لي بتفصيل أضفى على الحلم واقعية شديدة، حتى لقد توهمت أنه إنما يروي عن موقف وقع له بالفعل في حياته الجامعية. فقد روى عن رؤياه في الحلم أنه ذهب ذات صباح إلى الكلية التي هو أستاذ بها؛ ليلقي محاضرته الأولى في ذلك اليوم، وقد كان من عادته دائما أن يختار أول محاضرة في الصباح؛ لأنه ممن يأوون إلى فراشهم مبكرا في المساء، ويستيقظون في ساعة مبكرة في الصباح ... فواعجباه كيف وجد الكلية في ذلك اليوم، مختلفة المبنى عما قد ألف طوال حياته العاملة، فهي يومئذ في منزل ذي طابقين، يقع في شارع ضيق من حي عتيق ، فأخذ الأستاذ يلتفت بنظراته يمنة ويسرة وإلى أعلى، متسائلا أهو هذا البناء الذي كان يقصد إليه كل صباح؟ إنه لمحال أن يكون، ولكن هؤلاء هم طلابه يطلون من نوافذ الطابق الثاني، وما يزال أفراد منهم يسرعون الخطى في الطريق ليكونوا في قاعة الدرس عند دخول الأستاذ؛ إذ هم قد عرفوا فيه دقة التوقيت على صورة تبعث على احترامه، وعلى الدهشة منه في آن معا، فحوقل الأستاذ وبسمل ودخل المبنى، وواجهته درجات سلم حجري مرطوبة ومهشمة الأطراف، لكنه مرة أخرى حوقل وبسمل (قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وبسم الله الرحمن الرحيم) وصعد، ليجد غرفة الدراسة على يمينه مباشرة.
دخل الأستاذ، فوجد عددا قليلا من الطلبة والطالبات، تجمعوا بجوار النافذتين اللتين كانتا على يسار الداخل، وتطلان على الطريق العام، إذ كانت الشمس قد فرشت على الأرض مربعا من ضوئها إلى جانب كل من النافذتين، فوقف في ذلك المربع المشمس الدافئ كل من استطاع أن يجد موضعا لقدميه من الطلبة والطالبات، فلقد كان الصباح قارص البرودة، وأما ما أدهش الأستاذ عند النظرة الأولى، فلم يكن ذلك التجمع المتزاحم بجوار النافذتين، إذ كانت لذلك علته، ولكن الذي دهش له هو أنه رأى المقاعد والتخوت قد تناثرت على الأرض في خليط عجيب، وكان فيما سبق يراها مصطفة في نظام محكم، لكن الأستاذ لم يبد من دهشته شيئا، وكل ما في الأمر أنه نظر فوجد كرسيه ومنضدته قد وضعا هناك بالقرب من إحدى النافذتين، ليكونا في المربع المشمس، جلس عليهما بعض الطلبة، لكنهم فور دخول الأستاذ أسرعوا بالوقوف، فقال الأستاذ في هدوء وقور: إنني أفضل الجلوس في الظل، واتجه نحو كرسيه وحمله لينقله إلى الركن المقابل في الناحية الأخرى من الغرفة، ولكي يحمل كرسيه؛ رأى أن يضع حقيبة كتبه وأوراق على المنضدة لتفرغ له يداه، فكان العجب أشد العجب أن وجد الذي بين يديه مقطفا كبيرا، وفي أرضيته ورقة مهترئة قديمة، فوضع مقطفه ذاك على أرض الغرفة، وكان ينوي أن يضع حقيبته على المنضدة ، لو بقيت له الحقيبة على طبيعتها التي كانت.
حمل الأستاذ كرسيه متجها نحو جانب الظل من الغرفة، وتبعه عدد من الطلبة والطالبات، وفي انتقاله ذاك من مكان إلى مكان مقابل؛ رأى ما يشبه أفعال الشياطين في الأساطير، وأخذه رعب أخفاه بضحكات خفيفة؛ لأن أحدا من مجموعة الطلبة والطالبات التي تبعته لم يبد علامة تدل على دهشة أو على رعب، كأن أفراد تلك المجموعة لم يروا ما هو رائيه آنئذ، وهو أن الكرسي الذي يحمله بين يديه أخذ ينكمش ويتحول، انكماشا وتحولا انتهيا به إلى أن يكون مقعدا خشبيا صغير وطيئا، كالذي كان يطلق عليه في طفولتنا «كرسي مطبخ»؛ لأن سيدة البيت كانت كثيرا ما تجلس وهي تطهو على كرسي خشبي صغير يقترب مسطحه من مسطح الأرض، ووضع الأستاذ كرسيه ذاك في ركن غرفة، لم يجدها غرفة الدرس التي تجمع الطلبة والطالبات فيها، إنما هي غرفة مجاورة لها، وبين الغرفتين باب لم يوضع فيها المصراعان الخشبيان، بل كان «فتحة» للمرور، وخلالها سمع زياط الطلبة والطالبات في الغرفة المجاورة، وأما هو فقد جلس جلسة مقرفصة على كرسيه الخشبي الذي كاد يلصقه بأرض الغرفة، ونظر فإذا هو وحده، والغرفة خالية من كل شيء، إلا بلاطها المرطوب العريان، واختفت المجموعة التي كانت تسير وراءه في انتقالته، اختفت ولم يعلم متى اختفت ولا كيف؟
سكت لحظة، فسألته: أعند هذا انتهى الحلم واستيقظت؟
قال: لا، ليته كان؛ بل كانت له تكملة تلفت النظر إذا ما أردنا تأويل الحلم؛ ففجأة وجدتني مع أسرتي: الوالدين والإخوة، وجدتني مع أفراد الأسرة، حين كنت في أول الشباب، وقد كان المفروض أننا - أنا وأخي - على أهبة سفر بالطائرة إلى حيث لا أتذكر أين، وأعددنا تذكرتي السفر، ورتبنا حقائبنا، وفجأة مرة أخرى، أدركنا أن موعد إقلاع الطائرة لم يعد بيننا وبينه إلا ربع الساعة، والطريق إلى المطار طويل، يستغرق ما يقرب من ساعة كاملة، فلم أدر إلا وقد عدوت وحدي عدوا سريعا نحو المطار، لا حقائبي معي ولا تذكرة السفر، وقطع على الطريق خندق عميق، لكنني وجدت طريقا مدقوقا بالحجر الأبيض على السفح النازل، وعبر قاع الخندق، ثم على السفح الصاعد إلى حيث الطريق المؤدي إلى المطار. وقفت نصف دقيقة أحسب هل أنا مستطيع العبور؟ وهنا رأيت شابين يعبران وهما يضحكان بقهقهة عالية، فتشجعت وعبرت في سلام، برغم صعوبة التسلق في السفح المقابل والمؤدي إلى حافة الطريق المرصوف؛ إذ كان لا بد للصاعد وهو في المرحلة الأخيرة التي لم يكن بها انحدار يساعد القدمين، بل كان كأنه حائط عمودي أملس. أقول إنه كان للصاعد في تلك المرحلة الأخيرة أن يكون في وضع الواقف، وأن يمد ذراعيه إلى أعلى ليمسك بالحافة الأسفلتية البارزة، ثم يقفز قفزة قوية تقعده على أرض الشارع، وتم ذلك كله بسلام ونجاح. لم يكن على الشارع العريض مخلوق. لم يكن على مرأى البصر عمران، كانت السماء في مثل ظلمة الغسق، لا لأن الليل قد أقبل؛ بل لأن السحب قد حجبت ضياء الشمس، فاستعنت بالله، وعدوت ولبثت أعدو، متجها نحو المطار، كان وقت إقلاع الطائرة قد فات منذ مدة طويلة، وحتى لو لم يكن كذلك، فأين هي تذكرة السفر، وأين هي حقيبتي، لكنني أخذت أعدو برغم ذلك كله، حتى هدني التعب وقطع اللهاث أنفاسي أو كاد، فصحوت.
قلت: إنه حقا حلم متماسك الأجزاء، واضح الصورة.
قال: إنه يشغلني بكثرة رموزه، فهل لك أن تحاول له تأويلا؟
قلت: أنت تعلم أن الإنسان صاحب الحلم هو أحق الناس بتأويل حلم نفسه؛ لأنه يعرف دقائق حياته الفعلية، فيعرف إلى أي الأشياء تشير رموز الحلم، فحاول أنت ما استطعت، وها أنا ذا مصغ إليك، وربما كانت لي محاولات مفيدة أشارك بها في عملية التأويل، فبين حياتك وحياتي شبه قريب، وإن هذه المناسبة لتغريني بأن أستطرد في الحديث قليلا لأقدم رأيا في الطريقة التي يبني بها الإنسان أخلاقه؛ لأنه إذا كانت هنالك آراء يقدمها علم النفس في هذا السبيل؛ فأغلبها منصب على «لماذا» يحلم الإنسان؟ ثم تتعدد الإجابات بتعدد المذاهب. أما ما أريد عرضه الآن فموضوع آخر؛ إذ السؤال فيه هو «كيف» يتم البناء التصويري، الذي تصور به الرؤيا ما تريد تصويره؟ وهي إنما تصور - في كثير من الحالات - شعورية يعيشها صاحب الحلم، وقلما تصور «فكرة» تبلورت واكتمل تكوينها عن الموضوع الذي تدور حوله رؤيا الحالم. والرأي الذي أعرضه هنا لأوضح به «كيف» تبنى الصورة في الحلم، وهو أن قوة الخيال المبدع، التي نراها في حياة اليقظة عند رجال الفن والأدب حين يبدعون ما يبدعونه من مركبات صوتية أو لونية أو لفظية، هي هي نفسها الخيال المبدع أثناء النوم، وكل الفرق بين الحالتين هو فرق في نسقية البناء بعد أن تتم عملية إبداعه، فإذا كان النعاس ينيم الجانب «المفكر» من الإنسان، بما في ذلك الحواس؛ فإن النعاس لا ينيم الخيال المبدع، حتى وإن نقصت فيه قوة إبداعه كثيرا أو قليلا، فهو يمضي في نشاطه، بانيا ما يبنيه من مركبات تصويرية، تكون هي أحلامنا، لكن ذلك الخيال إذ ينشط بفاعليته الإبداعية تلك، إنما يلتقط الأجزاء التي يقيم منها بناءه، يلتقطها من الخبرات السابقة التي وردت في حياة الحالم الماضية، ثم يغلب على الخيال المبدع إذ هو يقيم البناء من تلك الأجزاء التي انتقاها والتقطها من الخبرة السابقة، ألا يستخدمها في معانيها الحقيقية، بل إنه يجعل منها رموزا تشير إلى معان أخرى، وهذه العملية الرامزة شائعة في كل مبدعات الأدب والفن، ومن هنا كانت مهمة من يتصدى لفهم المعنى الكامن في حلم ما، شبيهة من جانب أساسي بمهمة الناقد في عالم الأدب والفن، فكلاهما يقرأ ما يعرض عليه قراءة من يستشف ما قد كمن واختفى وراء الظاهر. ولقد قدمت لك هذا الذي قدمته عن طبيعة الأحلام؛ لأنتهي به إلى اقتراح أعرضه في سبيل التعاون معا على قراءة حلمك البديع في مبناه. واقتراحي هو أن نبدأ باستخراج الأجزاء التي تبدو عليها الوظيفة الرمزية بصورة لا تحمل الشك، وعليك أنت أن تذكر ما تراه في خواطرك مرتبطا بكل رمز منها، حتى إذا ما فرغنا من فك الرموز، حاولنا قراءة الحلم قراءة تبين لنا حقيقة معناه.
