فلما سمعه يخاطبه بهذه اللهجة، تحول نحوه وتفرس في وجهه من وراء اللثام، ثم التفت نحو المرأة التي كانت واقفة هناك، فرآها تنسل من بين الجماهير، فعلم أنها تسعى إلى الفرار، واستدل من ذلك على أن الرجل الذي يخاطبه ممن يخشى بأسهم، على أنه لم يكترث لقوله وعاد إلى رجاله وصاح فيهم: «أوثقوه حالا.»
وكان فنحاس في أول الأمر واقفا بجانب الفضل، فساءه ما وقع في منزله من القبض على أبي العتاهية ولم يفهم السبب، وحدثته نفسه أن يتقدم لإنقاذه وهو قادر على ذلك لكثرة من في داره من الرجال، ثم تذكر وعده بتخصيص نسبة له من ثمن الجواري، فتوسم بالقبض عليه بابا للتخلص مما وعده به. هذا إلى أن حيان ما لبث أن جاءه وأسر إليه ما كان في الأمس، وما أوصته به الجارية من الاحتفاظ به ريثما تأتي، وأن سيدتها من أهل أمير المؤمنين، فاطمأن فنحاس، وصمم على السكوت، ودخل إلى داره يتشاغل بما لا طائل تحته.
أما الفضل فلما سمع تهديد العريف، تقدم خطوتين بقدم ثابتة وهو يقول للرجل: «لا، لا ينبغي أن توثقوه حتى نعرف ما هو ذنبه، وإلا فأنتم تتحملون تبعة هذا العمل عند أمير المؤمنين.»
فالتفت العريف نحو الفضل وهو يقول: «ومن أنت حتى تهددني بأمير المؤمنين؟ امض لشأنك.»
فلما سمع رجال الفضل ما في تلك العبارة من الاستخفاف كادوا يهمون بالرجل أو يصرحون له بالحقيقة، ولكنهم تركوا ذلك للفضل ولبثوا ينتظرون أمره. أما هو، فظل رابط الجأش، وما زاد على أنه أشار إلى رجاله أن يخلصوا أبا العتاهية فهجموا - وكانوا أشداء وأكثرهم من القواد - فعلت الضوضاء وهم الجند بتجريد السيوف، فصاح الفضل فيهم: «لا حاجة بكم إلى السيوف. اتركوا الرجل، فإذا سئلتم عنه فقولوا: إن الفضل بن الربيع أخذه منكم، فإذا كان أمير المؤمنين أو سواه في حاجة إليه؛ فيطلبه مني.»
فلما سمعوا ذلك التصريح بغتوا وتوقفوا عن الحركة، وجاء العريف إلى الفضل، وقال له بغير لهجة الاستخفاف: «إن الرجل طلبه أمير المؤمنين. فكيف نتركه بعد أن قبضنا عليه؟ وماذا نجيب إذا سئلنا عنه؟»
قال: «قل لطالبه إنه عندي. قل إنه عند الفضل بن الربيع، أو عند ولي العهد، كما تشاءون.» قال ذلك وهو يهم بإزاحة اللثام.
فلم يبق عند العريف شك أنه بين يدي الفضل، ولكنه نظر إلى من كانوا حوله من الرجال، فسمع أحدهم يقول له همسا: «إنك تخاطب وزيرا كبيرا. هذا هو الفضل بعينه.»
فتقدم العريف نحوه وهو يتأدب في مشيته وقال: «لماذا لم يقل مولانا ذلك في بادئ الأمر؛ فنحن صادعون بأمره.» ثم أشار إلى رجاله فحلوا وثاق أبي العتاهية وتحولوا، فاتجه أبو العتاهية نحو رجال الفضل وقد وقعت عمامته عن رأسه، وانتفش شعره، فظهر قبح منظره، وجاءوا به إلى الفضل فخر على قدميه وحاول تقبيل طرف ثوبه، فأنهضه الفضل وهو يقول له: «ما الذي أوقعك في هذا المأزق وأنت الشاعر الزاهد؟» وضحك وهو يحسب أن سبب القبض عليه مما يخالف أسباب الزهد.
فقال: «إن السبب يا مولاي سأقصه عليك وهو يهمك.»
ناپیژندل شوی مخ