تجارات البلدان أكثر مما في تلك البلدان التي خرجت التجارات منها، ويكون مع ذلك أوجد وأمكن، حتى كأنما سيقت إليها خيرات الأرض، وجمعت فيها ذخائر الدنيا، وتكاملت بها بركات العالم، وهي مع هذا مدينة بني هاشم «1» ودار ملكهم، ومحل سلطانهم، لم يبتد بها أحد قبلهم، ولم يسكنها ملوك سواهم.
ولأن سلفي كانوا القائمين بها، واحدهم تولى أمرها، ولها الاسم المشهور والذكر الذائع، ثم هي وسط الدنيا، لأنها على ما أجمع عليه قول الحساب وتضمنته كتب الأوائل من الحكماء في الإقليم الرابع، وهو الإقليم الأوسط الذي يعتدل فيه الهواء في جميع الأزمان والفصول.
فيكون الحر بها شديدا في أيام القيظ، والبرد شديدا في أيام الشتاء، ويعتدل الفصلان الخريف والربيع في أوقاتهما.
ويكون دخول الخريف إلى الشتاء غير متباين الهواء، ودخول الربيع إلى الصيف غير متباين الهواء، وكذلك كل فصل ينتقل من هواء إلى هواء، ومن زمان إلى زمان، فلذلك اعتدل الهواء، وطاب الثوى «2» ، وعذب الماء، وزكت الأشجار، وطابت الثمار، وأخصبت الزروع، وكثرت الخيرات، وقرب مستنبط معينها «3» .
وباعتدال الهواء، وطيب الثرى، وعذوبة الماء حسنت أخلاق أهلها، ونضرت وجوههم، وانفتقت أذهانهم حتى فضلوا الناس في العلم، والفهم، والأدب، والنظر، والتمييز، والتجارات، والصناعات، والمكاسب، والحذق «4» بكل مناظرة، وإحكام كل مهنة، وإتقان كل صناعة، فليس عالم أعلم من عالمهم، ولا أروى من روايتهم، ولا أجدل من متكلمهم، ولا أعرب «5» من نحويهم «6» ، ولا أصح من قارئهم، ولا أمهر من متطببهم، ولا أحذق من مغنيهم، ولا ألطف من صانعهم، ولا أكتب من كاتبهم، ولا
مخ ۱۴