قال: لقد أمتعتني حقا بما قلته، وها أنا ذا على استعداد لذكر ما يفيض به خاطري إزاء كل رمز من الرموز التي وردت في رؤياي، فانطق بها أنت رمزا وسأجيبك بما يستدعيه عندي كل رمز منها.
قلت: البيت القديم الذي كان في حلمك هو الكلية التي تحاضر فيها؟
قال: بيت قديم كنت أسكنه أيام الدراسة.
قلت: المقطف الذي تحولت إليه حقيبة كتبك وأوراقك؟
قال: مقطف أراه مع جامع القمامة على السلم الخلفي في العمارة التي أسكنها.
قلت: الكرسي الذي تحول بين يديك فأصبح مقعدا خشبيا صغيرا خفيضا؟
قال: كرسي الأستاذية.
قال: بماذا توحي إليك صورتك وأنت تجري إلى طائرة أقلعت، وليست معك تذكرة السفر ولا حقيبة الملابس؟
قال: إنها توحي بالسراب الذي تحسبه ماء، حتى إذا ما اقتربت من مكانه لم تجده شيئا.
قلت: إنني يا صديقي فور سماعي لرؤياك، قفزت إلى ذهني جملة كدت أنطق بها؛ إذ رأيتها مترجمة لمعنى الرؤيا التي سمعتها، لكنني أمسكت عن نطقها حتى يستبين صدقها خلال حديثنا، وأحسب أن صدقها قد استبان لي في وضوح. وها هي ذي أقولها، وعليك التعليق، إن رؤياك تصوير لجامعة فقدت مقوماتها، ولأستاذ أصابه إحباط؛ فماذا أنت قائل؟
قال: ربما صدقت في حكمك بشطريه، ولكنه ليس كل الصدق. فقد تجاهلت أجزاء من الصورة، لا بد أن يكون لها معناها؛ ومن أهمها النافذتان في غرفة الدراسة، اللتان نفذت منهما أشعة الشمس الدافئة، لتفرش الأرض بمربعين من الضوء تزاحم فيهما الطلاب، فلماذا لا ترى في ذلك رمزا للأمل في أزمة تنفرج بعد حين؟
قلت: صدقت ... وما رأيك يا صديقي في أن تغض النظر الآن عن رؤياك ورموزها لترخي لنفسك العنان في حديث تنطلق فيه حرا، فتروي عن حياتك الجامعية ما يعن لك أن ترويه، على ضوء ما توحي به الرؤيا، دون التقيد بتفصيلاتها؟
قال: سأفعل ذلك، ولكن لماذا أغض النظر عن ذلك الحلم القوي في تعبيره، والواضح في إشاراته وتصويره؟ وكل ما في الأمر من التغيير الذي أحدثه فيه، وهو أن أجعل جزأه الأخير الخاص بالجري وراء طائرة أقلعت يأتي أولا، وبذلك تستقيم لي القصة في تسلسل فصولها. فالحق أني منذ شبابي الباكر، لم تتعلق آمالي بشيء، كما تعلقت بحياة علمية وأدبية أعيشها. ففي ذلك الشباب الباكر - أو قل فترة المراهقة - تعددت أمامي النماذج، فالأسماء التي كانت تدوي في آفاق حياتنا كثيرة ومنوعة الأهداف، ففي دنيا السياسة نجوم سطعت، وفي دنيا المناصب الحاكمة سلاطين وملوك وأمراء ووزراء، وفي دنيا المال أقطاب، وكذلك كانت حياة العلم والفكر والأدب عامرة بأعلامها. فما تعلق إكباري وإعجابي إلا بهؤلاء الأعلام، وما رجوت لنفسي طريقا غير طريقهم، ولا هدفا إلا من جنس أهدافهم، وبهذا رسم أمامي الطريق.
سرت على ذلك الطريق سيرة كانت فيها من العثرات أكثر مما كان فيها من التوفيق، وكنت مع كل عثرة أيأس بالكلام، ولكني لم أيأس قط بالفعل وبالعمل، وما أكثر ما رددت لنفسي عبارات التوبيخ كلما رأيتها تبذل الجهد مضاعفا، بعد أن يكون الأوان - في ظني - قد فات، وأصبح الجهد المبذول كبذرة بذرت في أرض جدباء، وأحسب أن ذلك الجزء من الحلم، الذي كنت فيه أعدو لاهثا وراء طائرة أقلعت وغير مسلح بالأدوات اللازمة للسفر؛ أقول إن ذلك الجزء من الحلم، قد أجاد لي التصوير لتلك الحالة الغريبة التي طال معي أمدها، والتي لم تخل يوما واحدا من علاقة تتأزم بيني وبين نفسي، فجهود تبدو وكأنها ضائعة، مما كان من شأنه أن يكف صاحبها يائسا ليستريح. تقابلها من الجانب الآخر عزيمة صممت على ألا يسقط من قبضتها اللواء، وإني لأذكر جيدا كم حاولت إقناع الجانب اليائس من نفسي، ألف مرة بعد ألف مرة بأنني إنما أعمل للعمل في ذاته، لا لنتائجه؛ لأن حقيقة الأمر في حياة العلم والفكر والأدب والفن، هي أن الفاعلية المبذولة هي جزاء نفسها، فإذا أثمرت أخرى بعد ذلك في الحياة العملية؛ كان خيرا من الله، وإلا ففي ذاتها جزاؤها الكافي، والعجيب يا أخي هو أن بعض مقومات ذلك الجزء من الحلم، قد جاء انعكاسا حقيقيا لحياتي الفعلية التي عشتها، ولكن مع تعديل لا يخلو من المغزى، فالخندق الذي صادفني في طريقي إلى الطائرة السراب، كان له مقابل حقيقي في حياتي، لكنه في واقعه الماضي كان يخلو من الدرب المدقوق بالحجر الأبيض الذي رأيته في رؤياي، والطريق الذي كان يعبر إليه عابر الخندق لم يكن مرصوفا ولا نظيفا ولا خاليا، كما رأيته في الرؤيا، ولا أدري إن كان هذا التعديل قد جاءت به الصورة الحالمة؛ لتذكرني بأن الصعب يسهل مع الزمن، وبأن القانون الإلهي لحياة الإنسان هو «أن مع العسر يسرا».
وكانت الطريقة التي انكمش بها كرسي الأستاذية والتي تحول بها، قريبة جدا في مدلولها، من الصورة التي وصفها «كافكا» عندما صور إنسانا أخذ أثناء الليل يتحول إلى خنفساء، ولقد أراد بذلك أن يقول رأيه مختصرا فيما أصاب حياة الإنسان في عصرنا، وهو يعاني جانب السوء الذي تولد عن جوانب الارتقاء. وأما أشد الرموز بشاعة، وهو الذي تحولت به حقيبة الكتب والأوراق إلى مقطف يشبه مقطف جامع القمامة، فإنك لتعرف كم هو يقرب من الصدق في تصويره، إذا كنت قد رأيت ما رأيته أنا ذات يوم في طالب لم يكد يفرغ من امتحانه حتى جمع مذاكرته وكتبه وأشعل فيها النار، ووقف أمام الكومة المشتعلة ضاحكا بما هو شر من ضحكات نيرون عندما أشعل النار في روما، ووقف في شرفة قصره ليمتع عينيه بالنظر إلى صنيعة يديه الآثمتين، وإنما جاءت ضحكات الطالب المعتوه شرا من ضحكات نيرون في مغزاها؛ لأن نيرون كان في بلاهته صادرا عن روح العبث، وأما الطالب فقد أحرق العلم الذي حصله بدافع من روح الانتقام. ولقد انتهت بي رؤياي إلى أن وجدت نفسي على كرسي خشبي صغير وطيء، في غرفة عارية أرضا وجدرانا، لكنني لن أتجاهل برغم ذلك كله ذينك المربعين المشمسين المضيئين الدافئين، اللذين أنفذتهما إلى أرض الغرفة نافذتان مفتوحتان على سماء طلقة لا نهائية الأبعاد، فذلك هو الرجاء المصري، كان كلما كبا في عثرة استقام له الطريق بهداية من الله.
قلت: لقد رأيتها منذ اللحظة الأولى رؤية البداهة فور استماعي إليك تروي رؤياك؛ إذ رأيت فيها جامعة تفقد مقوماتها وأستاذا يصيبه إحباط، لكن للشمس شروقها بعد كل غروب.
وتحقق لي الأمل الذي نشدته منذ الصبا، وأتيح لي من أسباب الدراسة العلمية ما أحمد الله عليه حمدا لا ينقضي، وأصبحت أستاذا بالجامعة، وها هنا يأتي الجزء الثاني والأهم من رؤياي، ويشهد الله أني ما سعدت في حياتي الجامعية بقدر ما شقيت. فحقيقة الواقع كما تراها بعين منزهة عن الهوى وعن الرغبة العمياء في الدفاع عن النفس، حتى إذا وجدت تلك النفس على ضلال وعلى ضعف وعجز؛ أقول إن حقيقة الواقع كما تراها من الداخل بتلك العين المنزهة تفزعك وتشقيك، وإني لأقولها لك يا أخي قولة حق يرتجف لها اللسان وترتعش عند نطقها الشفتان، وذلك لأنها حقيقة لا يرضاها إلا من فقد الرجاء في أن نثبت وجودنا أحياء بين الأحياء، وتلك هي أن رموز الرؤيا في أبشع دلالاتها لم تبعد كثيرا عن الدقة في تصويرها للواقع كما يقع يوما بعد يوم وعاما بعد عام.
فإذا كنت في الحلم قد ذهبت إلى الكلية لأحاضر الطلاب، فوجدتها مبنى أجرب، ثم صعدت السلم إلى الطابق العلوي، فإذا درجاته لا تحض على الصعود، ودخلت قاعة الدرس، فإذا قطع الأثاث نفسها قد فقدت نظامها، وإذا الطلاب قد بردت أجسادهم، والتمسوا الدفء يأتيهم من خارج نفوسهم، وما ذلك الخارج المرتجى إلا مربعان مشمسان صغيران لا يسعان جميعهم، فيتزاحم بعض، ويخرج من دائرة الأمل بعض آخر، ولقد بلغ التصوير أدق حالاته، عندما رأيتني في الحلم أهم بنقل الكرسي الذي أعد لجلوسي من النور إلى الظل، فمن ناحية تلك هي نوازعي في حياة اليقظة، ومن ناحية أخرى، فإن تعبير الرؤيا في ذلك الصدد ، هو أن العلم قد فقد كثيرا جدا من مكانته في حياتنا، ولم تعد للأستاذ الجامعي تلك المنزلة العليا التي كانت له في عهد الأساطين.
الفصل الثامن والعشرون
العصور هي أفكارها
لم تكن مناسبات قليلة، تلك التي صادفتني آنا بعد آن، لأقرأ فيها لكاتب أو لأسمع فيها لمتحدث، تساؤل المتعجب من دعوة تدعو إلى أن تتجه الأمة العربية في عصرها هذا، نحو تربية أبنائها وبناتها، وتثقيفهم، على نحو يخرجون منه بتكوين فكري ووجداني، يظلون به عربا كما هم في هويتهم بكل ما تتميز به من سائر الأمم، ثم يستطيعون به - في الوقت نفسه - أن يواجهوا عصرهم الراهن بكل ما يتطلبه ويقتضيه ممن يحيون فيه.
