86

فأقام عمرو بن العاص على الجناح الأيمن، ويزيد بن أبي سفيان على الجناح الأيسر، وأبا عبيدة بن الجراح على القلب، واتخذ مكانه في كبة الجمع ولجأ إلى طريقته التي اختارها لحرب بني حنيفة وهي طريقة الكراديس؛ لأنها أصلح الطرق للنفاذ في الصفوف، وأدعاها إلى التنافس بين المقاتلين وتمييزهم بالتبعة أو بالثناء.

وكانت كل فرقة من الميمنة أو القلب أو الميسرة تتألف من كراديس عدة، على كل منها قائد معروف، ومنهم صاحبه القديم القعقاع، وزميله في حرب اليمامة عكرمة بن أبي جهل، وزميله في دومة الجندل عياض بن غنم، وابنه عبد الرحمن وهو يومئذ دون العشرين ... وجملة الكراديس جميعا ثمانية وثلاثون معظمها في القلب، وعدته ثمانية عشر كردوسا، رئيسهم أبو عبيدة وفيهم عكرمة والقعقاع ...

وكان موضع الميمنة بحيث يستطيع الالتفاف بالجيش الروماني إذا أمعن في الهجوم والإطباق عليه مع القلب إذا ارتد إلى الوراء.

وفرغ من التعبئة فعمد إلى «القوة الأدبية» يوليها حقها من عنايته الكبرى، وأخرج المقداد يقرأ على الجيش سورة الأنفال، ودعا كل رئيس أن يعظ جنده ويبصرهم بمرماه في حركاته، وجماع هذه العظات خطبة عمرو بن العاص حيث قال: «غضوا الأبصار. واجثوا على الركب واشرعوا الرماح، فإذا حملوا عليكم فأمهلوهم، حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فثبوا في وجوههم وثبة الأسد، فوالذي يرضى الصدق ويثيب عليه ويمقت الكذب ويجزي بالإحسان إحسانا، لقد سمعت أن المسلمين سيفتحونها كفرا كفرا وقصرا قصرا، فلا تهولنكم جموعهم ولا عددهم، فإنكم لو صدقتموهم الحملة تطايروا تطاير الجحول.»

7

وخطب مثله معاذ بن جبل وأبو سفيان، وبرز القعقاع وعكرمة قائدا المجنبة في القلب يرتجزان، واختير يوم القتال في يوم ريح سموم سافياء

8

في حمارة القيظ فكانت طاقة المسلمين به أكبر من طاقة الروم.

ثم اشتبك الجيشان على نحو لا يعلم تفصيله على التحقيق، ولكنه بدأ كما تعودنا في حروب المسلمين بهجمة شعواء من جانب العدو يتزعزع لها العدد الصغير أمام العدد الفداء.

فلما انكشف المسلمون بعد الهجمة الأولى ثابوا إلى عزماتهم بنخوة الإيمان ونخوة العرض والأنفة، فضرب النساء في وجوه الخيل قائلات: «إلى أين يا حماة الإسلام وطلاب الشهادة!» وصاح عكرمة كأنه يؤنب نفسه: «قاتلت رسول الله في كل موطن وأفر اليوم؟! من يبايع على الموت؟» فبايعه أربعمائة من الفرسان المغاوير لا يقوم في وجههم قائم، وصدموا الروم حتى صدوهم غير حافلين بما أصابهم، وقد قتل في طليعتهم عكرمة وابنه ومعظم أولئك الفرسان، ولم ينج منهم قط إلا جريح مثخن بالجراح، وأفلحت الكرة الثانية، وتقهقر الروم. •••

ناپیژندل شوی مخ