وكان جعفر مع ما يراه من تفاني العباسة في حبه، وتفانيها في راحته، لا ينسى أنها من دم أجمع أهل ذلك الزمان على أنه أشرف من دمه؛ لأنها عربية هاشمية بنت خليفة وأخت خليفة، وهو فارسي أعجمي لا يسوءه مع ما بلغ إليه من السيادة ونفوذ الكلمة أن يعد في جملة الموالي - على جاري اصطلاحهم في ذلك العهد - ولم يجرؤ على الطمع في مثل ما ناله جعفر أحد من العجم، مهما بلغ من سطوتهم وعلو مرتبتهم، حتى الملوك والسلاطين من ظهور الإسلام إلى أواسط القرن الخامس للهجرة. وأول من أقدم على ذلك السلطان طغرلبيك السلجوقي، فأراد أن يتزوج ابنة الخليفة القائم بأمر الله العباسي، فانزعج الخليفة لطلبه، ولم يعقد له عليها إلا مضطرا عام 454ه، والخلفاء العباسيون يومئذ في دور الضعف. فكيف في أيام الرشيد وهو عصرهم الذهبي؟ فإذا عرف المرء ذلك، أدرك لماذا تخوف جعفر من انكشاف أمره واطلاع الرشيد على حقيقة زواجه بالعباسة زيجة حقيقية، وهو إنما عقد له عليها لتحل له رؤيتها، وقد حسب ذلك منة كبرى على وزيره وصديقه والقائم بدولته؛ فجعفر لم يقدم على ذلك الأمر الخطير، ولا أقدمت العباسة عليه إلا لتغلب سلطان الحب عليهما.
فلما التقى الحبيبان نسي كل منهما الغرض من ذلك الاجتماع لحظة على حد قول الشاعر المجنون:
فيا ليلى، كم من حاجة لي مهمة
إذا جئتكم في الليل لا أدري ما هيا
ثم انتبهت العباسة لما يهددها من الخطر، فافتتحت الحديث وغلب عليها الدلال، فبدأت بالعتاب وهو فاتحة حديث المحبين، أو هو حجة يتطرقون بها إلى التشاكي، وما التشاكي إلا جلاء القلوب بالاحتكاك، فيزداد تجاذبها وتذكو نيران الغرام فيها، فقالت: «لم يرق لجعفر أن يجيب طلب العباسة إلا الآن!»
فأجابها وهو ينظر إليها نظرة المحب الولهان: «إن طلب العباسة أمر لا مرد له، ولكن الظروف قضت بإبطائي خوفا من أعين الرقباء، وقد جئتك بقارب على دجلة وبعثت غلامي بالجواد لأعود عليه.»
فأدركت السبب في عدم رؤيتها إياه من الشرفة ساعة مجيئه، فجلست على وسادة من الحرير المطرز، وهي ممسكة يده تدعوه إلى الجلوس بجانبها، فأحس ببرودة تلك اليد وارتعاشها، وجلس على وسادة أخرى بجانبها وهو يحاذر أن يتحول نظره عن نظرها، ولبث ينتظر ما يبدو منها، فإذا هي تقول وصوتها يرتجف: «إلى متى هذا الحذر يا جعفر؟ قد آن لنا أن نعيش أو نموت.»
فظنها تعرض بما يخشيانه من أمر الرشيد، فتنهد وقال: «إن الأقدار حكمت علينا بهذه المخاوف لأنها جعلت بيني وبينك حجابا من شرف النسب، فجعلتك من سادة بني هاشم وجعلتني من الموالي.»
فقالت وهي تنظر إليه عاتبة: «إنه حجاب من الوهم الباطل؛ فأنت أسمى نفسا من السادة، وأرفع في عيني من كل بني هاشم، ولكن.» وسكتت.
فقال: «لقد دعوتني على عجل فجئت، فهل حدث شيء جديد؟»
ناپیژندل شوی مخ