وإن ذلك التساؤل المتعجب، ليبلغ ذروته في السخرية حين يحكم المتسائل على من يتبنون دعوة كهذه بأنهم إنما يحيون في ضروب من أوهامهم تبيح لهم أن يستخدموا ألفاظا دون أن يكونوا على وعي بمعانيها، وأن يتصورا تصورات تنقض نفسها بنفسها، فكيف يمكن لإنسان أن يعيش في عصر معين دون أن يكون معاصرا لذلك العصر الذي يعيش فيه؟ هكذا يتساءل أولئك المتعجبون حين تملؤهم دعابات الساخرين، ثم كيف يمكن لإنسان أن يحيا في يومنا هذا ولا يحيا فيه معا؟ أليس الدعاة إلى صيغة حياة جديدة يدعون لإقامتها على مبدأ الجمع بين «أصالة ومعاصرة» هم بمثابة من يتصور إمكان أن يقع تناقض كهذا، عندما يزعمون أن بين أبناء أمتنا العربية من اختاروا العيش في الماضي ومع السلف؟ إذن فالمتعجب الساخر لا يفهم دعوة الجمع بين أصالة ومعاصرة، لا يفهمها من وجهين، فهو لا يعقل أن يكون إنسانا حيا في هذا العصر وألا يكون معاصرا، فذلك التناقض في القول، إنما يكون كمن يقول إن فلانا من الناس يعيش سنة 1985م ولا يعيش سنة 1985م في آن واحد، وبالمنطق نفسه لا يفهم المتسائل المتعجب، بل ولا يعقل أن يقال عن إنسان إنه يعيش معنا الآن، ولكنه لا يعيش معنا الآن، بل عاد بأدراج الزمن حتى استقرت له الحياة مع السالفين.
وحقيقة الأمر فيما يتعجب منه المتعجبون، أبسط وأوضح مما تحدث مثل هذا التعجب كله، وتلك السخرية كلها، فإذا تحدث متحدث عن عصر معين من التاريخ الحضاري، أو التاريخ الفكري، فهو إنما يتحدث - بداهة - عن جانب «الحضارة » أو جانب «الفكر» من العصر الذي جعله موضوعا لحديثه، فإذا قال قائل - وكاتب هذه السطور هو ممن يقولون ذلك - بأن الأمة العربية في عصرنا هذا لا تعيش كلها بنظرة واحدة، بل يمكن القول بأنها تنقسم على نفسها ثلاثة أقسام، فالأكثرية الغالبة منها تكون راجعة إلى الماضي لتنظر مع السلف كما كان ينظر ذلك السلف، وأقلية قليلة منها تحيا مع عصرها هذا إلى حد الإسراف، الذي يسلبها هويتها العربية، ومجموعة ثالثة، لعلها هي التي أخذت بيدي الأمة العربية لتخطو نحو عصرها تلك الخطوات البطيئة التي حققتها في هذا السبيل، وإنها لمجموعة استطاعت أن تحتفظ للعربي بجوهر هويته العربية، ثم أن تمكنه في الوقت نفسه من أن يأخذ عن العصر ذلك القليل الذي أخذه، فاستطاع أن يتقدم بقدر ما أخذ. أقول: إنه إذا قال قائل مثل هذا القول، فمن غير الإنصاف أن يتناول ناقد من زاوية المعنى الذي نفهم به كلمة «العصر» وكأنها سلسلة من اللحظات الزمنية المفرغة من مضمونها الذي يملؤها بأحداث حقيقية، هي التي تجعلها حياة ذات حضارة بعينها، أو ذات اتجاهات في الفكر والفن والأدب والسياسة، وغير ذلك من جوانب الحياة المعاشة، نعم إننا إذا وجهنا النظر إلى لحظات الزمن كما تشير إليها عقارب الساعات التي يلبسها المتسائلون الساخرون حول معاصمهم لكان من الخبل أن يقول قائل: إن الساعة تشير إلى التاسعة صباحا، لكنها لا تشير إلى التاسعة صباحا، ومثل هذا التناقض الصارخ، هو ما قد ظن بعض المتسائلين أنه قائم في القول بأن جماعة منا تعيش هذا العصر (زمنا) ولكنها لا تعيش فيه (رؤية حضارية وثقافية).
وإذا كان هذا الفكر الواضح، يراد له أن يزداد وضوحا؛ فلنأخذ أمثلة حية مجسدة في أشخاص كانوا ذوي أجساد من لحم ودم وعظام، وكانوا يتنفسون ويأكلون ويتحركون ، وكانوا فوق ذلك يفكرون ويضعون أفكارهم على الورق ليقرأ لهم القارئون، ومع ذلك فقد كانوا يعيشون في زمن واحد بمقاييس الساعات التي نلبسها حول المعاصم، ولكنهم يعيشون في عصور تختلف في أحدهم عن زميله، وليكن المثل هو ثلاثة رجال تزامنوا في مصر إبان العشرينيات من هذا القرن، وهم: طه حسين، وسلامة موسى، ومصطفى صادق الرافعي، فعلى الرغم من أن عقارب الساعات كانت تشير بأن الثلاثة أبناء عصر واحد من ناحية الزمن المجيد؛ فقد كانت اتجاهاتهم الثقافية تصرخ صراخا يسمعه الصم بأن أحدهم كان من الناحية الفكرية وفي تصوره للمثل الأعلى في حياة العربي كيف ينبغي له أن يكون، وهو مصطفى الرافعي يعيش في الماضي مع السلف بفكره وبقلبه وبذوقه جميعا، بينما كان يقابله في النقيض الآخر سلامة موسى، يريد لنفسه ولقرائه أن يعيش مع أبناء الغرب العصريين، بفكره وبقلبه وبذوقه أيضا، وكان طه حسين يتوسط النقيضين وسطا، يريد لنفسه وللناس أن يحيا وأن يحيوا على ثقافة تدمج الطرفين في صيغة واحدة، وهي هي الصيغة التي - لحسن الحظ - قد دعا إليها أعلام نهضتنا جميعا، ولكنها أيضا هي الصيغة التي - لسوء الحظ - يقاومها جمهور الشعب، متأثرا في ذلك بتحفظات من يخشون أن يكون لما يؤخذ عن حضارة العصر وثقافته تأثير سيئ على كيان الهوية العربية التي يكون الإسلام ركنا جوهريا فيها.
فإذا سألنا أولئك المتعجبين الساخرين: من ذا الذي ترونه جديرا بالريادة الفكرية من هؤلاء الثلاثة؟ أيكون سؤالنا هذا دليلا على خلل عقلي في رءوسنا؟ لكننا إذا سألناه عن عقل سليم، فمهما تكن إجابة المجيب، فهنالك اعتراف ضمني بأن الزمن الواحد (بحساب الساعات ذوات العقارب) قد يتجاوز فيه ثلاثة أنماط ثقافية: نمط منها يرتد إلى الماضي، ونمط آخر يرتمي بكل وجوده في حاضر الآخرين، ونمط ثالث يفضل أن يستبقي من ماضيه ثوابت هويته القومية والتاريخية، ثم يستبدل بمتغيراتها الماضية متغيرات أخرى تكون هي الأصلح لزماننا هذا وظروفه، فإذا كانت اللغة والدين من الثوابت التي لا يجوز لها أن يتغير من جوهرها شيء ؛ فالعلوم وطائفة كبيرة من النظم الاجتماعية كأنظمة الحكم وأنظمة التعليم وغيرها، مما يجوز عليه التغيير؛ لأنها جميعا متغيرات مع الزمن بحكم كونها حاصلا ينتج بالضرورة عن الظروف المستحدثة، في الوقت الذي يجب أن تظل الثوابت من البناء الثقافي؛ لأنها هي التي يراد لها أن تتحكم في تلك الظروف المستحدثة لتشكلها وفق مثلها العليا.
وتعالوا نحلل معا حياة الفرد الواحد في شرائح عمره التي تختلف نظرته العامة وفوق اختلافها، فإذا وجدنا في تلك المراحل العمرية، ما يوجب أن تدوم في شخصية الفرد بعض الثوابت التي تتصل اتصالا مباشرا بوجوده الروحي والقومي، ومعها جوانب أخرى لا بد لها أن تتغير مع التغير الذي يصيب كل مرحلة من مراحل العمر، من جهة، ومن تراكم الخبرات الحية المستفادة من مكابدة الحياة العملية، من جهة أخرى؛ علمنا بذلك أن ما يصدق على الفرد الواحد في تدرجه مع امتداد الزمن، قد يصدق كذلك على مجتمع بأسره، إذا لم يكن في الحياة الاجتماعية عناصر إضافية، تضاف إلى ما يكون طبائع الأفراد، ولئن كان أفلاطون حين أراد أن يحدد حقيقة «العدل» حين يقال عن فرد من الناس إنه عادل، قد لجأ إلى تحليل فكرة «الدولة العادلة» أولا، حتى إذا ما رأى حقيقة العدالة هناك، طبق ما رآه على الفرد الواحد، وذلك على افتراض منه أن للعدالة معنى واحدا في الحالتين، إلا أن ذلك المعنى وهو متمثل في دولة، يكون أوضح ظهورا منه وهو متمثل في فرد واحد، قائلا إن الأمر يشبه قراءة ما هو مكتوب على لوحة، إذا كان القارئ ضعيف البصر، فإنه يرى المكتوب إذا اقترب منه أوضح مما يراه وهو بعيد عنه، أو هو يشبه عبارة ما، كتبت بأحرف كبيرة وكتبت كذلك بأحرف صغيرة، فإن قراءتها في الحالة الأولى أيسر منها في الحالة الثانية، فيخيل إلي أن موضوعنا الذي نحن بصدد الحديث عنه الآن، وهو تعيين الخصائص التي يجب أن تدوم، وتمييزها من الخصائص التي يجوز لها أن تتغير مع تغير الظروف، إنما يكون أوضح ظهورا في الفرد الواحد، منه في المجتمع لتشابك الخيوط في نسيجه.
