سافر أبو بكر إلى بصرى تاجرا ومعه نعيمان وسويط بن حرملة عامله على زاده. فجاءه نعيمان وطلب إليه طعاما فأباه عليه حتى يأتي أبو بكر، فأقسم نعيمان ليغيظنه. وذهب إلى قوم فقال لهم: «تشترون مني عبدا لي؟» قالوا: «نعم!» قال: «إنه عبد له كلام ، وهو قائل لكم: لست بعبده أنا رجل حر ... إلى أشباه ذلك. فإن كان إذا قال لكم هذا تركتموه فلا تشتروه ولا تفسدوا على عبدي ...» قالوا: «لا ... بل نشتريه ولا ننظر إلى قوله.» فاشتروه منه بعشر قلائص، ثم أداهم إياه فوضعوا عمامته في عنقه ولم يحفلوا بقوله، وجعلوا كلما قال لهم: «أنا حر! ... إنه يتهزأ ولست أنا بعبده.» سخروا منه وقالوا: بل عرفنا خبرك فدع عنك اللجاجة ... فلما جاء أبو بكر سأل عنه فقص عليه نعيمان قصته، وذهبوا جميعا ليلحقوا بالقوم فيفتدوه ويعيدوه.
ثم قدموا على رسول الله فضحك من فعلة نعيمان، وجعل يذكرها حولا كاملا كلما رآه.
من سعة النفس أن ينهض الرجل بعظائم الأمور بل بأعظمها جدا ووقارا وهو إقامة الأديان وإصلاح الأمم وتحويل مجرى التاريخ ثم يطيب نفسا للفكاهة ويطيب عطفا على المتفكهين ويشركهم فيما يشغلهم من طرائف الفراغ، فللجد صرامة تستغرق بعض النفوس فلا تتسع لهذا الجانب اللطيف من جوانب الحياة ... ولكن النفوس لا تستغرق هذا الاستغراق إلا دلت على شيء من ضيق الحظيرة ونقص المزايا وإن نهضت بالعظيم من الأعمال.
فاستراحة محمد إلى الفكاهة هي مقياس تلك الآفاق النفسية الواسعة التي شملت كل ناحية من نواحي العاطفة الإنسانية، وهي المقياس الذي يبدي من العظمة ما يبديه الجد في أعظم الأعمال.
وكان محمد يتفكه ويمزح كما كان يستريح إلى الفكاهة والمزاح، وكان دأبه في ذلك كدأبه في جميع مزاياه: يعطي كل مزية حقها ولا يأخذ لها من حق غيرها، أو يعطي الفكاهة حقها ولا ينقص بذلك من حق الصدق والمروءة. فعبد الله الخمار كان يجد من قلب النبي عطف القلب الكبير على نقيصة الضعف في الرجل السكير، ولكنه كان يجد من تأديب النبي جزاء الشارب الذي يخالف الدين ويخل تماديه بالشريعة، عطف يجمل بالنبي على أحسن ما يكون، لأنه يجمل بالإنسان على أفضل ما يكون.
وإذا مزح محمد فإنما كان يعطي الرضا والبشاشة حقهما، ولا يأخذ لهما من حق الصدق والمروءة. فكان مزاحه آية من آيات النبوة لأنه كان كذلك آية من آيات الإنسانية، ولم يكن بالنقيض الذي يستغرب من نبي كريم.
قال لعمته صفية: لا تدخل الجنة عجوز! ... فبكت، فقال لها وهو يضحك: الله تعالى يقول:
إنا أنشأناهن إنشاء * فجعلناهن أبكارا * عربا أترابا (الواقعة: 35-37).
ففهمت ما أراد وثابت إلى الرضاء والرجاء.
وطلب إليه بعضهم أن يحمله على بعير فوعده أن يحمله على ولد الناقة فقال: يا رسول الله! ما أصنع بولد الناقة؟ فقال: وهل تلد الإبل إلا النوق؟
ناپیژندل شوی مخ