وفي فاتحة النهضة الأوروبية كذلك كان هنالك فيلسوف آخر أراد أن يقيم للعقل منهجا سديدا، فكان أن دعا أولا إلى التخلص من مصادر الخطأ، ومن أهمها ما أسماه «أوهام الكهف»، وذلك الفيلسوف هو البريطاني «فرنسيس بيكون»، ويقصد بأوهام الكهف أن كلامنا يطوي في رأسه كهفا معتما مليئا بحفنة من الأفكار لا يرى سواها، فيظن أنها الحق الذي لا يأتيه باطل، وإذن فأول واجب على من أراد فكرا صحيحا هو أن يتخلص من كهفه ذاك ليخرج إلى النور، وجدير بالذكر هنا أن نقول إن «بيكون» قد أخذ التشبيه بالكهف عن أفلاطون الذي أورد هذا التشبيه مفصلا في محاورة «الجمهورية» ليقول به إن الإنسان في حياته الفكرية والمألوفة هو كمن ولد ونشأ وعاش في كهف ووجهه متجه إلى جدار الكهف الداخلي وظهره إلى الفتحة التي ينفتح بها الكهف على الطريق الخارجي، فهو - أي سجين الكهف - لا يرى أمامه إلا ما قد ينعكس على جدار الكهف الداخلي من ظلال ألقت بها أجساد السائرين خارج الكهف، فلو قيل له إنك لا ترى أمامك إلا ظلا للحقائق لا الحقائق نفسها لما فهم معنى لما يقال، فدنياه كلها هي تلك الظلال.
والمستفاد من هذا كله أن الإنسان يعبأ منذ طفولته الباكرة بأفكار وصور للسلوك يربيه عليها أبواه ومن عساه يصادفه في محيطه، ثم تأتي المدرسة وتعليمها ووسائل الإعلام وشحناتها إلى آخر تلك القائمة الطويلة، فإذا هو آخر الأمر إنسان «مصنوع» من الناحية الفكرية على أيدي الآخرين، وأخطر ما في الموقف هو أننا لا نستطيع مقابلة هذه الحالة بما يمحوها محوا كاملا، فأقصى ما نستطيعه هو أن نحسن تربية من نربيه لينشأ على استعداد تام لتصحيح ما كان قد عبئ في رأسه من أفكار إذا ما وجد ما هو أصح منها دون أن يجمد على محصوله القديم، وكأنه منزه عن الخطأ.
لكنه حين يستبدل بفكرة قديمة عنده فكرة جديدة أصح منها؛ فهو إنما يعيد الموقف نفسه في صورة جديدة؛ لأن الأغلب هو أن يتلقى هذه المرة فكرة من سواه عاجزا في معظم الحالات عن تحقيقها لنفسه تحقيقا علميا، كما تلقى في طفولته وصباه أفكارا عن سواه أخذها مأخذ التسليم.
ولقد ازدادت المشكلة إشكالا في عصرنا الحاضر، وذلك من جهتين، فأولا تقدم علم النفس تقدما هائلا مما جعل العلماء على قدرة كبيرة في تشكيل سلوك الإنسان وطريقة تفكيره، ولهذا أصبح ما يطلق عليه اسم «غسل المخ» أمرا ميسورا، بمعنى أن يتحكم من أراد أن يتحكم في تفريغ مخ الإنسان من محتواه - إذا صح لنا استعمال هذا التصوير المادي في مجال العقل - لتعبئته بمحتوى آخر، وفي تشكيل سلوكه بعادات جديدة غير عاداته السابقة، وكثيرا ما يحدث هذا في أسرى الحرب، بل هذا نفسه هو ما يحدث شيء منه بطريق الدعاية ووسائل الإعلام إذا ما خطط صاحب السلطان لهذا الهدف، وثانيا كثرة الأجهزة التي نتجت عن التطور التقني الحديث «التكنولوجيا» التي يستعان بها على شحن أي إنسان بالشحنة الفكرية والسلوكية التي تراد له، وقد سبق لي أن كتبت (الأهرام في 27 / 2 / 1984م) تحت عنوان «هذه الأجهزة وحرية الإنسان»، وكانت المشكلة التي دفعتني إلى كتابة ما كتبته هي الخطورة الداهمة التي تصيب مسألة المسئولية الأخلاقية، فنحن إنما نتوقع للإنسان أن يكون مسئولا عما يفعله بحر إرادته، فماذا وقد تمكن العلم بأجهزته أن يغير من فكر الإنسان وإرادته بحيث أصبح يفكر ويريد متوهما أن الفكر فكره الحر وأن الإرادة هي إرادته، مع أن الفكرة والإرادة معا قد صنعتهما له أجهزة الدعاية وأجهزة الإعلام؟
ولا يسعنا إزاء هذا كله إلا أن نوصي ونلح في التوصية بأن نربي أبناءنا على منهج التفكير العلمي حتى نحصل لهم على قدر معقول من النقد والتمحيص والموضوعية، لا أقول ليتخلصوا من البلاء كله؛ بل أقول ليحصروا هذا البلاء في حده الأدنى.
وبعد هذا أعود إلى ما عرضه الأستاذ حمدي غيث في رده من وجوب أن يفكر المفكر الحر «عاريا تماما إلا من إيمانه بالهدف» (هذه هي عبارته)، فأقول: إن ذلك العري الكامل مستحيل نظريا وعمليا في آن واحد؛ إذ لا بد من أفكار، إما مكسوبة وإما فطرية تكون متكأ لحركة الفكر، وإن الحرية الداخلية في فاعلية الفكر مكفولة لكل إنسان لا يستطيع حيالها أقوى الجبابرة الطغاة أن يتعرض لها ما دامت تلك الفاعلية حبيسة الدماغ لا تتسلل إلى الناس حيث يعيشون، ولذلك فإن ما يستحق أن نطالب به هو أولا أن نزود المواطنين بقوة النقد والتحليل لما يتلقونه من أفكار، وثانيا أن يخرج صاحب الفكر فكره إلى العلانية والتطبيق، دون أن يصيبه أذى.
الفصل السابع
المسلم الجديد
عن بناء الإنسان الحر أتحدث
لست من فقهاء الإسلام أو علمائه، ولكنني مسلم، والمسلم أسبق في ترتيب الزمن ظهورا من فقهاء الإسلام وعلمائه! إنني كما أنعم بعقيدتي، أشعر شعورا قويا بما تلقيه علي من واجب، ولست أريد بذلك مجرد القيام بفرائض الدين، فذلك أمر مفروغ منه ولا يحتاج إلى سؤال، فهو بمثابة أن تقام للبناء أركانه فيجيء بعد ذلك سؤال: ثم ماذا بعد أن أقمت أركان البناء؟
ناپیژندل شوی مخ