فلا بد أن يكون كل منا قد صادف أفرادا وهم في سن الرجولة اكتملت فيهم كل المقومات البدنية، بل وربما امتازوا بحدة ذكائهم، ولكنهم مع ذلك لم يظفروا بشيء من التعليم، الذي يغلب أن يصحبه شيء من الثقافة، فنحكم عليهم بأنهم لا يحيون في الناحية الثقافية بما يتناسب مع مراحلهم العمرية، فأين وجه الغرابة إذا قلنا عن الأمة العربية، بكل ما لها من مقومات ومن ذكاء ومن ضروب أخرى من القدرات، بل بكل ما عندها من ذخائر تراثها، بثوابتها ومتغيراتها، أنها متخلفة عن عصرها حضاريا وثقافيا، لقد حدث لي منذ نحو سبع سنوات، أن وجدت في بريدي كتيبا أرسله إلي مؤلفه، وكان عنوان الكتاب «الأرض لا تدور» وأخذت في قراءة صفحات منه فوجدت الرجل ذا قلم ثابت بين أصابعه، ووجدته جادا كل الجد فيما يعرضه على الناس، من أن كروية الأرض فكرة بثها فينا «المستعمر»، وأما الفكرة فخاطئة وتقوم ضدها عدة براهين، بعضها من الدين وبعضها الآخر من العلم «الحديث»، وأخذ الرجل يسوق براهينه برهانا في أثر برهان! فأحسست عندئذ أن كتابا كهذا تدور به عجلات المطابع، ويتولاه ناشر بالتوزيع، ليس مجرد علامة على جهالة فرد من الأفراد، بل ربما كان أقرب إلى الصواب أن نقول إنها كالطفح الذي يظهر على وجه المريض ليدل على أنه في جوفه محموم، لأن كتابا كهذا يدل ولو بعض الدلالة، على نوع المناخ الفكري الذي تعيش فيه الأمة العربية اليوم، فإذا قلنا عنها إنها بظواهر كهذه تعيش «في» عصرها هذا، لكنها لا «تعيشه» كما نضع جائعا محروما «في» قصر من قصور الأغنياء، لكنه لا يحيا حياة القصر شبعا وريا، وأسوق مثلا من نوع آخر، ما حدثني به زميل فاضل مشهود له بسعة علمه في مجال تخصصه، ومجاله هو علم النفس، فقد أنبأني بأنه كان قد أجرى بحثا إحصائيا في موضوع معين، وكانت العمليات الإحصائية فيه قد اقتضت منه ساعات تعد بالعشرات (بل لعله قال لي إنها أيام العمل الطويلة - لا الساعات - هي التي كانت تعد بالعشرات) ثم شاءت له المصادفة أن يسافر في مهمة علمية إلى إحدى الجامعات البريطانية، واصطحب معه بحثه ذاك، فلما اطلع عليه أستاذ هناك، وعلم من صاحبنا مقدار ما كلفه بحثه من جهد، قال له: لو أنك أجريت هذه العمليات الإحصائية على حاسب إلكتروني لأنجزته كله في نصف الساعة (وكانت الحاسبات الإلكترونية في أوائل عهدها)، فإذا قلنا إن الطريق التي أدى بها صاحبنا ما أداه يمكن اتخاذها مؤشرا يدل على نوع المناخ العلمي الذي يعيش فيه العلماء في مصر إذ ذاك، فهل تخطئ خطأ يصل بنا إلى حد الحياة الضالة في أوهامها، إذا نحن قلنا إن حياتنا العلمية عندئذ كانت «في» العصر، ولكنها لم تكن تحياه؟
وننتقل من الخاص إلى العام، ونسأل: بماذا تتمايز العصور المتعاقبة في التاريخ؟ لا سيما إذا كان ما نؤرخ له هو الحياة الفكرية؟ الجواب الذي لا أظنه موضع شك هو أن مجموعة من أفكار أساسية في حياة الناس قد استنفدت طاقاتها في إدارة عجلة الحياة، لكثرة ما راكمته الأعوام من ظروف مستحدثة وطارئة، فكان لا بد أن تفرز عقول موهوبة مجموعة أخرى من أفكار تكون أكثر صلاحية لمواجهة الحياة بوجهها الجديد، وعندئذ يسدل الستار على عصر ذهب وولى، وينفتح عن عصر جديد، وقد لا أكون موفقا في استخدام صورة الستار ينسدل على عصر ويرتفع على عصر؛ لأن الفاصل بين عصرين هو في الحقيقة أقرب إلى هامش عريض، تتداخل فيه رواسب القديم وبشائر الجديد، قبل أن تخلو الساحة للجديد خالصا وحده من بقايا سلفه الذي تولى وذهب ليبقى في ذمة التاريخ.
وخذ مثلا لذلك الأمة العربية نفسها، التي هي في الحقيقة مدار حديثنا ومحور اهتمامنا، فلقد كانت خلال القرن الثامن عشر وما قبله، رجوعا حتى القرن السادس عشر، قد استقرت على حياة فكرية لا يقلق روادها أن يكونوا مجرد حفاظ وشراح لما هو قديم، فلما فتحت أبوابها لطلائع العصر الجديد آتية إليها من الغرب، منذ أوائل القرن الماضي، أخذت تتقبل الوافد إليها في حذر شديد، فلا تخطو إليه بخطوات جريئة سريعة، بل غلب عليها أن تتلقاه متحركا هو نحوها، وهي تكاد تظل في مكانها، وشيئا فشيئا، كلما تبين لها أن الوافد الأجنبي إنما يحمل معه مما يحمل لها ضروبا من المشكلات التي لم تكن لتجد حلا عندها، كأدوات القوة العسكرية، ووسائل المعالجة الطبية، وغيرها وغيرها، مدت يدها لتأخذ. إلا أن المأخوذ اليوم على كثرته لم يكن كافيا بعد لتنقلها من عصر ذهب إلى عصر يجيء، وهي لا تزال حتى اليوم تحيا في ذلك الهامش العريض، الذي تختلط فيه رواسب الماضي ببشائر العصر الجديد، ولعل ما أبطأ حركة الانتقال، هو إصرارها إلى اليوم على أن تأخذ ثمرات العصر جاهزة من أيدي أصحابه ونرفض أن نتشرب وجهة النظر التي من شأن صاحبها أن ينتج بها وفي ظلها تلك الثمرات بأشجار تنمو بجهده وفي أرضه.
العصر الجديد جديد بأفكاره، لا بعقارب الساعات وما تشير إليه، فالساعات حول معاصمنا تواقت الساعات التي تدور حول معاصم أبناء العصر الجديد إبداعا وإنتاجا واتجاها بالفكر وبالشعور، نحو علم جديد وفن جديد، ويحسن بنا الآن أن نذكر هنا أطرافا من الأفكار الأساسية التي صنعت مناخ الحياة في أوروبا وأمريكا، فأصبح الناس بها يحيون في عصر جديد، وهي نفسها الأفكار التي جاءت إلينا، فانقسمنا حيالها ثلاثة أقسام، ذكرناها فيما أسلفناه. أغلبية تلوي أعناقها نحو الماضي، رافضة لتلك الأفكار، وهذا الرفض منها لا يتنافى مع كونها تسمح لأبنائها أن تتلقى تلك الأفكار في المعاهد والجامعات لأنه - كما نعلم - ضرب من التلقي لا يجعل الفكرة المكسوبة ملكا لحافظها؛ لأنه يأخذها حفظا، ولا يتشرب المنهج الكامن وراءها، فيخرج بمحفوظات معلبة ولا يخرج برؤية جديدة تتغير بها حياته من جذورها، تلك هي الأغلبية من جمهورنا، تقابله أقلية تتلقى تلك الأفكار وكأنها وحي من السماء يؤخذ إيمانا وعبادة، ولا يؤخذ نقدا وتحليلا وتعديلا، وفئة ثالثة هي التي تهتدي بفطرتها إلى جادة الطريق، فتتلقى أفكار العصر لتعجنها عجنا مع أصولنا التي أسميناها فيما أسلفناه بالثوابت، كالعقيدة واللغة والقيم الأخلاقية التي تحرض حاملها على ألا يضحي بإنسانية الإنسان لأي سبب من الأسباب، تلك هي الأقسام التي تشعبنا بها حيال الأفكار التي صنعت عصرنا، وسبيلنا الآن إلى ذكر بعضها وأهمها.
إذا وجهنا النظر إلى أي عصر من عصور التاريخ، مستهدفين التقاط الأفكار الأساسية التي هي لذلك العصر بمثابة الأقطاب التي تدور حولها أرجاء النشاط البشري بكل صنوفه، فإنه لا يجدينا كثيرا أن نأخذ في تعقب تلك الأفكار واحدة واحدة؛ لأنها قد تتعدد إلى الحد الذي تستعصي معه الإحاطة بما هنالك، وإنما الجدوى في هذا السبيل تصبح ميسورة التحقيق، إذا نحن اتجهنا بالبحث نحو ما يمكن أن يكون الجذع الذي تنبثق منه الفروع، أو إن شئت فقل إننا نبحث عن الينبوع الرئيسي الذي منه تتدفق الروافد والجداول والقنوات، وذلك لأن كل عصر في التاريخ الفكري قد اتكأ في أوجه نشاطه برغم كثرتها على مبدأ أساسي واحد، ومن ذلك المبدأ الواحد تأتي مجموعة القواعد التي تنظم السير بالفكر أو بالسلوك، في الاتجاهات التي تتسق مع العصر القائم وظروفه، فإذا ما حدث في الحياة ما لم يعد يتلاءم مع ذلك المبدأ وما يتفرع عنه، تغير المبدأ، وبهذا يكون الناس على مشارف عصر جديد.
فالأجدر بنا - إذن - ألا نوزع انتباهنا بين أشتات الأفكار الفرعية التي تسود عصرنا وتعطيه طابعه الخاص، بل الأجدر بنا هو البحث عن «المبدأ» المحوري الذي هو الأساس الذي تفرعت منه سائر الأفكار الصغرى، وها هنا قد يحدث اختلاف في الرأي عما يصح أن يكون «مبدأ» لهذا العصر القائم، ولكنه عندئذ يكون اختلافا في عملية التحليل النظري، الذي يرد الكثرة الظاهرة إلى ما يجمعها ويوحدها، وأما وجهة النظر التي أؤيدها دون سواها في هذا الصدد، فهي أن «المبدأ» الذي جاء ليجعل عصرنا هذا عصرا قائما بذاته، إنما هو النظر إلى كل شيء بما في ذلك الكائنات الحية على اختلافها، بل بما في ذلك أيضا الكون من حيث هو وجود شامل لكل ما هنالك. أقول إن مبدأ عصرنا هو النظر إلى كل شيء، لا على أنه ذو جوهر ثابت ودائم، بل على أنه «تاريخ»، ومعنى «تاريخ» هو أن كل شيء هو سلسلة من لحظات، له في كل لحظة حالة متميزة بصفاتها. فإذا سألتني عن أي إنسان، أو شجرة، أو مدينة، أو أسرة، أو ما شئت أن تسأل عنه: ما هو، وما حقيقته؟ كان الجواب الصحيح إذا أردناه، هو أن أقص عليك «تاريخ» الشيء الذي تسأل عن هويته وحقيقته، أي إن الجواب الصحيح هو أن نتعقب لحظات الزمن المتعاقبة، التي هي هي نفسها وجود الشيء موضع السؤال، لنرى ما حدث فيها من تحولات لحظة بعد لحظة، فإذا كان ذلك عسير التحقيق من الوجهة العملية، فلا أقل من أن نكتفي باللحظات البارزة في سير التحول، وأيا ما كان الأمر، فالصواب هو أن تتصور أي شيء تريد أن تراه على حقيقته، أن تتصوره في إطار تحولاته وتغيراته، وليس كما كانت طريقة النظر فيما سبق، وهو تصور الأشياء وشتى الكائنات على أن الشيء منها أو الكائن هو كالحقيقة الرياضية لا تتغير، فقد كانت في ماضيها كما هي كائنة الآن، وكما سوف تكون غدا، وحتى الكون في مجموعه - من حيث هو كيان موحد - يقول عنه علم عصرنا إنه في اتساع مستمر، فهو إذن في هذه الحقبة الزمنية غير ما كان عليه، وغير ما سوف يكون عليه، من حيث الاتساع وما يترتب على الاتساع من نتائج، على أن سؤالا يرد هنا ويلح حتى يكون له جواب مقنع وهو: إذا سالت بين أيدينا حقائق الأشياء هكذا، ليصبح كل شيء منها وكأنه سيرة تنتقل من لحظة بما فيها إلى لحظة أخرى بما فيها، وهكذا، فأين نجد «الهوية» الثابتة لأي كائن، بحيث نتمكن من الحديث عنه والإشارة إليه؟ فيجيء جواب ذلك قائلا: إن تلك الهوية التي تميز كائنا من كائن إنما هي في «العلاقات» الرابطة بين اللحظات المتعاقبة، وإنه لفي حكم المستحيل - رياضيا - أن يتشابه خطان تشابها كاملا.
