وقد ألف العرب كتبا لا أصل لها في الواقع إنما استمدت موضوعها من العلم والخيال والحكمة جميعا. وربما كان أنفس تلك الكتب «أسرار الحكمة المشرقية» الذي روى ابن طفيل الأندلسي أنه لخصه عن كتاب كبير من وضع الرئيس ابن سينا حيث هذا الحكيم صور نشأة الإنسان وألمع إلى نظرية التطور.
أما كتاب «ألف ليلة وليلة» فهو فارسي الأصل. وقد وضع أصله في القرن الرابع فتناولته أيادي النساخ بالإضافة والتحريف فكان كل منهم يزيد عليه وينقص فيه ما شاء، وذلك حتى القرن العاشر.
ووقف الفن القصصي بجمود اللغة مدة ثلاثة قرون. فحكاية عائشة بعيوبها ورواسبها تجربة أولى في النزعة المتجددة، لا سيما فيما يختص بالأدب النسائي؛ إذ لا علم لي بامرأة عربية اللغة وضعت قصة تامة قبل عائشة. فهي بتجربتها هذه من رواد المنهج الجديد. •••
والرواية بعيوبها ذات مغزى أخلاقي؛ لأن واضعتها جعلت سوء تربية الممدوح وعجزه عن تمييز الصديق من العدو منشأ مصائبه. فقد رأى عدوا فيمن يحسن إرشاده، ويعلمه كبح أهوائه، وينبهه إلى واجباته ومسئولياته. وحسب صديقا من حفز طيشه وغروره، وملق منه الزهو والعجرفة، وشجعه على العبث بكرامة الناس وكرامته الشخصية. فعوقب بنتائج ضلاله. ولكنه يوم ثاب واعترف بخطئه، بعد أن أتمت المحن صقله وهيأته لمنصبه، عادت إليه حقوقه ومسراته وحقق جميع رغباته. ومن ثم اسم «نتائج الأحوال».
أما أن الحياة تتصرف معنا، بني الإنسان، على هذه الكيفية فقد يحدث أحيانا، ولكن نقيضه قد يحدث أيضا. قد يتفق أن يعلو صوت الحق، وينتصر الصلاح، فيظفر المرء بما هو له في حكم الطبيعة والقانون والكفاءة، وقد يثاب المرء عن الخير خيرا، وعن التضحية كرامة. ولكن كم ذا يفوز الشر، ويغلب الظلم والخداع، كم ذا يجار على صاحب الحق في جميع القوانين البديهية والمشروعة! وكم يتألب الناس على سحقه وإهلاكه، وما له من ذنب سوى الإخلاص والتفاني!
وما كان أعدل الدنيا وأنصف الدهر، لو عومل كل بما يأتيه، وكان حقا من نوع العمل.
على أنه لا مندوحة لنا عن الأخذ بالمبادئ الأخلاقية ونشرها. ولا بد من تلقين النشء دروس الصدق والاستقامة والصلاح مهما عصفت حولها الشرور والأكاذيب والمفاسد؛ لأنه ينطبق على المبادئ الأخلاقية السامية ما قاله قولة الجاحد في الألوهية: «لو لم يكن الله موجودا لوجب أن نخترعه .»
أجل، يجب أن نخترع الأخلاق السامية لو لم تكن موجودة؛ لأنها من المواهب الفكرية والذهنية، إنما هي لباب الفضل في الإنسانية، وهي التي لا يتغلب عليها مذهب سياسي ولا تدرك قواعدها ثورة اجتماعية، فعلى من يستطيع تأييدها ونشرها أن يفعل، ليذكرنا على الدوام بأن الدنيا ذخيرة من أنفس ذخائر المثل الأعلى الذي لا يقتصر على جيل أو على فرد، بل تتعاون الجماعات والدهور على تمثيله وتحقيقه.
مرآة التأمل
الشائع أن «باحثة البادية» كانت أول مصرية عالجت الموضوعات الاجتماعية، وقد سبق أن أيدت هذه الفكرة قبل الاطلاع على نثر التيمورية. فأستدرك اليوم لأسجل الأسبقية لعائشة التي كتبت في هذه الموضوعات في صحف عصرها وفي «مرآة التأمل في الأمور» وهذه رسالة وجيزة في 16 صفحة من القطع الكبير. ليس لهذه الرسالة من تاريخ يوقتها، إلا أن كاتبتها ختمتها (على طريقة ذلك العهد) بامتداح لسمو الخديوي السابق، عباس حلمي باشا، فقد نشرت إذن بعد توليته، أي بعد 1892، وفي السنوات العشر الأخيرة من حياة التيمورية.
ناپیژندل شوی مخ