104

وعذره في ذلك حين قال ذلك المقام أنه لم يقض في ملازمة النبي غير أوقات جد قصار؛ لأنه شغل السنوات الثلاث التي قضاها مع النبي بعد إسلامه وهو بين السرايا والغزوات.

وقد كان يخطب ويكتب ويقول الأبيات من الشعر والرجز على مثال ما قدمناه، ولكنها الخطب والكتب التي يستطيعها العربي الفصيح الناشئ في كنف الفصحاء، ثم هي كلها ملحقة بوظيفة الجندية فيه فإذا قال كلمة أو كتب سطرا فكان يكتب بحسام لا بيراع.

كتب إلى مرازبة فارس فقال: «الحمد لله الذي فض ملككم وأذل عزمكم، فإذا أتاكم كتابي هذا فابعثوا إلي الرهن واعتقدوا منا الذمة وأجيبوا إلى الجزية، وإلا والله الذي لا إله إلا هو لأسيرن إليكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة، ويرغبون في الآخرة كما ترغبون في الدنيا ...»

وخطب في المسلمين وقد تهيبوا طروق المفازة من العراق إلى الشام فقال: «لا يختلفن هديكم، ولا يضعفن يقينكم، واعلموا أن المعونة تأتي على قدر النية، والأجر على قدر الحسنة، وأن المسلم لا ينبغي له أن يكترث لشيء فيه مع معونة الله له.»

ويسمع الكلمة فيردها بالجواب المسكت كأنه يتلقى ضربة سيف بضربة سيف، كما قال حين سمع صائحا في المعسكر يصيح: «ما أكثر الروم وأقل المسلمين.»

فلم يكن أسرع منه إلى أن يقول: «بل ما أقل الروم وأكثر المسلمين: إن الجيوش إنما تكثر بالنصر وتقل بالخذلان.»

فكل كلمة منه فإنما هي ضربة سيف في صورة حروف ونبرات.

ومن الملاحظات الجديرة باستقراء علم النفس أنه على التشابه بينه وبين عمر كان في عمر جانب فكاهة وإن كانت خشنة غليظة، ولم يكن فيه هو مثل هذا الجانب في عمله أو كلامه.

وقد كان الأدنى إلى الظن - عند النظرة الأولى - أن تنمو الفكاهة مع الرجل الذي نشأ في مهد اليسار ولا تنمو مع الرجل الذي نشأ على العسر أو اليسر القليل.

لكنها النظرة الأولى ولا تتعداها ...

ناپیژندل شوی مخ