ذلك هو مبدأ النظر في عصرنا ، وهو بمثابة الأساس العميق الذي بنيت عليه التصورات الجديدة في كل الميادين، بما في ذلك «العلوم» نفسها، في أطرها الجديدة، وحسبنا من هذا كله، إذا أردنا أن نعيش عصرنا في روحه التي تميزه، أن ننظر إلى «التغيير» لا على أنه صفة طارئة على ما هو كائن وقائم؛ بحيث نسأل: لماذا تغير هذا أو تغير ذاك من أوضاع حياتنا؟ بل أن نجعل سكون الأوضاع على حالة بعينها، دون أن يطرأ عليها تغير يستوجبه مر الزمن، هو الشذوذ الذي يستدعي منا السؤال: ما الذي حدث لهذا الشيء أو ذاك، فسكن وجمد على حالة واحدة، وكان ينبغي له أن يتغير؟
فالذين يتساءلوا، وكان في تساؤل بعضهم نبرة ساخرة، قائلين: كيف يعقل أن يعيش إنسان في هذا العصر، ثم نقول عنه إنه ليس معاصرا، إلى هؤلاء نقول: إن معنى «العصر» هو أفكاره ومبادئه التي تسوده، وليس معناه مجرد وجود زمني يقاس بأعوامه وشهوره ودقائقه وثوانيه، وعلى هذه الخلفية الفكرية التي هي «العصر» تجيء مطالبة الناس بأن يكونوا مبدعين لا تابعين.
الفصل التاسع والعشرون
ورقة مزقها طفل
لم تزل تلك الصورة الذهنية تعاودني كلما خيل إلي أن حياتنا - في كل جانب من جوانبها - قد أصابها ازدواجية خطيرة، فالروح المصرية الصميمة وهي في كامل جلالها ووقارها وصلابتها وروعتها، ما زالت بحمد الله مكنونة في العمق، وأما «السطح» في تيار حياتنا الجارية فقد ازدحمت على أمواجه شوائب تراها سابحة أينما وجهت البصر، مما يوهم الرائي أنه لم يعد بين المصري والمصري ولا بين المصري ووطنه، ذلك الحب الذي عرفناه، فكلما استيقظت مع الصباح لتطالع صحف اليوم؛ فاجأتك روايات لم تكن هي الروايات التي ألف المصريون فيما قبل هذه المرحلة من تاريخهم، أن يطالعوها بعضهم عن بعض، من سلب ونهب وخديعة وغدر وتعذيب وقتل، وكل ذلك كثيرا ما يقع حتى بين أعضاء الأسرة الواحدة، وعلى صور لم تعرف الرحمة سبيلا إليها، فماذا أصابنا حتى ذهبت الطيبة عن المصري «الطيب»؟ أو هكذا توهم الشوائب السابحة على سطح التيار رائيها .
أقول إنها صورة غامضة تعاودني، كلما حدث ما يثير في نفسي هذا السؤال: هل ذهبت عن المصري «الطيب» طيبته؟ لكنني كنت في كل مرة أواجه فيها عقلي بسؤال كهذا، أحسست فيه شيئا من الغموض، بأن الأمر لا يعدو السطح من تيار الحياة، وأما العمق فهناك ألف دليل على أنه لا يزال هو ذلك العمق الرزين الرصين الذي عرف به المصري على طول التاريخ ... فلما عاودني السؤال نفسه هذه المرة، وطمأنت نفسي بمثل تلك الإجابة، أبى العقل أن يدع المناسبة تمضي كما مضت سالفاتها، ورأى أن السؤال جاد ويحتاج إلى وقفة فيها تحليل وتمحيص وأمانة في الجواب، فما أيسر أن نقول إن حياتنا إنما هي كالنهر الجاري، وإنه إذا كانت الشائبات قد شوهت سطحه، فذلك عارض عابر، وأما أعماق النهر فهي لم تزل على نقائها وصفائها، من السهل أن نرسم لأنفسنا صورا كهذه، فتطمئن لها قلوبنا، لكنها لا تؤثر في تلك الأعلاق السابحة الشائهة فتزول.
ويظل السؤال قائما: ماذا أصابنا فشطر حياتنا إلى سطح وعمق يختلفان جوهرا وعنصرا، فخبث عائم على السطح، وطيبة كامنة في العمق، إذا صحت الصورة الذهنية التي لم تفتأ تعاودني كلما ألقيت السؤال؟
وشاءت لي المصادفات ذات يوم أن أترك غرفة مكتبي في المنزل لبضع دقائق، وكان فيها إذ ذاك طفل في نحو الخامسة من عمره، صاحب والديه في زيارة أسرية عابرة، فعبث الطفل بيديه الصغيرتين في أوراق موضوعة على المكتب، ومزق إحداها في محاولة أن يصنع منها مركبا، ولما فشل في تحقيق غايته أخذه الغيظ ومزق الورقة حتى أحالها إلى مجموعة من قطع صغيرة، وعدت إلى الغرفة لأشهد الأشلاء متناثرة على الأرض بعد تلك المذبحة، وعرفت أن الورقة الممزقة كانت تحمل لي مذكرات من أنفس ما دونته وحفظته في خزانة، ليبقى مصونا عندي عشرات السنين، وكنت قد أخرجت تلك الورقة من مكمنها منذ يوم واحد، راجيا أن أطالع ما فيها لتسترجع الذاكرة فكرة أردتها، ولكن حدث الذي حدث، والأمر لله من قبل ومن بعد، وغامت نفسي بسحابة خفيفة من أسف حزين، وكأنما أراد لي الله سبحانه ألا تطول تلك السحابة القابضة، فتذكرت حادثة يرويها تاريخ الأدب الإنجليزي عن «كارلايل»، وهي أنه بعد أن فرغ من آيته الأدبية الكبرى، التي هي تاريخ الثورة الفرنسية، أعطى أصول الكتاب إلى جارة له صديقة، وكانت بدورها أديبة مرموقة، لتقرأها وتبدي رأيها فيها، فتركتها في غرفة الجلوس بجوار المدفأة وخرجت لبضع دقائق، وعادت فوجدت كلبها قد عبث بتلك الأوراق ودفع بها إلى النار، فلم يكن من كارلايل - وقد كادت الصدمة تصعقه بهولها - إلا أن يستجمع عزيمته ليكتب الكتاب من جديد، وذلك معناه عمل متواصل لفترة طويلة من الزمن، حتى أتم كتابه في صورته الثانية، وهي صورة قال عنها فيما بعد، وقال عنها كذلك أصدقاؤه الذين أطلعهم على أصول الكتاب؛ إنها لم تبلغ قط ما كانت بلغته الصورة الأولى من روعة البلاغة. تذكرت حادثة كارلايل هذه، فهدأت نفسي، وأخذت ألهو بالقصاصات المبعثرة على أرض الغرفة، وأقرأ ما عليها من جمل مبتورة، متسائلا عند كل قصاصة منها: أين هذه الأشلاء المجزوءة من ذلك الجسم الجميل عندما كان في اكتماله؟ وما إن طاف هذا الخاطر في رأسي، حتى همست: إن في هذا لجوابا على السؤال الذي طرحناه عن المصري وما أصابه - على السطح - في هذه المرحلة من حياته.
الورقة النفيسة التي عبث بها الطفل بيديه الصغيرتين فمزقها، كانت قوية الدلالة غزيرة المعنى، وهي متكاملة موصولة الأجزاء موحدة الكيان، فلما تجزأت ورقات صغيرة مستقلة إحداها عن الأخريات، بات كل جزء على حدة معدوم الدلالة مفقود المعنى، كانت الورقة وهي سليمة البناء تشع نورا بفحواها، فلما تمزقت أوصالها، أصبح كل جزء من أجزائها وكأنه رقعة مظلمة، وأصبح الظلام مجموعا إلى ظلام لا ينتج إلا ظلاما أو ما يشبه الظلام، إن القصة يرويها الراوي مسلسلة الوقائع، يتلقاها السامع وكأنها نسيج حي من دنيا الناس ونبضها، فإذا مزقها الراوي ليحكيها سطرا من هنا وسطرا من هناك، بحيث لا يكون لها أول ووسط وآخر؛ انقلبت خليطا من الصوت كخليط المجانين، لقد كانت محنة بابل التي عوقبت بها لعصيانها، أن تعددت اللغات بين أبنائها، وانفرد كل جزء من أجزائها بلسان، فلم يفهم أحد عن أحد شيئا، فأصبحت زحاما متنافرا، ولم تعد أمة واحدة متفاهمة متجانسة .
لست كثير القراءة لما كتبه المتصوفة المسلمون، لكن القليل الذي قرأته منه قد زودني بزاد روحاني هو خير الزاد، وكان من أشد المعاني التي اكتسبتها منهم نفاذا إلى نفسي، هو الشرور التي تنجم عن «التجزؤ» لما هو بطبيعته وحقيقته كيان موحد، فعندئذ تصبح تلك الأجزاء التي انحلت عراها وتفككت أوصالها فتبددت أيدي سبأ، تصبح الأجزاء وكأنها الحجب الكثيفة التي تحول بين الإنسان وبين الحق الذي يتطلع إلى بلوغه، وكان مقصد المتصوفة من هذا الكلام أو ما يشبهه، هو معرفة المخلوق لخالقه كيف تستحيل عليه إذا هو لم يعبر الفجوة التي تفصل الإنسان عن ربه، ومن هنا تكون مجاهدة المتصوف ورياضته لنفسه حتى يتغلب الفرد الإنساني على شعوره بجزئيته وانفراده اللذين يفصلانه عن الله سبحانه وتعالى، وإذا حطم الفرد الجزئي من الناس ذلك الحجاب الذي ينحصر وراء جدرانه؛ انفتح له الطريق إلى شهود المولى جل وعلا، وبذلك يكون بمثابة من خرج من ظلام إلى نور، فالجزئية حجاب، والحجاب ظلام، واختراقه خروج إلى النور.
ومن هذا المعنى عند المتصوفة المسلمين، يمكننا الانتقال إلى «التنوير» وما نعنيه نحن بهذه الكلمة، عندما نسعى إلى استنارة تشمل أفراد الشعب جميعا بسنائها وسناها؛ إذ ماذا يكون «التنوير» إلا أن يكون انتقالا من جهل إلى معرفة؟ ثم ماذا يكون الجهل في شتى حالاته إلا أن يكون الإنسان الجاهل بمثابة من لفه ظلام فحجب عنه حقائق الأشياء، حتى إذا ما أزاح عن نفسه ذلك الحاجز، وخرج من ظلمة إلى نور، استطاع أن يرى ما لم يكن رآه وهو خلف حجاب؟
ربما يكون أولئك المتصوفة قد أسرفوا في نزوعهم نحو أن يحطموا جدران الطبيعة البشرية ليخترقوا حجاب التجزؤ المظلم بجهالته، وليخرجوا منه إلى معرفة الله سبحانه وتعالى بطريق الشهود المباشر، وإن كاتب هذه السطور - على الأقل - لا يستطيع أن يرى كيف يكون ذلك ممكنا - من جهة - وكيف يكون حتى إذا كان ممكنا أمرا مرغوبا فيه من جهة أخرى؛ لأن تلك الطريقة البشرية في الفرد الواحد هي المسئولية يوم الحساب عما قدمت في حياتها، لكن ذلك لا يمنع أن يكون لنا من موقف المتصوفة درس بالغ الأهمية والفائدة؛ لأنه يلفت أنظارنا إلى الخطر الداهم الذي يحيق بأي جماعة يتجزأ أفرادها تجزؤا يميل بكل فرد على حدة أن يتصرف وكأنه هو العالم بأسره، وكأنه ليس هنالك أفراد سواه يقاسمونه وطنا واحدا، وحياة واحدة.
