تتهامى من مقلتيك السجام
وتسلي عني بنور سراج
مثل قلبي له عليك اضطرام
إنني عائد إليك بشوقي
وفداك الهجوع والأحلام
الفصل الثالث والثلاثون
وهذه رواية الناسك في نشيد واحد؛ وقد تقدم لنا الإلماع إلى أن شاعرنا لا يرى فضلا كبيرا في الانقطاع عن الناس زهدا ونسكا، بل يرى الفضل في معاشرتهم بالمعروف ومعايشتهم على مقتضى الفضيلة وخوف الله. وقد كانت الهند فيما انقضى من عهودها طبقات أربعا، إحداهن طبقة البراهمة، أي رجال الدين؛ وكان ابن البرهمي برهميا، ولا يكون بنوه إذا رزقهم إلا على شاكلته. وكذلك كان حال الجندي في طبقته، وكان الملوك معتبرين فيها. فأما رجال الدين فقد قام بينهم من الفلاسفة والحكماء والشعراء الروحيين من إليهم ينتمي الفضل في الطرائق الدينية والآراء الفلسفية التي تنسب إلى الهند وتؤثر عنها. ومن هؤلاء كان الزهدة المتقشفون والنسكة القانتون، الذين ذهبوا في الإماتة ومعاناة الشظف، وعشق الألم، مذاهب نعيذ القارئ من وصفها، لما في تصور بعضها من العبث بالقلب وتفطير الكبد. ونكتفي بالقول أن التنسك كان لرجال الدين، وربما جاراهم عليه بعض الأمراء والملوك من طبقة الجنود.
وفي خلال القرن الأخير الذي أخرج اليابان من الظلمة إلى النور، ومن زاوية النسيان إلى صدر الوجاهة، لم تعدم الهند رجالا قاموا فيها بدعواتهم الصالحة يهيبون بها من السبات الذي طال عليها أمده، ويحطمون قيود التقاليد وسلاسل العقائد وأغلال الأساطير، التي كانت ترسف فيها، فلا تستطيع للزمان مجاراة ولا لجيرانها مباراة. فبعدما كان رجال الدين يحرمون مخالطة الأجنبي ومعاشرته، ولو للتعلم منه والأخذ عنه، فلا يسمح الوالد لولده بالسفر إلى أوروبا في طلب علم أو صناعة، إذا بهم قد أصبحوا لا يرون في التغرب بأسا، بل يبالغون في الحض عليه والدعوة إليه، بحيث كثر عدد الراسخين في العلوم الحديثة والمتضلعين منها. ولا تسل عن الثورة الفكرية التي التهبت نارها من قبس العلم الصحيح، فكانت نورا للبصائر وهديا للنفوس. وما ظنك بالشاب ذكي الفؤاد إذا درس التاريخ الطبيعي ووقف على مذهب النشوء والارتقاء، وألم بعلم الكيمياء، وعلم الحياة، وما إليها مما تبهر حقيقته العقل، ولا يستطاع إلى إنكاره سبيل، أتراه يعود فيسجد لصنمه - اللهم إلا تقية - أم يحمله يقينه الجديد على الشك فيما كان يخاله يقينا من قديم الأساطير والترهات. على أن الواقع هو أن النشء الجديد من بني الهند ممن تثقفت عقولهم وتهذبت نفوسهم على ما ينبغي، قد وقفوا بين الطيب الصالح من تمدنهم القديم، والخبيث الفاسد من المدنية العصرية، وانتهجوا لهم منهجا قصدا بين الطريقتين، فكانوا أهدى سبيلا.
فقد أصبح عقلاؤهم اليوم يعانون أولي الأمر وذوي الحل والعقد في الأحكام على مقاتلة آفات التعصب الأعمى، والخزعبلات الواهية التي فشا داؤها في النفوس والأذهان، وكان عضالا قتالا للأمة ومللها. ومما آل إليه انبثاق نور العلم انقشاع غياهب الجهل الذي كان مخيما على الألباب ليلا طويلا تنطلي فيه حيل الشعوذة وتخفى أباطيل الدروشة، وتجوز أكاذيب النسك وخرافاته. وليس لنا أن نذم الزهد والنسك والقنوت وقد عرفنا مزاياها ومحامدها الجوهرية. وإنما نريد أن التشبه بالنسكة الأقدمين ممن روت الأساطير أخبارهم، وجعلتهم في مراتب الآلهة، لم يعتم أن انفتحت أبوابه لغير أهله فاختلط الحابل بالنابل، والغث بالسمين. وأمسى النسك نقمة قومية بعدما كان نعمة لا يدركها إلا من هدى ربك سبيل الرشاد.
عاف دنياه منية ومراما
ناپیژندل شوی مخ