على أن جعفرا لم يكن يعد زواجه بالعباسة إلا شرعيا، وإنما عمد إلى التستر خوفا من غضب الرشيد، ولم يخطر بباله انكشاف ذلك السر لأحد، وكأن إقبال الزمان غره فأعمى بصيرته عمن يحيط به من الحاسدين. ولعل له عذرا في غروره بما كان يحسه من تزلفهم إليه، وتظاهرهم باحترامه ورعاية جانبه. ولا نظن أنه كان غافلا إلى هذا الحد، ولكنه سكر بما ظهر له من حب الرشيد له وإجلال مقامه، وما كان يبديه من إكرامه والرجوع إليه في معظم شئونه.
الفصل السابع عشر
قصر العباسة
أما عتبة فجعلت تتفرس في اللاعبين حتى عرفت مكان جعفر وهو بعيد عنها، ودون الوصول إليه رجال وحبال، فوقفت وهي تعمل فكرتها في طريقة لإيصال البطاقة إليه بغير أن يشعر بها أحد، فوقع بصرها وهي في تلك الحيرة على رجل من غلمان جعفر - كان يأتي إلى قصر العباسة لبعض المهام الخاصة، ولها ثقة به - فاستغفلت رفاقه وأشارت إليه، فجاء نحوها على انفراد فنادته: «حمدان.» وكان حمدان هذا من أقدم غلمان جعفر؛ نشأ في منزل أبيه يحيى منذ طفولته، وقد ربي جعفر على ذراعيه، وكان يحبه حبا يقرب من العبادة، وقد بلغ الخمسين من عمره وهو لا يزال نشيطا، وكان فارسي الأصل، خراساني الموطن، وكان مفضلا عند جعفر، يدخل عليه متى شاء ويعامله معاملة الأقرباء ... فلما سمع حمدان عتبة تناديه باسمه عرفها، وأدرك أنها متنكرة لغرض هام، فقال لها: «ما وراءك؟»
قالت: «جئت برسالة إلى الوزير، فكيف أوصلها إليه؟»
قال: «إنهم لا يلبثون أن يفرغوا من اللعب ويعود الوزير إلى فسطاطه للراحة، فيسهل الاتصال به. أعطني الرسالة فأوصلها إليه.»
فسرت عتبة لذلك، ودفعت إليه البطاقة فأخفاها في ثيابه وقال لها: «اذهبي واطمئني؛ فإني سأسلمها له حالا.»
فعادت عتبة إلى سيدتها فرأتها في انتظارها وقد فرغ صبرها، فقصت عليها ما كان، وجلستا على مثل الجمر تنتظران مجيء جعفر.
وكان قصر العباسة على ضفاف دجلة بالقرب من قصر زبيدة «دار القرار»؛ بينه وبين قصر الخلد «دار الرشيد». وكان لقصر العباسة شرفة مطلة على دجلة، وأخرى تطل على طريق يؤدي إلى الميدان، وهو الطريق الذي عادت منه عتبة، فجلست العباسة في هذه الشرفة وأطلت من وراء حجاب فلم تر في الطريق أحدا، وطال انتظارها وعيناها شاخصتان نحو الأفق، وبعد حين رأت شبحا ظنته وزير أخيها أو حبيبها وزوجها ومحط آمالها، حتى إذا مالت الشمس إلى المغيب واستطالت أظلال المآذن على سطوح قصور بغداد، وعلت أصوات المؤذنين؛ انزعجت العباسة لصوت الآذان على غير المعتاد؛ لأنها كانت تستأنس به وتطرب لسماعه. أما الآن فقد أزعجها؛ لأنه أنبأها بانقضاء النهار وحيلولة الظلام بينها وبين الأفق. وكانت عتبة واقفة إلى جانبها لا تقل عنها قلقا، فلما سمعت أصوات المؤذنين لاحظت تذمر مولاتها، فابتدرتها قائلة: «أظنه قد تعمد أن يتأخر حتى يسود الظلام.»
قالت: «ولماذا؟»
ناپیژندل شوی مخ