وموقف المتصوفة يلفت أنظارنا كذلك إلى حقيقة هامة من حقائق المعرفة البشرية، والمعرفة - كما أسلفنا - هي النور، لا يسطع لنا ضياؤه إلا إذا اخترقنا حجب الجهالة بظلامها، وأعني بتلك الحقيقة عن المعرفة البشرية؛ كون الإنسان إذا وقف بمعرفته لشيء معين، عند ذلك الشيء وحده فهو لا يعرف عنه عندئذ إلا أقل من القليل، فأنت لا تعرف أي شيء إلا إذا عرفته في ذاته أولا، ثم جاوزته لتعرف كذلك ما عداه، مما هو متصل به بعلاقات، إنك قد تعرف كل شيء عن الأرض التي نعيش على سطحها، ولكنها تظل معرفة ناقصة ما لم تجاوز بعلمك حدود الأرض في ذاتها، لتعرف العلاقات التي تربطها بالقمر والشمس وكواكب المريخ وزحل والزهرة وعطارد، إلى آخر أجزاء المجموعة الشمسية؛ لأنها جميعا «أسرة» واحدة، لا نعرف واحدا من أعضائها إلا إذا عرفنا روابطه بسائر أعضاء أسرته، وهل في مستطاعك أن تعرف معنى العدد سبعة - مثلا - إلا إذا عرفت سوابقه ولواحقه من سلسلة الأعداد التي هو حلقة فيها؟ هل في مستطاعك أن تعرف نظرية معينة من نظريات الهندسة، ولتكن - مثلا - نظرية فيثاغورس عن المثلث القائم الزاوية، إلا إذا عرفت سوابقها التي جاءت تلك النظرية نتيجة لها؟ هل تزعم لنفسك معرفة بشخص ما، إذا أنت لم تجاوز شخصه إلى الأسرة التي هو عضو فيها وإلى مجموعة أصدقائه، وإلى نوع العمل الذي يؤديه وهكذا؟ إن والد البنت حين يتقدم إليه خاطب لابنته يشعر بضرورة أن «يسأل عنه» (كما نقول) بمعنى أن يسأل عمن هم ذوو علاقة به لكي يعرفه؛ إذ إن شخصه وحده لا يكفي لمعرفة شخصه ... كل ذلك يدلنا دلالة قوية على أن الفرد الواحد محال أن تكتمل له حقيقته إلا وهو منسوب للآخرين ممن يكونون معه مجموعة واحدة، سواء أكانت تلك المجموعة أسرة أم جماعة أصدقاء، أم أمة بأكملها هو أحد أفرادها، وربما طاف بذهنك سؤال: وماذا إذا تفرد واعتزل؟ فنقول: إن ذلك - لو كان ممكن الحدوث أصلا - فهو إنما يجعل منه فردا منقوص الوجود، ومصيره حتما إلى ذبول وضمور في كل مقومات حياته، كالفرع ينفصل عن الشجرة التي تغذى وجوده بوجودها.
لماذا نشترط للعمل الفني أو الأدبي أن يكون ذا وحدة عضوية؟ أود قبل الإجابة أن ألقي بعض الضوء على معنى عبارة «وحدة عضوية» فأقول: إنها الوحدة التي تشبه الوحدة في أي كائن حي؛ فالكائن الحي - شجرة كان أو حيوانا - مؤلف من أعضاء وأجزاء قد لا تقع تحت الحصر، لكن تلك الأعضاء والأجزاء متصل بعضها ببعض اتصالا وثيقا، بحيث لا يمكن لواحد منها أن تستمر له الحياة إذا بتر عن بقية الأعضاء والأجزاء، وهذا الوضع نفسه هو ما يطلب وجوده في العمل الفني أو الأدبي، تشبيها له بالكائن الحي، ومن هنا تنبه كبار نقادنا منذ العشرينيات إلى ضرورة مراعاة تلك الوحدة في أعمالنا مما نبدعه في دنيا الفن والأدب، على زعم منهم في هذا الصدد، بأن الأدب العربي القديم قد فاته هذا الركن الأساسي من البناء الفني، وجاءت قصيدة الشعر - مثلا - أبياتا متلاحقة في غير بنيان عضوي؛ لأن هذا البنيان العضوي لا يتوافر للقصيدة إلا إذا كان كل بيت فيها يؤدي إلى الذي يليه، وإلا إذا أخذت الحالة النفسية التي أراد الشاعر نقلها، تنمو وتتكامل في ذهن المتلقي بيتا بعد بيت، حتى إذا ما فرغ المتلقي من تلاوتها، كانت الحالة النفسية التي أرادها الشاعر قد اكتملت، كذلك عند ذلك المتلقي، وبعد هذا أعود إلى السؤال: لماذا نشترط مثل تلك الوحدة العضوية في أعمال الفن والأدب؟ والجواب هو نفسه الجواب الذي قدمناه فيما يختص باستحالة أن يكتمل لأي جزء وجوده إلا وهو منسوب إلى الكل الذي هو جزء منه.
وها هي ذي قصاصات الورق التي مزق بها الطفل اللاهي ورقة كانت مثقلة بمضمونها الفني، ترى كل قصاصة منها كالعمياء لا تبصر، وكالخرساء لا تنطق. ضاع مضمونها حين انفصلت عن أمها، وفقدت دلالتها حين استقلت وحدها جزءا مبتور الصلة بالكيان الموحد الذي كان يحتويه، ونسأل: ماذا أصاب المصري في مرحلته التاريخية الراهنة، حتى أصبحت الصلات التي تربطه بالمصري الآخر مبتورة أو كالمبتورة؟ والجواب هو أنه اجتزأ وجوده اجتزاء حصره في حدود فرديته، ففقدت تلك الفردية نفسها جوهر وجودها، كالذي يحدث للعضو الواحد من أعضاء البدن، يبتر ويلقى به في مكان وحده يعزله عن أصله الذي كان ينتسب إليه! لكن ذلك التجزؤ في الأفراد إنما هو لحسن الحظ تجزؤ على سطح الحياة، لكنه - كما أسلفنا - لم يضرب بجذوره المريضة إلى عمق وجوده، مما يؤكد أن العلة مؤقتة في حياتنا لأسباب تحتاج إلى تحليل وتوضيح ولن تلبث أن تزول.
تشققت القشرة الخارجية واللب باق على حالته وسلامته بإذن الله، وكان بعض العوامل التي أحدثت التشقق مما لا حيلة لنا فيه؛ إذ هي رجة عنيفة ارتجت لها شعوب الدنيا بأسرها، جاءت بدايتها مع الحرب العالمية الأولى، ثم اشتدت قوتها مع أعقاب الحرب العالمية الثانية، وكان ما بين الحربين عهدا شهد ثورات ودكتاتوريات قلبت أوضاعا كثيرة، ففيها نشبت الثورة الشيوعية في روسيا وظهرت فاشية موسوليني في إيطاليا، ونازية هتلر في ألمانيا واشتعلت الحرب الأهلية في إسبانيا، وما إن بلغت الحرب العالمية الثانية ختامها؛ حتى أخذت نتائجها تتوالى - وهي لا تزال تتولى - وكان من أهم تلك النتائج قيام هيئة الأمم المتحدة، وتحرر الشعوب المستعمرة ومعظمها في أفريقيا وآسيا، واستتبع هذا التحرر زوال النموذجية الغربية في الحضارة والثقافة، فبعد أن كانت حضارة الغرب وثقافته هي المعيار الذي يقاس به مدى ما تحضر بلد أو تثقف، ارتفعت أصوات احتجاج هنا وهناك تقول: لماذا ثقافة الغرب دون ثقافات الشعوب الأخرى؟ ولماذا حضارة الغرب دون الحضارات القديمة يحييها أصحابها؟
لكن صيحات المحتجين شيء، وقوة الواقع شيء آخر، وكان ذلك الواقع القوي هو أن أخذت علوم الغرب وصناعاته تمضي تقدما وارتفاعا، وماذا يجدي صياح أمام ذلك الجبروت؟ فأصبحت خلاصة الموقف أمام الشعوب الضعيفة هي: إما أن تأخذ بأسباب القوة، وإما أن تنهار ليتحكم فيك صاحب القوة، وإن لم يكن ذلك التحكم في صورة الاستعمار القديم؛ فليكن في صورة أخرى، والصور في ذلك كثيرة، وهذا هو الذي كان، وعلى ضوء هذا التحليل (وقد يكون خاطئا) انظر إلى أي بلد شئت من البلاد التي تحررت من الاستعمار القديم، ثم أخذتها العزة بالضعف فأبت أن تمضي في طريق القوة كما يعرفه عصرنا، وأعني طريق العلم المبدع والإدارة الصارمة في دقتها، تجد أمرين متناقضين وإن يكونا متجاورين: فهناك قشرة على سطح الحياة تضطرب بنشاط، ظاهره طموح وحقيقته انتهازية وفوضى، وتحت القشة جوف جامد لا يكاد يتغير من جوهره شيء! والحق أن مثل هذه الازدواجية قد تراها على مستوى دولي كذلك! فهنالك هيئة الأمم المتحدة، لأمم غير متحدة، على قشرتها الظاهرة تعاون بين الدول على مساواة وعدل وسلام، وتحت القشرة أمم تظن كل منها أنها فوق الجميع، وعفاء على المساواة وعلى العدل وعلى السلام.
وبينما الخواطر تجري على هذا النحو نظرت إلى قطع الورق التي بعثرها الطفل اللاهي على أرض غرفتي، فأخذتني الرغبة في أن أعيد بنائها، وجمعتها ووضعتها على ظهر مكتبي، وأخرجت بكرة من الشريط اللاصق، وأخذت أبحث في القصاصات لكل جارة عن جارتها لأضمها معا بقطعة من الشريط اللاصق، ولا تسلني كم ساعة استغرقتها عملية الترميم، وكم من الجهد الجهيد بذلته بين الكلمات المتقطعة، أي الورقات تكون جارة لأيها، حتى تكاملت لي الورقة لا لتصبح كما كانت، إلا كما يعود من انكسرت رجلاه، ومشى حجلا يتكئ على العصا، إلى ما كان عليه وهو يمشي على رجليه مستويا، فالأجزاء الملصقة قد تركت بينها فجوات تتعثر عندها عين القارئ، حتى ولو كانت عينا سليمة لا تلجأ إلى عدسات لتبصر، ولكن «إلا تكن إبل فمعزى» كما كان العرب يقولون.
فلما عادت ورقتي بعد تمزقها وتجزئها إلى ما يشبه الوحدة، كانت كأنها انتقلت من ظلام إلى نور، من خرس إلى نطق، من جهل إلى معرفة، من أشلاء ميتة إلى كائن حي ... وهكذا - يقينا - تكون حالنا إذا ما أفقنا من الغيبوبة التي فرقتنا أفرادا يعمل كل لحساب نفسه وعلى حساب الضعفاء والمعوزين، فتعود بعد ذلك التجزئة إلى وحدة حقيقية، فلا حياة لجزء لا ينتسب إلى الكل الذي يحويه.
الفصل الثلاثون
وللشمس شروق بعد كل غروب
بعنوان «شروق من الغرب» أصدرت أول أعوام الخمسينيات (أي منذ خمسة وثلاثين عاما) المجموعة الثانية من مقالات كتبتها خلال الأربعينيات، وكانت المجموعة الأولى التي سبقتها إلى الظهور (سنة 1947م) هي تلك التي جعلت عنوانها «جنة العبيط»، ولم ألبث إلا قليلا بعد الثانية حتى أصدرت الثالثة التي أصبح عنوانها «الكوميديا الأرضية»، ثم أخذت المجموعات تتوالى. فقد كان أول الغيث قطرا ثم انهمر، ولا أظنني كتبت سطرا واحدا من كل ذلك لألهو، أو لأدخل المرح على نفس من ضاقت نفسه بالهموم، لا، بل إني لو رأيت من خلا صدره من الهم لشككت في قدراته الحاسة؛ إذ لا بد أن يكون حسه قد خشن وغلظ وتبلد، ذلك الذي يرى تلكم الأغلال التي قيدت أقدامنا، وإذا كانت الأقدام قد خلقها لنا الله لنسير بها إلى الأمام، فقد جعلتها أغلالها ترتد إلى أعقابها وتنحدر إلى وراء. أقول إنه لا بد أن يكون بليد الحس، ذلك الذي يرى كل ذلك ولا تتأزم له نفس أو يتأرق له فؤاد، ولما كنت واحدا من آحاد الناس، يرى في قومه أقداما مغلولة وعقولا مقيدة؛ فقد جاء ما كتبته في تلك المجموعة التي أخذت تتوالى صدورا وظهورا، وكأن سن القلم الذي كتبتها به مسمار محمي ألهبته النار، وكأنما القلب الذي نفث الحرارة في الكلمات كان أتونا يستعر، على أن تلك الثورة العارمة - يومئذ - كان لا بد لها أن تظل مكتومة في جمراتها، يحس القارئ لفحتها ولا يراها، فذلك هو مما يقتضيه الفن في أدب المقالة، ويغلب أن تكون وسيلة الكاتب في تحقيق ذلك، وأعني أن ينكتم اللهب الغاضب بحيث يستدله القارئ استدلالا من سخونة لفحته. أقول إن وسيلة الكاتب إلى ذلك يغلب أن تكون استخدامه لروح السخرية يجريها في تصويره وتعبيره.
وكان الذي أشعل في صدري تلك النار الغاضبة، أو قل الذي نفخ فيها لتزداد اشتعالا هو المقارنة التي أتاحت لي الظروف أن أجريها بين الإنسان في الشعوب التي تقدمت في موكب الحضارة العصرية والإنسان في الشعوب التي سمرت أقدامها في مواضعها، أو التي لم يكفها الجمود فانحدرت، فماذا يعرف عن حياة أمته من لا يعرف إلا حياة أمته؟ إنما هي المقارنات التي تبرز أمام الأبصار ما هنالك من حسنات الشعوب وسيئاتها، ومع تلك المقارنات التي تبرز أمام الإنسان لبلده ولأهله فيصعب عليه أن يرى أهله في حندس الليل ويحسبون أن ذلك هو ضوء النهار، يصعب عليه أن يرى كرامة الإنسان قد ديست فيما هو أهون من الهوان، ومع ذلك فقليلا ما يتبين حقيقة موضعه، يصعب عليه أن يرى قومه كم بلغ بهم التخلف ويظنون أنهم الطليعة، كم بلغت بهم الأمية في شتى صورها ويظنون أنهم المهتدون بنور المعرفة، كم بعد بهم النفاق والرياء والضعف والتخاذل والتواكل ويظنون أنهم في عالم الأخلاق قديسون صديقون أولياء. يصعب عليه أن يرى أمته ليست في عصرها وتظن أنها تستظل سماءه وتتنفس هواءه، يصعب عليه هذا كله وأكثر من هذا كله، فمتى يقوى إنسان على صراحة الصدق إذا لم يستطعها مع أسرته؟
فلما صدرت لي مجموعة «شروق من الغرب» كان من أصدائها أن احتج كاتب فاضل، وجعل عنوان احتجاجه ذلك «بل غروب من الغرب»، وكتب العقاد تحت عنوان «شروق من كل مكان»، وكتب آخرون، وكنت أتمنى أن أقرأ لهم ما يقنعني بأن ما صورته في مقالة «ظلم» عما كان سائدا بيننا من تجبر القوي على الضعيف، لم يحسن التصوير، وأن ما صورته عن هذا الجانب نفسه من حياتنا في مقالتي «الطاغية الصغير» و«أصنام تحطمت» وغيرها، لم يكن أمينا، وكنت أتمنى أن يقنعني اللائمون بأن ما صورته من حياتنا الفكرية والتعليمية من حيث البعد عن نور العقل الواضح المكتشف المغامر، في مقالات مثل «الببغاء والقفص»، و«القطة السوداء»، و«التصوف والمعرفة» يشوبه الخطأ والضلال، وهكذا جاء نقد الناقدين غضبة لا تستند إلى تفصيلات، لماذا؟ لأنهم كانوا يريدون أن يطالعوا ثناء وإعلاء وفخرا وتمجيدا، والحق الذي لا أخفيه ولا أحب أن أخفيه؛ هو أن قلبي يعمره الحب والفخر بوطني وبأهلي، لكن هنالك موضعا لكلمة «لكن» فمن ذا الذي يقولها لمصر إلا مصري وللوطن العربي إلا عربي؟ فذلك أضمن لأن يجيء النصح خالصا لوجه الله والوطن.
ولقد ذكرتني بهذا كله رسالة من السيدة الأديبة سهير إبراهيم عليوة، كتبتها إثر قراءتها لكتاب «شروق من الغرب»، فقالت في رسالتها:
عندما حصلت على كتابكم الفريد «شروق من الغرب» تبادر أول ما تبادر في ذهني، من معنى عنوان الكتاب، أن الحضارة والتقدم يأتياننا الآن من الغرب، بعد أن كان الشرق هو منبع الحضارات والثقافات، فقلت في نفسي هذا الشروق من الغرب يقابله غروب في الشرق، وإن كان الغروب مراحل ودرجات، فأول درجة في غروبنا، وهو غروب المحبة والإخاء الديني، مما دعا الأخوة إلى الاقتتال سواء كان ذلك في العراق وإيران، أم كان في لبنان، فغروب المشاعر الحلوة المقدسة أدى إلى الاقتتال، فالحرب غروب للمحبة والأخوة، وتلا تلك المرحلة مراحل غروب كثيرة، فتراجع دور الكلمة وفقدانها لمعناها غروب، الهجوم الدائم على كل صاحب رأي حر من الشوامخ غروب، الإسفاف الفني، والتفاهة التي وصل إليها مستوى الترفيه غروب، الإعراض عن حضور الندوات الجادة والأمسيات الثقافية والشعرية الراقية والتهافت على الأدنى غروب، التعلق بكل ما هو أجنبي، والتمايل مع نغمات الموسيقى الغربية سريعة الإيقاع، وترك موسيقانا الشرقية الأصيلة غروب، تفضيل التليفزيون على الكتب الثقافية الجادة غروب، الهرب من حل المشكلات بدفن الرءوس في الرمال غروب، وفي شرقنا الآن غروب للقيم والمبادئ والمثل العليا والعلوم وأسباب التقدم، فبعد أن كان هذا الشرق مهدا للحضارات قديما، أصبح لحدها، وهكذا بدأنا عمالقة وانتهينا أقزاما.
كانت تلك فقرة من رسالة الأديبة، أحصت فيها عددا من أنواع الغروب في حياتنا. ولقد أقامتها على نتيجة استدلتها استدلالا من عنوان الكتاب الذي قرأته لي، وفرغت لتوها من قراءته، وهو - كما أسلفت - كتاب «شروق من الغرب» الذي كتبت مادته في أواخر الأربعينيات، ونشر في أول الخمسينيات، إذ قالت الأديبة لنفسها: إن فكرة الشروق من الغرب، تلزم عنها نتيجة هي أن يتحول الغروب ليكون في الشرق، ويبدو أنها حين استخرجت لنفسها تلك النتيجة وجدتها نتيجة صحيحة، وأخذت تحصي أمثلة مختلفة من ذلك الغروب، ويبدو كذلك أنني وإن كنت لم أذكر تلك النتيجة، ذكرا صريحا في ذلك الكتاب؛ فقد تركتها مضمرة ومتضمنة في صفحاته، فلست أجزم الآن بما كنت عليه من رأي في هذا الصدد، حين كتبت مادة الكتاب المذكور، وأقول ذلك لأن النتيجة التي استخرجتها صاحبة الرسالة، وهي أن يكون في الشرق غروب، لا تلزم بالضرورة عن عنوان الكتاب، فليس ثمة ما يمنع أن يكون مع الشروق من الغرب، شروق كذلك من الشرق، وذلك هو نفسه ما تضمنه العنوان الذي اختاره العقاد لمقاله الذي علق فيه على ذلك الكتاب؛ إذ جعل عنوانه «شروق من كل مكان».
وأيا ما كان موقفي في ذلك الزمن البعيد، فهذا هو موقفي اليوم، وهو أن شمس الحضارة الجديدة قد أشرقت في عصرنا هذا من ناحية الغرب، بكل ما تشتمل عليه تلك الحضارة من علوم جديدة، وأجهزة جديدة، ونظم جديدة، وفن جديد، لكن ذلك كله حين يرسل إلينا أشعته التي يجب أن نتلقاها مرحبين، فإن تلك الأشعة الوافدة لن تقع عندنا على قفر يباب، بل إنها لواجدة في شرقنا أصولا راسخة لحضارة أو لحضارات تعاقبت وتراكمت آثارها عميقة، ومن حسن الحظ أن ميراثنا الحضاري الغزير، إنما يقع في أصعب الجوانب انتقالا واكتسابا، وأعني جوانب الدين والفن واللغة والأدب، وبعض النظم الاجتماعية الصالحة للبقاء، أما الجوانب الحضارية التي تأتينا من الغرب الجديد، والتي ندعو إلى قبولها وهضمها والترحيب بها، فهي أيسر الجوانب انتقالا واكتسابا؛ لأنها - على الأغلب - علوم وما يلحق بها من مهارات مهنية، وتلك أشياء نعلم كم هي يسيرة الأخذ إذا ما أقبل إنسان على أخذها والتمرس بها، فلو أن الذي ينقصنا هو العناصر المقامة على الوجدان والإيمان، لكان اكتسابها من أصحابها عسيرا إلى حد يقترب من الاستحالة، أما والمطلوب المجلوب من غيرنا هو في باب العلوم أساسا، فلا عسر في الأمر، ولا ما يشبه العسر لأن العلوم قائمة على «العقل»، والعقل ملك مشترك بين أفراد البشر جميعا على حد سواء، ونضرب المثل - مرة أخرى - باليابان وغيرها من بعض أقاليم الشرق الأقصى؛ فلأنهم يرثون عن أسلافهم دينا وفنا، ولم يبق عليهم، لتتم لهم معاصرة زمانهم، إلا العلوم وتقنياتها، فقد استطاعوا سد هذا النقص في بضع عشرات من السنين.
إن ميراثنا الحضاري والثقافي - وإنه لميراث خصب وغزير - هو الذي يشجع الكاتب العربي على دعوته نحو معاصرة كاملة؛ لأن المعاصرة الكاملة إنما هي بمثابة الجمع بين شروق وشروق، شروق من هناك للعلم الجديد الذي هو أساس الحضارة الجديدة، وشروق آخر من هنا فيه كل ما هو مطلوب بعد ذلك لحياة الإنسان الكامل، ولو كنا في حالة انعدام حضاري وثقافي لما صحت لنا دعوة إلى يقظة، لأنك لا توقظ الموتى، والأمر في هذا شبيه بنعاس النائم، فمهما بلغ النعاس من درجات العمق، فلا بد أن تبقى في النائم بقية من وعي ضئيل، وإلا لما أيقظته طبول الدنيا بأسرها لو اجتمعت عليه، فنحن إذ نوقظ النائم بصيحة أو بهزة فإنما نستند إلى بقية الوعي الكائنة فيه، مهما بلغت من الضآلة والخفوت. وعند هذا المنعطف من الحديث، أجد الفرصة مواتية للرد على رسالة أخرى كانت جاءتني تعليقا على ما كتبته ردا على «خطاب من مجهول» (الأهرام في 14 / 1 / 1985م) إذ كنت تلقيت رسالة بغير توقيع، كتبها كاتبها بلغة إنجليزية جيدة، وعرض فيها فكرا يشهد له بنصيب موفور من الثقافة، ولقد كتبها ليقول لي فيها ما خلاصته إنني في وهم الحالمين لو ظننت الجمع بين ثقافة العصر وثقافة تراثنا أمرا ممكنا، وكانت خلاصة ردي هي أن الإسلام هو أهم ما في تراثنا، ورسالة الإسلام أخلاقية في المقام الأول، ولما كانت ثقافة العصر إنما تستند إلى «العلوم» قبل أي شيء آخر، فأين يكون موضع الوهم، أخذنا أخلاقا من هنا وعلوما من هناك؟ فما أنا إلا أن جاءتني رسالة من الأستاذ محمد محمد القاضي، يعترض فيها على ما كتبته في الرد على «خطاب من مجهول»، وشعرت أن اعتراض الأستاذ محمد محمد القاضي يستحق الرد، بل إنه يستوجبه، فما هو، وما صاحب الخطاب الذي جاء خلوا من التوقيع، وما أنا، وما سوانا ممن يحملون هموم حياتنا الثقافية في هذه المرحلة التاريخية التي نجتازها، ما نحن جميعا إلا طلاب حقيقة نطمئن لها ونهتدي بها في مسيرة حياتنا، وربما كان اعتراض الأستاذ محمد محمد القاضي غير مقتصر عليه، بل هو مما يساور كثيرين آخرين، وهاك قبسات مما ورد في رسالة الاعتراض:
ليست المسألة مسألة حضارة أساسها الأخلاق وحضارة أخرى أساسها العلم، لو كان الأمر كذلك لهان الأمر، فما على العالم من سبيل إذا اكتسب أخلاقا معينة وهو يجري التجارب في معمله، أو وهو يحاضر طلبته، أو وهو ينشر علمه بين الناس، ما عليه من سبيل لأنه يجمع بين أشياء يمكن الجمع بينها.
المسألة تتمثل في صعوبة الجمع بين عقلية وعقلية، وبين منهج ومنهج، إنها عقلية الغيب في مقابل عقلية المشهود، وهي عقلية غير المنظور في مقابل عقلية المنظور، عقلية الغيب بكل «قوانينه» إذا كان للغيب قوانين، وعقلية الحاضر المشاهد، الذي يخضع للتجريب والملاحظة والاستنباط، إنها عقلية الغيب بكل شطحاته وتهويماته ودروشاته، إنها العقلية التي تعتبر الأبله وليا «يعلم الغيب» وينطق بالحكمة، ومن ثم يتبرك الناس به.
يا سيدي إن تفسير حادث السيارة على أنه قضاء وقدر، غير تفسيره على أنه ناشئ عن أسباب أخرى، وربما تتصل بالسيارة أو بنظام المرور أو بالسائق أو بها مجتمعة، والأمر على العكس في عقلية الحاضر المشهود، الخاضع للتجربة والملاحظة والاستنباط، بل والتنبؤ بالسلوك كلما وضعت الظاهرة في نفس الظروف.
وإذن فهي ليست حضارة قائمة على الأخلاق في مقابل حضارة قائمة على العلم، بما يستلزم عدم التنافر عند الجمع، أو الازدواج.
وأكتفي بهذا القدر من رسالة الأستاذ محمد محمد القاضي؛ لأن كل ما ورد فيها غير ذلك إنما هو أمثلة وتفريعات، تزداد بها وضوحا، لكن الفكرة الأساسية تظل هي الفكرة، وأعتقد أن شيئا مما رددت به على ما جاء في «خطاب من مجهول» يبقى هو نفسه أساسا للرد على رسالة الأستاذ القاضي (والروح بينهما شديدة التجانس)، وذلك الأساس الذي أعنيه هو الوقوع في مغالطة «إما كذا وإما كيت» عندما يكون في حدود الإمكان أن يجتمع «كذا» و«كيت» معا في شخص واحد، كأن تقول - مثلا - إما أن يكون فلان أستاذا في الجامعة وإما أن يكون محبا لرياضة المشي، فيتوهم السامع بأنه إذا ثبت أن فلانا المقصود أستاذ في الجامعة، فيلزم بالضرورة ألا يكون محبا لرياضة المشي، في حين أن إمكان الجمع بين الطرفين جائز وقريب الحدوث.
والآن فلننظر فيما أوردناه عن رسالة الأستاذ القاضي، فمحور حديثه هو المفارقة بين عقلية وعقلية (على حد تعبيره) عقلية الغيب وعقلية المشهود، فكأنما يريد القول بأنه إذا شغل إنسان بالبحث في ظاهرة من ظواهر العالم المشهود؛ فلم يعد أمامه فائض من حياته يشغل فيه بالغيب، وها هنا نقع في المغالطة التي ذكرناها، وذلك لأن السامع هنا قد يتوهم بأنه لا جمع بين أن يشغل الإنسان بما هو مشهود وبما هو غيب في شخصية واحدة، لا، بل إن الموقف في هذه الحالة أقوى حجة وأشد وضوحا من الموقف الذي مثلناه بإمكان الجمع في شخص واحد بين الأستاذية الجامعية وحب رياضة المشي؛ وذلك لأنه في نفس اللحظة التي يقوم فيها عالم بالبحث في ظاهرة معينة، بحثا يقيمه على تجربة وملاحظة، ويكون ملتزما أمام ضميره العلمي بطائفة من «القيم»؛ إذ لا بد له أن يكون «أمينا » في بحثه و«صادقا» في إعلان نتيجته، والأستاذ القاضي يعلم أن أشياء ك «الأمانة» و«الصدق» وما إليهما، لا تقع في أسرة المنظور، فالأمانة والصدق صورتان من صور «الأخلاق» يستعيرها رجل العلم من جانبه الآخر الذي هو فيه مؤمن بالغيب، وإلا فلماذا لا يلتزم الباحث العلمي أن يكون «مزورا» وأن يكون «كاذبا» في إعلان نتائج بحثه؟ فإذا قلنا إنه من الممكن للعربي أن يجمع أخلاقه الدينية إلى اضطلاعه بالبحث العلمي وبمنهج ذلك البحث، لم يكن هناك محل للاعتراض بأن هذه عقلية وتلك عقلية أخرى، وأقصى ما يمكن أن يقال في هذا الصدد، هو أن الإنسان الواحد - وأعني كل إنسان - فيه الجانبان معا، وهما جانبان يجوز لنا أن نفرق بينهما عند التحليل لنزداد فهما ووضوحا، لكن ذلك التحليل النظري لا يعني أن الإنسان يمكنه الحياة حياة كاملة بأحد الجانبين دون الجانب الآخر، كأن يترك نفسه بأجمعها ليستغرقها الواقع المشهود وحده، أو أن يتركها ليستغرقها الغيب وحده، إلا إذا استطاع الطائر أن يطير بجناح واحد، نعم إن هنالك من لا ترى عيناه إلا محسوسات الواقع، فيتساءل: وهل هناك شيء آخر غير هذا الواقع؟ كما أن هنالك من ينعم في وجدان قلبه بتأمل الغيب فيتساءل: وهل هنالك ما يستحق الاهتمام غير هذا الغيب؟ لكن كلا الرجلين سرعان ما يجنح به إسرافه إلى حياة مريضة تحتاج إلى من يتولاها بالعلاج لترتد حياة سوية تمكن صاحبها من الجمع بين شهادة وغيب، بين عمل وإيمان، بين علم ودين.
يقول الأستاذ القاضي - فيما يورده من أمثلة توضح الفرق بين عقلية وعقلية (كما جاء في حديثه) - إن تفسير حادث السيارة على أنه قضاء وقدر غير تفسيره على أنه ناشئ عن أسباب أخرى. وإني لأسأله: غيره عند من؟ ثم أتبرع له بالجواب عن سؤالي، فأقول: إن ذلك التفسير غير هذا التفسير عند المتعجل الذي لا يريد أن يعقل الأمور ليفهمها، ولكي نرى الأمر هنا على حقيقته، يجب علينا أولا أن نفهم كلا من اللفظين: «قضاء» و«قدر» مستقلا أحدهما عن الآخر، إذ لو كان اللفظان بمعنى واحد، لكان لفظ واحد منهما يكفي، ففي كلمة «القضاء» معنى المشيئة التي شاءت لشيء أن يقع، وأما كلمة «قدر» فتضيف إلى ذلك الحكم جانب «التقدير» أي جانب «المقدار» أي الجانب «الكمي» - بلغة العلوم - وفي هذا الجانب الكمي يكون تحديد «نقطة» الحدوث أين، وتحديد «لحظة» الحدوث متى، فإذا قلنا عن حادث إنه «قضاء وقدر» فكأننا أضمرنا سلسلة الأسباب التي تتصل بنقطة الحدوث وبلحظة الحدوث، وإذن فلا فرق بين عقلية وعقلية (بتعبير الأستاذ القاضي) وإنما الفرق هو بين من أضمر الأسباب ومن أفصح عنها، والموقفان لا يتناقضان، بل إن من أضمر يستطيع هو نفسه أن يتعلم كيف يفصل ما أضمره إذا أراد ذلك.
إنه إذا كانت الأديبة سهير إبراهيم عليوة في تعليقها على كتابي «شروق من الغرب» قد جمعت لنا أمثلة كثيرة من حياتنا الحاضرة، لتبين بها من أوجه مختلفة كم أصبح في حياتنا الراهنة من «غروب» بعد أن كانت فيما مضى دائمة الشروق، وإذا كان الأستاذ محمد محمد القاضي قد ضرب لنا من حياتنا تلك أمثلة يوضح بها كم تبعد «عقلية» جمهورنا عن «عقلية» أبناء الغرب في عصرنا بحيث يتعذر الجمع بين الطرفين في كيان واحد، فليس ذلك من طبائع الأشياء، نزل بنا ليبقى، بل هو كظلام الليل، لا يلبث أن ينقضي، وإنني لعلى يقين بأن للشمس شروقا بعد كل غروب.
ناپیژندل شوی مخ